بوابة الوفد:
2024-07-01@13:46:39 GMT

أبعد من مسألة «تتلظى»

تاريخ النشر: 28th, June 2024 GMT

ليست المشكلة هى الجدل الذى أفتى فيه من يعلم ومن لا يعلم، فى امتحان اللغة العربية للثانوية العامة هذا العام، حول ما قيل إنه شكوى الطلاب وأولياء الأمور من صعوبته، وخروجه عن المنهج، بسبب سؤال عن معنى كلمة «تتلظى». حدثت الضجة، رغم أن السؤال وضع بدائل للاختيار فيما بينها. ليست تلك هى المسألة. إنها غربة اللغة العربية فى بلادنا وتهميشها والاستهانة بها لصالح اللغات الغربية والأجنبية عموما، لا كلمة «تتلظى».


فكرتنى الضجة المفتعلة والمختلقة لتتلظى، بالأستاذ «حمام» المدرس البائس فى فيلم غزل البنات، الذى ما أن أخذ يصحح لتلاميذ الفصل الشياطين جهلهم باللغة العربية ومعانيها، وسخريتهم منه ومنها، ليدخل الثعلب فى لغتهم «يحتال» فى كبرياء، ويتملك «الغيط» من الأسد، ويقول له يا «أبلة» حتى تسببوا فى فصله من المدرسة. فكرتنى الضجة بمظاهرات أولياء الأمور قبل سنوات حين تصدت لهم السلطات التنفيذية لمنعهم من مواصلة حملات الغش الجماعى عبر استخدام الميكروفونات، لقراءة الإجابات الصحيحة لأوراق الامتحان أثناء تأدية أبنائهم له. حينذاك خرجت القضية من سياق اعتداء صارخ على القانون والقيم التعليمية والخلقية، إلى ما تم وصفه بعنف الأجهزة الأمنية فى التصدى لأولياء أمور يعتدون عليه وعليها، ويهدرون كل القيم، ولا يجدون فيما كانوا يفعلونه، أى جريمة لا تعليمية ولا خلقية ولا قانونية!
لكن الواقع يقول إن الاثنين، الآباء والأبناء ضحية لنظام تعليمى مهترئ، يقدس سياسة الحفظ والتلقين، عن نظم الفهم والإدراك وتنمية العقول. وتُركت مهام مصيرية مثل وضع مناهجه، لموظفى الوزارة مع كامل الاحترام لهم. لكن شغل وظيفة فى وزارة التعليم، لا يعنى القدرة المعرفية والفكرية والثقافية لوضع المناهج التعليمية، التى أخذت تكتفى بتستيف مواد دراسية فى كتب مدرسية، الهدف الأول منها هو الربح المادى، وتيسير اجتياز الامتحانات للطلاب، والنجاح بها، لا تكوين خبرة معرفية وثقافية ولا تنمية الوعى والإدراك. ومنذ عقود، بات النظام التعليمى بمجمله، ساحة للتجارب المتراكمة والفاشلة، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من حالة تعليمية متردية يتخرج طلابه فى التعليم الأولى والجامعى وهم لا يعرفون لا القراءة ولا الكتابة، ولا لغتهم القومية.
يكشف امتحان اللغة العربية للثانوية العامة السنة الحالية، جانبا من هذا التردى. فمعظم الأسئلة يغيب عنها أى بعد جمالى، أو قيمة إنسانية عليا رفيعة المستوى، أو مسئولية اجتماعية، وفضلا عن ذلك تعبر عن ذوق سقيم. فالسؤال الذى تنسب إليه المشكلة يقول: أى من الكلمات التالية تعبر عن معنى عبارة «تتلظى القلوب من نعمتك».. تتطلع أو تتناسى أو تحقد أو تتحسر؟!
