صحيفة صدى:
2025-02-08@18:10:31 GMT

خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي

تاريخ النشر: 28th, June 2024 GMT

خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي

مكة المكرمة

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي، المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه، وتجنب مساخطه ومناهيه.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم في المسجد الحرام: من اتقى الله تعالى جعل له هُدى يتبصر به من العمى والجهالة لقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ كما أن من توفيق الله لعبده أن يجعله سالكاً سبيل الرشاد، مسدداً في قوله وعمله، داعياً إلى الخير ودالاً عليه، وهذا فضل كبير ومقام رفيع، وضِدُّ ذلك؛ أن يضِلَّ المرء عن سبيل النجاة والهداية ويَسْلُكَ مسالك الغواية، وشتان بين الحالين، لقوله سبحانه: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ وقوله تعالى: ﴿وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً﴾، وانظروا الفرق بين من ألهمه الله الرشد وهداه للحق، ومن ليس فِيه رُشْدٌ قط، فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام الذي أهَّلهُ الله لِخُلَّته وأخْلَصه لِاصْطِفائِه وهداه إلى سبيل الرشاد، وأخبر تعالى عنه بقوله: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا إبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْل﴾.

وذاك فرعون لعنه الله الذي ليس في شأنه وحاله هُدىً ولا رَشَد، وَإِنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ، وَكُفْرٌ وَعِنَادٌ، إذ قال الله عنه: ﴿وما أمر فرعون برشيد﴾ فنفى عنه الرشد، وذلك تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره، وعدلوا عن اتباع نبي الله مُوسى عليه السلام الهادِي إلى الحَقِّ إلى اتباع من ليس في اتباعه رشد، مضيفًا أنّ لإدراكِ الرَّشَدِ وتحصيلِه أسباباً، يأتي في مُقَدّمَتِها: الاستجابةُ لدعوة الإيمان والطاعة؛ لقوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ وقول صلى الله عليه وسلم: (من يطع الله ورسوله فقد رشد). واتّباعُ القرآن يهدي إلى الحق وسبيل الصواب، كما قال الله سبحانه عن مؤمني الجن: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾.
وأضاف : إن ممن يوفق لسبيل الخير وإصابة الطريق المستقيم مَنْ وَصَفَهم الله بقوله: ﴿والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾. حيث من سبل نيل الرشاد: طلب العلم النافع، كما قال الله تعالى على لسان موسى للخضر عليهما السلام: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾. كما أنّ من طرق اكتساب الرشد: سؤالُ الله سبحانه تلك المنزلةَ؛ فقد سألها الفتيةُ المؤمنة حين أووا إلى كهفهم؛ ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾، وأَمَر اللهُ تعالى نبيَّه عليه الصلاة والسلام بذلك السؤال إذ يقول: ﴿وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾، وامتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه؛ فكان يسأل ربه الرشد ويقول: (اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي!) وحين يكون العبد مستجيباً لربه، محباً للإيمان، مقبلاً على الطاعات، مبغضاً للمعاصي، فليحمد الله على تفضله عليه وإحسانه إليه، ويلزم الاستقامة، والتضرع إلى الله أن يثبته على الهدى، ويحب للناس ما يحبه لنفسه، بالسعي في نفع الخلق وهدايتهم بدلالتهم إلى الطريق السويِّ العدلِ الرضي.
واستطرد في الخطبة: جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْر) والمقصود بمعلم الناس الخير: هم العلماء والدعاة وكل من يرشد الناس إلى ما يقربهم من الله تعالى وما فيه نجاتهم في الآخرة، كما أن النافع من الدروس والخطب والوصايا والأمثال والرسائل والكتب والنصائح والمواعظ كلَّها تدخل في باب الإرشاد .
