حين يتصادم المشروع الوطني مع الاستعماري
تاريخ النشر: 29th, June 2024 GMT
لا يُجدي اللفّ والدّوران حول طبيعة وآفاق الحرب التدميرية الجارية منذ تسعة أشهر، وهي مفتوحة على الزمن. بينما يستمرّ الخطاب الفلسطيني العام يتحدث عن هدف تحقيق الدولة على الأراضي المحتلة العام 1967، في مجاراة غير حقيقية ولا هي واقعية للموقف الدولي الجامع الذي يتحدث عن «حل الدولتين»، لا تترك دولة الاحتلال فرصة للتأكيد على رفضها المطلق لهذا الحل.
كل الطيف الإسرائيلي الرسمي و»المعارض»، مُجمِع على رفض «حل الدولتين»، ويتأكد هذا الإجماع عبر ممارسات وسياسات وإجراءات عملية لا يخطئ أهدافها وأبعادها إلّا من يركض خلف الأوهام، أو أنّه يتعمّد التضليل.
الصراع دخل مرحلة حاسمة، لا رجعة عنها، ليس بسبب قرار وفعل فلسطيني، ولا إقليمي أو دولي، وإنّما بفعل قرار وفعل إسرائيلي يتجلّى على الأرض بسياسات لا يمكن فهمها خارج سياق الخيار الوحيد الذي تعمل على تنفيذه السياسة الاحتلالية الإسرائيلية. منطقياً، تجد إسرائيل نفسها ومستقبلها ووجودها في خيار واحد، وهو التطهير العرقي، ولو اقتضى ذلك شنّ حرب إبادة جماعية كما يحصل في قطاع غزة، الذي يشكل «بروفة»، إن نجحت فستتحوّل نحو الضفة الغربية والقدس.
ترفض إسرائيل، ولا يمكنها أن تقبل بـ»حل الدولتين»، لأنها تعتقد أن دولة فلسطين ستكون إرهابية، ولأن وجودها سيقوّض وجود دولة الاحتلال. وترفض إسرائيل خيار الدولة الديمقراطية، التي يتساوى فيها المواطنون، لأنها لا يمكن أن تكون ديمقراطية، وعنصرية في الوقت ذاته طالما أنها تصرّ على يهودية الدولة. هذا الخيار مرفوض جذرياً من قبل إسرائيل، لأنّ الفلسطينيين سيتفوّقون ديموغرافيا على اليهود في فلسطين التاريخية حيث تتساوى الأعداد بنحو 7 ملايين و300 ألف حتى الآن حسب مصادر موثوقة. أما إذا سعت إسرائيل للإخلال بهذا التوازن الديموغرافي من خلال تهجير سكان القطاع، وهو أمر قد فشلت في تحقيقه حتى الآن فإنّها ستكون دولة عنصرية بكلّ المعايير.
لم يبقَ أمام إسرائيل سوى خيار واحد، وهو خيار حرب الإبادة الجماعية والتدميرية الذي تمارسه في القطاع وتحضّر لممارسته في الضفة.
هذا يعني أن ثمة تصادماً، بين المشروع الوطني الفلسطيني والمشروع الاستعماري الكولونيالي الإسرائيلي، ولا مجال للجسر بين المشروعين عبر المفاوضات أو المشاريع السياسية.
المجتمع الدولي يدرك أبعاد الحرب العدوانية الجارية، ويدرك أبعاد وأهداف السياسة الإسرائيلية، لكنه يمتنع عن الاعتراف بهذه الحقيقة ويحاول تأجيل هذا الصدام.
هكذا تكون دولة الاحتلال قد أدخلت نفسها في ورطة تاريخية جديدة، فهي قد فشلت في تحقيق أبسط وأي من أهدافها، فلا تهجير، ولا قضاء على حركة حماس، ولا إفراج عن الأسرى الإسرائيليين.
لقد قدمت الولايات المتحدة والدول الغربية الشريكة لإسرائيل، ولا تزال تقدم كل الدعم المادي والعسكري والاستخباري والدبلوماسي والاقتصادي، ووظفت كل قدراتها لمنع توسع الحرب الدموية، لكن كل ذلك لم يسعف إسرائيل أو يساعدها على تحقيق أهدافها في القطاع.