ولو أن المناخ العام السائد يعتنى باللغة العربية، ويتأمل فى مفردات معانيها ولا أقول جمالها، ويفكر بعقلانية، لا بمشاعر عاطفية عشوائية بدائية، تبحث عن المصالح فى الخربات، ما كانت تتلظى تصبح مشكلة. وكلمة تتلظى هنا واضحة المعنى عن الحسد والحقد والحُرقة واللهب، وهى فى النص القرآنى «نارا تلظى» أى لهيب النار. وفى رباعيات الخيام تقول الست ثومة: أطفئ لظى القلب بشهد الرضاب، أى أن القبلات تخفف حرقة قلوب العاشقين. لكن البحث دائم عن مشجب نعلق عليه الأخطاء والخطايا، فكانت «تتلظى».
أما ما هو مدهش ويدعو للاستغراب، أن يزج مجمع اللغة العربية نفسه فى المشكلة فيزيدها تعقيدا حين يعطى لها بعدا دينيا ليس واردا بها. ويدلى رئيس المجمع بتصريحات صحفية تزيد الطين بللا، حين يطالب بإلغاء درجة هذا السؤال من أجوبة الامتحان. أما السبب فجاء أكثر غرابة من الطلب، إذا استشهد بنص قرآنى لا علاقة له بجملة السؤال، متسائلا: تتلظى هنا بمعنى تشتعل، فكيف يمكن أن تشتعل القلوب بسبب النعمة، ناسيا أنها تشتعل القلوب حسدا من النعمة التى آل إليها صاحبها، أى إن الاشتعال حسدا للشخص على نعمته، لا على النعمة نفسها.
لم تكن المأساة تكمن فى تتلظى فقط. فقد ورد فى سؤال آخر فى نفس الامتحان ما يلى: استنتج مبعث سعادة المنفق الذى قصده الكاتب فى قوله «لأنك ملأت الأيدى الفارغة، وسترت الأجساد العارية». ولا اعتراض على أن الخيارات التى منحها السؤال للطالب، يمكن أن تجلب السعادة للإنسان، مثل إحراز المكانة والتضحية من أجل الآخرين، وقضاء حوائج الناس، والحياة والتعفف، لكنها بجانب ركاكتها ترسخ لدى جيل يستعد للالتحاق بالجامعة، أن السعادة تتحقق بالتبرع، الذى بات فى السنوات الأخيرة يعزز الحلول الفردية للمشاكل بدلا من البحث الجماعى عن حلول اجتماعية. وهى فضلا عن ذلك تطرح السؤال التالى: إذا كانت تلك هى نماذج لامتحانات اللغة العربية فى المدارس الثانوية، فما هى يا ترى نوعها فى الأزهر؟!
فى هذه المعركة اختلطت المفاهيم والقيم للتغطية على أصل الداء وفصله، وهو امتهان اللغة العربية فى كافة المجالات، والتدهور الشامل فى كافة المراحل التعليمية، والتعدد العشوائى لمناهجه وأنواعه، التى فرقت عن قصد بين تعليم الفقراء وتعليم الأغنياء، وذلك هى جوهر المسألة.
 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: على فكرة أمينة النقاش امتحان اللغة العربية للثانوية العامة اللغة العربیة

