بينما يخوض نحو 1100 طالب من قطاع غزة امتحانات الثانوية العامة في مصر، تبدو مشاهدهم كملحمة أسطورية تتحدى الزمن والصعاب بعد الظروف القاسية والمعاناة التي فرضها الاحتلال عليهم، يشق هؤلاء الطلاب طريقهم نحو العلم كأبطال أسطوريين، يواجهون وحش الظُلم بعزيمة فولاذية، مجسدين أسمى معاني الصمود والإصرار، عازمين على تجاوز كل العقبات والصعاب، ليحددوا هم مصيرهم ومستقبل وطنهم بأيديهم.

في حديثها مع «الوطن»، روت «دارين» والدة الطالبة أسيل عوني أبو دقة، تفاصيل عام دامٍ من الدراسة، وهو العام الذي كان من المفترض أن ينغمس فيه الطالب الفلسطيني في دراسته للوصول إلى أحلامه التي يصبو إليها منذ 12 عامًا، تحول العام إلى مأساة تحطمت فيه كثير من الأحلام على أيدي الاحتلال الإسرائيلي.

وقالت، وهي تستذكر شهور الألم التي عاشوها تحت العدوان: «بدلاً من أن نتطلع إلى مستقبل ابنتي، كنا نحاول تجنب القصف الإسرائيلي الذي كان يهطل على سماء قطاع غزة كالمطر».

وبدلاً من أن تنشغل العائلة بالمستقبل، انشغلت بحاضرها المأساوي والنجاة منه، واضطرت للنزوح من مدينة خان يونس إلى رفح الفلسطينية، لكن الأم حرصت على استمرار دراسة ابنتها رغم العدوان الوحشي، وقالت: «طبعت لها الكتب قبل النزوح.. وتواصلت مع معلميها ليُرسلوا إليها فيديوهات شرح المناهج الدراسية للعام الماضي.. وكان المعلمون يقدمون المساعدة في بيوت النازحين عندما يكون هناك اتصال بالإنترنت لشرح النقاط الصعبة في المناهج الدراسية».

وفي هذه الظروف، والحرب الشرسة التي يمطر بها جيش الاحتلال الإسرائيلي رؤوس الناس في غزة، من المفترض أن تسود غريزة النجاة، ولكن الأم وقفت كالجبل أمام الظروف التي فرضها الاحتلال، وأصرت على استمرار مسيرة تعليم ابنتها، وحاولت توفير بيئة ملائمة للفتاة التي تسعى لتحصيل العلم، وعلقت قائلة: «في غزة نحرص على تلقي العلم بكل جدية، رغم مساعي الاحتلال ومحاولاته لإعاقتنا.. صحيح أن بلدنا تعرض للدمار، لكن أطفالنا هم من سيعيدون إعماره، ولذا نحن نرغب في مواصلة تعليم أبنائنا».

وبعد 70 يومًا من المعاناة تحت وطأة الحرب، واجهوا جوعًا شديدًا والقصف المستمر والدمار ومشقة النزوح من مكان إلى آخر بحثًا عن مكان آمن، سافرت العائلة الفلسطينية إلى مصر بعد أن أُعلن أنه سيتم السماح لطلاب قطاع غزة بأداء امتحانات الثانوية العامة هناك.

وأضافت «دارين» خلال حديثها مع «الوطن» أن هذه الرحلة كانت ممزوجة بمشاعر الحزن والفرح: «خرجنا من غزة نطمح لمستقبل أفضل لابنتي، ولكن خلفنا قلبنا هناك يعتصر حزنًا على الأصدقاء والأحباء الذين تركناهم وراءنا».

ومنذ الوصول إلى مصر، بدأت «أسيل» في الدراسة بجد واجتهاد قدر استطاعتها، حيث تذكرت دروسها بمفردها دون مساعدة معلميها، واعتمدت على مقاطع الشرح المتوفرة على منصة «يوتيوب».

وتابعت الأم: «مرت ابنتي بظروفٍ أثرت فيها نفسيًا بشكلٍ كبير، لكننا رغم ما مررنا به أصرينا على عدم الاستسلام.. حتى لو لم تحقق أعلى الدرجات، نحن فخورون بكل ما قدمته، وعائلتها كانت تدعمها حتى أصدقاؤها في غزة كانوا يتواصلون معها عبر الإنترنت».

وروت الطالبة الفلسطينية قصة التعامل الحسن من الشعب المصري معها منذ وصولها إلى مصر: «عندما وصلت إلى أم الدنيا نفدت مني الأموال، لكن تعرفت على بعض الفتيات الرائعات هنا، إحداهن فتحت لي منزلها واستضافتني لأن السكن الذي كان متاحًا لي كان بعيدًا عن المدرسة التي كنت سأؤدي  فيها امتحاناتي، ولم تكن ترغب بأن أدفع أي إيجار.. الشعب المصري محترم ولم يبخل علينا بأي شيء.. فتحوا لنا بيوتهم وجعلونا نشعر بالأمان».

وبعين تأمل في العودة إلى الوطن، اختتمت حديثها: «نتمنى أن يزيل الله هذه الغمة عنا ونعود إلى وطننا.. لا نستطيع أن نبتعد عنه، ونتطلع إلى العودة إليه في أفضل حال».

مروى مروان رجب: قصة صمود وطموح في ظل الحرب والنزوح

تستذكر الطالبة «مروى مروان رجب» خلال حديثها مع «الوطن» إحدى الليالي التي عاشتها خلال الحرب: «ارتفعت فيها أعمدة الدخان، دوت الانفجارات لتضيء عتمة السماء بنور ساطع تنفر منه العيون، استنشق الجميع روائح الفسفور المحرم دوليًا التي هتكت الصدور، محاولة النجاة بين زخات الرصاص الإسرائيلي ووسط الركام وجثامين الشهداء المتناثرة في كل مكان».

ورغم هذه المآسي والظروف المريرة خاضت الفتاة الفلسطينية ملحمة من الصبر والصمود، معلنة أنها لن ترفع راية الاستسلام البيضاء، في سبيل تحقيق حلمها بدراسة الطب عبر إتمام امتحانات الثانوية العامة في مصر.

