«صوم العذراء» 15 يوما في حب «مريم».. فرضه المسيحيون على الكنيسة تبركا بها
تاريخ النشر: 6th, August 2023 GMT
خمسة عشر يوماً فى حب السيدة مريم العذراء التى ملكت قلوب الأقباط، فقدَّسوا صومها ونذروا فى صوم العفيفة، ذلك الصوم الذى تسلّمته الكنيسة من الآباء الرسل عندما صاموا أملاً فى رؤية جسد العذراء بعد الصعود عقب وفاتها لتحقق أمنيتهم فى 16 مسرى بظهور جسد العذراء الذى اختفى، بحسب الاعتقاد المسيحى، وحباً فى «مريم» يصومه البعض بزهد وتقشف زائد كإطالة فترة الانقطاع حتى الغروب أحياناً، أو الصوم بـ«الماء والملح» بدون زيت وبدون سمك.
ويحتل صوم العفيفة مكانة مقدسة عند الأقباط على الرغم من أنه صوم من الدرجة الثانية، فهو الصوم الوحيد الذى فرضه الشعب على الكنيسة حباً فى البتول، ويذكر «ابن العسال» فى عام (1260م) فى كتابه «المجموع الصفوى»: صوم السيدة العذراء أكثر ما يصومه المتنسكون والراهبات، وأوله أول مسرى بحسب التقويم القبطى، وعيد السيدة فصحه»، وبحلول القرن الرابع عشر الميلادى شاع هذا الصوم بين الناس كلهم. ومع أنه خمسة عشر يوماً فإن البعض ينذر أسبوع صيام قبله ليكون 21 يوماً، ويجوز فيه أكل السمك، لكن البعض يمتنع عنه تكريماً للعذراء وزهداً.
ويتناول الأقباط خلال صوم العذراء المأكولات الخفيفة فى صورة من صور الزهد والتقشف، ومن هذه المأكولات طبق «الشلولو» وهو ملوخية ناشفة، وماء، وثوم، وملح، وليمون.
وعن سبب شهرة هذا الطبق فى فترة الصوم يقول الباحث القبطى أشرف أيوب معوض إن العذراء أثناء رحلة العائلة المقدسة إلى مصر لم تجد ما تأكله، فأعطاها البعض قليلاً من «الملوخية الناشفة»، فوضعت عليها ماء وتناولتها، وجرت العادة أن تهدى السيدات القبطيات هذا الطبق لجاراتهن المسلمات فى الأعياد والمناسبات، مثل أطباق الكعك التى يهديها المسلمون للأقباط.
كما يوجد بعض المسلمات يحرصن على صيام العذراء تبركاً بها وحباً لها، وقديماً كان الأقباط فى فترة الصوم يعلقون صور العذراء على واجهات منازلهم وفى الشرفات، ويضعون أسفلها مصباحاً مضيئاً أو يثبتون حولها عقداً من النور كما يفعل المسلمون فى احتفالهم برمضان بتعليق الزينة والأنوار فى الشوارع.
وفى بعض النجوع والقرى التى غالبيتها مسيحيون فى الصعيد، يطوفون فى ليلة عيد العذراء بأيقوناتها فى الشوارع والحوارى المحيطة بالكنيسة، ومع الألحان الكنسية، وتتدافع الجموع لنيل البركة بلمس الأيقونة وتقبيلها، وتزغرد النساء مع الطبل والزمر والتصفيق.
فيما يحتفظ الأقباط بصور العذراء مريم فى حافظة نقودهم، ويعلقونها فى سياراتهم، ويزينون بها منازلهم، ويطلق المصريون، أقباطاً ومسلمين، اسمها على بناتهم.
وتكون مدة صوم العذراء، وفقاً لكنيسة الروم الأرثوذكس، 15 يوماً، وتتشابه فى ذلك مع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بينما تبلغ مدة الصوم 5 أيام فقط عند كل من «السريان والأرمن الأرثوذكس»، ويقتصر الصوم عند الروم الكاثوليك على أيام الجمعة فى الفترة من 1 أغسطس حتى 14 من ذات الشهر، بينما يصوم «الكلدان الكاثوليك» يوماً واحداً فقط، وتصوم الكنيسة الكاثوليكية صوم العذراء من بداية أغسطس لمدة 15 يوماً.
وتنطلق الاحتفالات والموالد فى الأديرة والكنائس التى تحمل اسم العذراء مريم عقب نهاية مدة الصوم، كما يقيم دير العذراء مريم بدرنكة احتفالات يحضرها ما يقرب من مليون شخص سنوياً، بالإضافة لكنيسة السيدة العذراء بمسطرد، حيث توجد المغارة التى احتمت بها العائلة المقدسة فى مصر.