بعد تسعة أشهر، تستجدي إسرائيل الولايات المتحدة، لمواصلة تقديم الدعم العسكري، كما لو أنّها دولة ضعيفة ومحدودة القدرات، ليس لتحقيق أهدافها من العدوان على غزة، بعد أن وقعت في حرب استنزاف تركت بصماتها بوضوح على الجيش والمجتمع الإسرائيلي.
واضح أن نتنياهو بحاجة إلى الأسلحة والذخائر الأميركية، من أجل توسيع دائرة العدوان، حتى لو أدى إلى حرب إقليمية، وحتى لو تورطت الولايات المتحدة في مثل هذا العدوان.
الولايات المتحدة تدرك المخاطر الكبيرة التي تنتظر الدولة العبرية إذا انزلقت الأوضاع إلى حرب واسعة في الشمال، وما ينطوي عليه ذلك من احتمالات دخول أطراف إقليمية أخرى على الخط، خصوصاً إيران.
ولذلك فإنها تسعى بكل السبل، لإقناع حلفائها الإسرائيليين بضرورة التوقف عن التصعيد في الشمال، واعتماد الحل الدبلوماسي لوقف إطلاق نار مؤقّت في غزّة، والإفراج عن الأسرى، لضمان وقف إطلاق النار على الحدود مع جنوب لبنان. في ضوء هذه الرؤية الأميركية، فإن مفاوضات الصفقة، لا تمنع إسرائيل من مواصلة حربها العدوانية لتحقيق أهدافها في غزة، والإدارة الأميركية لا تنكر قناعتها بهذه الرؤية.
بينما يربط «حزب الله» اللبناني بشكل صادق، وقف إطلاق النار في المستوطنات المتاخمة لجنوب لبنان بوقفه التام في قطاع غزة، فإن إسرائيل تكذب في أنها لا ترغب في تصعيد الحرب العدوانية على لبنان.
الولايات المتحدة تسعى لحماية إسرائيل من التبعات الكارثية التي ستتعرض لها الدولة العبرية، ولكنها لا تعمل ما يجب عمله، من أجل وقف جنون الحكومة الإسرائيلية.
إسرائيل من أجل مواصلة الحرب، تطلب المزيد من السلاح والذخائر من قبل الولايات المتحدة، وتقوم بتجنيد المزيد ممن هم في سن الخدمة بما في ذلك من «الحريديم»، بعد أن اتخذت المحكمة العليا الإسرائيلية قراراً بهذا الخصوص، وتحضر لتشكيل فرقة جديدة يتجاوز تعدادها الأربعين ألفاً. لا يمكن أن تكون هذه التحضيرات لمعاودة شن حرب واسعة على قطاع غزة، التي تقول مصادر جيش الاحتلال إن قواته أكملت المهمة، وإنها على وشك الانتهاء من رفح.
إذا كانت هذه هي الحقيقة، وهي أن إسرائيل تخوض حرباً دموية وتدميرية في سياق جذري، لشطب المشروع الوطني الفلسطيني من أساسه، وحسم الصراع على أرض فلسطين التاريخية، فإن الأداء العربي بالإجمال قاصر عن إدراك هذه الحقيقة، وقاصر عن التعامل معها وفق مقتضيات المصلحة القومية العربية.
ليس هذا وحسب، بل إن استمرار الانقسام الفلسطيني وفشل المحاولة الأخيرة التي بادرت إليها الصين لجمع الفرقاء الفلسطينيين، يشير إلى عوار كبير وخطير في الوضع الفلسطيني الذي لا يرقى إلى الحد الأدنى من متطلبات الوطنية الفلسطينية، ومن الالتزام الحقيقي بالمشروع الوطني الذي لم يعد الكلام فقط، قادراً على تبرئة ذمة المتمسكين بهذا المشروع.
الأمر الطبيعي في هذه الحالة، أن يتجنّد كل الفلسطينيين في كل مكان وبكل الوسائل المتاحة، وأن يضعوا جانباً خلافاتهم وحساباتهم الفئوية دفاعاً عن الشعب والقضية، فليس في هذا العالم من يحمي الفلسطينيين وقضيتهم سوى الفلسطينيين أنفسهم.
