موسكو- قال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) موسى أبو مرزوق، إن روسيا ستكون حاضرة في حال توسع نطاق الحرب في غزة ليشمل جبهات أخرى لأن لها حلفاء في المنطقة، خاصة إيران، وستكون لها أدوار أخرى غير تلك التي تقوم بها في الوقت الحاضر.

واتهم أبو مرزوق، في مقابلة خاصة مع الجزيرة نت في موسكو، السلطة الفلسطينية بعدم استثمار ما وصفها بالمكتسبات التي تحققت بفعل حرب غزة، و"بتعطيل المصالحة الوطنية ومواصلة التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي".

ويزور أبو مرزوق روسيا، وفق بيان لحركة حماس لم يحدد تفاصيل الزيارة ومدتها.

وفيما يلي نص الحوار:

موسى أبو مرزوق (يمين) مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف (وسط) (الصحافة الروسية) ما أسباب زيارتكم موسكو، وهي الرابعة منذ أحداث 7 أكتوبر، وما الملفات التي بحثتموها مع الجانب الروسي؟

الحراك السياسي والدبلوماسي مسألة لا تنقطع خصوصا مع دولة بوزن روسيا، عضو في مجلس الأمن الدولي وذات حضور قوي على المستوى العالمي.

وعلى سبيل المثال، فإن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لا يكاد يغيب عن المنطقة. هناك حرب دائرة ومتغيرات هائلة، ما يقتضي التشاور على كل المستويات، لا سيما أن حماس والمقاومة الفلسطينية هما طرف أساسي في الحرب. وفي المقابل، تُعد إسرائيل كواجهة وأداة.

لكن الصراع الحقيقي هو مع الولايات المتحدة التي تمد تل أبيب بالسلاح وتحميها في المحافل الدولية ومن العقوبات.

بالتالي، لا بد من وجود دولة بحجم روسيا، تقف إلى جوارك، كي لا تستفرد الولايات المتحدة، ليس فقط بمنطقة الشرق الأوسط بل وبالساحة الدولية.

إلى جانب ضرورة دوام المشاورات لتقييم الأوضاع. الدعوة وُجهت إلينا أيضا لسبب موضوعي يرتبط بحراك إسرائيل الدبلوماسي النشط في الآونة الأخيرة لصرف النظر عن مركزية التفاوض حول الورقة التي تم إقرارها في مجلس الأمن، وتحاول أن تشتت الانتباه وتفصل مسارات التفاوض.

وقد حضر وفد سياسي وعسكري إسرائيلي كبير إلى موسكو، وقدم عرضا بوقف إطلاق نار مؤقت وإطلاق سراح الأسرى الروس لدى حماس، والذين يحملون جنسية مزدوجة. بالتالي كان لا بد من سؤال الجانب الروسي حول هذا الموضوع، وهذا أحد الأسباب التي استدعت الحوار مع الأصدقاء الروس.

وقد أوضحنا لهم الموقف بجلاء، وهو أنه ليس هناك من مجال سوى تطبيق قرار مجلس الأمن الذي أُقر في المرحلة الأخيرة، ووقف إطلاق دائم للنار ووقف العدوان، وإغاثة الشعب الفلسطيني والبدء بإعاة الإعمار وكسر الحصار، وهو ما يمكن أن يفضي لصفقة تبادل للأسرى من كلا الجانبين.

ما طبيعة وحدود الدور الذي تأملون أن تلعبه روسيا في ملف حرب غزة وبالمنطقة والجبهات المفتوحة مع إسرائيل؟

الدور السياسي لروسيا محل تقدير عندنا، وموقفها تجاه الشعب الفلسطيني واضح وجلي منذ سنوات طويلة وهم يؤيدون حقه في إقامة دولته وتقرير مصيره، والآن يقدمون مساعدات مدنية.

أما على المستوى العسكري، فالمقاومة تصنّع سلاحها وتقاوم العدو بنفسها. أما إذا توسعت المعركة، ستكون روسيا حاضرة بقوة لأنه سيكون لها حلفاء في المنطقة. فلموسكو وجود في سوريا وتربطها علاقات متميزة مع إيران، وبالتالي ستكون لروسيا أدوار أخرى غير التي تقوم بها في الوقت الحاضر، وحينها سيكون لكل حادث حديث.

