الجزيرة:
2025-05-02@14:04:43 GMT

نصوص في الذاكرة.. الغريب من كتاب أبي حيان التوحيدي

تاريخ النشر: 28th, June 2024 GMT

نصوص في الذاكرة.. الغريب من كتاب أبي حيان التوحيدي

لا تكاد تحظى شخصية أدبية في التراث العربي بما حظي به أبو حيان التوحيدي (310-414هـ/ 922- 1023م) من إثارة للجدل حول أفكاره، واستدعاء لشخصيته في إشارة للاغتراب والمظلومية وعدم جدوى المثقف.

فقد غدا التوحيدي رمزا للمثقف المظلوم الذي رغم إمكانياته الكبيرة، مفكرا وفيلسوفا ومتصوفا، فإنه لم يحظ على مستوى حياته بما يليق به من مكانة مادية تدفع عنه شظف الحياة التي لاحقته.

ويستدعى التوحيدي رمزا للأديب المخذول من أصدقائه الذين تبوؤوا في عهده مكانة كبيرة في الدولة، وهم من أهل مهنته، في حين ظل يعاني البؤس والحرمان.

ولطالما عانى الاغتراب والغربة في حياته وعبر عنها في كثير من كتبه، لعل أشهرها كتابه " الإشارات الإلهية" الذي جنح فيه إلى التصوف، وربما كانت الغربة دافعه أيضا في تأليف رسالته في الصداقة والصديق.

ولعل حادثة حرقه كتبه كانت تعبر عن ذلك اليأس الكبير الذي أصابه من "عدمية" المثقف والثقافة في عصره؛ ذلك الاغتراب الذي عبر عنه الشاعر وليد سيف في إحدى قصائده:

وهنا أبو حيان يوغل في اغتراب الروح..
لا الدنيا تراوده، ولا الصحراء تعرفه..
ولا بغداد تمنحه يديها
أواه ما أقسى اغتراب الروح في زمن..
يرى الشعراء والحكماء نافلة وحاشية
يريح التاجر العنين ركبته عليها
فاحرق كتابك أيها العقل النبيل
وادفن سؤالك في المدى..
ولينتحر فيك النخيل
وانصب لشمس الله وجهك، قد دعاك له الرحيل

وأبو حيان هو علي بن محمد بن العباس، وعن نسبه يقول محقق كتابه "الإشارات الإلهية" خميس حسن "إن ما وصل عن أبي حيان من معلومات عن حياته قليل وهو قليل ومضطرب، ولا يعدو الأمر أن يكون ظنا وترجيحا، أما اليقين فلا يكاد يتجاوز ما ذكره أبو حيان بنفسه عن نفسه في كتبه ورسائله، وهذا راجع -برأي حسن- إلى تجاهل أدباء عصره ومؤرخيه له.

وينقل عن ياقوت الحموي تعجبه من تجاهل كتاب عصره له "إننا نجهل تماما أصله ونشأته"، خصوصا أن "أحدا لم يذكره في كتاب ولا دمجه في خطاب وهذا من العجب العجاب".

ويقول ياقوت الحموي في ترجمته لأبي حيان إنه "شيرازي الأصل، وقيل نيسابوري، ووجدت بعض الوسطاء يقول واسطي".

وهناك من يميل إلى أنه عربي الأصل منهم محمد كرد علي مستندا إلى أنه ليس في اسمه ما يشير إلى فارسيته كما أن أبا حيان التوحيدي لم يكن يعرف الفارسية ولا يوجد في كتبه ما يدل على أنه فارسي.

وبغض النظر عن فارسيته أو عروبته، يرى حسن أنه في "كلتا الحالتين لن يكون إلا إنسانا مفكرا يحاول أن يكمل نفسه بالعلم والدين والأخلاق، ويسعى جاهدا في سبيل العمل على ربط الحكمة النظرية بالحكمة العملية".