(الأيام الفلسطينية)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطيني التطهير العرقي غزة فلسطين غزة تطهير عرقي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة من هنا وهناك سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة المشروع الوطنی
إقرأ أيضاً:
كيف تُسقط دولة دون إطلاق رصاصة؟
في مارس/آذار 2019، تعرّضت فنزويلا لانقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر على نطاق واسع، عُدّ الأكبر في تاريخ البلاد؛ مما أدى إلى وفاة 43 شخصا على الأقل، بسبب تعطل الخدمات الصحية، إضافة إلى ما أحدثه ذلك من تأثيرات في قطاعات النقل والتعليم والصناعة وخدمات المياه.
ألقت وسائل الإعلام الغربية اللوم على سوء إدارة حكومة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، مشيرة إلى أن سياساتها الكارثية أدت إلى نقص الاستثمار وبالتالي شلّ شبكة الطاقة في البلاد. في المقابل، اتهمت حكومة مادورو الولايات المتحدة باستهداف شبكة الكهرباء في فنزويلا عبر هجمات سيبرانية، وذلك بغرض إغراق البلاد في حالة من الفوضى، وإحراج الحكومة بما يؤدي إلى إضعاف شعبيتها، ضمن مخطط أميركي للإطاحة بمادورو.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف تأثر النفوذ الروسي في أفريقيا بعد سقوط الأسد؟list 2 of 2لم يقبلوا النكبة فعادوا.. لماذا استعصى أهل غزة على التهجير؟end of listلم يكن أصحاب أي من الروايتين قادرا بشكل موضوعي على تقديم أدلة دامغة تثبت صحة روايته، لكن الصحفي الأميركي ديفيد سانغر يؤكد أن الولايات المتحدة امتلكت برنامجا سيبرانيا سريًّا يُدعى "نيترو زيوس"، مصمم لقطع التيار الكهربائي في البلدان المعادية في حالة وقوع صراع.
ورغم أن امتلاك القدرة لا يعني بالضرورة ارتكاب تلك الجريمة، كما أن طبيعة الهجمات السيبرانية تُصعِّب تتبّع الفاعل أو تحديده، فإن الولايات المتحدة في الوقت ذاته قامت بتنفيذ هجمات مماثلة ضد دول أجنبية في مناسبتين على الأقل، حيث استخدمتها في تعطيل برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني وتخريب برنامج الصواريخ في كوريا الشمالية.
إعلانوالملاحظ أنهما دولتان رفضتا الانصياع للهيمنة الأميركية، مثل فنزويلا، وهي صاحبة أكبر احتياطي نفطي على مستوى العالم، وتتبنى حكومتها الحالية مبدأ "قومية الموارد"، وترفض منح الشركات الأجنبية (بما فيها الأميركية) حصة الأغلبية في المشاريع المشتركة مع مؤسسات النفط المملوكة للدولة؛ مما يجعل الضغط على نظام مادورو هدفا مبررا لواشنطن، بغية دفعه إلى التنحي وتأسيس نظام بديل يتبنى نمط السوق الحرة المفتوحة.
ولدى واشنطن سابقة أخرى مماثلة، فعندما فرضت العقوبات الاقتصادية على كوبا، أنشأت محطة إذاعية موجهة إلى المواطنين هناك عام 1983، تبث من استديوهات في ولاية فلوريدا الأميركية، وهو ما أدانته الحكومة الكوبية باعتباره دعاية أميركية تستهدف إسقاط النظام.
تعليقا على ذلك، يشير المؤرخ الأميركي لويس بيريز إلى أن الولايات المتحدة هدفت إلى إظهار انهيار نظام الزعيم الكوبي فيدل كاسترو باعتباره نتيجة ظروف داخلية، إذ سعت واشنطن إلى إحداث حالة من الفوضى في الاقتصاد الكوبي، ولكنها أرادت تقديم ذلك بطريقة تجعل المسؤولية المباشرة على عاتق كاسترو في نظر الكوبيين.