أين وصل ملف المفاوضات بخصوص التهدئة أو الوقف النهائي لإطلاق النار؟ وما الذي يجبر نتنياهو على قبول شروط المقاومة الفلسطينية؟

هناك 3 عوامل ستجبر نتنياهو على وقف عدوانه وخروجه من الحلبة السياسية:

العامل الأول: هو صمود الشعب الفلسطيني وصمود المقاومة وفعاليتها في مواجهة الجيش الاسرائيلي وقدرتها على إفشال كل مخططات الاحتلال وأهدافه. العامل الثاني: يتمثل في أن الولايات المتحدة الآن في أضعف حالاتها بوقت الانتخابات، ولذلك قد تكون مترددة في إجبار نتنياهو على وقف العدوان. العامل الثالث: يرتبط بالوضع الداخلي والانقسام السياسي الحاد داخل إسرائيل سواء بين الجمهور ونتنياهو، وبين الجيش ونتنياهو، مما دفعه إلى إلغاء مجلس الحرب، فضلا عن عدم استقرار الأوضاع في تل أبيب في نواح كثيرة، وهو ما سيجبره في نهاية المطاف على وقف العدوان.

يجب أن نضيف أيضا العامل المتعلق بتحول إسرائيل إلى دولة منبوذة ومكروهة لا يحترمها أحد، تنتهك القوانين الدولية والإنسانية، صدر بحق قاداتها مذكرات اعتقال وملاحقة من محكمتي الجنايات الدولية والعدل الدولية، فضلا عن أن محاكم محلية كثيرة ترفع قضايا ضد إسرائيل.

ما تقييمكم لحقيقة الخلاف بين إدارة الرئيس الأميركي بايدن ونتنياهو، وهل من الوارد أن تعمل واشنطن على إسقاط حكومته أو تملك الأدوات اللازمة لفعل ذلك في ظل تماسك تحالفه؟

سياسة واشنطن الآن تكمن في عزل أمن إسرائيل عن مستقبل نتنياهو، وهي تعتبر أنه لا يعمل لصالح تل أبيب بل لأهداف سياسية. لكنها ملتزمة بأمن إسرائيل.

نتنياهو يحاول مواجهة هذه الضغوط، خاصة في فترة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، باللعب على حاجة الإدارة الأميركية إلى الأموال اليهودية، إضافة إلى أنه يملك أغلبية مريحة في الكنيست مممثلة بالتيار الصهيوني المتدين.

كما أن ما يضعف من تأثير الإدارة الأميركية على تل أبيب هو موقف الكونغرس المنحاز بشكل كبير جدا لإسرائيل.

ما المكاسب الحقيقية التي ستجنيها القضية الفلسطينية جراء "طوفان الأقصى"، بعيدا عن أهمية خسارة إسرائيل سياسيا وأخلاقيا على مستوى العالم؟

بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كسبت القضية الفلسطينية تأييدا واسعا جدا، لا سيما فيما يخص حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وإنشاء دولتهم المستقلة.

إلى حد الآن، اعترفت 144 دولة تقريبا بهذا الحق، فضلا عن التأييد الشعبي الهائل في أوروبا، بما في ذلك اليهود غير الصهاينة، وكذلك انضمام دول جديدة إلى الدعوات ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. هذا نتيجة صمود الشعب الفلسطيني الأسطوري في قطاع غزة الذي يُعبر عن صلابته وتمسكه بحقوقه ورفضه التهجير.

كما أن مكانة إسرائيل لم تعد كما كانت، إذ أصبحت غير قادرة على حماية أنظمة في المنطقة، بل لا تستطيع أن تدافع عن نفسها إلى جانب دول أخرى تقيم معها تحالفات عسكرية وأمنية.

