نوم العقل يوقظ الوحوش هو عنوان لوحة للفنان الإسباني فرانشيسكو دي غويا (1746 1828) وقد شرحها الدكتور علي بن تميم بقوله في تغريدة له مصحوبة بصورة للوحة حيث كتب (في هذه اللوحة يصور رجلاً نائماً وقد أسند رأسه ويديه إلى طاولة بينما نحّى قلمه جانباً. وخلف الرجل تظهر مجموعة من البوم والخفافيش الضخمة، وهي تصفق بأجنحتها وتصيح.

كما يظهر وحشان غريبا الهيئة أحدهما رابض على الأرض وقد صوّب نظراته الشرّيرة إلى الرجل، بينما قفز الآخر على ظهره وعيناه تلمعان في الظلمة، وعلى مقدّم الطاولة التي ينام عليها الرجل كُتبت عبارة: (إذا نام العقل استيقظت الوحوش).
والذي يلفت نظري هو عنوان اللوحة (نوم العقل يوقظ الوحوش)، وهي عبارة تفسر حالة البشر على مر تاريخهم، حيث يظهر التوحش مع التحضر في آن واحد، وتتبدى الوقائع وكأنها تقول: كلما تحضر البشر زادوا وحشيةً، ولنأخذ القرن العشرين الذي هو تتويج لكل منجزات البشرية في العلم وفي الاقتصاد والتكنولوجيا والنظرية السياسية، وفي الوقت ذاته هو قرن الحروب الكبرى في تاريخ البشرية، ووقعت هذه كلها حسنها وسيئها في قلب أوروبا الأكثر تحضراً من بين دول العالم حينذاك، ومعها أميركا التي لم تتورع عن إسقاط قنبلتها الذرية على هيروشيما، وهذه القنبلة تفسر كيف اجتمع التحضر مع التوحش، فالقنبلة تلك كانت تتويجاً لأخطر منتجات الفيزياء، والفيزياء هي علم يشمخ بين كل العلوم بصفتها الأكثر حداثةً والأكثر تفوقاً، وكذلك هي الأعمق معنى في صيغة المنجز البشري لدرجة أن الفيزياء أزاحت كثيراً من الأسئلة الفلسفية المحيرة، وقدمت لها إجابات دقيقة وعملية، مما جعل هوكينج يحكم بموت الفلسفة وحلول الفيزياء محلها في التعامل مع الأسئلة المحيرة، وكما أن الفيزياء فائقةُ العلمية فهي كذلك فائقة الوحشية، ولها قدرة هائلة على تنويم العقل لكي ترتع الوحوش حسب عنوان لوحة فرانشيسكو دي غويا، وبمثل ما قتلت الفيزياء الفلسفةَ حسب دعوى هوكينج فقد قتلت العقل بمعنى التعقل رغم أنها منتوجٌ لعقل الإنسان القوي والمتجبر في آن واحد، وكأن العقل ليس للتعقل وإنما فقط لابتكار أخطر الوسائل للتدمير وتحقيق معنى التوحش الذي تفوق به الإنسان على كل الوحوش، ليجمع بين العقل والتوحش وبين التحضر والوحشية، وفي هذه الحال لم يحتج الشر لنوم العقل وإنما احتاج ليقظة العقل وتطوره وتوظيف كل حيله ومهاراته لكي يصنع قنبلةً إذا سقطت على بشر أو حجر أحرقته وأنهته بمراد وتخطيط واع ٍ وعاقل وبصير، وبقرارٍ من رجل انتخبته بلده ليقود أهم ديمقراطية بشرية. وهذا الديمقراطي المتحضر والعاقل والسياسي البارز هو من أمر بإسقاط تلك القنبلة في وقت كان هو في أشد حالات يقظته ووعيه وبشريته، لكنه فاق بفعله كل وحوش الكون وفعل ما لم يفعله أي توحش سابق ولا لاحق (حتى الآن)، وستظل إمكانات العقل البشري أكبر من تصور العقل ذاته، ومهما افترضنا أن العقل أشرف من العاطفة، وأن العاطفة متهورةٌ والعقل متبصرٌ، فإن الذي نكتشفه هو أن العقل أخطر من العاطفة في الحالين، حال البصيرة والتبصر وحال الوحشية والتوحش.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: الجينات الثقافية د. عبدالله الغذامي يكتب: صلاح العالم/ إفساد العالم (أدلجة المعاني)

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي

إقرأ أيضاً:

الغذامي شخصية مهرجان القرين الثقافي 2025

الجزيرة – علي القحطاني
في احتفاءٍ بمسيرةٍ زاخرةٍ بالعطاء امتدت لأكثر من نصف قرن، اختار مهرجان القرين الثقافي في دولة الكويت الدكتور عبدالله الغذامي ليكون شخصية المهرجان في دورته لعام 2025، تقديرًا لإسهاماته البارزة في المشهد الثقافي العربي.
قامةٌ نقديةٌ شامخة:
يُعَدّ الغذامي ، أحدَ أبرزِ روادِ الفكرِ النقديّ في العالم العربي، وقد بدأ رحلته بكتابه “الخطيئة والتكفير” عام 1407هـ/1987م ، الذي شكّلَ علامةً فارقةً في مسيرته، وأحدثَ نقلةً نوعيةً في الخطاب النقدي العربي، مساهمًا في تأسيسِ مناهجَ حديثةٍ للنقد الأدبي. ولم تقتصر إسهاماتُه على ذلك، بل امتدت لتشملَ دراساتِ المرأة، وتأسيسَ الخطابِ النقديِّ الثقافيّ، إلى جانبِ إسهاماتِهِ في الفلسفةِ والفكر.
مسيرةٌ أكاديميةٌ حافلةٌ:
تقلّد د.عبدالله الغذامي منصبَ أستاذِ النقدِ والنظريةِ في جامعةِ الملكِ سعود، كما أسّسَ قسمَ اللغةِ العربيةِ ومجلةَ كليةِ الآدابِ في جامعةِ الملكِ عبدِ العزيز. وإيمانًا منه بأهميةِ إثراءِ الحراكِ الثقافيّ، ساهمَ في تنظيمِ الفعالياتِ الثقافيةِ في النادي الأدبيّ بجدة.
إنتاجٌ معرفيٌّ ثريٌّ:
أثرى الغذامي المكتبةَ العربيةَ بالعديدِ من المؤلفاتِ القيّمةِ، منها:
* الخطيئةُ والتكفير
* الكتابةُ ضدّ الكتابة
* ثقافةُ الأسئلة
* النقدُ الثقافيّ: قراءةٌ في الأنساقِ الثقافيةِ العربية
* المرأةُ واللغة
* ثقافةُ تويتر: حريةُ التعبيرِ أو مسؤوليةُ التعبير
* العقلُ المؤمنُ / العقلُ الملحدُ
* مآلاتُ الفلسفة
تكريمٌ مستحقٌّ لمسيرةٍ إبداعية:
حصد الغذامي العديدَ من الجوائزِ المرموقةِ، منها:
* جائزةُ العلومِ الإنسانيةِ من مكتبِ التربيةِ العربيِّ لدولِ الخليج
* جائزةُ الدراساتِ الأدبيةِ والنقدِ من مؤسسةِ سلطانَ بنِ عليِّ العويسِ الثقافية
* تكريمٌ من مؤسسةِ الفكرِ العربيِّ للإبداعِ النقديّ
* شخصيةُ العامِ الثقافيةِ من جائزةِ الشيخِ زايدَ للكتاب(2022)
يُؤكّدُ هذا التكريمُ على مكانةِ الغذامي كرمزٍ للإبداعِ والتجديدِ النقديِّ في العالمِ العربيّ، ويُخلّدُ اسمَهُ كقامةٍ فكريةٍ مرموقةٍ.

مقالات مشابهة

  • ترامب وخطاب (السوبر باور)..
  • د.حماد عبدالله يكتب: نعيش عصر "السلطة" البلدى !!
  • ريال مدريد يكتب التاريخ: أول نادٍ في العالم يتجاوز إيراداته المليار يورو
  • "الرجل الحديدي 70.3 بصلالة" ضمن قائمة أفضل البطولات عالميًّا
  • عاشور: إدراج 28 جامعة مصرية بـ مجال الهندسة وعلوم الفيزياء في تصنيف التايمز
  • بطولة الرجل الحديدي 70.3 بصلالة ضمن قائمة أفضل البطولات عالميًّا
  • د.حماد عبدالله يكتب: القاهرة فى إحتياج إلى "جان" !!
  • د.حماد عبدالله يكتب: ظاهرة" البلطجة " بالشارع المصرى !!
  • الغذامي شخصية مهرجان القرين الثقافي 2025
  • «عالم الشاي».. الذي ينتسب إليه 90% من سكان العالم