أشكال جديدة للحرب"من الأفضل مهاجمة عقل عدوك بدلا من مهاجمة مدنه المحصنة"
هذه الحكمة الإستراتيجية للفيلسوف الصيني صن تزو، لا تزال توجه إستراتيجيات الصراع المعاصرة رغم مرور عشرات القرون. حيث يرى مستشار الأمن السيبراني ثورنتون ترامب، أن من أشكال الحرب النفسية مهاجمة الأشياء التي يُنظر إليها باعتبارها مسؤولية القيادة في الدولة العدو، ومن ضمن ذلك الاقتصاد والتقنيات التشغيلية، مثل الكهرباء والمياه والخدمات الصحية وشبكات النقل، وهي أشياء لا غنى عنها في حياة الناس، وحدوث الاضطراب فيها سوف يتصدّر دائما عناوين الأخبار وقد يؤدي إلى تقويض شرعية القيادة.
ويشير ثورنتون إلى أن المهاجمين ربما لا يحتاجون إلى قطع الكهرباء أو تعطيل محطات المياه لإحداث ضرر نفسي، ففي أحيان، يمكن إحداثه عبر نشر معلومات مضللة عن إمكانية تعطل البنى التحتية في الدولة وربط ذلك بسياسات القيادة، وهو ما يندرج تحت مسمى "حرب المعلومات" التي تعد أيضا شكلًا من الحرب النفسية.
إعلانيتماشى هذا بشكل ما مع مبدأ الدوائر الخمس، الذي ابتكره عقيد سلاح الجو الأميركي جون واردن إبان حرب الخليج الثانية، والذي اقترح خلاله تقسيم جاهزية العدو إلى 5 دوائر وفق الترتيب التالي: دائرة القيادة والسيطرة، ودائرة الضرورات الحيوية، ودائرة البنى التحتية، ثم دائرة الشعب، وختاما دائرة القوة العسكرية.
وقد حدد واردن أولوية الاستهداف بناء على هذا الترتيب، مشيرا إلى أن تدمير القيادة من شأنه إيقاف منظومة العدو عن مواصلة الحرب وإنهائها "بأقل خسائر ممكنة".
ويبدو أن تحقيق الانتصار بأقل خسائر ممكنة، كان دائما الغرض النهائي من استخدام الحروب النفسية على مدار تاريخ الصراع البشري، حتى قبل بلورة مفهومها بشكل واضح، منذ صورها الأولى في العروض المروعة للقائد المغولي تيمورلنك، الذي أباد مدنا كاملة وبنى أبراجا من جماجم ضحاياه كما عمد إلى نشر الشائعات التي تثير الرعب، بهدف إضعاف معنويات أعدائه وكسر إرادتهم للقتال أو المقاومة.
وفي مرحلة أبكر من ذلك، استُخدمت أفيال الحرب في بث الخوف داخل ساحة المعركة، كما اعتادت قبائل الأزتيك في أميركا الوسطى إصدار أصوات ترهيبية عند مهاجمة أعدائها، باستخدام صافرة مصنوعة من جمجمة بشرية؛ مما يدفع خصومهم غالبا إلى التراجع اعتقادا منهم أن هذه الأصوات تصدر عن أرواح شريرة.
ورغم اتسام هذه الأساليب بالبدائية مقارنة بالوسائل الحديثة في الحرب النفسية، فإن العامل المشترك بينها يظل هو إحداث التأثير في تفكير العدو وإعاقته عن اتخاذ القرار السليم، إما عبر ترهيبه وإثارة ذعره وشلّ تفكيره، وفق الطُّرق البدائية، وإما من خلال أنشطة معلوماتية تستهدف إضعاف معنوياته وإثارة الفوضى والتلاعب بالرأي العام.
كان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، يدرك أن بريطانيا لن تتمكن من الصمود في وجه الألمان دون مساعدة أميركية (مواقع التواصل الاجتماعي) علم النفس.. حين يكون أداة للحرببدأ استخدام علم النفس المعاصر في الأغراض العسكرية في ثلاثينيات القرن الماضي، حين زعم العقيد الألماني ألبريشت بلاو، أن السلاح النفسي كان سببا في إضعاف المعنويات الألمانية عام 1918 ومن ثم خسارة الحرب.
إعلانيقول بلاو إن الحرب الحديثة تتألف من 3 أقسام رئيسية، هي: الحرب العسكرية، والحرب الاقتصادية، والحرب النفسية. ودعا إلى اعتبار علم النفس جزءا لا يتجزأ من الإستراتيجية العسكرية الألمانية، وتوظيفه بصورة منهجية كسلاح في الحروب.