لكن المشكلة الأساسية ليست في المقاومة ولا في الموقف العربي أو الدولي، بل في أنه لدينا سلطة فلسطينية عاجزة وفاسدة، وقد جاءت كل هذه المكتسبات وهي خامدة، لا تقوم بأي حراك سواء على مستوى وحدة الشعب الفلسطيني، أو جني المكاسب الهائلة للقضية الفلسطينية، ولا على مستوى الإنجاز الذي حققته المقاومة.

لن يكون من الممكن استثمار هذه المكاسب إلا بتغيير هذه السلطة وإزاحتها من طريق الشعب الفلسطيني، فهي لم تعد صالحة لتمثيل الشعب والتعبير عن آماله.

هل أدت ظروف المعارك الحالية بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل لتراجع الاهتمام بملف المصالحة الوطنية، لا سيما أن لروسيا دورا واضحا في الوساطة ورعاية حوار الفصائل؟

موقف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وموقف حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) لم يعد مقررا مستقبلهم الشخصي ولا مستقبل السلطة ولا مستقبل الوضع الفلسطيني. للأسف الشديد، موقفهم مرهون بدول في المنطقة وبالولايات المتحدة وإسرائيل، وبالتالي هو موقف غير مستقل ولا يخدم الشعب الفلسطيني.

لذلك، كل محاولات المصالحة أفشلها أبو مازن بطريقة أو بأخرى، عندما كنا في موسكو واجتمعنا 14 فصيلا فلسطينيا واتفقنا وأصدرنا بيانا، وذلك في أول اجتماع بعد اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وكان من المفترض أن يكون الاجتماع التالي أيضا في موسكو بين حركتي فتح وحماس، لتحديد معالم المرحلة المقبلة حول الحكومة الفلسطينية ومنظمة التحرير والدولة الفلسطينية والمشروع الوطني الذي نسعى إليه، لنخرج إلى الفصائل باتفاق نجمع عليه.

وإذا بـ"أبو مازن"، وبعد يومين فقط، يصدر قرارا دون تشاور ودون مرجعية، سوى أنه استشار دولة في المنطقة إضافة إلى الولايات المتحدة، وعيّن محمد مصطفى رئيسا للوزراء، مفشلا بذلك جهود روسيا بهذا الصدد.

المجهود الآخر الذي بُذل كان من جانب الصين، التي دعت حماس وفتح إلى بكين في أبريل/نيسان الماضي، وكان اللقاء ناجحا. واتفقنا خلاله على جدول أعمال لقاء موسع للفصائل الفلسطينية تضمن 8 نقاط إيجابية تحظى بإجماع فلسطيني، كالبند المتعلق بأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ودخول كل الفصائل الفلسطينية إليها، وكذلك حكومة بتوافق وطني جامع.

إضافة إلى موضوع دولة فلسطينية مستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من يونيو/حزيران، والحفاظ على الضفة الغربية ومقاومة الاستيطان ومنع محاولات تهويد القدس وملف الأسرى. واتفقنا على مواصلة بحث تفصيلات هذه النقاط في اللقاء المقبل والذي حُدد يوم 23 يونيو/حزيران الجاري.

وإذا بالرئيس عباس، وقبل الاجتماع بيوم واحد، يقوم باستدعاء السفير الصيني ويبلغه بتأجيل اللقاء إلى أجل غير مسمى، ومن السفير الصيني، علمنا بالقرار، وهو ما كان محل استغرابنا. إنهم لا يريدون أن تكون الوحدة الفلسطينية جماعية ولا للفصائل أن تجتمع، وبالتالي أرادوا إفشال الصين في مسعاها.

هنا رفضت حماس مقترح فتح بعقد اجتماع جديد وأصرت على مخرجات اجتماع أبريل/نيسان بمشاركة كامل الفصائل في بكين، وعلى جدول الأعمال الذي تم الاتفاق عليه.

فتح أنكرت وجود اجتماع واتفاق، وهذا كان كذبا صريحا، لأن الصينيين شاهدون على هذا الأمر، وسلمت الورقة إلى نائب وزير الخارجية الصيني الذي امتدح اللقاء، قبل أن تخرج الخارجية الصينية ببيان يتكلم عن نجاح المفاوضات واستمرار مساعيها على هذا الخط.