بدأت «مروى» حديثها بمرارة عن الظروف الصعبة التي عاشتها عائلتها: «نزحنا عديد المرات حسبت منهم 13 مرة فقط».

في البداية كان معي كتبي تقريبًا حتى شهر نوفمبر، ولكن في 17 من الشهر ذاته، جرى استهداف المنزل الذي نزحنا إليه واستشهد أخي، وأصيب اثنان من إخوتي ووالدي، ولم أتمكن من الاحتفاظ بالكتب معي».

تستمر «مروى» في سرد قصتها بصوت مليء بالحزن، وتنهدت قبل أن تقول إنها بعد الاستهداف اضطرت للانتقال إلى الجنوب مع والدتها، للانضمام إلى أهلها المصابين الذين نُقِلوا إلى مستشفى في الجنوب.

أضافت: «خلال نزوحي مع والدتي إلى الجنوب، تعرضنا لاستهداف من الجنود الإسرائيليين، حيث جعلونا مادة للتسلية لهم بإثارة الرعب في قلوبنا.. كنا نسير مسافات طويلة وهم يطاردونا بعرباتهم العسكرية حولنا.. عانينا لدرجة أن لون بشرتي تحول إلى اللون البنفسجي ولم أكن أشعر بأي شعور في يديا.. كانت التجربة مرهقة للغاية».

وتابعت: «حاولت أن أدرس في الجنوب، ولكن الوضع النفسي كان صعبًا للغاية بسبب إصابة إخوتي ووالدي والتنقلات المتكررة.. رغم كل هذا، كنت مصممة على تحقيق حلمي ودراسة الطب».

في ظل هذه الظروف القاسية، واجهت «مروى» تحديات عديدة: «بحثت عن مكاتب دراسية، لكن لم أجد.. كل هذا من أجل تحقيق حلمي».

تحدثت «مروى» عن شغفها بدراسة الطب منذ صغرها: «كنت دائمًا أحب هذا المجال، وزادت رغبتي بعد استشهاد أخي.. لأن القطاع الطبي كان في حالة كارثية ولم يتم إجراء أي تدخل طبي له.. أشعر بأنه يجب أن يكون هناك أطباء آخرون يمكنهم إنقاذ الأرواح في مثل هذه الظروف».

لم تكن رحلتها إلى مصر سهلة: «غادرنا غزة في 24 فبراير، حيث تم إدراج اسمي وأسماء إخوتي الاثنين على قائمة المصابين ورافقتهم.. كنت أعيش بين خوف على والدي المصاب وأهلنا الذين تركناهم في غزة، وكان الوضع النفسي ليملاً بالألم، وكنت أدرس بمفردي دون مساعدة، وكان من الصعب جدًا التركيز والدراسة في هذه الظروف».

وعلى الرغم من كل هذه التحديات، تظل مروى متمسكة بالأمل: «شعب غزة، رغم كل الظروف، يصر على الاستمرار والتحدي.. وأنا مصممة على تحقيق حلمي ودراسة الطب على الرغم من الآثار النفسية التي لا تمحى وما تركته الحرب على أجسادنا وقلوبنا».

تختم مروى حديثها بتأكيد دعم والدتها لها: «رغم ارتفاع تكاليف السفر والظروف الصعبة، دعمتني والدتي لأستمر.. أنا هنا لأكمل تعليمي وأحقق حلمي، لكي لا ينجح الاحتلال في خلق جيل جاهل يسهل هزيمته».

أحمد المجدلاوي: طالب تحت وطأة النيران يسعى لنور العلم

على مدى سبعة أشهر، عاش الطالب أحمد المجدلاوي تجربة قاسية في خضم حرب لا ترحم، تحت وطأة النيران والقصف المستمر، بدأت هذه المحنة عندما بدأ العدوان، مما اضطره وأسرته للنزوح مرات عديدة، ومع كل نزوح، كان أحمد يصطحب كتبه معه، كأنها درعه الحامي وأمله في المستقبل.

عندما اشتدت وتيرة القصف واقتربت النيران من مسكنه، نزح «أحمد» إلى بيت جده، لكن الأمان كان هشًا، وجاءت أوامر الاحتلال صارمة: «عليهم النزوح إلى دير البلح»، لم يستطع الفتى قبل النزوح أخذ جميع كتبه معه.

في دير البلح، استقر «أحمد» مع عائلته في منزل مكتظ بالنازحين والأقارب، حيث وصل عددهم إلى 42 شخصًا مقسمين على ثلاث غرف، ولم تكن هناك مساحة كافية للمذاكرة.

كل صباح، قبل توزيع المهام اليومية على أفراد العائلة وقبل رحلات البحث المضنية عن الطعام والشراب والمستلزمات الضرورية للنجاة، كان «أحمد» يستغل بضع ساعات للدراسة، متحديًا ضجيج الناس وضيق المكان.

بعد مرور 170 يومًا، انتقل أحمد وعائلته إلى منزل آخر، حيث تمكن أخيرًا من المذاكرة بشكل أفضل باستخدام الكتب المتاحة. ورغم ظروف الحرب والحصار والجوع، لم ينقطع الأمل لدى أحمد وعائلته، قال «أحمد»: «سقف الطموح أصبح أقل، لكنه ظل حاضرًا وما زالت عزمتي على دراسة البرمجة في الجامعة قوية، ساعيًا لتحقيق الدراسات العليا».

في البداية، رفض «أحمد» فكرة السفر بسبب ظروف والده الصحية، حيث كان يعاني من مشاكل في الظهر تفاقمت بسبب الأعباء الثقيلة والحرب، لكن حاجة والده للعلاج في مصر دفعتهم لاتخاذ القرار.

سبق «أحمد» عائلته إلى مصر في الرابع من مايو، لكن إغلاق المعبر حال دون وصولهم.

كان السفر إلى مصر تجربة صعبة لأحمد، خاصة أنه ترك أهله وراءه، مما جعل شعور الغربة ثقيلًا على قلبه وقلقه عليهم أن يصيبهم مكروه، لكنه كان مصممًا على مواصلة دراسته وتحقيق أحلامه، مستمدًا قوته من دعم والدته وتحفيزها المستمر.