ومن الجدير بالذكر، أن التربة الألمانية كانت ممهدة آنذاك لاستقبال مقولات بلاو، ففي أعقاب 1918 كان لا بد من العثور على مبرر يزيح التناقض بين ما ردده القادة الألمان حول أسلحتهم التي لا تُقهر، وتوقيعهم على وثيقة فرساي التي أعلنت هزيمة العسكرية الألمانية.
نتيجة ذلك، ظهر مبدأ "الطعنة في الظهر"، الذي نفى عن جيوش القيصر هزيمتها بالمعنى العسكري، وربط الهزيمة بانهيار الروح المعنوية، خاصة انهيار الفئات المدنية الرابضة خلف القوات، نظرا إلى أن الجبهة الداخلية لم تكن محمية بشكل كافٍ أمام السلاح النفسي الذي استخدمه الحلفاء، وفق وجهة نظر من أسسوا لهذا المبدأ.
ومما لا شك فيه أن المبدأ حقق تأثيرا مهدئا للشعب الألماني، وأنه كان أحد الأسباب وراء صعود التيار النازي وذهاب ألمانيا من جديد إلى الحرب.
على الجانب المقابل، استخدمت بريطانيا كذلك الوسائل النفسية خلال الحرب العالمية الثانية، بهدف تقوية مشاعر التدخل لدى الأميركيين في مسار الحرب. فقد استطاعت التقارير الإعلامية التي أعدها وبثّها الصحفي الأميركي إدوارد مورو بين عامي 1940 و1941، أن تبني تعاطفا أميركيا على المستوى الشعبي مع بريطانيا.
علاوة على ذلك، تضمنت الحملة البريطانية إنشاء مكتب إعلامي في مانهاتن وسط نيويورك، تحت قيادة ضابط جهاز الاستخبارات البريطاني ويليام ستيفنسون، الذي تلخصت مهامه المعلَنة في توفير مقالات إخبارية بريطانية للصحف الأجنبية، لكن الكاتب البريطاني هنري هيمينغ يؤكد أن المكتب كان مكرسا لنشر القصص المزيفة والمشوهة، وعُدّ بمنزلة مصنع للإشاعات، بهدف إيجاد حالة تعاطف مع بريطانيا لدى الأميركيين لدفعهم إلى التخلي عن سياساتهم الانعزالية وخوض الحرب بجانب لندن.
إعلانأما المفارقة، فهي أن القيادة السياسية في واشنطن على علم تام بالأمر، فقد كان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، يدرك أن بريطانيا لن تتمكن من الصمود في وجه الألمان دون مساعدة أميركية، وأراد روزفلت مدّ يد العون إلى أصدقائه، إلا أنه كان يعلم أن ذلك سوف يحمل تأثيرا سلبيا على شعبيته وفرصة انتخابه لولاية رئاسية ثالثة، ومن ثمّ فقد بدا الحل في السماح للحكومة البريطانية بممارسة حيلها الإعلامية على شعبه.
يوضح ذلك أن الاستخدام الحديث لعلم النفس العسكري، بدأ في الأصل بغرض الاستهلاك المحلي، لدفع الشعوب -من قبل قياداتهم- إلى رفع رايات الحرب.
ورغم مرور نحو قرن من الزمن على هذه الوقائع، فلم يتوفر تعريف محدد لمصطلح الحرب النفسية أو لممارساتها، لكن ثمة إجماع على أهمية الشق المعلوماتي، خاصة في عصرنا الحالي، إذ يتم توظيفه للتأثير في آراء الشعوب وعواطفها، بغرض تحقيق أهداف السياسة القومية أو الأهداف العسكرية.
آلفين توفلر (فيرن إيفانز) حرب المعلومات.. وعلى المعلوماتأهمية المعلومة في العصر الحالي، يستحضرها المفكر الأميركي آلفين توفلر، في كتابه "الموجة الثالثة"، إذ يشير إلى تأثر البشرية بثلاث ثورات مفصلية غيرت مصير الكون، بدءا من الثورة الزراعية منذ 15 ألف سنة، حين صارت الأرض مصدر الثروات وبسببها كانت تخاض الحروب.