إقرأ أيضاً:

الطريق إلى «30 يونيو».. أسرار «على حافة الأزمة» في مصر من 2011 إلى 2013

يمثل كتاب «حوارات على حافة الأزمة» للكاتب الصحفى والخبير الإعلامى محمد مصطفى أبوشامة شهادة تاريخية مهمة عن مرحلة مؤثرة فى تاريخ مصر المعاصر، كثر فيها الجدل واللغط، وتنافست فيها أطراف خارجية وداخلية على تدليس الحقائق وتزوير الحوادث بما يخدم مصالحها وأهدافها.

وندر أن تجد الحياد الكامل بين شهادات مَن عاصروا مصر بين ثورتى يناير ويونيو، ولعل هذا أكثر ما يميز شهادة «أبوشامة» وحواراته، فقد منحه وضعه الوظيفى كمدير تحرير لصحيفة «الشرق الأوسط» فى القاهرة، نوعاً من الحرية ساعده فى الوقوف على مسافة واحدة من الجميع رغم اختلاف توجهاتهم. وقد صدرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة ٢٠١٥، وتصدر طبعة جديدة منه خلال أيام بالتزامن مع الاحتفال بالذكرى الحادية عشرة لثورة ٣٠ يونيو.

وقد حظى الكتاب بتقدير كبير فى كل الأوساط الإعلامية، لهذا حرصت «الوطن» على تقديم عرض موجز لبعض فصوله. والكتاب يعتمد بالأساس على ٦ حوارات صحفية مطولة نُشرت فى توقيتات مختلفة فى الفترة من ٢٠١٠ إلى ٢٠١٤، وتمثل معاً «موزاييك سياسى» يحكى قصة مصر بين ثورتين. وقد اخترنا أن نعرض المقدمات التى رصد فيها مؤلف الكتاب كواليس تلك اللقاءات الصحفية، وتقييمه للشخصيات التى حاورها وتعليقه على بعض ما جرى مع ضيفه فى كل حوار.

حسام بدراوى حاول طوال مشواره السياسى أن يحافظ على توازن فى العلاقات بين مراكز السلطة فى مصر وأن يغرد دائماً خارج «السرب» السياسى وهو أمر ربما يكون قد أسعده شخصياً فى البدء.. كلمة

يقول الكاتب محمد أبوشامة فى مقدمة كتابه: «وأبطال حواراتى فى هذا الكتاب كانوا نجوم الصف الأول فى المشهد السياسى المصرى، ولا يزالون (وقت نشر الكتاب عام ٢٠١٥)، رغم تبدُّل مواقعهم ومواقفهم خلال هذه السنوات الأربع، وكانت شهاداتهم فى حينها هامة ومتفردة، لكنها الآن أصبحت تقدم رواية متكاملة لتجربة مصيرية فى تاريخ مصر المعاصر، وبات من المستحيل أن يتراجع أى من أبطالنا الستة عن رأى قاله أو شهادة نطق بها أو معلومة سمح بنشرها، وهنا تكمن قيمتها».

ويُكمل: ومع الأحداث والتغييرات السياسية المرعبة التى شهدتها وتشهدها المنطقة، كانت مصر خبراً رئيسياً فى الصفحات الأولى لكبرى صحف العالم، وكانت «متعة» و«محنة» العمل الصحفى خلال هذه الفترة وجهين لمرحلة جديدة مثلت منحى تغير جذرى أثَّر على واقعها ومستقبلها؛ دفعتها السيولة السياسية المصحوبة بتفاعل الوسائط الإعلامية الحديثة، وما لاحقها من طوفان تكنولوجى، إلى جعل الصحافة والصحفيين فى صدارة المشهد بلا منافس، وأصبح ما يقدمونه من رسائل إعلامية يقتات عليها الجمهور، هى الركيزة الأساسية وربما الوحيدة التى تشكل رأيهم وتحسم توجههم.

لكن مع هذا التدفق الرهيب من المواد الإعلامية، ومع «ذاكرة السمك» المميزة للجمهور فى العالم، وخاصة المصرى والعربى، كان من الضرورى الحفاظ على أى شهادة وكل رأى نُشر بمصداقية خلال هذه الفترة الخطيرة التى مر بها الوطن، فهى وثائق نتركها للتاريخ ولأبنائنا من بعدنا، ليقولوا كلمتهم فيما حدث، وربما استطاعوا تفسيره وتحليله وتسميته بما يليق به.. وإلى بعض نصوص الكتاب..

رجل اللحظة الأخيرة

التقيت الدكتور حسام بدراوى فى مقر شركته (ميدى كير) المتخصصة فى نشاط التأمين الطبى، والتى تشغل الدور الأخير من مبنى مستشفى «النيل بدراوى» على كورنيش المعادى، لإجراء هذا الحوار الذى نُشر قبل بدء انتخابات مجلس الشورى المصرى (الغرفة الثانية من البرلمان) التى جرت فى يونيو عام 2010، وكانت واحدة من ثلاثة انتخابات مصيرية تجرى فى مصر خلال 16 شهراً ويتطلع إليها العالم كله، لأنها تؤسس لشكل المستقبل السياسى لأهم دولة فى منطقة الشرق الأوسط، وقد أُجريت بعدها بأشهر قليلة انتخابات مجلس الشعب (الغرفة الأولى من البرلمان)، بينما عصفت ثورة يناير بثالثة الانتخابات التى كان مزمعاً إجراؤها قبل سبتمبر من عام 2011، وهى انتخابات الرئاسة، التى كان من المتوقع لها إما أن يترشح فيها الرئيس المخلوع حسنى مبارك، أو نجله جمال، وفق ما أشيع عن سيناريو التوريث الذى راج بشدة وبات أقرب إلى التنفيذ خلال عام 2011.