وعن مكانته العلمية، يقول "إنه واحد من ألمع ثمرات الفكر الإسلامي وأكثرها نضوجا، فهو صاحب عقلية من أكثر العقليات الإسلامية خصوبة وعطاء وتفجرا بالنفيس من القول، والسديد من الرأي، والوفير من الإنتاج، كما يعد التوحيدي مرآة ناصعة لثقافة عصره التي قطف ثمارها الفلسفية والصوفية والبلاغية".

ترك التوحيدي وراءه كثيرا من المؤلفات منها "كتاب الصداقة والصديق"، و"الرد على ابن جني في شعر المتنبي"، و"الإمتاع والمؤانسة"، و"المقابسات"، و"رياض العارفين"، و"تقريظ الجاحظ"، و"ذم الوزيرين"، وكتاب "الرسالة في الحنين إلى الأوطان"، و"البصائر والذخائر"، و"الهوامل والشوامل" وغيرها.

وتأثر أبو حيان -الذي لقب بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء- بشخصية الجاحظ وأسلوبه في الكتابة، بل إن باحثين ودارسين يطلقون عليه لقب "الجاحظ الثاني"، ولا يخفي التوحيدي إعجابه بالجاحظ وألف كتابا في تقريظه وبه يشيد قائلا: "ومتى رأيت ديباجة كلامه، رأيت حولها كثير الوشي، قليل الصنعة بعيد التكلف، حلو الحلي له سلاسة كسلاسة الماء ورقة كرقة الهواء.. فسبحان من سخر له البيان وعلمه، وسلم في يديه قصب الرهان.. إن جد لم يُسبق، وإن هزل لم يُلحق".

عاش التوحيدي في بغداد وتنقل بين كثير من البلدان وقيل إنه توفي في شيراز، وفي ما يلي مقتطف من نصوصه:

في معنى الغريب من كتاب الإشارات الإلهية

يا هذا! هذا وصف غريب نأى عن وطن بني بالماء والطين، وبعد عن آلاف له عهدهم الخشونة واللين.. فأين أنت عن غريب طالت غربته في وطنه، وقل حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟! وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان؟! قد علاه الشحوب وهو في كن، وغلبه الحزن حتى صار كأنه شن. إن نطق، نطق حزنان منقطعا، وإن سكت، سكت حيران مرتدعا، وإن قرب، قرب خاضعا، وإن بعُد، بعُد خاشعا، وإن ظهر، ظهر ذليلا، وإن توارى عليلا، وإن طلب، طلب واليأس غالب عليه، وإن أمسك، أمسك والبلاء قاصد إليه، وإن أصبح، أصبح حائل اللون من وساوس الفكر، وإن أمسى، أمسى منتهب السر من هواتك الستر؛ وإن قال، قال هائبا، وإن سكت، سكت خائبا؛ قد أكله الخمول، ومصه الذبول، وحالفه النحول، لا يتمنى إلا على بعض بني جنسه، حتى يفضي إليه بكامنات نفسه، ويتعلل برؤية طلعته، ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته.

وقد قيل: الغريب من جفاه الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب.. بل الغريب من نودي من قريب، بل الغريب من في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب.

يا هذا! الغريب من غربت شمس جماله، واغترب عن حبيبه وعذاله، وأغرب في أقواله وأفعاله، وغرب في إدباره وإقباله.. يا هذا! الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد بالمحنة.. الغريب من إن حضر كان غائبا، وإن غاب كان حاضرا. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه.

هذا وصف رجل لحقته الغربة، فتمنى أهلا يأنس بهم، ووطنا يأوي إليه، وسكنا يتوادع عنده. فأما وصف الغريب الذي اكتنفته الأحزان من كل جانب، واشتملت عليه الأشجان من كل حاضر وغائب، وتحكمت فيه الأيام من كل جانب وذاهب، واستغرقته الحسرات على كل فائت وآئب، وشتته الزمان والمكان من كل ثقة ورائب، وفي الجملة، أتت عليه أحكام المصائب والنوائب، وحطته بأيدي العواتب عن المراتب، فوصف يخفى دونه القلم، ويفنى من ورائه القرطاس، ويشل عن بجسه اللفظ، لأنه وصف الغريب الذي لا اسم له فيُذكر، ولا رسم له فيُشهر، ولا طي له فيُنشر، ولا عذر له فيُعذر، ولا ذنب له فيُغفر، ولا عيب عنده فيُستر.

هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه.

يا هذا! الغريب من إذا ذكر الحق هجر، وإذا دعا إلى الحق زجر. الغريب من إذا أسند كُذب، وإذا تطاهر عُذب، الغريب من إذا امتار لم يُمر، وإذا قعد لم يُزر. يا رحمتا للغريب! طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعظم عناؤه من غير جدوى!

الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله. الغريب من إذا تنفس أحرقه الأسى والأسف، وإن كتم أكمده الحزن واللهف. الغريب من إذا أقبل لم يوسع له، وإذا أعرض لم يُسأل عنه. الغريب من إذا سأل لم يعط، وإن سكت لم يُبدأ.. الغريب من إذا نادى لم يُجَب، وإن هادى لم يُحَب. اللهم إنا قد أصبحنا غرباء بين خلقك، فآنسنا في فنائك. اللهم وأمسينا مهجورين عندهم، فصِلنا بحبائك.

يا هذا! الغريب في الجملة كله حُرقة، وبعضه فُرقة، وليلة أسف، ونهاره لهف، وغداؤه حزن، وعشاؤه شجن، وآراؤه ظنن، وجميعه فتن، ومفرقه محن، وسره علن، وخوفه وطن.

الغريب من إذا دعا لم يُجب، وإذا هاب لم يُهب.. الغريب من فجعته مُحكمة، ولوعته مضرمة. الغريب من لبسته خرقة، وأكلته سلقة، وهجعته خفقة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات من غیر

إقرأ أيضاً:

الجمال كوعي.. سارتر في مواجهة الوجود من بوابة الفن.. قراءة في كتاب

الكتاب: أنطولوجيا الوعي الجمالي عند سارتر
الكاتب: عبد الباسط محمد حاجة
الناشر: تموز ـ ديموزي للطباعة والتوزيع والنشر-دمشق، الطبعة الأولى 2025، (عدد الصفحات 144 من الحجم الوسط).

نشأ المذهب الخاص بالوجودية في النصف الأول من القرن العشرين، وكان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980)، رائد هذا التيار، وهو الفيلسوف الأكثر جرأة في التعبير عن الفلسفة الوجودية. من الفلاسفة الذين نهل منهم سارتر واشتق أفكاره الغنية عن الفلسفة الوجودية، نذكر ديكارت أعظم الفلاسفة الفرنسيين المحدثين. وكوجيتو ديكارت الشهير "أنا أفكر، إذن أنا موجود". الفلسفة تبدأ من التأكيد المطلق على الوعي بالنفس. أنا ككائن مفكر، موجود.

ثاني منهل نهل منه سارتر، هو فلسفة الفينومينولوجيا لإدمون هيوسيرل (1859 ـ 1938م)، ومارتن هيدجر (188 ـ 1976م). كلمة فينومينولوجيا، مشتقة من كلمة يونانية تعني الظواهر. أي أن هذه الفلسفة تدرس ظواهر الأشياء. لقد درس سارتر هذه الفلسفة الجديدة بتعمق، عندما كان في المعهد الفرنسي ببرلين. وهناك مارتن هيدجر، الفيلسوف الوجودي الألماني العظيم، الذي كان تلميذًا لهيوسيرل ومساعدًا له، وخليفته في تدريس الفلسفة في جامعة فريبورج بألمانيا. لكنه يختلف عن هيوسيرل في أن هيدجر يركز على وجود الإنسان نفسه.