تلت ذلك الثورة الصناعية في بدايات القرن الـ19، حين كان الإنتاج هو أساس تكوين الثروات، وبسبب الحاجة إلى المواد الأولية، أسس الغرب لتفوقه العسكري؛ مما أظهر حروب الإمبريالية والاستعمار.
لكن بحلول النصف الثاني من القرن الـ20، كان العالم على موعد مع الثورة التقنية، حيث صارت المعلومات مصدر الثروات والسلطة، وبسببها تُخاض الحروب.
ومع توسع عالم المعلومات وفيضان قنواته، يصعب حاليا على أي جهة حكومية أو غير حكومية احتكار تدفق المعلومات من مناطق النزاع وإليها، كما أدى ظهور وسائل التواصل الاجتماعي إلى تمكين الجمهور من المشاركة في عمليات النشر، بوصفهم مقدمين للمعلومة إضافة إلى كونهم مستهلكين؛ مما يؤدي إلى صعوبة تدقيق البيانات المتدفقة، ويساهم في توفير مساحة واسعة للتلاعب وشنّ حملات التضليل.
إعلاندفع ذلك الجنرال الروسي فاليري غيراسيموف، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، إلى كتابة مقال عام 2013، استدعى خلاله إمكانات فضاء المعلومات في تقليل القدرة القتالية للعدو. وقد أوصى غيراسيموف بالمزاوجة بين ذلك وإمكانية احتجاج السكان، أو استخدامه في ظل توترات سياسية، بما يؤدي إلى زعزعة استقرار الخصم مع ضغط المعلومات المضللة داخل هذا الفضاء.
ويُعرّف المعجم العسكري لوزارة الدفاع الروسية "حرب المعلومات"، بأنها تصادم يتم خلاله قمع مقاومة العدو عبر التأثير الضار في فضاء معلوماته، وتدمير الأداء الطبيعي لأنظمة معلوماته واتصالاته، إلى جانب استخدام التأثير الإعلامي والنفسي في أفراد القوات المسلحة والسكان في الدولة العدو بغرض زعزعة الاستقرار.
ويلفت الصحفي الأميركي ديفيد سانغر الانتباه، لكيفية تحول النظرة إلى فضاء المعلومات، من اعتباره أداة قوية لتحقيق الديمقراطية وارتقاء الأفكار، عبر تواصل بشر من ثقافات مختلفة، إلى النظر إليه باعتباره محرضا على الخلافات بسهولة، وقادرا على تفكيك الروابط الاجتماعية وتفرقة الناس، وهو ما اكتشفه القادة العسكريون ومن ثم قاموا بتوظيفه أداة حرب، على غرار البارود الذي استخدمه الإنسان أصلا في الأغراض الطبية.
ويشير كل من كريستوفر بول وميريام ماثيوز من مؤسسة أبحاث "راند"، إلى أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى الحصول على الرسالة من مصادر متعددة، من ضمنها أشخاص آخرون تتشابه وجهات نظرهم وآراء المتلقي؛ مما يتسبب في انخفاض الدفاعات المتعلقة بتحدي الصدق، حيث تصبح الرسائل أكثر جدارة بالثقة لأنها صارت تحمل تصريحا من كل من قام بمشاركتها، كما يزيد التعرض المتكرر لأي معلومة من احتمال قبولها.
ويتعزز هذا القبول عبر دوران المعلومة داخل نظام مغلق، توفره أيضا وسائل التواصل الاجتماعي، نظرا إلى أن الدائرة المحيطة بشخصٍ ما في هذه الوسائط (وهي معارفه وأصدقاؤه ومن يتابعهم)، غالبا ما تتبنى وجهات النظر ذاتها بما يؤدي إلى تضخيم الاقتناعات، عبر تكرارها من جانب وانعزالها عن النقد والمعارضة من جانب آخر، وهو ما يُعرف بـ"غرفة الصدى".
إعلانأضف إلى ذلك أن المعلومات الدقيقة غالبا ما تكون معقدة وأقل تفاعلا، مقارنة بالوضوح الجذاب الذي تتميز به نظريات المؤامرة، بما يحقق لها مزيدا من الانتشار.