ورغم قلقه الدائم على أهله بسبب الحرب، حاول «أحمد» التغلب على تشتت تركيزه بالغوص في أحضان الكتب ومواصلة التعليم، كما أضاف خلال حديثه مع الوطن أن التواصل اليومي مع أسرته كان يخفف عنه الغربة ويعزز عزيمته لتحقيق أعلى النتائج في الثانوية العامة.

وذكر «أحمد» مشهد دعم والدته وقال: «قبل امتحان الدين، قدمت والدتي المساعدة عن بعد؛ حيث لخصت لي بعض الدروس وأرسلتها عبر الهاتف، في مشهد يجسد أسمى معاني التضامن العائلي والحرص على النجاح رغم كل الظروف، وهذه المؤازرة هي التي دفعته للنجاح رغم المصاعب».   

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: طلاب غزة بمصر قطاع غزة غزة الاحتلال الإسرائيلي الثانویة العامة هذه الظروف إلى مصر فی غزة

إقرأ أيضاً:

تعذيب الأطفال لأجل العلم.. التاريخ المظلم لعلم النفس وتجاربه غير الأخلاقية

"لقد أدركنا كيف يمكن للناس العاديين أن يتحولوا بسهولة من الدكتور جيكل الطيب إلى السيد هايد الشرير".

زيمباردو طبيب نفسي شهير

في الممرات المظلمة والضيقة في مختبرات جامعة ستانفورد، تحرك المتطوعان، مايكل وجون (وهما اسمان مستعاران)، حيث صمم فريق بحثي سجنًا مؤقتًا لدراسة تأثير العوامل النفسية والظرفية في السلوك. وجد المتطوعان نفسيهما في مواجهة حقيقة مقلقة، فالتجربة التي شاركا فيها بخليط من الفضول الأكاديمي والمنفعة المادية، تحولت إلى أكثر كثيرًا من مجرد تجربة معملية. فمع مرور الساعات، بدأت شخصية جون، الذي عُين في التجربة حارسًا، في الانفصال تمامًا عن ذاته التي يعرفها سمحة القياد. مسلحًا بزيه الرسمي، ونظارته الشمسية العاكسة، والسلطة الممنوحة له، بدأ جون تبنّي نمط سلطوي في التعامل، ليجبر المتطوعين الذين أُعطوا أدوار السجناء، ومنهم مايكل، على الالتزام بقواعد تعسفية، وليمارس عليهم ألاعيب نفسية عدة. فوجئ جون بالسرعة والسهولة التي تحول بها إلى طاغية!

أما مايكل، فعلى الناحية الأخرى، فقد نُزعت منه إنسانيته، وأُعطي رقمًا يُنادى به بدلًا من اسمه، وهو ما أثر في نفسيته رغم علمه بأنه في تجربة علمية سيحصل منها على مقابل مادي. فكر في الاستسلام، وفكر في الاستقالة، وفكر أيضًا في المقاومة، لكن شيئًا ما دفع مايكل إلى الاستمرار في التجربة. اختفى الخط الفاصل بين سلوكه المحكوم بالتجربة، وحالته النفسية الحقيقية، فأصبح نومه مليئًا بالكوابيس، وصار تعامله اليومي مع المتطوعين الحراس بمثابة معركة نفسية مستمرة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2قصة إسلام إنجيلي أميركي.. كيف أصبح تديّن الغزيين نموذج هداية؟list 2 of 2عين على غزة وصوت في باريس .. هل تحسم المقاومة انتخابات فرنسا؟end of list

بعد مرور ستة أيام فقط، ومع تصاعد التوتر بين الحراس والمسجونين إلى درجة كبيرة، وازدياد الضغط النفسي على السجناء إلى حد مأساوي، قرر عالم النفس الذي صمم التجربة، فيليب زيمباردو، إيقافها، وهي التي كان مقررًا لها الاستمرار أسبوعين كاملين. يقول الطبيب زيمباردو: "عندما بلغت التجربة هذه الدرجة، قلت له: اسمع! أنت لست السجين رقم 819، اسمك مايكل! وأنا الدكتور زيمباردو، لست مشرفًا مسؤولًا عن السجن، أنا أستاذ في علم النفس، وهذا ليس سجنًا حقيقيًّا! كل ما تراه الآن مجرد تجربة، وكل هؤلاء طلاب مشاركون، ليسوا سجناء وليسوا حراسًا، مثلك تمامًا. هيا بنا، لنذهب من هنا!".

لدهشة زيمباردو، توقف مايكل عن البكاء فجأة، ونظر إليه كطفل صغير استيقظ لتوه من كابوس، وأجاب في هدوء: حسنًا، لنذهب!".

بهذه الكلمات، انتهت تجربة من أشهر التجارب في علم النفس، أصبحت لاحقًا تُعرَف باسم تجربة سجن ستانفورد، وسنعود إليها بالتفصيل في ختام هذا التقرير.

تجربة سجن ستانفورد قد تكون استثنائية في شهرتها، لكن منطقها ليس استثنائيًّا. فغالبًا ما يُجري علماء النفس تجاربهم بهدف تحقيق فهم أفضل وأعمق للنفس البشرية، لكن ذلك لا يعني أن هذه الغاية النبيلة تجعل كل التجارب نبيلة؛ إذ قد يتورط بعض الباحثين في إجراء أبحاث بالغة القسوة، رُبما تُسبب أضرارًا بالغة للأشخاص الذين أُجريت عليهم هذه التجارب والاختبارات. يمكنك من خلال متابعة السطور التالية التعرف على بعض من أكثر التجارب النفسية التي وصفت بكونها غير أخلاقية أو تضمنت انتهاكات إنسانية.

علم النفس: حين يكون الإنسان فأر تجارب

يفتح نموذج التجريب النفسي على البشر بابا واسعا لنقد نموذج العلم في الفكر الغربي. وأساس هذا التجريب بحسب ما يرى المفكر عبد الوهاب المسيري بدأ على الحيوانات التي كانت تُعرَّض لاختبارات معملية لاستخلاص بعض النتائج والدلالات من قبل علماء النفس على غرار ما فعل العالم الروسي بافلوف في تجربة نظرية الارتباط الشرطي، ومن ثَمّ يُتصوَّر أن تلك التجارب قابلة للتكرار، وأنها يمكن أن تنطبق على البشر وأن تعطي نتائج أفضل. تم إخضاع الإنسان لنماذج مادية في التجريب السيكولوجي لا تلتفت إلى كرامته ولا إلى القداسة الدينية التي تُحرّم العبث بعقله وروحه لحسابات رؤية كمية بحتة، واندفعت اتجاهات كثيرة من العلوم الإنسانية الغربية في هذا الطريق المظلم دون اكتراث، أطمعتها في ذلك النجاحات المعملية في العلوم الطبيعية، والمجد العلمي لبعض الأطباء.

