منذ معركة طوفان الأقصى التي شنتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول وشن إسرائيل حربا مدمرة على قطاع غزة بات الحديث عن مأزق إسرائيلي متعدد الجوانب، ولكن ما يظهر على السطح أن إسرائيل ماضية في عدوانها على قطاع غزة ولن تقدم تنازلات مؤلمة للمقاومة لوقف الحرب، كما أنها تستعد لشن حرب على لبنان لردع حزب الله وإجباره على الانسحاب خلف نهر الليطاني لضمان أمن شمال إسرائيل حسب قولها.
فهل ما يظهر من تصميم لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته يعبر عن حقيقة ما يجري وما يثار بشأن المأزق الإسرائيلي المتعدد الجبهات؟
عزة الثقب الأسودشنت إسرائيل حربها على غزة تحت شعار "معركة الاستقلال الثانية" أو "معركة وجود" وبالتالي فهي مسكونة بـ"رعب الفشل" وفقا للدكتور محسن صالح مدير مركز الزيتونة للدراسات.
كما يرى معهد راند للدراسات أن إسرائيل تعاملت مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من منطلق فرض القوة الكافية وليس المفرطة لردع الحركة، وقد عبر عن ذلك محلل إسرائيلي تابع لوزارة الدفاع قائلا " نرغب في تكسير عظامهم دون سحقهم"، إلا ان معركة طوفان الأقصى غيرت تلك الاستراتيجية.
إلا أن مسار الحرب ونتائجها لم تكن كما تصور نتنياهو وحكومته حتى بات العديد من القادة العسكريين السابقين والسياسيين يحذرون من نتائج الحرب على إسرائيل.
فقد أكد رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت في مقابلة مع القناة الـ 12 الإسرائيلية على أن الحديث عن النصر الكامل على حركة حماس "غير واقعي"، كما باتت الخسائر التي يتعرض لها جيش الاحتلال في غزة بسبب ضربات المقاومة تشكل هاجسا لقادة الجيش.
وفي هذا الشأن يقول ألون بن دافيد في صحيفة معاريف إن كل الخطط العملياتية لجيش الاحتلال قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول كانت حول حرب تستمر لأسابيع معدودة، ولم يتوقع أحد أن تستمر لعام أو عامين، والجيش لم يستعد لذلك من ناحية قوات الاحتياط وكذلك بأعداد الآليات، حيث قتل 666 جنديا، وأصيب 3922 واحتاج 11 ألف جندي إلى الدعم النفسي منذ بداية الحرب.
ووفقا لبن ديفيد فإن هناك 500 آلية مصفحة تضررت منذ بداية الحرب، العشرات منها تدمرت بشكل كامل.
لذا بات التقدم المحدود الذي يحرزه جيش الاحتلال في غزة وفي تفكيك قدرات حماس، يثير الشكوك داخل القيادة العسكرية العليا بشأن إمكانية تحقيق الأهداف الرئيسية للحرب في الأمد القريب.
وأثار مسار الحرب وتصور نهايتها خلافا بين نتنياهو والجيش ظهر للعلن إثر تصريح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي من أن حماس فكرة لا يمكن القضاء عليها وأن "الاعتقاد أن بالإمكان تدمير حركة حماس وإخفاؤها هو ذر للرماد في عيون الإسرائيليين".
كما بات اليوم التالي للحرب الهاجس الذي يؤرق جيش الاحتلال، إذ يفرض الجيش الاحتلال المباشر للقطاع ولا يريد أن يتموضع في مواقع قد تعرضه لحرب استنزاف من قبل المقاومة في قطاع غزة.
فهل يتحول قطاع غز إلى ثقب أسود يكبد جيش الاحتلال مزيدا من الخسائر فيما يستمر نتنياهو بالقول إن "وقف الحرب قبل تحقيق الأهداف سيرسل رسالة ضعف"؟
الضفة.. مارد لم يستفقسعى الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى استباق تفجر الوضع بالضفة الغربية وفق استراتيجية "جز العشب" كي لا تثور جبهة الضفة أثناء الحرب على غزة، فعمل على اعتقال الشخصيات التي يمكن أن تشكل حالة ثورة بالضفة أو تقوم بعمليات عسكرية، كما لجأ لاغتيال أي مقاوم ليبلغ عدد الشهداء أكثر من 550 شهيدا، فيما بلغ عدد المعتقلين نحو 9325.