ويفهم القائمون على إستراتيجيات حرب المعلومات هذه الظواهر جيدا، وبناء عليها يضعون خططا مناسبة لدعم أنشطة المعلومات المضادة للخصم.
ويشير الخبير التقني راند والتزمان في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأميركي عام 2017، إلى أن الخطوات المتبعة في هذا الصدد قد تتضمن تقسيم سكان الدولة العدو إلى مجتمعات بناء على عدد من المعايير الدينية أو العرقية وغيرها. ثم تحديد الفئة المعرّضة أكثر لأنواع معينة من الرسائل وتحديد الديناميكيات الاجتماعية المناسبة للتواصل، ثم استخدام كل ما سبق في تصميم قصة ودفعها إلى الانتشار. كما تنبأ والتزمان بأن هذه العمليات سوف تصبح مؤتمتة كليًّا قريبا، عبر اعتمادها على تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ما صنعه الإنسان قد يتلاعب بهوفي إمكان أتمتة الحرب النفسية أن تدفعها إلى أبعاد غير مسبوقة، على مستويات كل من: كمّ الإنجاز وسرعته ودقته، نظرا إلى قدرة الذكاء الاصطناعي على معالجة كمّ هائل من البيانات المختلفة المصادر، وتحليلها للعثور على أنماط وسلوكيات يغفل عنها المحللون البشريون.
ويشير كريستيان بروس، زميل مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إلى أن تدفق المعلومات السريع لا يغير الطُّرق التي تعمل بها الجيوش حاليا، لكن الآلات الذكية سوف تتمكن من ذلك، نظرا إلى قدرتها على تحديد الأهم من المعلومات ضمن بحور البيانات الأخرى، مما يعني إمكانية إنشاء المحتوى المطلوب في أقل قدر زمني، وهو أمر حيوي في بيئة المعلومات السريعة.
ووفقا لمعهد الحرب الحديثة، يوفر استغلال الذكاء الاصطناعي في حروب المعلومات، دعما لفرق العمليات النفسية فيما يخص مشكلات توسع النطاق وتغطية مساحات جغرافية أكبر، بما يسمح بالتواصل المتزامن وجماهير متعددة دون التضحية بالجودة أو السرعة.
إعلانكما يتوقع أن يقدم الذكاء الاصطناعي بيانات أكثر دقة بشأن تقسيم الفئات داخل الدولة المعادية، إضافة إلى تحديد ديناميكيات التواصل داخل المجتمعات والفئات الأكثر استعدادا لقبول رسائل معينة، بأقل قدر من الأخطاء.
علاوة على ذلك، توفر هذه الأتمتة القدرة على صياغة رسائل مخصصة للفئة المستهدفة، بل وفي إمكانها أداء ذلك على مستويات فردية، نظرا إلى قدرتها على إنشاء ملفات تعريف دقيقة لكل شخص والتنبؤ بسلوكياته النفسية، وبفضل ذلك يمكنها طرح السرديات بأكثر الطرق جاذبية وإقناعًا للفئة المستهدفة؛ مما يؤدي إلى إحداث التأثير المطلوب في المشاعر والأفكار والأفعال، ويجعل الحرب النفسية أكثر فعالية.
كما تساهم الأتمتة في تعزيز استمرارية الحرب النفسية، بمعنى أن الدعاية المضللة يمكنها الاستمرار في أوقات السلم أو في الأوقات الرمادية، بما يلائم متطلبات هذه المرحلة ولا يؤدي إلى تصعيد أو استنفار من جانب القوى المعادية. وقد تساعد على ذلك قدرة هذه الأنظمة على القيام بمهامها بشكل أكثر مرونة يُصعّب عملية اكتشافها.
كل هذا ولم نتحدث بعد عن قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج وسائط مرئية مفبركة، وما قد يتبعه من تأثيرات. ومن الأمثلة التي نستحضرها لإبراز ذلك، انتشار صورة لانفجار كاذب في البنتاغون عبر وسائل إعلامية عديدة في العام الماضي؛ مما أدى إلى انخفاض سريع ودراماتيكي في سوق الأسهم الأميركية، قبل الكشف عن زيف هذه الصورة وأن إنشاءها جرى بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يسلط الضوء على إمكانات مثل هذه الدعاية في زعزعة استقرار الأنظمة في أوقات حرجة.