وجد سارتر أيضا، أفكارا عديدة في فلسفة هيجل وماركس وكيركجار ونيتشه وداروين. الصراع حتى الموت، والعلاقة بين السيد والعبد، والوعي غير سعيد، وموت الرب، والاغتراب، كلها مفاهيم ليست غريبة علينا. جاءت في أعمال هؤلاء الفلاسفة السابقين. هذه المواد الفلسفية والعلمية مع خبرته الأكاديمية، ساعدت سارتر على بناء صرح الفلسفة الوجودية الفرنسية. قام بتدعيمها بالقصص القصيرة والروايات والمسرحيات والمقالات السياسية.

يشكل الوعي الجمالي سؤالاً إشكالياً عند فيلسوف إشكالي وجودي مثل سارتر، قدم فلسفته عبر الرواية والمسرح، وتكمن أهمية البحث هنا في محاولة التصدي للسؤال المحوري حول ماهية الوعي الجمالي بأبعاده المختلفة الوجودي والنفسي والفينومينولوجي.في هذا الكتاب الجديد المعنون: "أنطولوجيا الوعي الجمالي عند سارتر" للكاتب عبد الباسط محمد حاجه، المتكون من مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، ويحتوي على 144 صفحة من القطع المتوسط، يطرح الكاتب تشكل الوعي الجمالي باعتباره نوعاً من أنواع الوعي الإنساني، وتأتي أهميته بوصفه نظرة إلى الوجود ومحاولة تفسيره، إضافة إلى تداخله في مجالات الحياة الإنسانية كافة.

يشكل الوعي الجمالي سؤالاً إشكالياً عند فيلسوف إشكالي وجودي مثل سارتر، قدم فلسفته عبر الرواية والمسرح، وتكمن أهمية البحث هنا في محاولة التصدي للسؤال المحوري حول ماهية الوعي الجمالي بأبعاده المختلفة الوجودي والنفسي والفينومينولوجي.

لا شك أن الوعي الجمالي يشكل أحد أهم المباحث الفكرية والفلسفية التي كانت وما زالت موضع اهتمام العديد من الفلاسفة والباحثين على مر العصور، سؤال الفلسفة عن الوعي الجمالي ماهيته وبنيته وخصائصه، من أهم الأسئلة التي طرحتها الفلسفة. وتأتي أهمية هذا العمل كمحاولة للتصدي للسؤال المحوري ألا وهو ما خصوصية الوعي الجمالي عند سارتر؟

الوعي الجمالي وخصائصه

حاول الكاتب في هذه الدراسة العودة إلى نصوص الفلسفة السارترية، ليبحث عن فكرة الجمال والوعي الجمالي، وكيف عبر سارتر عن هذا الوعي الجمالي؟ وما علاقة الوعي الجمالي بالخيال؟ وكيف تجلى هذا الوعي عبر الرواية والمسرح؟

بداية التعريف بالوعي الجمالي، الإنسان كائن جمالي، يعني أنه ذو حساسية ذوقية تجاه الظواهر والأشياء، بهذه الحساسية يقبل أو ينفر، أو يستأنس أو يستوحش، إنه كائن ينتج الأدوات والأشكال وفق تصوراته الذهنية والجمالية، الأمر الذي يجعل النزوع الجمالي لديه أشبه بالنزوع الغريزي، فالعلاقة الجمالية مرهونة بما هو اجتماعي عام، بالرغم من كونها فردية الأداء، ومن ثم فالعلاقة الجمالية متعددة العناصر والمستويات منها الحسي... النفسي... الذهني... ومنها الفردي والاجتماعي والإنساني.

وتاريخ النزوع الجمالي هو نفسه تاريخ الإنسان، فقد مر بالكثير من المراحل الحضارية، كما مرت علاقة الإنسان الجمالية بالعالم بمستويات كثيرة ومتباينة، تداخل فيها الجمالي بكل من النفعي والسحري والديني والجنسي على نحو يصعب التمييز أحياناً فيها في ذلك التداخل، لأن هذا التداخل ناتج عن تداخل في الوعي الإنساني نفسه، من هنا استحالة الحديث عن نزوع جمالي صرف.

يقول الكاتب: "إنَّ الجمال يتداخل في جميع مجالات الحياة الإنسانية، كما أننا نصادفه في كل مكان حيث يعد الوعي الجمالي نوعاً من الوعي، وإنّ ولادة علم الجمال لم يكن لها أن تكون لولا التاريخ المديد من رغبة الإنسان بالجمال. غاية الحاجة الجمالية التأمل الجمالي وليس لها أغراض أخرى، وهي حاجة عامة وشاملة وضرورية، وكل شخص منا له نوع من الاتجاه أو النزوع الجمالي وغالباً ما نجعل من الفن الملجأ في سبيل التأمل والإشباع الجمالي لحاجاتنا ولهذا النزوع، فهذه الحاجات تنمو وتتطور مع تقدم السن وبما أن تاريخ النزوع الجمالي هو نفسه تاريخ الإنسان فقد مر بالكثير من المراحل الحضارية التي يصعب معها تحديده علمياً إلا حسب كل مرحلة فقد مرت علاقة الإنسان الجمالية بالعالم بمراحل ومستويات مختلفة يتداخل فيها الجمالي بكل من النفعي والسحري والديني، ودون هذه الجوانب التي تداخلت مع الوعي البشري لأمد طويل من التاريخ يستحيل علينا الحديث عن النزوع الجمالي.

حيث كان الإنسان البدائي أسير الطبيعة، ولم يتطور الوعي إلا بعد مراحل متقدمة، إن انعطاف الفنّ القديم نحو الطبيعة، أي نحو عناصر الجمال في الطبيعة هو دليل على أن الفن القديم لم يكن وسيلة للسحر والاستقرار فحسب، بل كان وسيلة للجمال، ومن الواضح أن مفهوم الجمال لم يكن واحداً في كل العصور وفي كل أطراف الأرض، بل هو مرتبط بالعالم الخاص الذي يعيشه الفنان، وعالم الإنسان القديم هو المغاور والحيوانات التي يصارعها ويحلم بتذليلها والسيطرة عليها هكذا كانت موضوعاته محصورة ضمن نطاقها، ولكن هذا لم يمنعه من تحديد طريقة مستقلة، وقد بدأ بتطوير عمله بعد أن كان سجين الطبيعة" (ص 22).

من الناحية التاريخية لا تنشأ الفنون إلا بالعمل المستمر، والمتحرر من الطبيعة والسيطرة عليها، هنا تنشأ أولى مراحل الوعي البشري وهي الانفصال عن الطبيعة والتحرر من سيطرتها، على ضوء ذلك فإن الفنان القديم لم يكن يستطيع التمييز بين الواقع والخيال وكان إذا أراد رسم الحيوانات على جدران الكهوف، رسمها بطريقة مطابقة للواقع، وبعدها يضع سهماً في جسمها، يعتقد بهذه الطريقة أنه يستطيع السيطرة على الطبيعة واصطياد الحيوان لغاية الطعام وليس لغاية جمالية.

إذا تتمثل أولى مراحل الوعي البشري بالانفصال عن الطبيعة والتحرر منها، بعد ذلك تطور الوعي لدى الإنسان البدائي حيث بدأ بالصيد والصناعة والزراعة، كما بدأ بصناعة الأدوات وعمل على تطوير هذه الأدوات أدوات العمل المطارق والأزاميل ومن ثم حول عمله من العمل الفردي إلى العمل الجماعي، لم يعد يهتم برسم الصور المطابقة للطبيعة، كان كل ما يريده هو الرمز والإشارة، بعد ذلك انتقل عن طريق وعيه المتطور من إنسان مستهلك إلى إنسان منتج، أصبح ينتج كل ما يحتاجه وتأمين غذائه بنفسه، من هنا أصبح الإنسان القديم في مرحلة متقدمة من مراحل تطور الوعي البشري، فلم يعد يعتمد على الطبيعة وإنما على نفسه، تخلص من ممارسة السحر والصيد الذي كان سائداً في العصر البدائي القديم أصبح المزارع يؤدي دوراً مهماً في هذا العصر، وهو أكثر وعياً، وبالتالي لم يعد الفن تصويراً ومطابقة للواقع، بل رمزاً وإشارة للعمل الفني.

من أهم خصائص الوعي الجمالي أنه يهدف إلى تحليل المفاهيم والتصورات الجمالية، وإلى دراسة المسائل التي يثيرها تأمل موضوعات التجربة الجمالية كالقيم والأحكام والقوانين التي تحدد الجمال وإلى الكشف عن العلاقة بين الذات المتذوقة للجمال وبين الموضوع الجمالي، إذ نشأ وتطور عبر مرحلة طويلة من تطور الوعي الإنساني، وذلك نتيجة تعقد الخبرات الإنسانية عبر التاريخ البشري وانتقالها من البسيط إلى المركب.

الوعي الجمالي لدى الاتجاه الذاتي

تقوم الدراسات الجمالية على مبدأين أساسيين هما الذات والموضوع، فهما مكونان رئيسيان في أية دراسة جمالية، ليس قمة دراسة في غياب أحد هذين المبدأين، إذ لا بد من حضورهما.

من خلال القراءة لبنية الوعي الجمالي تبين أنه لا يمكن أن يكون هناك وعي جمالي بدون الذات الإنسانية، وكذلك بدون الموضوع المدرك، فالذات والموضوع ثنائية لا غنى عنها في الوعي الجمالي.

ينتقل الكاتب عبد الباسط محمد إلى استعراض رأي بعض الفلاسفة المدافعين عن طبيعة الجمال عند الاتجاه الذاتي، فيقول: "نشأ التيار الذاتي للرد على التيار الموضوعي، فإذا افترض أنصار الاتجاه الموضوعي أن الجمال صفة موجودة فقط في الشيء الجميل، فإن أنصار هذا التيار يرفضون ذلك، ويقررون أن الجمال ذاتي وأن التعبير عن الذات يختلف من شخص إلى آخر، وإن كل فرد له المقاييس الجمالية الخاصة به التي يتميز بها عن غيره، فما يراه بعض الأشخاص جميلاً، مثل لوحة فنية أو شجرة، قد يكون غير جميل بالنسبة لشخص آخر لنأخذ المرأة كمقياس للجمال، فهي بصرف النظر عن إحساسات الإثارة التي قد تشعلها في مجموعة من الرجال، فإن كل رجل في هذه المجموعة يعجب لشيء ويعكس فيه نفسيته وذاتيته، لذلك فإن صورة المرأة تتعدد بعدد الرجال الذين ينظرون إليها أي أن هذا الاتجاه يؤكد أن النسبية هي المعيار الوحيد لنظريتهم في الوعي الجمالي، حيث نشأ هذا التيار لتأكيد أهمية الذات في الحكم الجمالي وللتأكيد على أهمية النسبية في طبيعة الجمال (ص26).

من أهم خصائص الوعي الجمالي أنه يهدف إلى تحليل المفاهيم والتصورات الجمالية، وإلى دراسة المسائل التي يثيرها تأمل موضوعات التجربة الجمالية كالقيم والأحكام والقوانين التي تحدد الجمال وإلى الكشف عن العلاقة بين الذات المتذوقة للجمال وبين الموضوع الجمالي، إذ نشأ وتطور عبر مرحلة طويلة من تطور الوعي الإنساني، وذلك نتيجة تعقد الخبرات الإنسانية عبر التاريخ البشري وانتقالها من البسيط إلى المركب.من أنصار هذا الاتجاه الذاتي  ليو تولستوي Letoltoy  (1828 - 1910م) الذي، يرى أن قيمة الأثر الفني الحقيقية ترجع إلى تأثيره أولاً وأخيراً فيمن يدركونه، وإن جمال الأثر الفني يقوم على أساس تقدير الناس له، إذاً قيمة الأثر الفني تزداد بازدياد عدد المتذوقين له؛ الجمال موجود في شعورنا فهو لا يوجد إلا من أجلنا ويرجعون جمال الأشياء وقيمتها إلى الطريقة التي نتصورها بها، أي إن هذه الأشياء ليست جميلة أو قبيحة في ذاتها، لأنها لا تتغير وإنما نحن الذين نضفي عليها صفة الجمال. لذلك فهم يذهبون إلى أن الأشياء قد تفقد قيمتها إذا فصلناها عن ذات الإنسان، فالجمال إنما هو جمال ذاتي، نحن من نعطي العمل الفني صفة الجمال، فما يعجبني قد لا يعجب الآخرين، إذا حكم الجمال الذاتي مختلف من شخص إلى آخر.

أما كانط فنجده يميز بين موضوعين موضوع المعرفة والموضوع الحقيقي الموجود في العالم الخارجي، وقد بين أنّ الثاني مجهول من قبلنا أما الموضوع الأول وهو موضوع المعرفة فإنه مصنوع من قبل الذات العارفة، ومن قبل الموضوع المجهول أو ما يسميه الشيء في ذاته. ومن ثم فإنّ عملية المعرفة الكانطية تقتصر على الذات العارفة، وعلى أن الحكم على الجمال حكم ذاتي ويتغير من شخص إلى آخر معتبراً أن مصدر الشعور بالجمال كامن فينا، في مزاج الروح وليس في الطبيعة، إذا ينكر الوجود الموضوعي لنظرية المعرفة، ويؤكد دور الذات في عملية المعرفة، أي أن المعرفة الكانطية هي من صنع الذات العارفة وحدها، ولا يوجد للموضوعات الخارجية أي دور في عملية المعرفة.

أما الفيلسوف التجريبي (ديفيد هيوم David Home) (1711 - 1776م) فقد حصر الذهن العارف ضمن الحدود التي لا تتعدى دوره السلبي، وبموجب هذا التصور قسم المدركات الحسية إلى انطباعات وأفكار، فالانطباعات هي الإحساسات المباشرة التي تنطبع على الذهن حين يحس شيئاً بأحد حواسه، أما الأفكار فهي الصور الذهنية التي تحفظ في الذهن أو الذكريات التي تخلفها الانطباعات، أي إن الفكرة ليست إلا انطباعا بعد أن خفت حدته، وبذلك فإنّ الفرق بين الانطباع والفكرة هو الفرق بين الشيء حين أدركه مباشرة وبين الشيء عندما أستعيده بذاكرتي، فالذات وفقاً لتحليل هيوم تصبح ذاتاً سلبية، لا يمكنها أن تسعى إلى خلق أي شيء في عملية المعرفة، وإنما يقتصر دورها على التلقي السلبي لما يمكن أن يرد إليها من موضوعات.

مقالات مشابهة

  • الجمال كوعي.. سارتر في مواجهة الوجود من بوابة الفن.. قراءة في كتاب
  • نشرة الفن | طه الغريب إلى شاشة السينما .. أول تعليق من حمو بيكا بعد قرار إيقافه
  • حسن الرداد يستعد لتصوير فيلمه الجديد «طه الغريب»
  • طه الغريب إلى شاشة السينما .. حسن الرداد يستعد لأحدث أعماله السينمائية
  • «أبوظبي للكتاب».. خبراء يناقشون حماية الذاكرة الثقافية
  • تايمز: هكذا ينظر كتاب بريطانيون لأداء ترامب بعد 100 يوم من الحكم
  • بلاغ البرهان رقم صفر: ضد اللساتك وضد الذاكرة
  • نصوص قبطية وسياقات تاريخية حول اتحاد مملكتي نوباديا (مريس) والمقرة: إعادة قراءة في ضوء المصادر
  • خطوات مهمة لتحفيز العقل وتحسين الذاكرة
  • الإخوان المسلمون.. إشكالية الذاكرة المثقوبة!