القس باسيليوس جرجس: السيدة مريم لها مكانة لا يشاركها فيها أحدويقول القس باسيليوس جرجس، كاهن كنيسة العذراء بالمقطم والمنسق الإعلامى لكنائس المقطم، إن صوم العذراء يُعد تقليداً رسولياً تسلمته الكنيسة من الآباء الرسل، حيث توفيت السيدة العذراء فى عمر يقترب من الـ58 عاماً، وعندما قام التلاميذ بدفنها كان توما الرسول فى رحلة تبشيرية فى الهند ورأى خلال رحلة عودته صعود جسد العذراء للسماء، ولما رجع سأل التلاميذ عن السيدة العذراء، فقالوا له إنها قد ماتت.
فقال لهم: «أريد أن أرى أين دفنتموها!»، وعندما ذهبوا إلى القبر لم يجدوا الجسد المبارك، فابتدأ يحكى لهم أنه رأى الجسد صاعداً، وطلبوا أن يروا هذا المنظر وأن يتأكدوا وأن يتوثق الاعتقاد عندهم بصعود جسد العذراء، فصاموا 15 يوماً من أول مسرى حتى 15 مسرى، فرأى الرسل جسد العذراء مرة أخرى، وكان هذا فى اليوم السادس عشر من مسرى.
وأوضح أن صوم العذراء يستمر لمدة 15 يوماً فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كما بدأه الآباء الرسل، وهو يبدأ من بداية شهر مسرى القبطى، ويوافق السابع من شهر أغسطس، حتى يوم 22 من نفس الشهر، حيث تحتفل الكنيسة بظهور جسد العذراء فى 16 مسرى نهاية الصوم.
وتابع القس باسيليوس: «تحتل السيدة مريم العذراء مكانة لا يشاركها فيها أحد فى قلوب المسيحيين والمسلمين، فهى مذكورة فى الإنجيل والقرآن، لذلك تُعتبر أمنا كلنا، فهى تساند كل من يطلب شفاعتها فى كل مكان وزمان»، وتجلى حب المصريين للعذراء عندما ظهرت فى الزيتون فى 2 أبريل 1968 فى عهد البابا كيرلس السادس، حيث ذهب جموع المصريين، مسيحيين ومسلمين، لأخذ بركاتها، والسهر طوال الليل، وكل ذلك بسبب حبهم لها وتطلعهم لرؤيتها، كذلك عندما ظهرت السيدة العذراء فوق كنيسة «السيدة العذراء والشهيدة دميانة» بابا دبلو فى شبرا، كان المصريون، مسيحيين ومسلمين، يسهرون حتى الصباح، لمتابعة هذا الحدث الكبير.
وأردف كاهن كنيسة العذراء بالمقطم: «كانت العذراء مُحبة للبشر ومُحبة لكل الناس، وظهر ذلك فى معجزة عرس قانا الجليل، فمن دون أن يطلب منها أصحاب العرس ذهبت وطلبت من ابنها السيد المسيح وقالت «ليس لهم خمر» وسمع المسيح لطلبها وحوّل الماء لخمر، وكانت مُربية فاضلة فكانت تعلم المسيح عقيدته».
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: مريم السیدة العذراء صوم العذراء
إقرأ أيضاً:
ذكرى رحيل البابا شنودة الثالث.. حكيم الكنيسة وصوت الوطنية
في السابع عشر من مارس 2012، رحل عن عالمنا البابا شنودة الثالث، البطريرك الـ117 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تاركًا خلفه إرثًا من الحكمة والوطنية والمواقف الحاسمة التي جعلت منه أحد أبرز الشخصيات الدينية والسياسية في تاريخ مصر الحديث. لم يكن مجرد قائد روحي، بل كان مفكرًا ومثقفًا وصاحب رؤية، لعب دورًا محوريًا في الحياة السياسية والاجتماعية على مدار عقود.
وُلد البابا شنودة الثالث، واسمه الحقيقي نظير جيد روفائيل، في 3 أغسطس 1923، بقرية سلام بمحافظة أسيوط. فقد والدته وهو طفل صغير، وانتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث تلقى تعليمه الأولي، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا)، ودرس التاريخ وتخرج عام 1947. كان منذ صغره محبًا للعلم والأدب، فاهتم بالشعر والكتابة، حتى أصبح واحدًا من أبرز الشعراء المسيحيين في القرن العشرين. كما عمل مدرسًا للغة العربية والتاريخ، ثم اتجه للصحافة، حيث تولى تحرير مجلة "مدارس الأحد"، وهي المجلة التي كانت منبرًا لفكر التجديد في الكنيسة القبطية.
كان نظير جيد مهتمًا بالقضايا الوطنية والسياسية، وتأثر بشخصية مكرم عبيد، الذي كان أحد رموز الحركة الوطنية وقياديًا بارزًا في حزب الوفد.كان يرى فيه نموذجًا للسياسي الوطني الذي يسعى لخدمة بلاده بعيدًا عن المصالح الضيقة، كما أعجب بأفكاره حول الوحدة الوطنية وأهمية التكاتف بين المسلمين والمسيحيين من أجل نهضة مصر. انعكس هذا الاهتمام على مواقفه لاحقًا كبطريرك للكنيسة، حيث كان دائم التأكيد على أن الأقباط جزء لا يتجزأ من نسيج الوطن، وأن الكنيسة ليست كيانًا منعزلًا عن قضايا الأمة.
