بوابة الوفد:
2025-01-09@00:00:42 GMT

التوحيدى معالجًا فلسفيًا

تاريخ النشر: 28th, June 2024 GMT

يزخر التراث الفلسفى العربى بنماذج رائعة من المعالجين الفلسفيين رغم أنهم لم يكونوا يدركون ما نسميه نحن الآن « العلاج بالفلسفة « أو «الاستشارة الفلسفية»، ولعل أبو حيان التوحيدى الذى عاش فى القرن الرابع الهجرى من أبرز النماذج التراثية الذين تعد كتاباتهم من وجهة نظرى مؤسسة لهذا الاتجاه التطبيقى فى مجال الفلسفة، فهو حتى وهو يتحدث فى مشكلات ميتافيزيقية بحتة ينزع إلى معالجتها من منظور الفلسفة التطبيقية.


ولعلى أتوقف فى هذا المقال عند تناوله لمشكلة الموت فهو لا يتناولها من البعد الميتافيزيقى الماورائى بقدر ما يتناولها فى كثير من كتاباته وخاصة فى كتابيه الشهيرين «المقابسات» و«الهوامل والشوامل» ورسائله المعروفة وخاصة «رسالة الحياة» من منظور معاناة الانسان فى الحياة وخاصة لدى أؤلئك البشر الذين يضيقون بحياتهم لدرجة اتخاذ قرار التخلص منها والانتحار!
ولعل من أروع ما كتب أبو حيان ما كتبه فى تحليل ظاهرة الانتحار، فهو يتساءل موجهًا السؤال ربما للمنتحر ذاته «من قتل هذا الانسان؟ فاذا قلنا: قتل نفسه، فالقاتل هو المقتول، أم القاتل غير المقتول؟، فإن كان أحدهما غير الآخر، فكيف تواصلا مع هذا الانفصال؟ وإن كان هذا ذاك، فكيف تفاصلا مع هذا الاتصال؟!، ويتساءل من جانب أخلاقى ونفسى: ترى ما السبب فى قتل الانسان نفسه عند اخفاق يتوالى عليه وفقر يحوج اليه وباب ينسد دون مطلبه ومأربه وعشق يضيق ذرعا به؟ وما الذى يرجو بما يأتى والى أى شىء ينحو فيما يقصد وينوى؟ وما الذى ينتصب أمامه ويستهلك حصافته ويذهله عن روح مألوفة ونفس معشوقة وحياة عزيزة؟ وما الذى يخلص إلى وهمه من العدم حتى يسلبه من قبضة الوجدان ويسلمه إلى صرف الحدثان (يقصد الليل والنهار)؟.. » لم سهُل الموت على المعذب مع علمه أن العدم لا حياة معه وما الشىء المنتصب لقلبه؟ وهل هذا الاختيار منه بعقل أو فساد مزاج؟ «، وواضح هنا مدى ما يحاول به التوحيدى اقناع المنتحر ألا يقدم على فعلته حيث يكشف له فى العبارات السابقة عن أن فى الانتحار – من الناحية النفسية والأخلاقية – تناقضا لأن المنتحر يريد بفعلته أن يشعر براحة الخلاص ونعمة التحرر ولكن الواقع أن النتيجة المترتبة على فعله هذا هى الحيلولة بينه وبين الشعور على الاطلاق مادامت الذات المقتولة لن تكون هناك للشعور بقيمة فعل الذات القاتلة!
لقد كان التوحيدى مؤمنا – رغم الكثير من صنوف الألم والشقاء والعذاب والحرمان التى عانى منها – أن الحياة ينبوع الفرح والهم واللذة والمعرفة والحس والحركة، لا تمام للإنسان إلا بها ولا قوام إلا معها، ودلل على ذلك بأن الانسان اذا نظر إلى الميت استوحش منه وتبرم به وعُجلّ به إلى القبر!
لقد كان التوحيدى أميل إلى عشق الحياة اللذيذة والاستمتاع بها رغم أنه عانى فيها ومنها معاناة شديدة، ومع ذلك فقد نظر إلى الموت – بعيدا عن الانتحار البغيض- على أنه معانق للحياة. ولله در هذا الرجل الذى عاندته الحياة فى آخر عمره لدرجة أن اضطرته إلى احراق بعض كتبه والقول «لقد غدا شبابى هرما من الفقر، والقبر عندى خير من الفقر»، والى القول كذلك «لقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، ملازما للحيرة، محتملا للأذى، يائسا من جميع من ترى، متوقعا لما لابد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول»! 
وعلى كل حال فانه فى اعتقادى قد عبر عن حال معظم المفكرين المخلصين لفكرهم وعملهم فى كل مكان وزمان حينما قال بصدق «إن غربته قد أصبحت غربة من لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان، فهو غائب حتى عن حضوره، غريب حتى عن بنى وطنه»! 
‏[email protected]

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: نحو المستقبل

إقرأ أيضاً:

المهمة الأساسية للأحزاب السياسية

تعتبر الانتخابات الحرة والنزيهة هى الوسيلة الوحيدة لتحقيق التداول السلمى للسلطة، ويرتبط بهذا التداول وجود تعدد حزبى حقيقى يسمح بتنافس فعلى بين عدد من الأحزاب السياسية ذات التوجهات المتبانية كى تنتقل السلطة من حزب إلى آخر، الأمر الذى يعنى أن التداول السلمى للسلطة لا يستقيم فى ظل حزب وحيد يحتكر الحياة السياسية، وتفيد التعددية الحزبية فى نشر الأيديولوجية الديمقراطية بين الناخبين، وتقود إلى الاتصال الدائم بين جمهور الناخبين ونوابهم تحت قبة البرلمان، وتسمح بتمثيل عدد كبير من الأحزاب السياسية فى المجالس النيابية، كما يمثل تعدد الأحزاب نوعًا من جماعات الضغط على الحكومة كرقيب لممارسة الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والخدمية. كما يعد نظام تعدد الأحزاب العامل الذى يساعد على تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات وإيقاف تسلط الحكومة ومقاومة تجاوزاتها واعتداءاتها على حرية الأفراد، كما تسمح التعددية بتكوين القادة السياسيين على اختلاف توجهاتهم تكوينا سليما.

الأحزاب السياسية أصبحت جزءًا رئيسيًا من السياسة العامة لكل بلد تقريبًا، تمتلك بعض الدول نظام الحزب الواحد، بينما يملك البعض الآخر نظام الأحزاب المتعددة، يستحيل وجود بلدان بدون أحزاب سياسية، تعد الأحزاب مهمة فى سياسات كل الأنظمة، ويعتبر علماء السياسة التنافس بين حزبين أو أكثر جزءًا أساسيًا من الديمقراطية.

كما يعتبر علماء السياسة أن البلدان التى يوجد فيها أقل من حزبين سياسيين هى بلدان استبدادية، كما أن الدولة التى تضم أحزابًا متعددة ليست ديمقراطية بالضرورة!

للأحزاب السياسية جذور عميقة فى تاريخ مصر الحديث، حيث نشأت وتطورت بتطور مفهوم الدولة ذاته، وظهرت البدايات الأولى للحياة الحزبية المصرية مع نهاية القرن التاسع عشر، ثم برزت وتبلورت بعد ذلك خلال القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحالى، انعكاسًا للتفاعلات والأوضاع السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية السائدة. وفى سياق الجهود الرامية لتفعيل النظام الحزبى فى مصر والقضاء على القيود التى أعاقت هذه الغاية لعقود مضت، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى 28 مارس 2011 مرسومًا بقانون جعل تأسيس الأحزاب السياسية وإنشاءها بمجرد الإخطار، أدت هذه التسيرات فى وصول عدد الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة إلى أكثر من مائة حزب، لم تصل برامج معظمها بالشكل المطلوب إلى الشارع وتطلعاته، وتحولت الغالبية من هذه الأحزاب إلى مجرد يافطة تستخدم للوجاهة السياسية وسيطرت العائلات على بعض الأحزاب، ولم تعد شريحة واسعة من المصريين مهتمة بالحياة الحزبية، لقناعتهم بأنها لا تسعى للوصول إلى الحكم أو تقديم برامج حقيقية وهو ما يعتبر الأساس فى تكوين الأحزاب وفقًا للمادة الخامسة من الدستور التى تقضى بأن النظام السياسى يقوم على أساس التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمى للسلطة، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، وتلازم المسئولية مع السلطة، وأصبح نهج الأحزاب السياسية التأييد والدعم الكامل لسياسات الحكومة من دون الاهتمام بشكل جدى بالأزمات التى تواجه المواطن، ما يفقدها زخمها فى الشارع.

إن فتح ملف الأحزاب السياسية للنقاش أمر بالغ الأهمية، وقد يؤدى إلى حل مشاكلها المستعصية منذ عقود والتى ترجع إلى عام 1977 الذى شهد عودة الأحزاب رسميًا بعد حلها فى يناير عام 1953، وهى تعانى أمراضًا مزمنة لم تشف منها حتى الآن. لأن أساسها كان وجود حزب واحد فعلى مدعوم من الدولة، ولا ضير إطلاقًا من وجود مئات الأحزاب على الساحة، ولكن بشرط أن تكون الأحزاب فاعلة على الأقل ثلاثة أو أربعة منها، تتنافس فى الانتخابات العامة بهدف الوصول إلى السلطة، لكن أن تهيمن على الساحة الأحزاب الكرتونية والبالونية فهذا أمر لا يليق ولا يجب أن يستمر فى ظل الانفراجة التى أتاحها الرئيس عبدالفتاح السيسى من خلال الحوار الوطنى الذى دعا إليه ومهد الطريق أمام الأحزاب السياسية فى مخاطبة الجماهير والمشاركة فى وضع الحلول للقضايا العامة.

إن التنافس الشريف بين الأحزاب السياسية بشرط دمج الأحزاب المتشابهة لإفساح الساحة أمام ثلاثة أو أربعة أحزاب بات ضروريًا لإنقاذ الحياة الحزبية وتحقيق الاستفادة من الأحزاب فى المهام القومية التى تفيد الوطن والمواطن، لكن بقاء الأحزاب محلك سر والاكتفاء بالبحث عن امتيازات فلن يزيدها إلا انصراف المواطنين عنها، أما المنافسة الشريفة بينها تنفى عنها أنها أحزاب كرتونية، عائلية، أو تنشأ بالأمر المباشر لأداء مهام فعلية!!

مقالات مشابهة

  • المهمة الأساسية للأحزاب السياسية
  • ولادة متعثرة لرئيس لبنان
  • عاصمة الطب «2»
  • متحف هُنّ الحياة.. واحة الإبداع النسوي تنبض في قلب العراق (صور)
  • خالد الغندور: هناك هجوم غريب على الخطيب ولاعبي الأهلي
  • AMD Ryzen 9 9950X3D وحش جديد مكون من 16 نواة مع 144 ميجا بايت من ذاكرة التخزين المؤقت ثلاثية الأبعاد
  • سبب رحيله.. أوباميانغ يكشف تفاصيل "كابوس" برشلونة
  • اكتشاف جسم غريب في نظامنا الشمسي
  • سجن بابل المركزي يستقبل وفداً من لجنة حقوق الإنسان النيابية لتفقد احوال النزلاء والخدمات وبرامج التأهيل المقدمة لهم
  • أكبر مصانع الاسمنت في العراق يعود الى الحياة