مواصلة مناقشة تحديات التحول الديمقراطي «3-4»
تاريخ النشر: 28th, June 2024 GMT
صديق الزيلعي
نواصل إعادة نشر المقالات كتبتها من 21 والي 24 يونيو 2020، وقد تفضل قوقل بتذكيري بها. النضال لإنهاء الحرب، لا ينفصل عن الحوار حول مستقبل ثورتنا ومستقبل قضية التحول الديمقراطي وإقامة دولة مدنية مستقرة.
تحديد أهداف المرحلة الانتقالية مهمة ضرورية، حتى تكون الرؤية واضحة أمام الجميع. أهدافنا الأساسية هي بناء نظام ديمقراطي تعددي، تفكيك دولة التمكين، حل المشاكل الاقتصادية وتحسين معاش الناس، سياسة خارجية متوازنة.
شاركت النساء بقوة وحماس وبسالة في الثورة. تعرضن للضرب بالسياط واستنشاق مسيل الدموع، واعتقلن ولم يتراجعن. وكن قوة أساسية في الاعتصام، وساهمن بفعالية في كل أنشطته. وعندما قامت قوى الشر والظلام بفض الاعتصام نلن نصيبهن من الضرب بالرصاص والسياط والاغتصاب، وقدمن شهيدات من أجل الوطن. والآن وقد حققنا انتصارنا الأولى، يجب علينا أن نحقق دين النساء السودانيات عاينا. أن أي تحول ديمقراطي لا يستجيب لحقوق النساء هو تحول ناقص وغير ديمقراطي. للنساء الحق في المشاركة في كافة أجهزة الدولة، وفي المساهمة الفاعلة في تحديد مستقبل بلدهن. كما يجب علينا تغيير كافة القوانين التي تسلبه حقوقهن أو تذلهن. فإن قوانين الأحوال الشخصية، والنظام العام، والخدمة المدنية والتمويل الأصغر وغيرها تحتاج إلى تطوير حتى تحترم حقوق النساء.
الجيل الذي راهنت عليه دولة الإسلامويين، وحاولت بمختلف الأساليب تشكيله وقولبته، هو الجيل، ويا للفخر، الذي هزمها. لقد نجح في تحقيق ما فشلت في تحقيقه أجيال سابقة. ونحن لا ننظر إلى المسألة كصراع بين الأجيال، ولكننا نعطي هذا الجيل حقه المشروع. وهذا الحق لا يتأتى إلا بمواجهة الصعاب التي واجهته في دراسته وحياته وعمله. علينا مواجهة قضية عطالة معظم هذا الجيل، وأن نفكر بجدية في توفير فرص العمل له. علينا، بعد أن تعرفنا على قدراته، أن نمنحه فرصة عادلة في قيادة البلاد، وفي تبوأ كل المناصب التي يستحقها بعلمه وتأهيله. ويقع على الدولة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني واجب أساسي في فتح المجال أمام هذا الجيل ليقود، وأن يساهم بفكره في تطوير هذه المؤسسات.
عانت بلادنا، خلال المراحل الديمقراطية الثلاث، من ظواهر التناحر والاختلاف والصراع. فالصراعات والمكايدات الحزبية استهلكت طاقات الأحزاب والدولة والشعب، ومهدت الطريق للانقلابات العسكرية. وعلينا التصدي لها هذه المرة، حتى لا تصبح أحد معاول هدم ديمقراطيتنا. ونعلم تماما أن الصراعات القبلية والعنصرية والجهوية كانت من عوامل الهدم وإشعال الكراهية. تواجه كافة منظماتنا تحدي تخطي تلك السلبيات، وأن تجعل من تعدديتنا وتنوعنا واختلافنا عوامل قوة وازدهار. وأعتقد أن على أحزابنا واجب أن تخلق روح جديدة في التعامل مع الآخر، روح جوهرها الحوار العقلاني والطرح الموضوعي والعمل الجماعي لتحقيق الأهداف العليا. وأن نعمل جميعا، داخل وخارج الأحزاب، لخلق وعي جماهيري ورأي عام قوي يراقب ويرفض كل التجاوزات، مهما كان مصدرها. وأن تعلم الأحزاب، كل الأحزاب، أن وعي الجماهير يراقبها ويلاحقها وسيحاسبها عندما يحين موعد الانتخابات العامة. وأن شعبنا سيتعلم، بالممارسة وتطور الوعي، أن يصوت للبرامج، وليس للولاءات التقليدية والعصبيات المدمرة.