ورغم ما تبدو عليه جبهة الضفة من شبه هدوء، فهناك في الواقع حرب مستعرة، ورغم كل جهود الاحتلال مازالت المقاومة تتقدم. إذ لم تسفر سياسة الاحتلال عن القضاء على العمل المقاوم في الضفة أو إضعافه، بل انتشر نشاط المقاومة إلى عدة مدن، ليتم بين الحين والآخر الإعلان عن تشكيل خلايا عسكرية كان آخرها إعلان سرايا القدس – مجموعات طمون عن "انطلاق عملها الجهادي" يوم 25 من الشهر الجاري.
وتعد قلقيلية مثلا بارزا لتطور العمل المقاوم، فقد أخذت المقاومة هناك بداية "الطابع الفردي" مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسارع المقاومون بعدها لتشكيل "مجموعات ليوث المجد" التابعة لكتائب شهداء الأقصى والمحسوبة على حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح).
وبعد أشهر، تشكلت "كتيبة قلقيلية- سرايا القدس" التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، ورغم خفوت وميضها بداية، فإنها عادت وأعلنت في بيان لها، مطلع الشهر الجاري، إطلاق أول أعمالها المقاومة بتفجير عبوة ناسفة بقوة تابعة للاحتلال اقتحمت المدينة.
وبعد نجاحات محدودة للاحتلال في منطقة نابلس والقضاء على العمل المقاوم هناك لفترة وجيزة، عادت عمليات المقاومة إليها خلال الفترة الماضية، وترافق ذلك مع عمليات للمقاومة في طوباس وطولكرم كما عادت جنين للصدارة بعد عملية تفجير مركبة نمر ومقتل ضابط وإصابة 16 جنديا.
وتظهر عمليات المقاومة بالضفة أن أداء المقاومين يتطور ويأخذ منحنى مختلفا عما كان عليه سابقا، كما استطاعت المقاومة تطوير خبرات قادرة على التعامل مع المتفجرات، وذلك حسب ما يقول محللون.
فقد ذكر موقع والا الإسرائيلي أن الفصائل الفلسطينية المسلحة بالضفة عملت بذكاء وخدعت قوات الجيش الإسرائيلي. لذا يعتقد العديد من المراقبين أن عمل المقاومة في الضفة سيشهد مزيدا من التطور والانتشار ما قد يسبب تشتتا لقوات الاحتلال التي تعاني بسبب حرب غزة والمناورات في جنوب لبنان.
لبنان.. نار تحت الرمادما إن بدأ العدوان الإسرائيلي على غزة حتى دخل حزب الله لمساندة القطاع بفتح جبهة في شمال إسرائيل لإشغال جيش الاحتلال، وعلى الرغم من حرص الطرفين على عدم خوض حرب مفتوحة إلا أن استمرار إطلاق النار وارتفاع وتيرته بات ينذر باحتمالية حرب وشيكة بين الجانبين.
ويرى حزب الله أنه أدخل "العدو في حرب استنزاف مستمرة وهو يعترف بأنه في مأزق استراتيجي"، وذلك وفقا لما يقوله نائب رئيس المجلس التنفيذي في الحزب علي دعموش.
فقد تمكن حزب الله من خلال إطلاق الصواريخ على شمال إسرائيل من تهجير نحو 70 ألف إسرائيلي وإفراغ مدن من سكانها حتى بات المعلقون الإسرائيليون يرون أن الشمال بات "تحت رحمة حزب الله".
وقد أثبت موقف حزب الله أن إسرائيل خسرت معادلة الردع مع الحزب، وأن عليها خلق حالة جديدة تمنع حزب الله من التمادي في استهداف الشمال وإظهار قدرتها للجمهور الإسرائيلي على حمايته من الإخطار التي تواجهه، وهو الأمر الذي دفع صحيفة تايمز أوف إسرائيل للقول إن ما يحدث في الشمال كشف عمق المأزق الإسرائيلي، وضيق الخيارات وصعوبتها وفداحة أثمانها، مهما كانت.