قبل أن يدخل الرهبنة، التحق نظير جيد بالجيش المصري وأدى الخدمة العسكرية، وكان ضابطًا احتياطيًا في سلاح المشاة. ورغم أن فترة خدمته لم تكن طويلة، فإنها أسهمت في تشكيل وعيه الوطني. وعندما اندلعت حرب أكتوبر 1973، لعب البابا شنودة الثالث دورًا مهمًا في دعم المجهود الحربي، إذ حث الأقباط على المشاركة الفاعلة في الجيش والتبرع لصالح القوات المسلحة، مؤكدًا أن المعركة معركة كل مصري وطني.
في عام 1954، قرر نظير جيد أن يترك الحياة المدنية ويتفرغ للروحانية، فالتحق بدير السريان بوادي النطرون، وأصبح الراهب أنطونيوس السرياني. وفي عام 1962، اختاره البابا كيرلس السادس ليكون أسقفًا للتعليم، ومن هنا بدأ رحلته الحقيقية في نهضة الكنيسة، حيث كرّس جهوده لإعادة إحياء التعليم الكنسي ونشر الفكر الديني المستنير.
في 14 نوفمبر 1971، تم تنصيب البابا شنودة الثالث بطريركًا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. منذ اللحظة الأولى، حمل على عاتقه مسؤولية الدفاع عن حقوق الأقباط، لكنه كان يرى أن الحل يكمن في الوحدة الوطنية وليس في الانفصال أو العزلة. كان للبابا شنودة مواقف سياسية جريئة، أبرزها رفضه اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، حيث اعتبرها اتفاقية لا تحقق العدالة للفلسطينيين، وأعلن موقفه الرافض للتطبيع مع إسرائيل، قائلًا: "لن ندخل القدس إلا مع إخوتنا المسلمين". هذا الموقف دفع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات إلى وصفه بأنه "البابا العربي المدافع عن القضية الفلسطينية"، وأكد أن "موقفه المشرف كان نموذجًا للوطنية الصادقة التي لا تفرّق بين مسلم ومسيحي".
كما أشاد به العديد من القادة العرب، حيث قال الرئيس السوري بشار الأسد إن "البابا شنودة كان صوتًا عاقلًا في زمن الأزمات"، بينما وصفه العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بأنه "رجل الحكمة الذي عمل دائمًا على تعزيز التفاهم بين الشعوب". أما الشيخ خليفة بن زايد، رئيس دولة الإمارات آنذاك، فقد قال عنه: "كان نموذجًا لرجل الدين الذي يدرك أن دوره يتجاوز حدود الكنيسة إلى خدمة مجتمعه ووطنه".
على المستوى الفكري والثقافي، كان البابا شنودة يحظى باحترام واسع بين المثقفين العرب. وصفه الكاتب محمد حسنين هيكل بأنه "رجل دولة بحكمة كاهن"، فيما قال عنه جمال الغيطاني إنه "كان شخصية تاريخية لعبت دورًا محوريًا في الدفاع عن الهوية المصرية". أما فرج فودة، فقد أشاد بموقفه الرافض للانعزال الطائفي، ورأى فيه نموذجًا لرجل الدين المستنير.
عاصر البابا شنودة اندلاع ثورة 25 يناير 2011، وكان يدعو دائمًا إلى الاستقرار والحوار الوطني. كان يدرك أن مصر ستواجه تحديات كبيرة بعد الثورة، وكان يخشى من تصاعد الفتن الطائفية، لكنه ظل مؤمنًا بأن وحدة المصريين قادرة على تجاوز الأزمات. في 17 مارس 2012، رحل البابا شنودة الثالث بعد صراع مع المرض، مخلفًا وراءه إرثًا روحيًا وفكريًا ووطنيًا لا يُنسى. شيّعه الملايين في جنازة مهيبة، ودفن في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، حيث كان يقضي سنوات نفيه الإجباري.
كان البابا شنودة كاتبًا غزير الإنتاج، ومن أهم كتبه: "كلمة منفعة"، "الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي"، "الحب المسيحي"، "معالم الطريق الروحي"، و"بدعة الخلاص في لحظة". رحل البابا شنودة، لكنه بقي في ذاكرة المصريين والعرب رمزًا للوطنية والحكمة، ورجلًا لم يخشَ قول الحق مهما كلفه الأمر.
نشر موائد الرحمن بالكنائس.. محطات في حياة البابا شنودة الثالث في ذكرى رحيله
في ذكرى وفاته.. مقولات البابا شنودة الثالث التي دخلت قلوب المصريين
في ذكرى رحيل البابا شنودة الثالث.. كيف كانت حياة «معلم الأجيال»؟