لكن مع الوقت، بدأت تظهر بشاعة هذه المنظومة، ولا سيما مع الأنظمة الشمولية، فمثلًا يذكر المسيري في كتابه "العالم من منظور غربي"، كيف قام علماء الرايخ الثالث خلال الحرب العالمية الثانية وقبلها بتجارب شديدة القسوة، مثل إجراء عمليات استئصال بدون تخدير، أو تجربة الرصاص على البشر من أجل معرفة فعاليته، أو تعذيب التوائم في غرف منفصلة، أو وضع شخص في غرفة مفرغة من الهواء لمعرفة المدة التي يستطيع الإنسان البقاء فيها حيًّا على ارتفاعات عالية أو بلا أوكسجين. ارتباط هذه التجارب باللحظة النازية، وغيرها من التجارب في البلدان الليبرالية، والبشر الذين كان يتم التجريب عليهم وما ترتب على ذلك من مآس، كل ذلك جعل المجتمع العلمي يعيد التفكير في الأخلاقيات المصاحبة للعملية التجريبية. حيث اتجهت الجماعة العلمية النفسية الغربية، إلى ضرورة وضع بعض المبادئ لتخفيف وجع الضمير، وتطويق ردّ الرأي العام. فقد اتفق المجتمع العلمي على وجوب الالتزام بالمبادئ الأخلاقية أثناء إجراء التجارب والبحوث، خاصة تلك التي تُجرى على البشر، من أجل حماية كرامة وحقوق المشاركين في البحث.

مثلًا، من المحددات الأخلاقية التي يجب ألا تُخترق، ما يُترجم بالموافقة المستنيرة Informed Consent. ويتضمن هذا النوع من الموافقة الواعية أن يكون الشخص كامل الأهلية وأن يعرف تمامًا ما هو مقدم عليه بلا خداع ولا مواربة وأن يقبل المشاركة بناء على هذه المعلومات الصادقة والدقيقة التي قُدّمت له والتي فهمها بشكل كامل.

من المحددات الأخلاقية أيضًا حماية المشاركين؛ فلا يجوز تعريض الصحة البدنية أو العقلية للمشاركين في التجربة للخطر أو عدم التمكن من حمايتهم إذا ساءت الأمور. كذلك، يجب حماية حق المشاركين في الانسحاب؛ فبإمكان المشارك أن يعلن عن عدم قدرته على الاستمرار في التجربة، ويجب أن يحترم الباحث هذا دون إجبار أو إرغام بأي درجة.

والحقيقة أن التجريب على الإنسان في المعامل النفسية يظل في أغلبه عملا غير أخلاقي، ولا سيما تلك التجارب التي تتلاعب بعواطفه ونظرته إلى نفسه ومحيطه، حتى لو حظيت التجربة بموافقة المتبرع، حيث إن الإنسان في النموذج الإسلامي مستأمن على نفسه يتصرف فيها وفق تعليمات الخالق وليس مطلق السراح في العبث بما اؤتُمن عليه، بيد أن هذا المنظور لم يكن مرحبا به في المنظومة المادية العلمية، لأنه سيعطل الجانب الاستكشافي التراكمي، ويقيده بشرائط أخلاقية لا تمثل لهم قيما عليا؛ لذا حاولت وضع ضوابط محدودة ونظمًا حاكمة تقيد التجريب على الإنسان؛ فإذا كانت النازية تجرب بلا قلب، فإن الغرب الليبرالي يجرب وفق شروط تحاول تخدير القلب والضمير.

(الجزيرة)

 

تجربة علمية للتحقّق من إمكانية إلحاق البشر الأذى بعضهم ببعض!

منذ ما يزيد على 63 عامًا من وقتنا هذا، وتحديدًا في عام 1961، وفي الطابق السفلي من مبنى الحرم الجامعي بجامعة ييل، أُجرِيت تجارب أثارت الكثير من الجدل لاحقًا في مجتمع البحث العلمي. حيث بدأ عالم النفس ستانلي ميلجرام، إجراء عدد من التجارب التي تسببت في لغط وقلق داخل المجتمع الأميركي.

خلال تجاربه، قام ميلجرام بتجنيد رجال من خلفيات تعليمية ومهنية مختلفة لدراسة مدى استعدادهم لإلحاق الألم بغيرهم من البشر من خلال إدارة وتوجيه الصدمات الكهربائية المؤلمة. كان ميلجرام يحاول بشكل أساسي هنا دراسة مدى استعداد البعض لطاعة السلطة، خاصةً في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وما تضمنته من انتهاكات للإنسانية مثل المحارق النازية.

قامت التجربة في البدء على معلم لديه طالب واحد، وطلب المجرب من المعلم الضغط على زر يُعرِّض الطالب إلى صدمة كهربائية عقابًا له في كل مرة يُخطئ فيها في اختيار الإجابة الصحيحة. هنا، تم تضليل المعلم؛ لأنه كان يعتقد أن الجهاز الذي بين يديه يُصدر صدمات كهربائية حقيقية، وأن ردود الطالب القائمة على إظهار الألم الشديد هي ردود حقيقية. لكن الواقع، هو أن الطالب كان يصدر ردودًا مفتعلة لأن الصدمات لم تكن حقيقية أصلًا. كان المعلم يعتقد أن الصدمات تبدأ عند 30 فولتًا وتزداد بمقدار 15 فولتًا مع كل إجابة خاطئة حتى تصل إلى 450 فولتًا.

في كل مرة يُخطئ فيها الطالب، يطلب القائم على التجربة من المعلم أن يصدمه. ومع زيادة حدة الصدمات الكهربائية، كانت تتعالى صرخات الطالب. وحينما كان المعلم يتردد في توجيه الصدمة، كان المجرب، الذي يمثل هنا الشخصية صاحبة السلطة، يطلب منه المضي قدمًا. فيقول مثلًا: "من الضروري للغاية أن تستمر" أو "ليس لديك خيار آخر. يجب أن تستمر".

