في زيارة هي الأولى من نوعها منذ نحو 24 عامًا، حطّت طائرة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عاصمة كوريا الشمالية، بيونغ يانغ. خلال أكثر من عقدين من الزمن، لم يكن من الممكن أن يحتفظ النهر بنفس مياهه كما يقال. بوتين الذي قابل زعيم كوريا الشمالية الراحل، كيم جونغ إل، ليس هو نفس الشخص الذي التقى ابنه، كيم جونغ أون مؤخرًا.

في عام 2000م، كان بوتين قد تسلّم للتوّ بقايا الإمبراطورية السوفياتية المهدمة، وزادت سنوات حكم الرئيس السابق، بوريس يلتسين (1991م- 1999م)، البلاد رهقًا وتراجعًا.

وقد وصل الأمر ببوتين حينها إلى التفكير جديًا في الانضمام إلى حلف الناتو، ولم يجد غضاضة في مفاتحة الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون في ذلك. لكن بعد سنوات من التحديث وإعادة البناء، تغيرت الأوضاع بل وتعقدت. روسيا تشن حربًا شرسة في أوكرانيا، حيث يقدم الحلف الدعم والمساعدة، والحرب توشك أن تتحول إلى صدام مباشر بين روسيا والغرب، مما قد يقود إلى حرب عالمية ثالثة، تُدخل البشرية جمعاء في مصير مجهول.

على خطى حلف الناتو

تكمن أهمية زيارة بوتين إلى بيونغ يانغ في المضامين الموضوعية أكثر منها من حيث الشكل. رغم حرص الرئيسين على بثّ مجموعة من الصور المصنوعة بعناية للرأي العام، كي تعكس حميمية العلاقة التي تجمعهما، كما فعل قادة مجموعة دول السبع في اجتماعهم الأخير في إيطاليا. المضمون كان هو الأهم هنا، فقد شهدت الزيارة توقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين الدولتين، التي قد تدشن لحلف دفاعي جديد على غرار حلفَي الناتو ووارسو.

المادة الرابعة من الاتفاقية تتحدث عن الدعم العسكري المتبادل في حال تعرض أحد الطرفين لهجوم من دولة أو عدة دول أخرى. هذه المادة تتشابه مع المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو، التي تنص على أن أي هجوم مسلح ضد إحدى الدول الأعضاء يعتبر هجومًا ضد جميع الأعضاء، مما يتوجب مساعدة المعتدى عليه حتى لو تطلب الأمر استخدام القوة المسلحة. تم تفعيل هذه المادة بعد يوم واحد من هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001م التي استهدفت برجَي التجارة في نيويورك.

من هنا فإن هذه الشراكة الإستراتيجية قد تشكل نواة لحلف أوسع يضم الصين، وإيران في المرحلة الأولى. ما سيميز هذا التحالف – حال وجوده – أنه سيكون عابرًا للأيديولوجيا، خلافًا لحلف وارسو الذي كان تجمعًا للدول الشيوعية. الفكرة الأساسية هنا التي ستجمع مكوناته، هي التصدي للهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة.

الرسائل الروسية

عقب زيارته بيونغ يانغ، توجه بوتين إلى العاصمة الفيتنامية، هانوي؛ لتعزيز العمل المشترك وصولًا إلى شراكة إستراتيجية مماثلة. فما هي الرسائل التي أراد بوتين إيصالها للولايات المتحدة وحلفائها؟

أولًا: تأسيس عالم متعدد الأقطاب

نشأ بوتين في ظل الإمبراطورية السوفياتية، ورأى انهيارها بعينه، وعاصر التداعيات الكارثية التي مرت بها البلاد عقب ذلك الانهيار. تجرعت بلاده مرارة التحكم الأحادي للولايات المتحدة في العالم. إذ وقفت روسيا عاجزة أمام القصف الذي تعرضت له صربيا خلال حرب كوسوفو عام 1999م، وهي دولة سلافية حليفة لروسيا. كذلك فشلت روسيا في الحيلولة دون الغزو الأميركي للعراق عام 2003م رغم طبيعة العلاقات التي كانت تجمع الدولتين.

الملاحظة الجديرة بالتسجيل هنا، أن هاتين العمليتين تمتا خارج إطار الأمم المتحدة، مما شكل سابقة مهمة سيعتمد عليها بوتين لاحقًا في تبريره غزو أوكرانيا. كما أنهما خصمتا كثيرًا من كبرياء الدولة الروسية، وأحالتاها إلى دولة من الدرجة الثانية، وأثبتتا التفرد والهيمنة المطلقة للولايات المتحدة وحلفائها. من المفيد أن نذكر كيف وطّأت كتابات أكاديمية لفكرة نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية الغربية، ونجاحها في فرض هيمنتها ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا.. إلخ.

في مقدمة هؤلاء يأتي فرانسيس فوكوياما بأطروحته ذائعة الصّيت، "نهاية التاريخ والإنسان الأخير". تلك المرحلة "أحادية القطبية" يحاول بوتين اليوم تجاوزها وطرح بديل لها. أكد بوتين من هانوي على أهمية "التعاون في الأمم المتحدة والقمم الآسيوية وآسيان، إضافة إلى الاهتمام المشترك ببناء هيكل أمني جديد مبنيّ على مبدأ عدم استخدام القوة، والحل السلمي للأزمات، وعدم بناء تحالفات عسكرية في المنطقة".

كان بوتين يشير هنا إلى النشاط العسكري الأميركي المكثف في المحيط الهادئ، خاصة منطقتَي بحر اليابان، وبحر الصين الجنوبي، والتي تشمل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والفلبين. المعنى ذاته أشار إليه أيضًا الزعيم الكوري الشمالي، بتأكيده على أن معاهدة الشراكة الإستراتيجية "ستصبح قوة دافعة لتسريع إنشاء عالم جديد متعدد الأقطاب".

ثانيًا: مزاحمة الوجود الأميركي في شرق آسيا

يحتفظ الجيش الأميركي بأكثر من 70 قاعدة عسكرية في كوريا الجنوبية، وحوالي 120 قاعدة في اليابان. كما استخدمت الولايات المتحدة، أوكرانيا للعبث بالأمن القوميّ الروسيّ، يبدو أنّ موسكو قرّرت أن تنتهج الإستراتيجية نفسها معها. أرسلت روسيا مؤخرًا 4 سفن حربية، بينها غواصة تعمل بالطاقة النووية إلى كوبا على مقربة من السواحل الجنوبية للولايات المتحدة.

من فيتنام، قال بوتين للصحفيين: "نحتفظ بحق إرسال أسلحة إلى مناطق أخرى في العالم، مع أخذ اتفاقاتنا مع كوريا الشمالية في الاعتبار. ولا أستبعد هذا الاحتمال". إن هذه الخطوة الروسية حال تحققها قد تؤدي إلى خلخلة الموازين الأمنية والدفاعية في شبه الجزيرة الكورية. لذا لم يكن مستغربًا أن تعبر واشنطن عن قلقها، فيما أعلنت سول مراجعة سياستها بشأن توريد أسلحة إلى أوكرانيا، فيما ستعمل إستراتيجية روسيا على فك العزلة عن كوريا الشمالية، وتخطي العقوبات الدولية بحقها.

ثالثًا: الاستعدادات لتطورات الحرب الأوكرانية

يريد بوتين أن يؤكد للولايات المتحدة وحلفائها أنه ليس بمفرده، خاصة بعد الحشد الأميركي للحلفاء في الناتو ومجموعة دول السبع. الاجتماع الأخير لوزراء دفاع الحلف في بروكسل أكد على "عدد من التدابير التي سيتم تطبيقها بشكل فردي وجماعي". أمين عام الحلف، ينس ستولتنبرغ، دافع عقب الاجتماع غير الرسمي لوزراء خارجية الناتو، في مايو/أيار الماضي، عن استخدام أسلحة غربية لضرب أهداف داخل روسيا. فيما تحدث وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، عن "الرد الفردي والجماعي على روسيا إذا لزم الأمر".

من هنا تحتاج موسكو إلى زيادة فاعلية تحالفاتها العسكرية، تحسبًا لأي تطورات مرتقبة في الساحة الأوكرانية. الجيش الكوري الشمالي يربو عدد جنوده على المليون جندي، كما أن بيونغ يانغ يمكنها مد الجيش الروسي بالقذائف الصاروخية وغيرها من العتاد العسكري، إما بشكل مباشر، أو بالتحول إلى قناة بديلة لتمرير المساعدات العسكرية الصينية دون تعرض بكين لأي لوم دولي.

الخلاصة

روسيا تدرك اليوم أن فرص اشتعال حرب عالمية ثالثة تزداد يومًا بعد الآخر، مما يلزم إعادة رسم خريطة تحالفاتها الخارجية، خاصة في نقاط التماس مع القوات الأميركية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات للولایات المتحدة کوریا الشمالیة بیونغ یانغ

إقرأ أيضاً:

بوتين: على روسيا أن تنتج صواريخ متوسطة المدى بقدرات نووية

اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجمعة، أن على بلاده أن تبدأ بإنتاج صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى سبق أن تم حظرها بموجب معاهدة مع الولايات المتحدة للحد من انتشار الأسلحة.

وقال بوتين خلال اجتماع مع مسؤولين أمنيين كبار "يبدو أننا نحتاج إلى البدء بإنتاج هذه المنظومات مجددا"، في إشارة إلى صواريخ يراوح مداها بين 500 و5500 كلم كانت محظورة بموجب معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى (INF) التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة.

وانسحبت واشنطن من المعاهدة في العام 2019 متهمة روسيا بعدم الامتثال لها. وقال الكرملين حينها إنه سيلتزم وقف الإنتاج إذا لم تنشر الولايات المتحدة صواريخ على مسافة قريبة من روسيا.

وفي خطاب متلفز أمام كبار المسؤولين الأمنيين الجمعة، أكد بوتين أن الولايات المتحدة بدأت باستخدام مثل هذه الصواريخ في تدريبات في الدنمارك.

 وقال الرئيس الروسي "نحن بحاجة إلى الرد على ذلك واتخاذ قرارات بشأن ما يجب أن نفعله بعد ذلك في هذا المجال. يبدو أننا بحاجة إلى البدء بإنتاج أنظمة الضربات هذه".

وأضاف "بعدها، استنادا إلى واقع الوضع الفعلي، نتخذ قرارات بشأن مكان نشرها من أجل أمننا".

وانتهت مفاعيل اتفاقات عديدة بشأن الأسلحة أبرمت خلال حقبة الحرب الباردة بين البلدين أو تم إلغاؤها في السنوات الأخيرة، وكانت تهدف إلى الحد من سباق التسلح النووي وتهدئة التوترات في ذروة التنافس بين القوتين.

وعلقت روسيا العام الماضي مشاركتها في معاهدة ستارت الجديدة، وكانت آخر معاهدة متبقية للحد من الأسلحة النووية بين الجانبين.

وزودت الولايات المتحدة أوكرانيا بصواريخ قصيرة المدى لدعمها في الحرب ضد روسيا.

ورفعت واشنطن جزئيا الشهر الماضي الحظر المفروض على استخدام أوكرانيا لهذه الأسلحة ضد أهداف على الأراضي الروسية، ما أثار تحذيرات من تصعيد خطير محتمل من جانب موسكو.

مقالات مشابهة

  • كوريا الشمالية تواصل تجاربها الصاروخية والجنوبية تترقب
  • زيلينسكي يطلب إذن واشنطن لقصف المطارات العسكرية في العمق الروسي
  • "كجزء من استراتيجية الناتو ضد روسيا".. إسبانيا تنشر قوات في سلوفاكيا
  • ستولتنبرغ يستبعد الحاجة إلى مراجعة عقيدة "الناتو" النووية
  • الجيش الكوري الجنوبي: كوريا الشمالية أطلقت صاروخين باليستيين قصيرا المدى
  • الجيش الكوري الجنوبي: كوريا الشمالية تطلق صاروخين باليستيين
  • عقب مناورات ثلاثية.. بيونغ يانغ تتهم واشنطن بتشكيل الناتو الآسيوي
  • بيونغ يانغ تحذر من عواقب وخيمة للمناورات الأميركية اليابانية الكورية الجنوبية
  • واشنطن وحلفاؤها يدينون كوريا الشمالية لتوفيرها أسلحة لروسيا
  • بوتين: على روسيا أن تنتج صواريخ متوسطة المدى بقدرات نووية