ويرى المحلل السياسي للقناة الـ 13 الإسرائيلية أن «الإذلال من طرف حزب الله بات أكبر مما يمكننا احتماله"، لذا كان على القيادة الإسرائيلية العمل على إثبات قدرتها على إدارة حرب على جبهتين وهو ما تمثل في تصريحات بعض المسؤولين هناك خاصة وزير الدفاع يوآف غالانت الذي هدد بإرجاع لبنان إلى العصر الحجري، وعلى الرغم من تلك المواقف التصعيدية والتهديدات من قبل مسؤولين إسرائيليين، إلا أنهم يذيلون تصريحاتهم بالخيار السياسي أو الديبلوماسي.
ووفقا لما يقوله المحللون الإسرائيليون فلا توجد رؤية واضحة لدى الحكومة الإسرائيلية حول أهداف الحرب المحتملة وكيفية تحقيقها، وهو ما يخلق معضلة إسرائيلية مضاعفة، لذا يمكن القول أن ما يثني إسرائيل – حتى الآن – عن التحرّك بشكل كبير ضد لبنان، هو قلقها الشديد مما سيكون عليه ردّ المقاومة بعد ذلك، ومن غياب الثقة بالقدرة على تحقيق أهداف هذه الحرب.
ووفقا لصحيفة معاريف الإسرائيلية فقد بعث ضابط كبير في قوات الاحتياط التابعة لسلاح الجو خلال الأيام الماضية برسالة لأعضاء هيئة الأركان طلب خلالها منهم التوضيح للمستويات السياسية أن الجيش غير مستعد لحرب طويلة في لبنان، وأن الذهاب لحرب كهذه حاليا سيؤدي إلى كارثة استراتيجية أكبر من 7 أكتوبر.
هذا الأمر دفع بعض المسؤولين العسكريين للقول "سيتعين علينا تدمير قدرات حزب الله – لكن ليس هناك عجلة، دعونا نفعل ذلك عندما يكون ذلك مناسباً لإسرائيل بدلاً من الانجرار إليه".
فحزب الله يطرح عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل طوفان الأقصى، وأنه سيلتزم بوقف إطلاق النار بمجرد وقفه في غزة.
فالمأزق الإسرائيلي بلا أي أفق، ما قد يكون قابلا لإطالة أمد حرب الاستنزاف، بانتظار معجزة إقليمية تسهم في تغيير الواقع أو إرساء تفاهمات أكبر، يكون انعكاسها أقوى من القدرة على تجنبها، كما يرى البروفيسور أماتسيا برعم مدير دائرة دراسات الشرق الأوسط والإسلام في جامعة حيفا.
الجبهة الداخلية.. اتساع الخرق"الحزن وانعدام الأمل يخيمان على الجميع والكآبة تعم الأجواء.. جميعهم منهكون لم يسبق لي أن رأيت الإسرائيليين كئيبين كما هم اليوم" هكذا استهل الكاتب في صحيفة واشنطن بوست ماكس بوث مقاله في الصحيفة يوم 25 من الشهر الجاري.
وذكر المقال أن 37% فقط من الإسرائيليين متفائلون بشأن مستقبل إسرائيل وذلك خلال استطلاع للرأي في مايو/ أيار الماضي، فقد بات الإسرائيليون يشعرون أنهم في حرب أبدية.
وما يمر به المجتمع الإسرائيلي دفع رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت، إلى دعوة مواطنيه إلى عدم مغادرة إسرائيل، التي تمر بأصعب أوقاتها منذ عام 1948. ووجه لهم نداء بعنوان "لا تغادروا البلاد"، مشيرا إلى أنهم يمرون "بأصعب فترة منذ حرب الاستقلال (نكبة 1948)، مقاطعة دولية، تضرر الردع، 120 إسرائيليا في الأسر، آلاف العائلات الثكلى، الجليل (شمال إسرائيل) مهجور، آلاف المهجرين، وزراء لا يهتمون إلا بأنفسهم، فقدان السيطرة على الاقتصاد والعجز". واستدرك "هذا صحيح بالكامل، لكن من المؤكد أننا قادرون، وسوف نخرج من هذه الحفرة".
ويقدر عدد الإسرائيليين الذين خرجوا بعد الحرب بأكثر من نصف مليون شخص وفقا لموقع زمان إسرائيل الإخباري. اما الداخل فيوجد أكثر من 100 ألف إسرائيلي مشردين وفقا للكاتبة الإسرائيلية داليا شيندلين، في مقال في صحيفة الغارديان البريطانية الشهر الماضي.