كشفت النتائج التي توصل إليها ميلجرام عن الاستعداد التام لدى عدد من المشاركين في التجربة للانصياع للسلطة حتى لو بدت تعطي أوامر تمثيلية غير حقيقية، على غرار ما فعل الطالب الذي كان يتظاهر بالألم والصراخ بطلب الرحمة من أثر الصدمة الوهمية. وقد لوحظ أن الطرف الآخر، أبدى قدرا من الاضطراب والذهول والغضب من المجرب الذي يملي عليهم أوامر بالاستمرار، إلا أنهم استمروا في اتباع الأوامر حتى النهاية. فقد قام 65% من المشاركين في الدراسة بتنفيذ الحد الأقصى من الصدمات، وتوقف 35% قبل الوصول إلى أعلى المستويات.

توصلت تجارب مليجرام إلى نتائج هامة -رغم كونها صادمة- أبرزها تجذر الامتثالية لطلبات السلطة عند بعض الناس ولو أخذت طابع الأوامر المنحرفة. لكن من جهة أخرى أثارت الكثير من الجدل حول مدى مراعاتها للجانب الأخلاقي في إجرائها، وتعاملها مع البشر كأدوات باردة، والسماح بتعريض المشاركين لضغوط نفسية وعاطفية كبيرة، واستخدام الخداع، وعدم وجود حماية للمشاركين، والضغط من جانب المجرب على المشاركين للاستمرار حتى بعد طلب بعضهم التوقف، وهو أمر يتعارض بشكل رئيسي مع حق المشاركين في الانسحاب.

 

نشأة علم النفس الإيجابي: لم تكن إيجابية تمامًا! تعريض الكلاب لصدمات كهربائية (الجزيرة)

تخيل أن تأتي بكائن حي وتُعرّضه لصدمات كهربائية حقيقية على فترات، بهدف أن تختبر فرضية وتصل إلى نتيجة، هذا ما فعله عالما النفس مارتن سليجمان وستيفن إف ماير.

من خلال التجارب، كان سليجمان وماير يهدفان إلى التعرف بشكل أوضح وأعمق على مفهوم "العجز المكتسب"، وهو ظاهرة تمت ملاحظتها في كل من البشر والحيوانات الأخرى، حيث كانوا "يكتسبون" صفة "العجز" عندما يحاولون مرة أو أكثر تجنب الألم ويفشلون. حينها يستسلمون للألم ويحاولون التكيف معه، وإذا وُجدت لاحقًا فرصة لتجنّبه فإنهم لن يروها لأنهم لن يحاولوا تجنّبه مرة أخرى.

أُجريت التجارب الأولية التي شكلت الأساس لهذه النظرية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. فمن خلال تجاربهما، اختبر سليجمان وماير استجابة الكلاب للصدمات الكهربائية، حيث عرّضوا مجموعة من الكلاب لصدمات كهربائية حقيقية لا يمكن للكلاب التنبؤ بها أو السيطرة عليها. قام الباحثان بوضع الكلاب في صندوق به غرفتان مقسومتان بحاجز منخفض، وكانت إحدى الغرفتين ذات أرضية مكهربة والأخرى ليست كذلك.

عندما وضع الباحثان الكلاب في الصندوق وقاما بتعريضهم للصدمات الكهربائية من خلال الأرضية المكهربة، لاحظا أن بعض الكلاب لم تحاول القفز فوق الحاجز المنخفض إلى الجانب الآخر الآمن، ووجدا أن الكلاب التي لم تحاول القفز ولم تفكر في كيفية النجاة كانت بشكل عام هي الكلاب التي سبق أن تعرضت للصدمات دون أن تتمكن من إيجاد وسيلة للهروب منها.

في المرحلة التالية من التجربة، ولأجل التحقق من هذه النتائج الأولية جمع سليجمان وماير مجموعة جديدة من الكلاب وقسماها إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى تم ربط الكلاب فيها بأحزمة فترة من الوقت ولم تُعرَّض لأي صدمات، وفي المجموعة الثانية رُبطت الكلاب أيضًا لكن مع تعريضها لصدمات كهربائية يمكن تجنبها عن طريق الضغط على لوحات بأنوفها، وكانت المجموعة الثالثة هي الأقل حظًّا فقد عُرِّضت الكلاب لصدمات كهربائية ولم تُمنَح أي وسيلة لتجنبها.

لاحقًا، وضع الباحثان جميع الكلاب، واحدًا تلو الآخر، في الصندوق الذي ينقسم إلى غرفتين. وكانت النتائج أن الكلاب في المجموعة الأولى والثانية أدركت ببساطة أن عليها القفز فوق الحاجز المنخفض للوصول إلى مكان آمن. أما كلاب المجموعة الثالثة فلم تحاول تجنب الصدمات لأن لديها خبرة سابقة تفيد بأن لا فائدة من المحاولة؛ وبالتالي اكتسبت صفة العجز، رغم أنه كان هناك هذه المرة فائدة فعلية من المحاولة. بمجرد رصد النتائج، أجرى سليجمان وماير تجارب مماثلة على 159 ذكرًا من الفئران بهدف التحقق من النتائج.

كانت الأزمة الأخلاقية الأساسية في تجارب سليجمان وزملائه هي القسوة التي شهدتها الحيوانات التي شاركت في التجارب، وقد وُصفت هذه التجارب بأنها تضمنت "سوء معاملة" للحيوانات. لكن بعض الباحثين يرد على هذا بأنه على الرغم من رفض مثل هذه الطرق الآن في الوسط العلمي والتجريبي، فإنها كانت بشكل ما "مقبولة" ورُبما "منتشرة" في حينها، حيث شهدت فترة الستينيات والسبعينيات إجراء الكثير من مثل هذه التجارب.

 

أطفال مصابون باضطرابٍ عقليّ.. لماذا لا نُجرّب الصدمات الكهربائية؟! ممرضات يقدمن العلاج بالصدمات الكهربائية لطفل (مواقع التواصل)

هل كانت التجارب السابقة صادمة بالنسبة لك؟ مهلًا، رُبما تجد هنا الأكثر قسوة، وهي التجارب التي أجرتها الطبيبة الباحثة لوريتا بندر لاختبار فعالية العلاج بالصدمات الكهربائية على الأطفال، وكان من بين الأطفال المشاركين في تجاربها طفل لم يتجاوز عمره ثلاثة أعوام.

خلال فترة الستينيات، كان تركيز الدكتورة لوريتا بندر من مستشفى كريدمور في نيويورك مُسلطًا على إجراء التجارب على علاج الأطفال الصغار، الذين تم وصفهم حينها بأنهم مصابون باضطرابات عقلية شديدة، بالصدمات الكهربائية.

تُعدّ لوريتا بندر من أوائل الأطباء الأمريكيين الذين عالجوا ودرسوا الأطفال المصابين بالفصام والاضطرابات العقلية الشديدة، وخلال مسيرتها المهنية الطويلة في البحث العلمي وخلال عملها طبيبة التقت بمئات الأطفال المصابين بالاضطرابات العقلية، بما في ذلك الأطفال المصابون بالتوحد، ويُشار إليها على أنها من الأشخاص البارزين الذين أدَّوا دورًا هامًّا في تاريخ التوحد والنظر إليه على أنه متلازمة سريرية.

رغم أهمية عملها ومسيرتها البحثية، فإن العديدين يوجهون الكثير من الانتقادات إلى الطريقة التي اتبعتها لإثبات فرضياتها. كانت تجارب بندر تُجرى على أطفال تتراوح أعمارهم بين ثلاثة واثني عشر عامًا. وقيل إن بندر قد أجرت اختباراتها على عدد من الأطفال لا يقل عن 100 ورُبما يصل إلى نحو 500 طفل وهم الأطفال الذين تلقوا العلاج بالصدمات الكهربائية في المستشفى الذي كانت بندر تعمل فيه، والواقع أن هذا العلاج لم يكن سوى "تجارب" لا يعرف أحد على وجه اليقين نتائج مؤكدة لها، ولا يعرف أحد، ولو بشكل تقريبي أو ظني، كيف ستؤثر في الطفل الذي يتلقاها.

سارت أساليب التجربة على هذا النحو: كانت الدكتورة بندر تُعطي الطفل مقدارًا من الصدمة الكهربائية التي تتضمن تمرير تيارات كهربائية إلى دماغ الطفل بقصد توليد نوبة صرعية قصيرة. كان هذا يتم يوميًّا مدة عشرين يومًا على التوالي، وخلال تلقي الصدمات كانت بندر تسجل سلوك الأطفال قبل وبعد توجيه الصدمات وتضبط مقدار الجهد الكهربائي وفقًا لذلك. لتحديد تأثيرات العلاج بالصدمات الكهربائية، كانت بندر تستخدم الفن والرسم، حيث كانت تطلب من الأطفال أن يرسموا صورة لأنفسهم أو لشخص أو لشيء ما، ثم تقارن بين ما يقوم الطفل برسمه قبل تلقي العلاج وبعده.

لاحقًا، كانت بندر تقوم بمتابعة سلوك الأطفال الذين تلقوا الصدمات مع عائلاتهم ومع المعلمين والأصدقاء لتحديد تأثير علاجاتها على المدى الطويل. وكانت النتائج التي رصدتها بندر إيجابية في جميع الأطفال باستثناء طفلين أو ثلاثة. لكن هذا الرأي الشديد الإيجابية لم يكن نابعًا إلا من ملاحظة المراقبين في المستشفى وفي غرف المدرسة وأولياء الأمور.

بعد سنوات، قام الدكتور بيتر ر. بريجين بتحليل نتائج الدكتورة بندر، وقال عن نتائج تحليله: "لقد قمت شخصيًّا بتقييم حالتين من حالات بندر، وهما بالغان تعرضا لصدمات كهربائية على يدها عندما كانا طفلين. كان من بين أطفال تجارب بندر صبي يُدعى ج. ر، وقد نشأ في عائلة فوضوية ومضطربة للغاية. لقد كان يُعاني من "الرعب" بسبب ما كان يراه من عنف والده الشديد عندما كان يفقد وعيه بسبب معاقرة الخمر. كان الصبي يتغيب عن المدرسة، ولكن لا يوجد لديه ما يشير إلى وجود أي اضطراب نفسي شديد، وتم تشخيص حالته على أنها اضطراب السلوك الأولي".

يوضح بريجين أن الطفل قد خضع في الأربعينيات لتجارب الدكتورة بندر وتلقى 20 جلسة علاج بالصدمات الكهربائية. يقول بريجين: "بقدر ما أستطيع التأكد من سجلات التجارب، فقد أصبح الصبي عدوانيًّا لأول مرة بعد تلقي العلاج بالصدمات الكهربائية، وتم نقله حينها بشكل سريع إلى مستشفى آخر. وفي مرحلة البلوغ، أصبح ج. ر. مدانًا بقتل عدة أشخاص". وبخلاف تحليل الدكتور بريجين، أفاد أقران بندر المعاصرون لها بأنها لم تكن تُظهر أبدًا أي نوع من التعاطف اتجاه الأطفال الذين يخضعون لتجاربها.

حتى هذه اللحظة، يعتبر بعض المتخصصين في الصحة العقلية أن العلاج بالصدمات الكهربائية علاج مثير للجدل أو غير أخلاقي، حتى وإن كان فعّالًا في بعض الحالات. وقد أثيرت مخاوف من أن العلاج بالصدمات الكهربائية قد يتداخل مع نمو الدماغ ونضجه ويمنع النمو الطبيعي لدى الأطفال والمراهقين.

 

دراسة "الوحش": التجربة التي تسبّبت في تحويل الأطفال الأصحّاء إلى خرسان! انتهكت هذه الدراسة الكثير من الخطوط والأبعاد الأخلاقية لأن الأطفال خلالها تعرضوا للأذى النفسي وتم استغلالهم (مواقع التواصل)

مثل الحالات السابقة وحالات غيرها، كانت هناك بعض التجارب العلمية النفسية التي تجاوزت الخطوط الأخلاقية، رُبما بشكل خاص على الفئات الأكثر ضعفًا مثل الأطفال. لكن في عام 1936 وصل المختصّ في أمراض النطق ويندل جونسون من جامعة أيوا إلى مرحلة "الوحش" في تجاوز الخطوط الأخلاقية، وحدث هذا التجاوز خلال تجاربه على مجموعة من الأطفال الأيتام الذين كانوا يعيشون في دافنبورت بولاية أيوا.