بالتالي حركة فتح أفشلت الاتفاق، وذلك لسببين:

الأول: هو رفض إسرائيل والولايات المتحدة أن تكون حماس موجودة في المشهد الفلسطيني في اليوم التالي للحرب، من خلال حكومة كفاءات فلسطينية ووحدة في إطار منظمة التحرير. الثاني: واشنطن لا تريد للصين أن تلعب أي دور في المنطقة ولا في الملف الفلسطيني.

والسلطة لا تستطيع مواجهة الحقائق كما هي، لذلك يكذبون ويزيفون ويتهمون ويعتقلون وينسقون. وكل ذلك لن يجدي نفعا. وبدلا من أن تتصدى السلطة لهجمات إسرائيل عليها ولتقويض صلاحياتها والانتقاص من مسؤولياتها، تهاجم حماس والمقاومة الفلسطينية وترفض الوحدة الفلسطينية.

لا يتوقف الجيش الإسرائيلي عن اقتحام مناطق عدة في الضفة، في تقديركم ما الذي يحول دون انفجار الوضع فيها وحدوث مواجهة شعبية واسعة أو انتفاضة ثالثة؟

السبب الأول هو السلطة والثاني إسرائيل، فالسلطة عطّلت الجامعات ومدارس كثيرة حتى لا تكون منطلقا لأي حراك أو لانتفاضة جديدة في الضفة الغربية. كما تلاحق السلطة المقاومين، وكل من يدعو إلى أي انتفاضة أو تجمع أو إضراب وتحاسب حتى على منشور أو تغريدة على مواقع التواصل.

الأجهزة الأمنية التابعة لها تعمل ليلا نهارا لخدمة العدو الصهيوني تحت باب التصدي للفوضى والتهدئة والحل التفاوضي. هذه هي الأسباب الأساسية لعدم وجود انتفاضة أو مقاومة بحجم أكبر رغم ممارسات الاحتلال من مصادرة أراض الفلسطينيين وترحيلهم.

إضافة إلى ذلك، هناك الدور الذي تلعبه الاعتقالات الإسرائيلية؛ فكما هو معروف، هناك أكثر من 9 آلاف معتقل فلسطيني من أبناء الضفة في سجون الاحتلال، وهذا العدد الكبير يحول إلى حد ما من تفعيل هذا الجانب. ومع ذلك، أتوقع أن تشهد الضفة أحداثا في المستقبل القريب، تختلف عن تلك التي نشاهدها في الوقت الحاضر.

هل ترون أن حربا مفتوحة باتت وشيكة خاصة بعد ارتفاع وتيرة هجمات "جبهات الإسناد" المؤيدة للمقاومة، وكيف يمكن أن ينعكس ذلك على غزة والقضية الفلسطينية؟

توسيع إطار الحرب هو مصلحة لبنيامين نتنياهو، لأن ذلك يجلب الولايات المتحدة إلى المنطقة. كما أن له مصلحة في استمرار الحرب لأنه لا يريد أن يخرج من الحكومة أو أن تنتهي فترة حكمه بهزيمة.

بخصوص جبهات الإسناد، نحن والشعب الفلسطيني ممتنون جدا لهذه الجبهات التي ربطت مقاومتها وأفعالها بوقف العدوان على غزة.

في حال توسعت الحرب، فبالتأكيد لا تستطيع إسرائيل أن تحارب على جبهتين، وإذا تشتت جيشها على أي جبهة من الجبهات، سيكون لذلك أثر واضح على غزة.

يجب أن نتذكر أن إسرائيل شنت حربا على غزة بعد أسر حماس الجندي جلعاد شاليط، ولم تتوقف هذه الحرب إلا عندما قام حزب الله بخطف 3 جنود إسرائيليين في شمال فلسطين، وإذا بالحرب على غزة تتوقف وتتحول إلى لبنان. بالتالي إسرائيل لا تستطيع الدخول في حروب على جبهتين في الظروف الحالية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات المقاومة الفلسطینیة الولایات المتحدة الشعب الفلسطینی فی المنطقة أبو مرزوق إضافة إلى لا تستطیع تل أبیب على غزة

إقرأ أيضاً:

حرب غزة.. لحظة فاصلة تعيد تشكيل مستقبل السلطة الفلسطينية

تمثّل الحرب الحالية على قطاع غزة المتغير الأكبر في تاريخ النضال الفلسطيني منذ النكسة في سنة 1967، التي خسر الفلسطينيون فيها ما تبقى من أرضهم. انتهت حرب النكسة بتبعات سياسية مباشرة، حيث مثّلت الاعتراف العملي بالعجز الرسمي العربي، وهو ما منح البندقية الفلسطينية شرعيةً نضاليةً كانت مفصلًا هامًا في تاريخها.