كثر الحديث عن ضرورة وجود مشروع وطني سوداني، يجمع عليه الناس، ويحدد مستقبل مسار الوطن. ونعتقد أن من تحديات المرحلة الانتقالية أن تستجيب لهذا التحدي الذي فشلنا في إنجازه خلال الستين عاما الماضية. وأن تستند حكومة المرحلة الانتقالية للسند الجماهيري الضخم الذي يدعمها لطرح المشروع القومي. أن تفتتح الحوار الشامل والعقلاني والموضوعي حول ما نقصده بالمشروع الوطني، وما هي سمات ذلك المشروع وكيف نحقق التوحد حوله. وأن نحسم قضايا محورية حول شكل ومضمون الدولة السودانية، وأن نحدد مكامن الخطر والانقسام والتفرق التي عطلت وحدة شعبنا. وأن نخلق من تعدديتنا مظهراً للقوة والتقدم. والعمل بجد لتدعيم روح الانتماء للسودان ومحاربة العنصرية والقبلية والجهوية والاستعلاء الاجتماعي، وأن نعلن بلا تهيب أن هويتنا الأساسية هي السوداناوية، التي صهرت داخلها هوياتنا المختلفة أفريقية وعربية وإسلامية ومسيحية. وأن يسبق كل ذلك الجهد قيام المؤتمر الدستوري، ثم يتوج، وقبل نهاية المرحلة الانتقالية، بقيام المؤتمر الدستوري، كمؤتمر جامع لكل السودانيين.
الانشغال بكتابة دستور وتشكيل مجلس وزراء مدني وإجراء انتخابات عامة، تشكل ضرورات لإنجاز التحول الديمقراطي، وهو ما نسميه بالمنهج الفوقي. ولكن المنهج الفوقي، وحده، لن ينجز التحول الديمقراطي. استخدام المنهج الفوقي، لوحده، يشكل أحد تحديات قضية التحول الديمقراطي في بلادنا فقضية التحول الديمقراطي تحتاج لمنهج شامل يغير كافة أطر وبنيات المجتمع القاعدية. منهج يكتب الدستور الدائم، ثم يغير كل قوانين الحكم المركزي والمحلي والانتخابات والنقابات والمجتمع المدني والإعلام والتعليم والصحة والثقافة والرياضة، وكل ما يمس حياة شعبنا. منهج يقوم بحرث عميق للأرض التي تخشبت بفعل الدكتاتوريات المتعاقبة، ليزيل عنها كل الشوائب المتراكمة، ويجعلها صالحة لزراعة الجديد الديمقراطي والإنساني.
يتطلب وضع أساس متين للتحول الديمقراطي أن ينبني جهاز الدولة، من أعلى قممه وحتى أصغر وحداته على نظام مؤسسي صارم. مؤسسي بمعنى أن تتحدد فيه الهياكل الإدارية ومناهج العمل والمسؤوليات الفردية وأساليب التقييم بدقة. وذلك النظام ينطبق أولا على الحكومة “السلطة التنفيذية ” وهي التي تقود كل مؤسسات البلد. ومن المهم أن تكون عملية الوصول للسياسات؛ ومن ثم إصدار القرارات أن تتم بشكل منهجي به تسلسل منطقي، وأن يكون مبنيا على البحث والدراسة والتمحيص الدقيق. تقوم به هيئات استشارية تقدم بدائل محددة للرئيس أو للوزير. ويكفينا الدمار الذي أحدثه تسلط حكم الفرد خلال عهد نميري، ومرة أخرى خلال عهد البشير. حيث يقرر الرئيس لوحده، حول أخطر القضايا الوطنية، وغالبا في لحظة انفعال. يتم ذلك رغم وجود المستشارين الذين لا يملكون شجاعة إبداء رأي مخالف. ولكن في ظل الديمقراطية يحق للمستشار الذي يحس بخطورة قرار معين على مصالح البلاد أن يلجأ إلى الاستقالة المعلنة احتجاجا، أو يلتجئ للسلطة الرابعة ” الصحافة” للتحذير من المخاطر. وضع مثل النظام المحكم يساعد في إخراج بلادنا من أزماتها المزمنة، ويجعل المنهج العلمي يعلو ولا يُعلى عليه.