رُبما كانت جرأة التجاوز الأخلاقي في تجارب جونسون هي سبب تسميتها "دراسة الوحش"، إذ لم تتضمن التجربة، في الواقع، أي "وحوش" بشكل فعلي، لكن أُطلق عليها هذا الاسم لأنها كانت تجربة مرعبة وهددت بتدمير سمعة علماء النفس الذين قاموا بإجرائها. ولهذا ظلت هذه الدراسة والنتائج التي توصلت إليها مخفية سنوات.

كان الدكتور جونسون يهدف من الدراسة إلى معرفة المزيد حول سبب إصابة الأطفال بـ"التلعثم"، وتحديد ما إذا كانت التأتأة نتيجة لسلوك مكتسب أو غير ذلك. اختار جونسون 22 يتيمًا تتراوح أعمارهم بين خمسة أعوام وخمسة عشر عامًا للمشاركة في الدراسة.

كان بعض الأيتام يعاني من التأتأة بالفعل، وبعضهم لم يكن لديهم أي تلعثم. تم تقسيم الأيتام إلى مجموعتين، كل مجموعة تحتوي على عدد من الأطفال المتلعثمين وغير المتلعثمين. تم تصنيف إحدى المجموعتين على أن أفرادها متحدثون "عاديون"، رغم أن منهم أطفالًا يُعانون من التلعثم، وتم تصنيف أفراد المجموعة الأخرى على أنهم "متلعثمون"، رغم أن منهم أطفالًا كانوا يتحدثون بشكل طبيعي. طوال فترة التجربة، تم التعامل مع الأطفال وفقًا لهذا التصنيف.

التقى الفريق البحثي للدكتور جونسون بالأطفال في المجموعتين كل بضعة أسابيع مدة خمسة أشهر كاملة "لتقييم" كلامهم. وكان الفريق يُشيد بالأطفال في المجموعة "العادية" ويُثني على قدرتهم على التحدث بشكل جيد، حتى لو كانوا يتلعثمون بالفعل. أما أطفال مجموعة "التلعثم" فكان يقول لهم إنهم يتحدثون بشكل سيّئ، ويخاطبهم بعبارات مُحبِطة مثل: "يجب أن تتوقف عن الكلام على الفور"، "لا تتحدث أبدًا إلا إذا كنت تستطيع التحدث بشكل صحيح".

كانت نتيجة الدراسة هي أن الأطفال الذين تم تصنيفهم على أنهم "طبيعيون" وهم يُعانون فعليًّا من التلعثم لم يتأثروا كثيرًا بثناء الباحثين، وكان هناك بعض التحسن في طفل واحد فقط. وكانت المأساة الحقيقية في أداء أطفال مجموعة "التلعثم"، التي تضمنت 6 أطفال كانوا يتحدثون بشكل طبيعي تم إخبارهم كذبًا أنهم يُعانون من "التلعثم"؛ إذ أُصيب خمسة من هؤلاء الأطفال بمشاكل في النطق، وبعضهم توقف عن الكلام تمامًا، وأصبحوا منعزلين.

لم ينشر جونسون وزملاؤه نتائج دراستهم خوفًا من الهجوم عليهم ومقارنة تجاربهم بالتجارب البشرية لدى النازيين التي كانت تُجرى على الفئات المهمشة في ألمانيا. انتهكت هذه الدراسة الكثير من الخطوط والأبعاد الأخلاقية لأن الأطفال خلالها تعرضوا للأذى النفسي وتم استغلالهم، لأنهم نظرًا لحداثة أعمارهم لم يكن بإمكانهم إعطاء الموافقة الواعية على المشاركة في التجربة، فضلًا عن أنهم خُدعوا.

في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رفع ثلاثة أشخاص من مجموعة "المتلعثمين"، دعوى قضائية ضد جامعة أيوا بسبب الخداع والاضطراب العاطفي الذي عُرِّضوا له خلال هذه التجربة، وادعوا أن التأثيرات السلبية للتجربة كانت طويلة الأمد ورافقتهم على مدى حياتهم.

(الجزيرة)

 

عودة إلى التجربة المُفزعة التي حوّلت المفحوصين إلى أشباه مجرمين!

ماذا تفعل مجموعة من البشر إذا ملكت سلطة تامة وكاملة على مجموعة أخرى من البشر؟ ماذا تفعل المجموعة الأقوى إذا ما كان بيدها القدرة على قهر وتعنيف وتحطيم المجموعة الأضعف، وإذا ما أعطيت ضوءًا أخضر يُمكّنها من الانطلاق واستخدام هذه السلطة؟

قامت تجربة سجن ستانفورد على هذه الأسئلة الأولية. لكن ما رصده الباحثون خلال مراحل التجربة كان مفزعًا إلى الحد الذي جعل التجربة تتوقف بعد 6 أيام فقط من بدئها.

تجربة سجن ستانفورد هي دراسة في علم النفس الاجتماعي، أُجريت عام 1971 في جامعة ستانفورد من قبل عالم النفس فيليب زيمباردو، أُجريت التجربة بتمويل من مكتب الولايات المتحدة للأبحاث البحرية. كان الهدف الأساسي من هذه التجربة هو فحص القوى الظرفية مقابل التصرفات في السلوك البشري، أي قياس تأثير لعب الأدوار، والتوقعات الاجتماعية على السلوك، وذلك على مدى أسبوعين، هذا هو الوقت الذي كان من المقرر أن تستغرقه التجربة، لكن ما حدث جعل التجربة لا تصل إلى نصف الفترة المحددة لها.

للقيام بالتجربة، نُشر إعلان يطلب مجموعة من الشباب لإجراء تجربة تحمل عنوان "دراسة نفسية للحياة في السجن" وقد استجاب أكثر من 70 شابًّا للإعلان. اختار القائمون على التجربة نحو 24 متقدمًا، وتم اختيارهم على أساس تمتعهم بصحة جسدية وعقلية جيدة، ثم تم تقسيمهم إلى أعداد متساوية من الحراس والسجناء، مقابل الحصول على 15 دولارًا في اليوم.

المجموعة التي طُلب منها أداء دور الحراس طُلب منها أيضًا عدم الإساءة إلى السجناء جسديًّا، وارتدوا نظارات شمسية عاكسة تمنعهم من التواصل البصري. الأشخاص الذين من المفترض أن يقوموا بدور السجناء تم اعتقالهم من قبل الشرطة الفعلية، ثم تم تسليمهم إلى المجرِّبين في سجن وهمي في الطابق السفلي من مبنى الحرم الجامعي.

خلال التجربة، كان المجرِّبون يُراقِبون جميع المشاركين ويصوِّرونهم بالفيديو. عُرِّض السجناء لإهانات كان الهدف منها محاكاة بيئة السجن الواقعية. كان زيمباردو يرغب في إيجاد "جو من القمع" بسرعة كبيرة. لذا، أُجبر كل سجين على ارتداء "فستان" كزي موحد وحمل سلسلة مقفلة حول كاحله.

الأشخاص الذين تم منحهم دور الحراسة، سرعان ما صدقوا أدوارهم وتقمصوها، ورُبما على أسوأ نحو ممكن. بدأ الحراس في فرض إجراءات قاسية وأخضعوا "سجناءهم" لدرجات مختلفة من التعذيب النفسي، وتعمدوا التسبب في إذلال ومعاناة السجناء بطرق متنوعة.

وُجّه إلى الباحثين القائمين على التجربة انتقاد أخلاقي رئيسي هو أن الدراسة لم توفر الحماية اللازمة للمشاركين. (شترستوك)

تصاعدت إساءة معاملة السجناء بشكل مثير للقلق، وفي غضون الأيام الأربعة الأولى، أصيب ثلاثة سجناء بصدمة شديدة لدرجة أنه تم إطلاق سراحهم. أحدهم أُطلق سراحه بعد 36 ساعة فقط بسبب نوبات الصراخ والبكاء والغضب التي أصابته وكانت خارج نطاق السيطرة.

لكن، الأكثر إثارة للدهشة هو أن العديد من السجناء في التجربة استسلموا تمامًا وقبلوا الانتهاكات ببساطة، وأصبحوا مطيعين بشكل أعمى وسمحوا لأنفسهم بالتجرد من إنسانيتهم.

على مدار التجربة، أصبح بعض الحراس قساة ومستبدين، وأصيب عدد من السجناء بالاكتئاب والارتباك والانسحاق التام أمام ما عُرِّضوا له. كان التصاعد السلبي للأحداث مفاجئًا وصادمًا، إلى الحد الذي دفع زيمباردو إلى إنهاء التجربة بعد ستة أيام فقط.

ما توصلت إليه التجربة هو أن المواقف قد تكون لها قوة "قاهرة" في تغيير السلوك البشري بشكل كبير، وأكدت نتائج الدراسة أن الناس حتى الأشخاص العاديين الطيبين منهم يمكنهم فعل أشياء شريرة عندما يدفعهم "الظرف" أو "قوى الموقف" في هذا الاتجاه.

وُجِّهت العديد من الانتقادات الأخلاقية إلى الدراسة، لتجاوزها الخطوط الأخلاقية بعدم وجود موافقة مستنيرة كاملة من قبل المشاركين، إذ لم يكن زيمباردو نفسه يعرف ما سيحدث في التجربة، ولم يكن من الممكن التنبؤ بأن الأحداث ستتصاعد على هذا النحو. انتقاد آخر وُجّه إلى الدراسة هو أن السجناء لم يوافقوا على "الاعتقال"، بشكل حقيقي من قبل الشرطة الفعلية، من منازلهم. وذلك لأن الموافقة النهائية من الشرطة لم تُمنح إلا قبل دقائق من قرار المشاركين بالمشاركة، ولأن الباحثين أرادوا أن تكون الاعتقالات مفاجئة.

وقد وُجّه إلى الباحثين القائمين على التجربة انتقاد أخلاقي رئيسي هو أن الدراسة لم توفر الحماية اللازمة للمشاركين، فلم يكن المشاركون الذين أدّوا دور السجناء محميين من الأذى النفسي، بل عُرِّضوا لحوادث إذلال وإهانة مبالغ فيها.

وجه فيليب جي. زيمباردو، نفسه انتقادًا أخلاقيًّا لتجربة سجن ستانفورد فقال خلال مقابلة في الذكرى الأربعين للتجربة: "في دراسة سجن ستانفورد، كان الناس يشعرون بالتوتر ليلًا ونهارًا مدة 5 أيام، 24 ساعة يوميًّا. ليس هناك شكّ في أنه كان مستوى عال من التوتر لأن خمسة من الأولاد تعرضوا لانهيارات عاطفية، الأولى خلال 36 ساعة. الأولاد الآخرون الذين لم يصابوا بانهيارات عاطفية كانوا مطيعين بشكل أعمى للسلطة الفاسدة. أما الحراس، ففعلوا أشياء فظيعة، لذا فلا شك في أن ذلك كان غير أخلاقي. لا يمكنك إجراء بحث حيث يضطر الناس للمعاناة على هذا المستوى".

مقالات مشابهة

  • شعاع تطلق خدمة تلقي بلاغات سرقة الكهرباء عبر واتس آب
  • عَـقدُ الصمود وعامُ الفتح الموعود
  • طلاب حيس يتحدون حرارة الصيف ويؤدون امتحانات الثانوية العامة
  • تعذيب الأطفال لأجل العلم.. التاريخ المظلم لعلم النفس وتجاربه غير الأخلاقية
  • رد التعليم على شكاوى طلاب الثانوية العامة 2024 من امتحان الفيزياء
  • الفيزياء تقهر طلاب الثانوية العامة 2024
  • الاحتلال الإسرائيلي يمنع طلاب الثانوية العامة من الوصول إلى اللجان في القدس
  • جماهير إنجلترا تلقي أكواب الجعة على وجوه زوجات اللاعبين
  • توافد طلاب الثانوية العامة علي لجان الامتحانات بالبحيرة