لحظة فارقة

تتمثل محطة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما تبعها من حرب شاملة ضد البشر والحجر والعمران الفلسطيني في غزة، كلحظة فارقة جديدة، لكنها، بخلاف النكسة، جاءت لتكشف عن العجز الرسمي الفلسطيني بشكل خاص. ولو كان ممكنًا تفسيرُ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول بأنه انبعاث جمعي للرغبة الكامنة لدى الشعب الفلسطيني لتمزيق الوضع الراهن الذي كرّس الإذلال، وفتح بوابات التطبيع في هامش العجز العربي على حساب مركزية المسألة الفلسطينية، فإن واقع الفلسطينيين الرسمي المتمثل بالسلطة الحاكمة في الضفة الغربية هو جزءٌ لا يتجزأ من ذلك الواقع الراهن المأساوي، والذي يتطلع الفلسطينيون إلى تغييره.

يبدو سؤال السلطة والإدارة ملحًّا حاليًا في قطاع غزة ما بعد الحرب. إلا أن مثل هذا السؤال كان قائمًا في الضفة الغربية قبل الحرب، لكن بزخم ناعم وغير صاخب. طوال السنوات التي تلت الجولة الفاشلة الأخيرة للمفاوضات الشكلية التي رعاها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، آنذاك في 2013-2014، فإن التجاهل العام للكيانية السياسية في الضفة الغربية بدأ يتمثل. خلال تلك الفترة كانت سلطة حماس في غزة رغم الحصار والمقاطعة الدولية والإقليمية تعيد فرض نفسها من خلال حضورها بعد الحروب المتتالية على قطاع غزة، وفي تشكلات سياسية مختلفة داخلية وإقليمية. وبين واقع حصار سلطة غزة، وتهميش سلطة الضفة، نشأت قناعات إقليمية مدعومة أميركيًا بإمكانية تجاوز العنوان الفلسطيني برمته وفتح مسارات تطبيع عربية إسرائيلية مستقلة.

كان مسار التطبيع اعترافًا عربيًا بتراجع العنوان الفلسطيني الرسمي المتمثل بالسلطة الفلسطينية، التي تأسست أصلًا كمشروع تطبيع فلسطيني – إسرائيلي، تحوّل مع الوقت إلى مسار إخضاع وتشغيل أداتي لصالح توفير أرخص احتلال في تاريخ المنطقة. وتحكي اتفاقيات التطبيع العربي الأخيرة جوانب عديدة من أشكال العجز، لكنها تبرز كانعكاس جلي للعجز الرسمي الفلسطيني تحديدًا. فتجاهل التطبيع العربي للقضية الفلسطينية وضع السلطة في تناقض مركب. تناقض مع اتجاه النظام الرسمي العربي الذي قررت السلطة أنها جزءٌ منه منذ اتفاق أوسلو. وفي تناقض مع الطرف الإسرائيلي الذي لم يمنحها حدًا أدنى من الحقوق مقابل تطبيعها هي أولًا معه. وهو تناقضٌ ناتج أساسًا من جوهر السلطة التي يرعاها احتلالها.