نُشر حوارى مع د. بدراوى بتاريخ 24 مايو 2010، وكان وقتها عضواً بالأمانة العامة للحزب الوطنى الحاكم فى مصر، بالإضافة إلى شغله منصب أمين قطاع الأعمال بالحزب، وكان أيضاً عضواً بأمانة السياسات (دولة جمال مبارك داخل الحزب)، ورئيس لجنة التعليم والبحث العلمى فيها.. ورغم تعدد مناصبه القيادية فى الحزب الوطنى، فإنه كان يعارض -وبشكل علنى- كثيراً من سياسات وقرارات الحزب، ولهذا كان وجهاً مقبولاً على المستوى السياسى من قوى المعارضة المصرية على اختلاف طوائفها، وهو ما جعله آخر «كروت» مبارك قبل سقوط نظامه، حيث دفع به إلى قمة المناصب العليا فى الحزب، وأصدر قراراً بتعيينه أميناً عاماً للحزب خلفاً للأسطورة صفوت الشريف، وذلك بعد أيام من اشتعال ثورة الـ25 من يناير 2011، وهو المنصب الذى شغله «بدراوى» لمدة 6 أيام فقط، قبل أن يعلن استقالته مستبقاً إعلان مبارك تنحيه عن حكم مصر بساعات قليلة.

حاول «بدراوى» أن يرسخ فى حواره معى صورة «وردية» عن مؤسسة سياسية كبيرة اسمها «الحزب الوطنى»؛ أكدت الأيام للأسف أنها كانت مؤسسة «كرتونية»، وهو ما بدا واضحاً عندما طرحت اسم اللواء عمر سليمان كى ينضم لأمانة الحزب الوطنى ليتمكن من الترشح للرئاسة لخلافة مبارك، وكان هذا هو السؤال الأصعب فى الحوار، والإجابة أكدت لى وقتها ما كان يشاع عن خلاف فى أعلى دوائر الحكم حول «خليفة مبارك»، وهو الموضوع الأكثر إلحاحاً منذ أن سافر مبارك فى رحلة علاجية مفاجئة إلى ألمانيا مطلع عام 2010.

راوغنى د. بدراوى بذكاء، ورفض حسم قصة ترشح جمال مبارك للرئاسة بوضوح، كما ناور كثيراً حول اسم الراحل عمر سليمان ومسألة دخوله الحزب الوطنى، رافضاً فكرة خلافته لمبارك، لكن بحكم موقعه القريب من دائرة «الابن الوريث» أخذ الإجابة فى طريق إجبارى ينتهى بوصول جمال مبارك إلى منصب الرئيس، وفق القواعد الدستورية والمؤسسية للدولة المصرية، التى تنظم الانتقال الطبيعى للسلطة، دون أن يُفصح صراحة عن ذلك أو عن اسمه.. لكنه أدرك بعد أن أنهينا الحوار أن إجابته ربما تمثل له مشكلة، فاتصل بى وطلب أن يختم إجابته عن سؤال «خليفة مبارك» بالعبارة التالية: «لا علاقة لردى بالاحترام والتقدير لشخص الوزير عمر سليمان الذى يشرّف الحزب ومصر كلها».

حاول «بدراوى»، طوال مشواره السياسى، أن يحافظ على توازن فى العلاقات بين مراكز السلطة فى مصر، وأن يغرد دائماً خارج «السرب» السياسى، وهو أمر ربما يكون قد أسعده شخصياً وأرضاه فى أن يبدو شخصاً مستقلاً لا ينتمى بوضوح لأى «شلة سياسية»، لكنه أيضاً دفع الثمن غالياً؛ فلقد خسر كثيراً، ولم يستطع أن يحقق طموحه السياسى فى الترقى وصعود سلالم السلطة، رغم كفاءته وقدراته المميزة التى تجعله واحداً من أهم السياسيين المصريين فى السنوات الأخيرة.