استهدف النظام البائد النقابات منذ يومه الأول، فحلها وصادر ممتلكاتها، واعتقل قادتها وعذبهم وقتلهم. كل ذلك الحقد الأسود والعداء المر للحركة النقابية؛ لأنه يعلم تماما طبيعتها الديمقراطية وارثها الوطني.ونرى، بلا تعطيل، ضرورة إصدار القوانين النقابية الجديدة التي تستبدل قوانين النظام البائد، وتفتح المجال لإعادة تكوينها بديمقراطية تامة نابعة من القواعد. فمنظمات العاملين النقابية هي الحارس الأمين على الثورة وعينها الساهرة في مواقع العمل، وقوتها الضاربة في لحظة المواجهات والأزمات.
كانت قضية الانتخابات وقانونها بؤرة للاختلاف والصراع في كل الأنظمة الديمقراطية التي مرت على بلادنا. فتقسيم الدوائر الانتخابية يستدعي إجراء إحصاء سكاني جديد وملتزم بالمعايير المعروفة. كما إن نصوص قانونه كانت وسوف تكون مصدرا للخلاف. لذلك الانتباه المبكر لإجراء الاستفتاء والتوافق على القانون خطوة مهمة لتحقيق التحول الديمقراطي والمضي بخطى ثابتة نحو ديمقراطية مستدامة.
يشكل الإعلام كعب أخيل المرحلة الانتقالية. فقد عمل نظام الإسلامويين، منذ أيامه الأولى، على إحكام قبضته على الإعلام، بشكل مطلق. وضيق الحصار على الصحافة والصحفيين، بقيود وقوانين مشددة. وأضاف لتلك الممنوعات والمحاذير ما أسماه بالرقابة القبلية. وكان يلجأ إلى حرق النسخ المطبوعة من الجريدة المقصودة إمعانا في الأذى والخسائر. ومما زاد وضاعف من ضغوط النظام الدور الذي لعبه رؤساء التحرير، وغالبيتهم العظمى من كوادر النظام، في الرقابة الداخلية. وعندما اشتدت الحملة الداخلية الضغوط العالمية على تكميم الصحافة، لجأ النظام لاستخدام أساليبه الماكرة، وقام بتمليك أو تسهيل امتلاك صحف تحت ادعاء أنها صحف مستقلة. وطبقت نفس السياسة على التلفزيون. وهذا هو الوضع الإعلامي الذي ورثته الثورة، ويشكل أحد تحديات التحول الديمقراطي. وقد عايشنا الحملة التي قامت وتقوم بها تلك الجرائد، وأولئك الصحفيون ضد خيار شعبنا وضد حكومته الانتقالية. ورغم سيطرة الصحافة المناوئة للثورة، ورغم الصوت العالي للصحفيين الذين تربوا في العهد البائد إلا أننا نتمسك بحرية الصحافة. وندعو لمراجعة كل القوانين التي تشكل قيودا على العمل الصحفي مثل القيد الصحفي وتسجيل الصحفيين وشروط إصدار الصحف. لأن حرية الصحافة من أسس النظام الديمقراطي، وإحدى أدوات رقابته على الجهاز التنفيذي. كما ندعو الدولة للتشريع لحق الصحفيين في الحصول على المعلومة، وإنهاء ممارسات النظام المباد في التستر وإخفاء المعلومات، وإذلال الصحفيين الذين يسعون وراء الحقيقة، ويمارسون عملهم كسلطة رابعة. وعلينا مواجهة إعلام الإسلامويين بإعلام الثورة، وليس بمصادرة الحريات الصحفية. وأرى أن الجهد يجب ألا يكون جهد الحكومة وحدها، بل جماعياً لكل قوى الثورة. ومن الثابت أن المعرفة قوة، وقوة مؤثرة. وانعدام المعرفة الحقيقية الصادقة يشكل خطرا على مستقبل التحول الديمقراطي، وسببا لاضطرابات وقلاقل سببها الجهل بالحقيقة.