وتؤكد شيندلين أن الحرب تؤثر سلبا على دخل الناس وصحتهم العقلية، وفي كل يوم تفقد أسر إسرائيلية أبناءها في الحرب من أجل "النصر الكامل" الذي لا يتحقق أبدا.
ويرى المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه أن المجتمع اليهودي الإسرائيلي يشهد انقساما حادا، ويتألف المجتمع حاليا من معسكرين متنافسين غير قادرين على إيجاد أرضية مشتركة.
وينبع هذا الصدع من الخلافات التي تشوب تعريف اليهودية باعتبارها قومية، وإن كان هذا الأمر موضوعا للنقاش النظري بين التيارات الدينية والعلمانية، فقد أصبح الآن صراعا حول طبيعة المجال العام والدولة نفسها، وهذا الأمر لا يُحاربُ في وسائل الإعلام فحسب، بل في الشوارع أيضا.
ووفقا لبابيه يمكن تسمية أحد المعسكرين بـ"دولة إسرائيل"، والتي تضم أشخاصا أكثر علمانية وليبرالية، ومعظمهم، من اليهود الأوروبيين من الطبقة المتوسطة وأحفادهم، الذين أدوا دورا فعالا في تأسيس الدولة في عام 1948 وظلوا مسيطرين عليها حتى نهاية القرن الماضي، والمعسكر الآخر هو "دولة يهودا" التي نشأت بين مستوطني الضفة الغربية المحتلة. وتتمتع بمستويات متزايدة من الدعم داخل إسرائيل وتشكل القاعدة الانتخابية التي ضمنت فوز نتنياهو في الانتخابات.
كما يتزايد نفوذ هذه الطبقة في المستويات العليا في الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن، وهي تريد أن تصبح إسرائيل دولة دينية تمتد على كامل فلسطين التاريخية.
ومع استمرار الحرب فان هذه الانقسامات ستستمر وقد تتسع ولا يعتقد أن وقف الحرب قد ينهي بل على العكس ممكن أن تكون نتائج الحرب سببا في اتساع الخرق في المجتمع الإسرائيلي وزيادة انقسامه، وفقا للمحللين.
الردع الدبلوماسي.. خسائر مستمرة
يرى الدبلوماسي الإسرائيلي ألون ليل أن إسرائيل خسرت الردع الدبلوماسي الذي كانت تتمتع به في أعقاب الحرب على قطاع غزة، ووفقا للدبلوماسي فإن بعض الدول كانت لها خلافات مع إسرائيل ولم تجرؤ على الحديث عن ذلك سابقا ولكنها باتت الآن في الجانب المعاكس لإسرائيل.
فلم يسبق لإسرائيل قبل طوفان الأقصى أن تعرضت للضغط الدولي الكبير الذي تتعرض له الآن من عدة جبهات بسبب حربها الدموية على غزة، إذ باتت إسرائيل في عزلة خارجية، حيث تواجه اتهامات بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية.
وانضم بنيامين نتنياهو إلى صفوف زعماء العالم الذين يوصفون بالمنبوذين دوليا عندما أصبح هدفا للمحكمة الجنائية الدولية، التي يسعى المدعي العام فيها كريم خان إلى إصدار مذكرة اعتقال ضده وضد وزير دفاعه غالانت لاتهامها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب الإسرائيلية على غزة.
كما شهدت الفترة الماضية احتجاجات عمت العديد من الجامعات في العالم خاصة أميركا وأوروبا تطالب بقطع صلات تلك الجامعات مع إسرائيل وشركاتها ونجحت بعض تلك الاحتجاجات في تحقيق مطالبها، كما يعتبرما تعرضت له المشاركة الإسرائيلية في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجين) من صيحات استهجان مؤشرا على الانزعاج من إسرائيل وسياساتها حتى في الأوساط الثقافية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات طوفان الأقصى شمال إسرائیل جیش الاحتلال أن إسرائیل قطاع غزة حزب الله حرب على على غزة
إقرأ أيضاً:
تحقيق عبري: جيش الاحتلال قتل النساء والأطفال وزعم استهداف قادة المقاومة
#سواليف
نشرت صحيفة هآرتس العبرية، تحقيقا صحفيا، يكشف زيف إعلانات #جيش_الاحتلال الرسمية عن طبيعة الأهداف التي يجري مهاجمتها من سلاح جو الاحتلال وكذلك #الخسائر في صفوف #المقاومة_الفلسطينية.