رجل دولة «على مزاجه»

يظل الدكتور يحيى الجمل حالة استثنائية فى تاريخ مصر السياسى، فلقد تأرجحت علاقته بكل أنظمة الحكم فى مصر؛ بين صعود وهبوط، ورغم أن منحى الهبوط والصعود كان حاداً فى بعض أوقاته، فإنه ظل يحافظ على «شعرة معاوية» التى تحميه من السلطة حينما تقرر أن تتخلى عن بعض رجالها.

يحيى الجمل كان حالة استثنائية فى تاريخ مصر السياسى فلقد تأرجحت علاقته بكل أنظمة الحكم فى مصر بين صعود وهبوط.. وظل يحافظ على «شعرة معاوية» التى تحميه.. وكان الحوار معه أيضاً استثنائياً

كذلك كان الحوار معه استثنائياً.. أعقب خروجه من «حكومة 25 يناير» التى تشكلت فور سقوط نظام مبارك، والتى شغل فيها منصب نائب رئيس الوزراء لاثنين من رؤساء الوزراء المتتالين، وهما: أحمد شفيق، وعصام شرف، وعمل مع كليهما، ومع المجلس العسكرى الحاكم للبلاد، خلال فترة معقدة ومرتبكة إلى أبعد حد، فكان حوارى معه ثرياً وشاملاً عن مرحلة تاريخية مهمة ومؤثرة كان شاهد عيان على كواليسها وأسرارها.

التقيناه فى أكثر من جلسة أنا وزميلتى الصحفية المجتهدة منى مدكور التى أسهمت بقدر كبير فى إقناعه بالحديث وفتح قلبه وبعض خزائن أسراره، وكان يتفنن لإرباكها فى كل جلسة بمداعبته اللطيفة وخفة ظل رجل تخلص من كل قيود الزمن ويستعد لمغادرة الحياة سعيداً بما قدمه فيها خلال عمره الذى تجاوز الثمانين.

ربما يكون حوار نائب رئيس الوزراء الأسبق الدكتور يحيى الجمل من أعمق الحوارات التى أجريتها فى حياتى وأعددت لها بشكل خاص؛ فقبل مراجعة كل أرشيفه المنشور، ومواقفه، وقراراته، عبر مشواره السياسى، كان علىَّ أن أقرأ كتابه «قصة حياة عادية» الذى يحوى بعضاً من سيرته الذاتية، وهو كتاب ممتع يجعلك تشعر أنك أمام رجل بقدر جديته يحاول أن يستمتع بحياته، وأن يحياها «على مزاجه»، حتى عندما دخل عالم السياسة.

كانت تسيطر عليه حالة من الاستغناء والاستعلاء، وعدم الاكتراث، على عكس كل المتكالبين على السلطة ورجالها، فقد كان دائماً جريئاً وصدامياً فى آرائه، وقد خلصت من قراءة سيرته، ومن حواراتى معه، إلى قناعة؛ وهى أن هذا الرجل أضاع وقتاً كبيراً فى السياسة، وهو أبعد ما يكون عن رجالها وعالمهم.. هو أستاذ جامعى قدير، ورجل قانون من الطراز الأول، ومثقف محترم، ومتذوق جيد للفنون، وكان هذا يكفيه، لكن شيطان السياسة طارده، ولعنتها أصابته، فاقترب منها واكتوى بنارها، واستمتع أياماً قليلة بـ«كشك الحراسة» وأبهة الوزارة، قبل أن يعود من جديد إلى «حياته العادية».

مواقف الدكتور الجمل قبل ثورة يناير معروفة، فقد كان معارضاً شرساً لنظام مبارك فى سنواته الأخيرة، رغم سابق علاقتهما الطيبة فى سنوات مبارك الأولى فى الحكم وحتى منتصف الثمانينات من القرن الماضى، لكن لم تشفع له هذه المعارضة ولا مواقفه السياسية المشرّفة عند شباب الثورة، واعتبروه ممن قفزوا عليها واستفادوا منها.. عابوا عليه علاقته القوية مع المشير طنطاوى وأعضاء المجلس العسكرى.

وربما يكون للإخوان دور فى تأجيج حالة الرفض وتعبئة القوى الثورية ضده، وكذلك تعكير العلاقة بينه وبين رئيس الوزراء الثانى الذى عمل نائباً له، الدكتور عصام شرف، لكنه فى النهاية، مثل عشرات الأسماء من المعارضين السياسيين الذين جلسوا على مقاعد الحكم بعد سقوط نظام مبارك، خرجوا «محروقين» سياسياً.. ربما يكون ذلك قد تم عمداً، وربما لطبيعة المرحلة العاصفة التى عاشتها مصر ولا تزال.

لعل أطرف مواقف الدكتور الجمل التى تختزل شخصيته وتعبر عنها، هى لقطة كنت حاضراً فيها وشاهداً عليها، وكانت فى حفل أقيم بالأوبرا للموسيقار راجح داود قبل عدة أشهر، وبعد وصلة عزف بديعة للفرقة بقيادة المايسترو داود، وبحضور مميز لعازفة الفلوت الدكتورة إيناس عبدالدايم رئيسة دار الأوبرا المصرية، وبعد تصفيق حاد من الحضور، صدح صوت د. يحيى فى الصفوف الأولى مردداً بصوت مرتفع «الله.. الله يا دكتورة إيناس»، فضجت القاعة بالضحك والتصفيق.

الرجل الذى قضى على الجماعة

هل يمكن أن يكون خيرت الشاطر هو «أبودبورة» فى فيلم «أرض الخوف» للمخرج المبدع داود عبدالسيد؟

فكرة الحوار مع خيرت الشاطر كان فى مجمله «كوميدياً».. فأنا أسأل أسئلة وهو يجيب عن أسئلة أخرى.. وكل محاولاتى لمطاردته أو دفعه لإجابة مباشرة واضحة عن أى سؤال كانت لا تؤثر على أدائه ويصر على ما يريد أن يقوله

جنونة سيطرت على تفكيرى وأنا فى طريقى لإجراء حوار صحفى مع الرجل الأقوى والأهم فى جماعة الإخوان المسلمين فى أبريل عام 2012، الذى فاجأ أبناء جماعته وكل المصريين؛ بل والعالم أجمع، بإصراره على الترشح لمنصب رئيس جمهورية مصر العربية، وهو القرار الذى كان المسمار الأخير فى نعش جماعة الإخوان. كما أثبتت الأيام والحوادث خطأ وخطورة وجرم هذا القرار الذى كان بالمخالفة لما صرحت به الجماعة فى أعقاب ثورة يناير 2011.

كما أن المتابع لشكل خروج القرار من مكتب إرشاد الجماعة، وتعثر التصويت عليه، ثم إعادة التصويت أكثر من مرة بإلحاح غير مفهوم من «الشاطر»، الذى كان يقوم بجهد خارق لإقناع الأعضاء فرادى ومجتمعين بأهمية القرار، يدرك أن فى الأمر شيئاً غير مفهوم، وأن هناك لغزاً محيراً، خاصة بعد الانقسامات العديدة والشروخ التنظيمية التى أحدثها هذا القرار الكارثى.

وعندما تعلم أن «الشاطر» بدأ علاقته بالسياسة عضواً فى منظمة الشباب الاشتراكى؛ التنظيم السياسى الذى كان يرعاه الرئيس جمال عبدالناصر وتخرّج فيه كل قيادات العمل السياسى فى حقبتى الرئيسين السادات ومبارك، فسيشتعل خيالك بالفكرة نفسها التى سيطرت على رأسى؛ فكرة «أبودبورة»، الذى دخل «الإخوان» حتى أصبح عقل الجماعة المفكر، والقابض على كل مفاصلها وهياكلها وأموالها، ثم فعل فعلته وهدم المعبد الإخوانى!