توقعت جماهير شعبنا التحسن المباشر لحياتها فور تحقيق الاستقلال، ولم يحدث. وتكرر نفس التطلع بعد ثورة أكتوبر 1964، وبعد انتفاضة مارس، ولم يحدث 1985. والآن نواجه نفس الإحساس الجماهيري الطاغي بتغير حياتها فور سقوط نظام الإسلامويين. ولم يحدث ذلك مباشرة بعد سقوط رأس النظام وحتى الآن. الأمر الذي بدأ يحدث إحباطا وسط بعض القطاعات الشعبية. وبالخبث الذي نعرفه عن الإسلامويين صاروا يخلقون الأزمات التموينية والمعيشية والاقتصادية، بما لهم من سيطرة على قطاعات أساسية من اقتصاد بلادنا، ثم يأتون ببراءة الذئب، ويتحدثون عن معاناة الجماهير. قضية الآمال العظام للجماهير ثم تعرضها للإحباط بسرعة، قضية من الأهمية بمكان. والسعي الجاد لحلها بتمليك الحقائق وحل المشاكل المعيشية ضروري لاستقرار الثورة والإعداد لإنجاز التحول الديمقراطي.
وحدة قوى الثورة، التي تتكون من قوى الحرية والتغيير، والقوى الأخرى التي شاركت في الثورة من خارج قوى الحرية والتغيير أكبر ضمان لحماية التحول الديمقراطي. تواجه، قوى الثورة التي أسقطت رأس النظام السابق، مصاعب كثيرة وكبيرة في الفترة القادمة. لأن القوى التي فقدت السلطة والثروة لأن تستكين حتى تسترجع سلطتها، وتحكم قبضتها مرة أخرى. ومعرفتنا بأن أهداف قوى الثورة، في حدها الأدنى، واحدة ومعروفة وموثقة، يستدعي منا التمسك بوحدتها. الوحدة لا تلغي الفوارق بين التنظيمات، ولكنها تملك مناهج لتنظيم الاختلاف والوصول للهدف المشترك. أن الدعوات لقسم قوى الثورة تحت أي مسميات هي دعوات مصرة بمستقبل الثورة. هدفنا واضح هو إقامة نظام ديمقراطي تعددي برلماني.
يعاني المجتمع المدني السوداني من الضعف، وندرة الإمكانيات المادية والبشرية. ونتج ذلك عن ثلاثين عاما من القمع والتسلط والمحاربة. فقد كان حكم الإسلامويين يعرف أهمية منظمات المجتمع المدني لذلك عمل بقوة على السيطرة عليها أو تحطيمها. وأصبح مكتب العون الإنساني ومكتب المنظمات الثقافية بوزارة الثقافة بؤر أمنية، تمارس دورا منظما في منع ومصادرة ممتلكات المنظمات. وكانت تلك المكاتب تصر على شطب بعض أعضاء لجان المنظمات قبل تسجيلها. والمعروف عالميا دور منظمات المجتمع المدني في إنعاش الفضاء بين المجتمع والدولة. وأنه ضروري لحيوية وانتعاش الممارسة الديمقراطية. وضعف مجتمعنا المدني سيضعف من تحولنا الديمقراطي، ولكن الممارسة الصبورة ستعيده لمكانه الطبيعي عامل من عوامل الارتقاء والسداد لتجربتنا الديمقراطية الوليدة.
siddigelzailaee@gmail.com
الوسومد. صديق الزيلعيالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: د صديق الزيلعي قوى الحریة والتغییر المرحلة الانتقالیة التحول الدیمقراطی المجتمع المدنی قوى الثورة
إقرأ أيضاً: