تناولنا فيما سبق الكتابة وأهمية الوراقة ومهمة الوراقين، أى الذين يديرون حركة النشر والتأليف فى الحقول المتنوعة فى تراث لغتنا العربية قديماً، والآن نتحدث عن المادة التى بين أيديهم، أو المؤلفات المتداولة لديهم، وهى فى شكل مخطوط يدوى فى صحائف يجمعها عنوان ما. وقبل أن يصل المخطوط للتداول يكون قد مضى فى مراحله التالية:
1- العرضة، والعراض، والعرض، والعارض، وهى مقابلة الكتاب بعد نسخه، أو كتابته على أصل موثوق به لإصلاحه، ويراجع المؤلف مراجعة نهائية لنسخ (جمع نسخة) تلاميذه.
2- الإبرازة، وهى الصورة التى يبرز بها الكتاب، أى مثل الطبعة فى عصرنا، أو الإصدارة.
النسخة: بمعنى الإبرازة، أو الطبعة، أو العرض.
3- الشاهد: وهى كل واحدة من النسخ التى تعبر عن مرحلة من مراحل تنقّل النص وتغيّره.
وكما قدمنا نتيجة لانتشار الكتابة على الورق نشأت طبقة الوراقين، وأدوات الكتابة، ونجد فيضاً من أحاديث المراجع عن دكاكين الوراقين وأسواقهم الدائمة، وأماكن بيع الكتب، وكيف كانت الوراقة مهنة محترمة، وما يتصل بالمهنة من نسخ وخبرة، واشتهر بعض الوراقين بلقب دلال الكتب، ومن الأدباء المشهورين من كان له وراقة خاصة به. هكذا كان للجاحظ، وابن دريد، والمبرد وراقون، ومن الوراقين من كان أديباً، وإن وجد منهم غير الأمناء، وعندما عرف العرب صناعة الورق أو الكاغد، كما يدعى آنذاك، اتسع نطاق نشر الكتب والثقافة، وظهرت طبقة الوراقين، وتعددت أسواق تجارتهم ومتاجرهم فى الورق وما يتصل به من أدوات وتجليد، ونجد أخبارهم منتشرة منذ عصر الرشيد. يذكر ذلك السمعانى فى الأنساب ظهر الورقة 579، ويؤيده أحمد شلبى فى تاريخ التربية الإسلامية هامش 145، وإليهما نرجع، كما نرجع إلى عبدالستار الحلوجى فى فصل الوراقة والوراقون من كتابه المخطوط العربى ص 125، وما بعدها يذكر السمعانى الوراقة على أنها كتابة المصاحف، وكتب الحديث، وبيع الورق، وكان فى مكتبة الواقدى غلامان مملوكان له يكتبان، وكان أشهر كتابه محمد بن سعد، وبذلك لقب، وكان لحنين بن إسحق نساخ، كما كان للجاحظ وراق اسمه عبدالوهاب بن عيسى، وكان على بن هلال المعروف بابن البواب خطاطاً شهيراً، وعهد إليه بمكتبة بهاء الدولة ابن عضد الدولة، ولم يمنعه ذلك أن يعود نساخاً، إذا اقتضى الأمر ذلك، وكان يقلد الخطاط الشهير ابن مقلة، ونجد من هؤلاء النساخ الكثيرين فى مكتبة المدرسة المستنصرية، ومكتبة المؤرخ أبى الفدا، ومكتبة أمين الدولة أبى الحسن بن غزال، أحد وزراء الشام وأطبائها، وفى مكتبة دار الحكمة فى مصر، وفى دار يعقوب بن كلس، وكان للقاضى الفاضل عدد من النساخ، أما فى الأندلس فقد جمع الحكم فى داره الحذاق منهم، كذلك القاضى أبو المطرف.
وقد ارتبطت الوراقة بنشاط حركة الترجمة عن الفارسية واليونانية، ويقال إن أول الوراقين هو مالك بن دينار، كما يذكر ابن النديم، وكثر عدد الوراقين وتعددت أماكنهم، واقترنت بذلك عناية بالخطوط وفنونه، وإن شاب تلك الحرفة شىء مما نسب لبعضهم من اختلاق، وانتحال، على نحو ما فصل القول فيه الحلوجى فى حديثه عن الوراقة والوراقين ص 125، وما بعدها، وانظر قضية الانتحال فى كتاب فى الشعر الجاهلى، وفى طبعته الثانية المعدلة فى الأدب الجاهلى، وهما للدكتور طه حسين، وتعليق ناصر الدين الأسد فى كتابه مصادر الشعر الجاهلى، الباب الرابع، وغيرها.
وقد ملأت دكاكين الوراقين أحياء بغداد، والتقى فيها الأدباء، والعلماء، وانعقدت فيها حلقات المناظرة والمناقشة والمطالعة، وتخرج فيها أعلام الثقافة العربية، ومنهم الجاحظ الذى كان يكترى هذه الدكاكين لقراءة ما تحويه من كنوز المعرفة الإنسانية، ومن أشهر الوراقين العرب ابن النديم صاحب كتاب (الفهرست) الذى ألفه سنة 377هـ، وياقوت الحموى صاحب كتاب (معجم البلدان)، يذكر القلقشندى أنواع الورق فى عهده، ويصفها، ويرتبها ويذكر أنواعها، وتبعاً لذلك ساد الإملاء طوال القرنين الثالث والرابع الهجريين، وازدادت حركة التأليف ونشطت حركة الورق فى بغداد، ونشطت طبقة الوراقين ودكاكينهم للبيع والقراءة معا، وبلغتْ أوجها فى العصر العباسى. ومن هنا كانت....
صناعة الكتاب وصناعة تأليفه
أفاض القدماء فى الحديث عن جوانب صناعة الكتاب إفاضة غير مسبوقة. وفى الجزء الخامس من صبح الأعشى فى صناعة الإنشا للقلقشندى الذى طبع طبعات عديدة منذ طبعة بولاق 1323هـ، فدار الكتب 1338/1920، فالأميرية بمصر فى 14 جزءا، ففهارسه، فمصطلحات صبح الأعشى، وفيه نجد تفصيلاً للألقاب بعامة، وحديثاً عن ألقاب الكتاب: كتاب الإنشاء، وكتاب الأموال، ومنها ما سبق حديثه عنهم فى المقدمة، وهم: كاتب السر، وهو صاحب ديوان الإنشاء، وكاتب الدست، وهو الذى يجلس مع كاتب السر، ويوقع على القصص، وكاتب الدرح، أى الذى يكتب المكاتبات والولايات ويعبر عنه بالموقع.أما أرباب الوظائف من كتاب الأموال، فمنهم: الوزير، والناظر، وصاحب الديوان، والشاهد، والمستوفى، والعامل، والماسح، والمعين.. إلخ. كما يتحدث عن صيغ المكاتبات المتبعة: 1- من فلان إلى فلان. 2- العلامة فى المكاتبات: أخو فلان، وشاكره فلان، وفلان خط. أما اسم المكتوب له فهما: 1- ابتداء المكاتبات.
2- العنوان من الأدنى إلى الأعلى. كما يذكر ألقاب المكاتبات مثل:
الجانب- المقام بفتح الميم- المقر بفتح الميم والقاف- الجناب- المجلس - مجلس (مضافاً)- المضاف إليه- الحضرة- الديوان- الباسط- الباسطة- اليد- الستارة- الجهة- الباب- المخيّم.
عضو المجمع العلمى المصرى، وأستاذ النقد الأدبى الحديث
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: لغتنا العربية جذور هويتنا د يوسف نوفل
إقرأ أيضاً:
أوقاف الفيوم تنظم أمسية علمية عن أثر اللغة العربية في فهم القرآن الكريم
نظمت مديرية أوقاف الفيوم، اليوم الأربعاء الموافق، أمسية علمية بعنوان: "أثر اللغة العربية في فهم القرآن الكريم".
أقيمت الأمسية في مسجد السعادة بتوجيهات وزير الأوقاف، الدكتور أسامة السيد الأزهري، بحضور الدكتور محمود الشيمي، وكيل وزارة الأوقاف، وفضيلة الشيخ جمال أحمد، مدير إدارة بندر ثان، بالإضافة إلى لفيف من علماء الدين وأئمة الأوقاف.
وكيل تعليم الفيوم يحاور الطلاب المتميزين بمدارس التعليم الفني جامعة الفيوم تناقش اللوائح الداخلية للكليات للموافقة على لائحة برنامج (تطبيقات اللغة العربية في الإعلام)ناقش العلماء خلال الأمسية أهمية اللغة العربية باعتبارها الوسيلة الأساسية لفهم مقاصد القرآن الكريم. وأكدوا أن العلوم الإسلامية تنقسم إلى علوم وسائل وعلوم مقاصد، حيث تمثل علوم اللغة، مثل النحو والصرف والبلاغة، الأساس لفهم نصوص القرآن والسنة.
وأشاروا إلى أن فهم مقاصد الشريعة لا يتم إلا بالإلمام بعلوم اللغة التي تمثل أدوات ضرورية لتفسير النصوص.
واستشهد العلماء بقاعدة أصولية تقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". من هنا، شددوا على ضرورة تعلم اللغة العربية لمن أراد التعمق في فهم القرآن الكريم. كما أوضحوا أن علم النحو كان من أوائل العلوم الإسلامية التي نشأت في عهد الخلفاء الراشدين، حيث بدأ أبو الأسود الدؤلي في تدوين قواعد النحو بتوجيه من الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
مدير تعليم الفيوم: تفعيل البرنامج العلاجي للتلاميذ الضعاف بمدرسة عبدالله بهنس بإدارة شرق وكيل أوقاف الفيوم يلتقي الأئمة والعاملين بإدارة إطسا شرق
خلال الأمسية، تطرق العلماء إلى ضرورة الفهم الصحيح للغة العربية لتفسير النصوص الشرعية، مشيرين إلى ما وقع فيه بعض جماعات العنف والتطرف من تأويلات خاطئة. واستدلوا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". وأوضحوا أن صيغة "أقاتل" تشير إلى المشاركة، وليس الاعتداء أو القتل، مما يعني أن الحديث يدعو إلى وقف العدوان، لا إلى إراقة الدماء.
كما أشار العلماء إلى أن الفهم الخاطئ للنصوص يؤدي إلى استباحة الدماء، مؤكدين أن الإسلام دين رحمة ولا يقبل الإكراه في الدين، استنادًا إلى قوله تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ".
اختتم العلماء اللقاء بالتأكيد على أهمية تعلم علوم اللغة العربية وفقًا لاحتياجات كل فئة. فأوضحوا أن الخطيب والداعية يحتاجان إلى الإلمام بقواعد النحو والبلاغة لفهم النصوص القرآنية بدقة، بينما الفقيه يتعين عليه دراسة جميع علوم اللغة لفهم الأحكام الشرعية. كما استشهدوا بكلمات الإمام الشافعي: "لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي".
تأتي هذه الأمسية ضمن سلسلة الفعاليات التي تهدف إلى تعزيز الوعي بأهمية اللغة العربية ودورها المحوري في فهم نصوص القرآن والسنة، بما يعكس التزام وزارة الأوقاف بترسيخ القيم الإسلامية السمحة.