أسئلة كثيرة محيرة تدور حول «الشاطر» ودوره وعلاقاته المتشابكة داخلياً وخارجياً، كما أن علاقاته بنظام مبارك غير مفهومة وغير منطقية، فكيف تفسر حجم ما وصلت إليه أعمال «الشاطر» واستثماراته فى مصر وخارجها، والمعلن عنها أقل بكثير مما خفى، والمعلن هذا بالملايين.. أرقام وشركات لا حصر لها؟!

كان لنا نصيب أن نلقاه فى إحدى هذه الشركات فى عمارة رقم «1» بشارع مكرم عبيد فى حى مدينة نصر القاهرى الشهير. وهذه الشقة، أو الشركة، أصبحت فى فترة رئاسة المعزول مرسى، أحد بيوت الرئاسة المصرية، حيث كان يدير منها «الشاطر».. مصر.

لا أخفيكم سراً أن الهلوسة والخيالات التى أصابتنى وأنا فى طريقى لحوار «الشاطر» كان سببها الرئيسى أننى استُدعيت من فراش المرض لمحاورته، فقد كنت فى إجازة مرضية طويلة، وهو ما يفسر إطلاقى لحيتى فى صورى المرفقة مع الحوار، وهذا لم يكن تمسحاً فى حالة الالتحاء التى كانت تمر بها مصر، فمن يعرفنى يعلم أنها عادتى فى فترات الإجازات والاكتئاب ومشاريع الكتابة الإبداعية.. أُطلق اللحية لعلها تمنحنى وهج العبقرية ومس الجنون.

كانت الآلام فى الفقرات القطنية والعنقية تعذبنى إلى حد لم تفلح معه جلسات العلاج الطبيعى العديدة والمكثفة التى أجريتها، ولم تخففها أعتى المسكنات.. ورغم ذلك، فإننى لم أملك أن أضيع فرصة لقاء «أبودبورة» الإخوانى، فتعاطيت ما استطعت تحمله من مخدرات موضعية وعضلية، كان لها أثر طيب فى تحمُّل هذا اللقاء المرعب والمتعب، مع «كادر» مخابراتى عتيد.

بدا الحوار فى مجمله «كوميدياً»، فأنا أسأل أسئلة والمهندس الشاطر يجيب عن أسئلة أخرى، وكل محاولاتى لمطاردته أو دفعه لإجابة مباشرة واضحة عن أى سؤال أطرحه، كانت لا تؤثر على أدائه، ويصر على ما يريد أن يقوله فقط.

حاولت خلال ساعة، هى عمر الحوار، أن أخرج بما يرضينى، لكن المرشح الرئاسى المحتمل كان يُفرغ ما فى جوفه من أفكار دون اعتبار لما يُطرح عليه من أسئلة.. كانت لديه أجندته التى يريدها أن تصل للرأى العام.

النجاح الوحيد فى هذا اليوم المشئوم، هو أننى التقطت صورة للذكرى مع نائب مرشد جماعة الإخوان المسلمين والمرشح الرئاسى «غير المحتمل».. المهندس خيرت الشاطر، والذى قد يختفى من الحياة السياسية بعد تداعيات السقوط الإخوانى فى العامين الأخيرين، ويقرر الخروج للأبد من «أرض الخوف»، أو ربما يفاجئنا ويعود مدفوعاً بالحنين لشخصية «أبودبورة».. مرة أخيرة.

مقالات مشابهة

  • في ذكرى يوم عظيم
  • سلخانة الثانوية العامة
  • المناظرة «راكبة جمل»!
  • تعليم قوص: مبادرتنا "رد الجميل" زارت 50 مشروعا قوميا لـ "حياة كريمة" بقرى المركز
  • الطريق إلى «30 يونيو».. أسرار «على حافة الأزمة» في مصر من 2011 إلى 2013
  • للتاريخ.. ليس كل ما يعرف يُقال
  • دورنا فى مواجهة التطرف وأشكاله
  • التعليم حلم شعب!
  • صراحة رئيس الوزراء