إسرائيليًا، ومع انتهاء اليسار وصعود اليمين للهيمنة على المجتمع والدولة، ترسخت القناعات بكون السلطة مشروعًا وظيفيًا في أفضل حالاته، وفي أسوئِها كيانًا يقترب من انتهاء شروط وجوده. إذ لم يعد مشروع الإدارة الذاتية ينسجم مع الفكرة الاستيطانية لليمين الإسرائيلي المتمثل بضرورة الحكم المباشر لتنفيذ عمليات الاقتلاع والضم للضفة الغربية، وهذا جوهر البيان السياسي والأيديولوجي لمختلف تيارات اليمين الإسرائيلي التي تحتكر تنافسية الحكم في "إسرائيل". بمعنى آخر لا مكان للسلطة في ظلّ إجماع إسرائيلي على رفض قيام دولة فلسطينية.

سلطة متجددة

ومن هنا يمكن تفسير الموقف المتشدد لنتنياهو في رفضه أي دور للسلطة الفلسطينية في إدارة قطاع غزة مستقبلًا، رغم المستوى التنسيقي الرفيع الذي أبدته السلطة مع الاحتلال في الجانب الأمني في الضفة، والذي وفّر على قوات الأمن والجيش الإسرائيلي تكاليف باهظة جدًا ماديًا وبشريًا. فالمؤسسة الإسرائيلية التي تحاول اجتراح إجابات اليوم التالي في غزة، تنحصر إجاباتها في مشاريع اليمين لمرحلة ما بعد السلطة الفلسطينية.

قد يختلف الأمر من حيث الشكل أميركيًا. إذ تطالب واشنطن بدور للسلطة الفلسطينية في غزة، وتقترحها كحل لإدارة ما بعد الحرب في ظل مشروع إعادة توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة. لكنها في الوقت ذاته تتحدث عن "سلطة متجددة"، أي سلطة بديناميات تختلف عمّا هو واقعٌ اليوم في الضفة الغربية. وبمعنى آخر، فإن الولايات المتحدة الأميركية أيضًا تفكر في مرحلة ما بعد السلطة الحالية.

لا يختلف الأمر كثيرًا لدى الأفكار الأوروبية والبريطانية، إذ تتجلى قناعةٌ كبيرةٌ بأن الشكل الحالي للسلطة في الضفة الغربية هو جزء من المشكلة. فمن جانب لم تستطع هذه السلطة الاستمرار بمسار ديمقراطي من خلال تعزيز دورية الانتخابات. وهي ردة ديمقراطية دعمتها هذه الدول بطبيعة الحال في البداية عندما أفرزت الديمقراطية تيارًا غير مرغوب به في انتخابات 2006.

إلا أن تجربة الانتخابات منذ ذلك الوقت توقفت نهائيًا، حتى مع تكيّف المواقف الدولية لفكرة وجود حماس كشريك بشكل ما في السلطة. وهو ما عكسه دعم الاتحاد الأوروبي لانتخابات 2021 قبل أن يلغيها أبو مازن بأسبابه الخاصة، في ظل انقسام فتحاوي عميق هدّد احتكار عباس للقرار داخل فتح والمنظمة. ويمكن لأي مسؤول أوروبي أن يتخيل الواقع فيما لو حصلت الانتخابات في 2021، فهل كانت الظروف المحلية فلسطينيًا بالجمود الذي سمح بتفجير السابع من أكتوبر/تشرين الأول والحرب الحالية؟

كل هذا كان مترافقًا، وتعبيرًا في جانب منه، عن ارتفاع مستويات الفساد السياسي داخل السلطة التي تُحقن بمئات الملايين من الدولارات سنويًا من أموال دافعي الضرائب الأوروبيين والأميركيين لكي تستمر. وقد تردد في الآونة الأخيرة في نقاشات غربية، رسمية وشبه رسمية، عن ضرورة التفكير في السلطة ما بعد أبو مازن، وطُرحت أفكارٌ من قبيل استقالة الرجل وتركه المجال لجيل جديد من القيادة. وليس بالضرورة أن الجيل الجديد سيكون أفضل حالًا وطنيًا. ولكن المطلوب شكل جديد من الإدارة والسلطات. وبالرغم من عدم توفر إجابات مكتملة حول طبيعة هذه الإدارات حتى اللحظة، فإنه تفكير فيما بعد السلطة الحالية.