ويوضح التحقيق أن المدنيين #الفلسطينيين هم الهدف الأبرز لجيش الاحتلال، رغم مزاعمه بأنه ينفذ استهدافات دقيقة لقادة وعناصر المقاومة.
وجاء في تحقيق هآرتس “: يوم الثلاثاء الماضي بعد الظهر، نشر المتحدث باسم الجيش مقطعي فيديو. في الأول، يظهر مقاتلة حربية تقلع في الظلام، تاركة خلفها أثرًا مضيئًا خلابًا، ثم يظهر طيار مروحية أباتشي وهو يفحص تسليح المروحية قبل أن يدخل إلى قمرة القيادة. أما في الفيديو الثاني، فتظهر مبانٍ مدمرة بسبب القصف وأعمدة دخان تتصاعد إلى السماء”.
مقالات ذات صلةفي لقطات المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، لا يظهر أي بشر، لكن على الأرض، كان المشهد مختلفًا. بعد ساعة من الهجوم، بدأت الجثث والإصابات تصل إلى المستشفى بسيارات الإسعاف، وبالمركبات الخاصة، وبعربات تجرها الحمير، وحتى محمولين بأيدي الناس.
وصف الدكتور محمد أبو سلميّة، مدير مستشفى الشفاء، في مقابلة مع قناة الجزيرة، الوضع، قائلا: “في الصباح، كان هناك 50 جثة في قسم الطوارئ، و30 جثة أخرى في ثلاجة الموتى. كانت غرف العمليات ممتلئة، وكثير من المصابين ماتوا أمام أعيننا لأننا لم نتمكن من علاجهم”.
أما الدكتور شعيب روكاديا من بريطانيا، الذي يعمل في المستشفى، فقال لمراسلي وكالة أسوشيتد برس (AP): “جثث ممزقة، محمولة في سيارات الإسعاف، وعربات الحمير، أو بين أيدي أقارب مذعورين، تدفقت إلى الداخل، طفل تلو الآخر، وشاب بعد آخر”. ووصفت طبيبة أمريكية المشاهد في غرفة الطوارئ: “ممرضة كانت تحاول إنعاش طفل كان ملقى على الأرض بشظايا في قلبه. شاب فقد معظم ذراعه كان يجلس مرتعشًا في الزاوية. صبي حافي القدمين يحمل شقيقه الأصغر، الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره، وقد تهشمت قدمه بالكامل، مع دماء في كل مكان وأشلاء عظام وأنسجة متناثرة. كنت أركض من مكان إلى آخر، محاولًا تحديد الأولويات، من يجب إرساله إلى غرفة العمليات، ومن يجب إعلان وفاته. من السهل أن تفوت بعض الحالات؛ فتاة صغيرة بدت وكأنها بخير رغم بعض الألم عند التنفس، لكن اتضح أنها كانت تنزف داخل رئتيها، وفتاة أخرى اكتشفنا شظايا في دماغها عندما نظرنا إلى شعرها المجعد”.
محمد مصطفى، مسعف أسترالي يتطوع في المستشفى المعمداني، تحدث عن تلك الساعات في مقطع فيديو نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي: “عملنا طوال الليل، نفدت لدينا مادة الكيتامين، ومسكنات الألم، ومواد التخدير. خضعت بعض الفتيات لعمليات بتر دون تخدير. معظم الضحايا كانوا من النساء والأطفال. أطراف مبتورة، جثث بلا رؤوس. كان هناك رجل مات أثناء نقله إلى جهاز التصوير المقطعي، وثلاث فتيات يجلسن على سرير هن بناته، وأصبحن الآن يتيمات. والدتهن لم تصل حتى إلى المستشفى. كنت هنا أيضًا في يونيو، لكنه ليس نفس الوضع، الصراخ في كل مكان، ورائحة اللحم المحترق لا تزال في أنفي”.
بعد مرور أسبوع على الهجوم الإسرائيلي، يمكن محاولة تبديد الضباب حول الضربة الافتتاحية الإسرائيلية التي أنهت شهرين من وقف إطلاق النار في غزة. ووفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، أسفرت تلك الهجمة عن استشهاد 436 شخصًا، بينهم 183 طفلًا، و94 امرأة، و34 مسنًا فوق سن 65. أرقام تجعل الليلة بين 17 و18 مارس واحدة من أكثر الليالي دموية منذ بداية الحرب.
أما في القناة 12 العبرية، فقد أفادوا بأن “حوالي 400 ناشط قُتلوا”، بينما في صحيفة معاريف وصفوا العملية بأنها “واحدة من أكبر عمليات الاغتيال في التاريخ العسكري”، وادعوا أن “أكثر من 300 مسلح قُتلوا”. ولكن ما مدى تطابق هذه التقارير مع الواقع؟ فقد ذكر جيش الاحتلال الإسرائيلي في بياناته سبعة أسماء فقط كأهداف للهجوم.
بدأ الهجوم في الساعة 2:20 فجرًا. روايات السكان متشابهة، فقد كان البعض قد استيقظوا لتناول وجبة السحور عندما بدأت القنابل تتساقط، وانتشرت حالة من الذعر بين سكان القطاع المنهكين. وقع معظم القصف بين الساعة 2:20 والساعة 2:50، لكنه استمر بوتيرة أقل حتى الخامسة صباحًا. نُفذت الهجمات في عشرات المواقع بشكل متزامن واستمرت لفترة قصيرة جدًا على ما يبدو، رغم أن التقارير الإسرائيلية التي ادعت أن العملية استغرقت عشر دقائق فقط تبدو مبالغًا فيها.
في وسائل الإعلام الإسرائيلية، تم الاحتفاء بإنجازات العملية. في صحيفة معاريف، وُصفت الهجمة بأنها “واحدة من أكبر عمليات الاغتيال في التاريخ العسكري”، وزُعم أنه “تم القضاء على أكثر من 300 مسلح في غضون دقائق… بفضل التعاون الاستثنائي بين الشاباك وسلاح الجو”. “في الليلة الماضية، تعرض حوالي 300 من مسلحي حماس والجهاد الإسلامي، وربما أكثر، لهجوم مفاجئ من قنابل سلاح الجو التي سقطت على رؤوسهم”، تباهى مراسل صحيفة “معاريف”، “كانت الغارة مثالية”. بينما أعلنت القناة 12: “حماس تفاجأت، 400 من عناصرها قُتلوا”.
يبدو أن جيش الاحتلال الإسرائيلي و #الشاباك ركزا هذه المرة على أهداف مدنية وسياسية أكثر من الأهداف العسكرية. لكن في البيانات الرسمية للجيش، لم يُذكر حتى الآن سوى سبعة أسماء للشهداء الذين كانوا أهدافًا للهجوم: محمود أبو وطفة، وثلاثة من أعضاء المكتب السياسي لحماس: عصام الدعاليس، محمد الجماسي، وياسر حرب. كما أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي والشاباك عن اغتيال رشيد جحجوح، رئيس جهاز الأمن الداخلي، بالإضافة إلى مسؤول الاستخبارات العسكرية في جنوب قطاع غزة ورئيس قسم المراقبة والأهداف في حماس، أسامة طبش.
تم نشر أسمائهم في إعلان عسكري إسرائيلي مع ملصقات حمراء كُتب عليها “تمت تصفيته”. إلى جانب هذه الأسماء، كان جيش الاحتلال الإسرائيلي مقتضبًا في تقديم تفاصيل عن الهجوم، مكتفيًا ببيان عام جاء فيه: “نفذ الجيش الإسرائيلي والشاباك عشرات الهجمات على أهداف إرهابية ومسلحين من منظمات الإرهاب في أنحاء قطاع غزة، بهدف ضرب القدرات العسكرية والإدارية لهذه المنظمات وإزالة التهديد على إسرائيل وسكانها”. من الواضح أن العدد لم يكن 300 مقاوما، ولا حتى قريبًا من ذلك. وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، بلغ عدد الرجال تحت سن 65 الذين قتلوا في الهجوم 125 شخصًا، ومعظمهم لم يكونوا مسلحين.
استهدفت بعض الضربات مخيمات النازحين. أفاد تقرير للأمم المتحدة بوقوع ثلاث ضربات على مخيمات في دير البلح، في منطقة المواصي غرب خانيونس، وفي منطقة تل السلطان غرب رفح. “كان الناس نائمين، وقصفوا الخيام على رؤوسهم، هناك عشرات القتلى والجرحى، معظمهم أطفال”، صرخ أحد سكان مخيم النازحين في خانيونس في مقطع فيديو نشر عن تلك الليلة.
“لقد كانت أصعب ليلة في حياتنا، الأطفال كانوا مرعوبين ويرتعشون، لم نتمكن من رؤية شيء من شدة الرعب”، قال أحد سكان غزة في فيديو وثّقته الأمم المتحدة. في الفيديو، يظهر حفرة ضخمة حيث كانت هناك خيام، وأشخاص يبحثون بين الأنقاض، محاولين انتشال بعض الطماطم المغطاة بالرمل وبضع بطانيات.
استشهاد عائلة بأكملها
استشهدت الطفلة بيسان الهندي مع شقيقها أيمن في قصف على خانيونس. “بيسان الجميلة، الرقيقة، كنتِ محبوبة من الجميع”، قالت والدتها في رثائها. “كم كان وجهكِ مشرقًا. أشتاق إليكِ كثيرًا، لغمازاتك، لعينيك الواسعتين كعيني غزال، لرائحة شعرك. حبيبة قلبي، أرجوكِ تعالي إليّ في الحلم. سأحاول النوم فقط لأحلم بكِ”.
أما عن ابنها أيمن، فقالت: “أيمن الطيب، المتواضع، الصادق والمخلص، أكثر الأطفال براءة. فراقك كسرني. كنت روحي، سندي. قلبي يحترق. يا الله، كم كنت أشكره كل يوم عندما أراك تكبر أمامي. هل تتذكر، حبيبي، كيف كنت تقف بجانبي وتقول لي، “لقد أصبحت أطول منكِ”، وتضحك؟ بعد أيام قليلة كنت سأراك في الجامعة، وأفتخر بك، خاصة بعدما أسعدتني وأخبرتني قبل وقت قصير من استشهادك أنك تريد أن تصبح طبيبًا نفسيًا، مثل زوج خالتكِ علا. كنت فخورة وسعيدة جدًا. هل تعلم أنني مسحت دمك بثوبي؟ لن أغسله أبدًا”.
وفي رفح استشهد 17 فردًا من عائلة جرغون في قصف لمنزلهم. قال رمضان أبو لولي لصحيفة “هآرتس” إن أخته مجدولين استشهدت مع زوجها محمد وثلاث بناتها. “أُطلقت صاروخان على المنزل”، أضاف أبو لولي، “أربعة إخوة قُتلوا مع زوجاتهم وأطفالهم. حتى الجد والجدة قُتلا. جميع الإخوة في هذه العائلة فقدوا منازلهم خلال الحرب، فانتقلوا للعيش في بيت والديهم. الآن وصل القصف إليهم أيضًا”.
في بيان لمنظمة اليونيسف، وصفت 18 مارس بأنه “واحد من أكثر الأيام دموية للأطفال في العام الماضي”. بينما قال مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إن “استخدام أسلحة ذات تأثير واسع على منطقة مكتظة بالسكان من المرجح أن يؤدي إلى إصابات عشوائية، وقد يشكل انتهاكًا لقواعد القانون الإنساني الدولي”.
في الهجمة المذكورة، انتشرت صورة طفلة رضيعة ميتة ترتدي ملابس بيضاء مزينة بأقواس ملونة، ملقاة فوق جثة امرأة مستلقية على نقالة برتقالية، كلتاهما حافيتان. تبين أن الرضيعة هي بنان التي لم تكمل ثلاثة أشهر من عمرها، واستشهدت مع والديها وعشرة من أفراد عائلتها في قصف على دير البلح. انتشرت صورة أخرى لسبعة أطفال من عائلة أبو دقة، يجلسون ويشربون عصيرًا. من بينهم، استشهد خمسة أطفال في قصف لاحق: عمر أسامة، محمد أحمد، حلا أحمد، سما أحمد، وقصي عادل. وقال قريب العائلة، أحمد عبد الله: “في فجر يوم الجمعة، تم قصف ستة منازل للعائلة في آن واحد”.
في ضربة أخرى، وفقًا لمصادر محلية، استشهد 25 شخصًا كانوا يحتمون في مدرسة “التابعين” في مدينة غزة. أحد الصحفيين الفلسطينيين وثّق مشهدًا حيث كان فتى يبحث بين الأنقاض عن أشياء تخص أصدقائه الذين استشهدوا، قائلاً: “رأيت الكثير من أجزاء الجثث والدماء”.
أما أصغر ناجية من عائلة أبو دقة فهي الطفلة آيلا البالغة من العمر شهرًا واحدًا.
يقول عبد الله: “في صباح يوم المجزرة، أُخرجت وهي في حالة جيدة بعد أن بقيت تحت الأنقاض لمدة خمس ساعات، لكن والدها أسامة أبو دقة، ووالدتها مروة، وشقيقها عمر، استشهدوا جميعًا. لا أعرف إن كانت محظوظة لأنها نجت، أم أنها غير محظوظة لأنها الناجية الوحيدة من عائلتها”.
بدأت مقاطع الفيديو التي انتشرت صباح الثلاثاء تُظهر مشاهد من بين الأسوأ منذ بداية الحرب: قدم طفل داخل كيس، أب يحتضن جثة ابنته، أب يمر بين الجثث في المشرحة باحثًا عن طفليه، شخص يحتضر تحت أنقاض منزله، وجثث أطفال من جميع الأعمار والأوضاع، بين الأنقاض وفي غرف المشرحة. في أحد الفيديوهات، تصرخ أم: “أقسم بالله أن أطفالي ماتوا جوعًا، لم يتمكنوا من تناول السحور”. في مقطع آخر، يظهر أب يحتضن طفلته الميتة التي ترتدي بيجامة حمراء ودمها يسيل، وهو يصرخ: “هل هذه هي أهدافهم؟”.
في مقطع فيديو آخر، تظهر جثتا طفلين، وطفل مصاب ينزل من سيارة إسعاف، ونساء يبكين على جثث أحبائهن. كتب الصحفي حسام شبات، وهو من أبرز الصحفيين في غزة منذ بدء الحرب: “هذه المشاهد تكررت بكل قسوتها وصعوبتها، فقد عاد الفقدان والألم، وعادت اللحظات الصعبة التي تجعلنا نبكي كل يوم”. يوم الاثنين الماضي، أصاب صاروخ سيارة شبات، مما أدى إلى استشهاده على الفور.
جاءت هذه الضربة بعد قرابة ثلاثة أسابيع من الحصار الكامل على غزة، وهو أطول حصار منذ بدء الحرب. لم يُسمح بدخول أي طعام أو وقود أو مساعدات إلى القطاع منذ 2 مارس. بالإضافة إلى ذلك، أوقفت “إسرائيل” تزويد محطة تحلية المياه بالكهرباء، مما أدى إلى انخفاض كبير في كمية المياه المتاحة للسكان.
قال الطبيب الأمريكي الدكتور فيروز سيدوا في مقابلة مع شبكة ABC: “هذه السكان يعانون من الجوع منذ 15 شهرًا. الجميع يفقدون الوزن ويعانون من نقص البروتين. لقد أكلت اللحم مرة واحدة فقط منذ وصولي إلى هنا، وأنا أفضل حالًا من معظم الناس لأن لدي المال. سعر البيضة الآن يزيد عن دولار، والناس يصلون إلى المستشفى جائعين وعطشى، ولا يستطيعون الحصول على مياه نظيفة. الأطفال يعانون من مشكلات في الجهاز الهضمي. عالجنا امرأة توقف قلبها بسبب التهاب في الجهاز الهضمي. هنا يوجد مليونَي شخص، نصفهم أطفال، لا يمكنهم النجاة في مكان دُمرت فيه كل الزراعة، ودُمرت كل أنظمة الصرف الصحي والمياه والمنازل. كيف يمكن لأحد أن يتوقع منهم البقاء على قيد الحياة؟”.
كما أن النظام الصحي في غزة في وضع كارثي. في شمال القطاع، لم يتبقَ سوى جهاز واحد لإنتاج الأوكسجين، وجهاز تصوير مقطعي واحد، وجهاز أشعة سينية واحد. وفقًا لتقرير الأمم المتحدة، اضطر الطاقم الطبي إلى غسل الضمادات الطبية المعقمة لإعادة استخدامها. يقول الدكتور سيدوا: “إذا تعرضنا لحدث مماثل آخر أو اثنين، فستنتهي لدينا الإمدادات اللازمة لغرف العمليات”.