تجاوز السلطة لم يقتصر على بعده الإسرائيلي والعربي والدولي، بل فلسطينيًا أيضًا. هناك قناعات متجذّرة في عدم جدوى النمط القائم اليوم، وانعزاله وطنيًا عن الهموم العامة للفلسطينيين، سواء في جانبها التحرري والوطني، أو في جوانبها المحلية والحياتية اليومية. لقد فشلت البنية السياسية الرسمية في توحيد الضفة وغزة، رغم مرور 17 عامًا على الانقسام. ولم تنجح في تقديم نموذج أفضل للحياة في الضفة الغربية في ظل اتساع الاستيطان واعتداء المستوطنين وانتهاكات الاحتلال اليومية بحق الفلسطينيين.

غياب الحراك السياسي

وتبدو تجليات حالة ما بعد السلطة فلسطينيًا في مظهرين بارزين. الأول هو الحرب الحالية التي تطحن جزءًا من الشعب الفلسطيني بما لم يسبق له مثيل في تاريخ القضية. فقد شهدت الحرب انخراطًا دبلوماسيًا وسياسيًا عالميًا وإقليميًا، وغاب الحراك السياسي الرسمي الفلسطيني، لدرجة أن أحدًا قد يعجز عن ذكر اسم وزير الخارجية الفلسطيني الحالي. كما أن الحرب الحالية شهدت أبرز حالات الافتراق بين حماس والسلطة التي يقودها أبو مازن.

فمنذ بداية الحرب لم يحصل أي اتصال من نوعه بين الطرفين. وهو انقطاعٌ ناتجٌ أساسًا من قناعة لدى حماس في كون هذا الاتصال غير ذي فائدة، خاصة بعد تجارب سابقة في جولات العدوان على غزة، وأن السلطة الحالية منتهية الصلاحية، ولا جدوى من التعاون معها في ظل عزلتها الشعبية والإقليمية والدولية. أي أن حماس نفسها ومعها حركات المقاومة في غزة تخوض هذه الحرب على أرضية ما بعد السلطة.

في المظهر الآخر، المبادرات الشعبية والنخبوية التي انطلقت، ولا تزال تنطلق، من أجل تشكيل وطني يعيد دفع عجلة المشروع الوطني الفلسطيني. ففي عام 2017 انطلق المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، وتلته مبادرات مشابهة في الداخل والخارج، كان عنوانها الأساس تأطير الشعب الفلسطيني المعزول عن سلطته وقيادته. وفي ظل الحرب الحالية انطلقت مبادرة المشروع الوطني الفلسطيني في ضوء النقاش العام الذي ولّدته الحرب وما رافقها من عجز قيادي فلسطيني عن تأطير التضحيات والبطولات.

إن صعود المبادرات الوطنية غير الرسمية منذ ما بعد أسلو عكس موقفًا ومعارضة سياسية في المراحل التالية للاتفاق. إلا أن مثل هذه المبادرات الآن، وتَكثُّفها في الوعي الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة تعكس فكرة متقدمة عن مجرد الموقف والمعارضة السياسية. إنها تمثل اكتمال القناعة الشعبية الفلسطينية في مرحلة ما بعد السلطة، والمدفوعة بفكرة عدم الجدوى من الوضع والشكل الراهن.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • حرب غزة.. لحظة فاصلة تعيد تشكيل مستقبل السلطة الفلسطينية
  • خطط ما بعد الحرب تقترح عيش الفلسطينيين داخل جزر وفقاعات في قطاع غزة
  • التقسيم والفقاعات.. تعرف على سيناريوهات إسرائيل لإدارة غزة بعد الحرب
  • الحراك الطلابي الأميركي وتداعياته على القضية الفلسطينية
  • السفير الفلسطيني بالقاهرة: انطلاق حرب عالمية من غزة ليس في مصلحتنا
  • السفير الفلسطيني: الرئيس السيسي أحبط مخطط إسرائيل لإفراغ غزة من أهلها
  • أبو مرزوق : هناك 3 عوامل ستجبر نتنياهو على وقف حرب غزة
  • حماس والسلطة تنددان بقرار توسيع الاستيطان بالضفة والأردن يدين
  • حماس: نطالب الأمم المتحدة بوقف توسيع استيطان الاحتلال في الضفة