وأشار إلى أن مما يمتاز به المجتمع المسلم أن يشيع بين أفراده روابط متينة وأخلاقيات سامية كالتآخي والمحبة والتناصح والإرشاد، فشأن المسلم أن يحرص على هداية الخلق ولا يألوَ جهداً في دلالتهم على الخير وتوجيهِهم إلى طريق الصواب مستشعراً أن الإرشاد أداةُ إصلاح وهداية، وهو من النصيحة التي هي من حقوق الأخوة الإيمانية. كما ينبغي أن يكون باعثه للقيام بهذا العمل هو وجهَ الله وطلبَ مرضاته، وألا يضيق صدره إن لم يُستجَب لإرشاده ولم يُعمل بتوجيهاته فإن ذلك لا يضيره شيئاً ولا يُضيع أجره.
وقال: إن من أعظمَ منّة الكريم المنان؛ حين يحبِّبُ إلى عبده الإيمان، ويزيِّنُه في قلبه، ويبغِّض إليه الكفر والفسوق والعصيان! يقول الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ كما أن الذين فقدوا صفة هؤلاء المؤمنين وحادوا عن سبيل الراشدين قد ضلوا وما كانوا مهتدين، فمن لم يؤمن بالله حق الإيمان فليس براشد، ومن لم يستجب للحق ويُذعن لربه واتبع هواه فليس براشد، ومن كذب بآيات الله وأعرض عنها فليس براشد، ومن عادى الرسول وخالف منهجه من بعد ما اتضح له الحق فليس براشد، ومن استكبر في الأرض بغير الحق فليس براشد، ومن آثر الحياة الدنيا وزينتها وسعى لها وغفل عن الآخرة وترك العمل لها فليس براشد.
وفي المدينة المنورة, أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور أحمد بن على الحذيفي المسلين بتقوى الله، مبيناً ان التقوى خير زاد، وأوطأ مهاد، وأرفع عماد، فهي زينة لمن ارتدى أثوابها، وجُنَّة لمن تدرَّع بها، مستشهداً بقولة تعالي (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
وقال فضيلته، هنيئاً لحجاج بيت الله وقاصديه نعمةُ إتمام المناسك، وهنيئاً لولاة أمر هذه البلاد خدمةُ الحرمين ورعايةُ الحاج والناسك، فلله الحمد على سوابغ فضله وسوابقه، حمداً نعترف بالعجز عن الوفاء بحقه، ونُقِرّ بفضل مُسدِيه تعالى ومستحقِّه.
وأوضح إمام وخطيب المسجد النبوي أن مكة والمدينة مهبط الوحي ومشرق شمس الرسالة، فهي الديار المباركة والأرض المقدسة التي تهوي إليها أفئدة المسلمين وتتحرك نحوها قلوبهم، داعياً المسلمين إلى وجوب تعظيمها ومعرفة حرمتها، فقد اجتمع فيها شرف الزمان وشرف المكان وشرف المقصد.
وحذر فضيلته، من اجتراء العبد على حرمة الزمان والمكان، فكما يعظُم جزاء العمل الصالح فيهما، تعظم فيهما العقوبة قال تعالى (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، وقال عليه الصلاة والسلام ـ (المدينة حَرَمٌ، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ).
وأشار إننا حين نودع موسم الحج فإننا نودع معه عاماً هجرياً ونستقبل آخر، فهي أيامٌ تطوى وأيامٌ تنشر، داعياً إلى التفكر في هذه الدنيا، والاعتبار في ماضي الزمان وآتيه، وأن الأيام مراحل ورواحل، فلا سرور دائم ولا حزن ممتد.
واختتم فضيلته الخطبة، موصياً أن يستفتح المؤمن عامه بتباشير التفاؤل والآمال، ويودع ما مضى من أيامه بما استودعها من صالح النيات والأقوال والأعمال.

المصدر: صحيفة صدى

كلمات دلالية: الله تعالى ه علیه کما أن

إقرأ أيضاً:

خصوصية جبل الطور حتى يتجلى الله تعالى عليه

اجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونه:"لماذا تجلى الله على جبل الطور وكلَّم عليه سيدنا موسى عليه السلام دون بقية البقاع المباركة الأخرى؟"

لترد دار الإفتاء موضحة: انه اختصاص الله تعالى لأيِّ مخلوق من مخلوقاته بفضيلة أو ميزة، هو محضُ فضلٍ وتكرُّمٍ من الله تعالى، فهو سبحانه يفضل ما يشاء ويختار، واختصاص جبل الطور بالتجلي دون بقية البقاع الطاهرة من باب هذا التَّفضُّل والتكرم والتذكير بما وقع فيها من الآيات كما جعل له فضائل متعددة؛ فإن جبل الطور من جبال الجنة، وهو حرز يحترز به عباد الله المؤمنين من فتنة يأجوج ومأجوج، وهو كذلك من البقاع التي حرَّمها الله على الدجال، وقد تواضع جبل الطور لله فرفعه واصطفاه، وهو الجبل الوحيد الذي وقع عليه تكليم الله لنبيه موسى عليه السلام.

بيان سنة الله الجارية في الخلق بأن يفاضل بين خلقه بما يشاء وكيفما شاء
جرت حكمة الله تعالى وإرادته أن يفاضل في خلقه بما يشاء وكيفما شاء، فمن البشر: فضَّلَ الأنبياءَ والرسل والأولياء على سائر خلقه، ومن البلاد: فضَّل مكةَ المكرمة والمدينة المنورة على سائر البلدان -على ما ورد فيه التفاضلُ بينهما-، ومِن الشهور: فضَّل شهرَ رمضان على ما عداه من الأشهر، وكذا الأشهر الحرم، ومِن الليالي فضَّلَ ليلةَ القدر على سائر الليالي، ومِن الأيام فضَّلَ يومَ عرفات على سائر الأيام، ومن الجبال: فضَّلَ جبلَ الطور بتجليه عليه، والكلُّ خلقُ الله سبحانه وتعالى، يفعل فيه ما يشاء ويحكم فيه بما يريد.

وفي بيان وجه تفضيل بعض الأوقات والبقاع يقول العلامة الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (10/ 184، ط. الدار التونسية) عند الكلام عن تحريم الأشهر الأربعة في سورة التوبة: [واعلم أن تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكريمة، وتفضيل غيرهم مما لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل الواقعة فيه، أو المقارنة له... والله العليم بالحكمة التي لأجلها فضَّلَ زمنًا على زمن، وفضَّلَ مكانًا على مكان، والأمور المجعولة من الله تعالى هي شؤون وأحوال أرادها الله، فقدَّرَها، فأشبهت الأمورَ الكونية، فلا يبطلها إلا إبطال من الله تعالى، كما أبطل تقديسَ السبت بالجمعة] اهـ.

ولمّا كان القصد من إرسال الرسل لأقوامهم هو الإيمان بالله تعالى، اقتضى ذلك تأييدهم بالمعجزات التي يظهرها الله على أيديهم -تكرمًا منه وإحسانًا، تصديقًا لهم في دعواهم النبوة والرسالة، وفيما يبلغونه عن الله تعالي، فمعجزات الأنبياء دليلٌ على صدق وصحة ما جاءوا به، فإذا أتى بالمعجزة فقد ثبت صدقه؛ لأنها الدليل الذي يفصل بين الصادق والكاذب في ادعاء الرسالة، وهي قائمةٌ مقام قول الله تعالى: صَدَقَ عَبْدِي في كُلِّ ما يُبلِّغ عنِّي.

وإذا ثَبَتَ صدقه فقد وجب اتباعه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].

قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (29/ 469، ط. دار إحياء التراث العربي): [هي -يعني: البينات- المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة] اهـ.

وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ» متفق عليه.

ثم خصَّهُم الله سبحانه بمزيد فضلٍ وإحسان؛ ليزداد الناس يقينًا في صدقهم، وإيمانًا بما جاءوا به، وتسليمًا لأحكامهم، واتباعًا لشرائعهم، فمع ما أعطاهم من المعجزات الباهرات منحهم من الخصائص والتكريم والتفضيل ما يتيسر معه أمر الدعوة إلى الله تعالى.

وقد فضَّل الله بعض النبيين على بعض، فقال جل شأنه: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: 253].

قال الإمام ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (1/ 670، ط. دار طيبة): [يخبر تعالى أنه فضَّل بعضَ الرسل على بعض كما قال: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [الإسراء: 55] وقال هاهنا: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ يعني: موسى ومحمدًا صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك آدم، كما ورد به الحديث المروي في "صحيح ابن حبان" عن أبي ذر رضي الله عنه ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء في السماوات  بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل] اهـ.

وقد خصَّ الله نبيه موسى عليه السلام بأنه كلمه تكليمًا، قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (7/ 280، ط. دار الكتب المصرية): [قوله تعالى: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف: 144] الاصطفاء: الاجتباء، أي فضَّلتُك، ولم يقل على الخَلْق؛ لأنَّ من هذا الاصطفاء أنه كلَّمه، وقد كلَّم الملائكة وأرسله وأرسل غيره، فالمراد ﴿عَلَى ٱلنَّاسِ﴾ المرسل إليهم] اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (9/ 6، ط. دار المعرفة): [قوله: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ»: هذا دالّ على أنَّ النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضره من أصرّ على المعاندة، قوله: «مِنَ الآيَاتِ» أي: المعجزات الخوارق والمعنى أنَّ كُلّ نبيٍّ أعطي آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها] اهـ.

وقال الإمام القشيري في "لطائف الإشارات" (1/ 391، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب) في تفسير قول الله عز وجل: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]: [إخبار عن تخصيصه إياه باستماع كلامه بلا واسطة] اهـ. وهذا من تشريف الله تعالى لموسى عليه السلام؛ ولهذا سُمِّي بكليم الله.

وذكر الإمام عبد القاهر الجرجاني في "درج الدرر في تفسير الآي والسور" (2/ 422، ط. دار الفكر): [عن الضحّاك بن مزاحم، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ [القصص: 46] قال: لمّا أخذ موسى الألواح ونظر فيها قال: إلهي لقد أكرمتني بكرامٍ لم تكرم بها أحدًا من قبلي، فأوحى الله: يا موسى، إنّي اطّلعت على قلوب عبادي فلم أجد أشدّ تواضعا من قلبك ﴿اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 144] بجدٍّ ومحافظة، وكن من الشاكرين] اهـ.

بيان سرِّ اختصاص جبل الطور بتجلي الله تبارك وتعالى عليه من بين سائر جبال الأرض
أما عن تخصيص الله سبحانه وتعالى جبل الطور بالتجلي عنده دون بقية البقاع المباركة، فكان تشريفًا لهذه البقعة وتكريمًا وتذكيرًا لما وقع فيها من الآيات.

قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (17/ 58): [قوله تعالى: ﴿وَٱلطُّورِ﴾ [الطور: 1] الطور اسم الجبل الذي كلَّمَ الله عليه موسى، أقسم الله به تشريفًا له وتكريمًا وتذكيرًا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة] اهـ.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَرْبَعَةُ أَجْبَالٍ مِنْ أَجْبَالِ الْجَنَّةِ، وَأَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَأَمَّا الْأَجْبَالُ: فَالطُّورُ، ولُبْنَانُ، وطورُ سَيْنَاءَ، وطورُ زَيْتًا، وَالْأَنْهَارُ مِنَ الْجَنَّةِ: الْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، وَسَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ» أخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط"، وابن شبة في "تاريخ المدينة"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق".

قال العلامة نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 71، ط. مكتبة القدسي) مُعلِّقًا على هذه الرواية: [قلت: حديثه في الأنهار في "الصحيح". رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه من لم أعرفهم] اهـ.

ويشهد له ما جاء من حديث عمرو بن عوفٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَرْبَعَةُ أَجْبَالٍ مِنْ أَجْبَالِ الْجَنَّةِ وَأَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَأَرْبَعَةُ مَلَاحِمَ مِنْ مَلَاحِمِ الْجَنَّةِ» قِيلَ: فَمَا الْأَجْبَالُ؟ قَالَ: «أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ، وَالطُّورُ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ، وَلُبْنَانُ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ، وَالْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ: النِّيلُ، وَالْفُرَاتُ، وَسَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ، وَالْمَلَاحِمُ: بَدْرٌ، وَأُحُدٌ، وَالْخَنْدَقُ، وَحُنَيْنٌ» أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" من طريق كَثِيرٍ بن عبد الله، وهو ضعيفٌ، كما قال العلامة نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 14).

وكثير بن عبد الله رحمه الله روى له الترمذي وابن خزيمة والدارمي والطحاوي والحاكم، كما ذكر الإمام السيوطي في "اللآلىء المصنوعة" (1/ 86، ط. دار الكتب العلمية)، وقال: [والأشبه أنَّ كثيرًا في درجة الضعفاء الذين لا ينحط حديثهم إلى درجة الوضع، وأنَّ الحديث الذي أورده المؤلف في درجة الضعيف الذي لم ينحط إلى درجة الموضوع، وقد ثبت أنَّ الأنهار الأربعة المذكورة من أنهار الجنة في عدة أحاديث منها حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة». وحديث سهل بن سعد السابق في أُحُدٍ شاهد لقصة الأجبل، فاتضح أنه ليس في الحديث ما يستنكر. وقد أخرجه ابن مردويه في "التفسير"، وله شاهد من حديث أبي هريرة] اهـ.

وذكر الإمام ابن عرَّاق في "تنزيه الشريعة" (1/ 195، ط. دار الكتب العلمية) نحوَ هذا الكلام، وقال: [فبان أنه ليس في الحديث ما ينكر وله شاهدٌ من حديث أبي هريرة أخرجه الطبراني في "الأوسط"] اهـ.

فتحصَّل مما سبق أنَّ هذا الحديث وإنْ كان فيه ضعفٌ إلا أنه يُقبل، وليس فيه ما يُنكر.

ومما يُبيِّن فضل جبل الطور ما جاء في حديث الدجال الطويل، أنَّ هذا الجبل سيكون حرزًا لعباد الله المؤمنين من فتنة يأجوج ومأجوج، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فَبيْنَما هو كَذلكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إلى عِيسَى: إنِّي قدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لا يَدَانِ لأَحَدٍ بقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إلى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» رواه مسلم في "صحيحه".

وكما سيُمنع يأجوج ومأجوج من دخول الطور، كذلك ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى حرمه على الدجال، فقد جاء في "المسند" للإمام أحمد، و"المصنف" للإمام ابن أبي شيبة، ونعيم بن حماد في "الفتن"، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال عن الدجال: «لَا يَقْرَبُ أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ: مَسْجِدَ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدَ الرَّسُولِ، وَمَسْجِدَ الْمَقْدِسِ وَالطُّورِ».

وقال العلامة نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 343) عن هذا الحديث: [رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح] اهـ.

جاء في بعض الآثار أنَّ الجبل تواضع لله تعالى، واستسلم لقدرته، ورضِيَ بقضائه ومشيئته، فلما تواضع الجبل لله تعالى ناسب أن يتجلى الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام عليه، ويكلمه عنده دون بقية الجبال، فقد أخرج الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو نُعيم في "الِحلية"، وعبد الرزاق الصنعاني في "التفسير"، وأبو الشيخ الأصفهاني في "العظمة" بإسنادٍ حسنٍ عن نوفٍ البكالي، قال: "أوحى الله إلى الجبال إني نازل على جبل منكم فشمخت الجبال كلها إلا جبل الطور فإنه تواضع وقال: أرضى بما قسم الله لي، قال: فكان الأمر عليه".

ونقل الإمام الثعلبي في "تفسيره" (4/ 275، ط. دار إحياء التراث العربي) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: [قال الله تعالى: ولكن انظر إلى الجبل فهو أعظم جبل بمدين يقال له: زبير، فلما سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلى منها الله لها وجعل زبير يتواضع من تبيان، فلما رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينهما وخصه بالتجلي] اهـ.

فهذه الفضائل تضاف إلى الفضيلة الكبرى المذكورة في القرآن الكريم من تكليم سيدنا موسى عنده، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمًا﴾ [النساء: 164]، وكما في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: 143]، وكما في قوله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52].

الخلاصة
بناءً على ما سبق وفي السؤال: فاختصاص الله تعالى لأيِّ مخلوق من مخلوقاته بفضيلة أو ميزة، هو محضُ فضلٍ وتكرُّمٍ من الله تعالى، فهو سبحانه يفضل ما يشاء ويختار، واختصاص جبل الطور بالتجلي دون بقية البقاع الطاهرة من باب هذا التَّفضُّل والتكرم والتذكير بما وقع فيها من الآيات.

مقالات مشابهة

  • فضل ليلة النصف من شعبان.. نفحات كثيرة في هذا الشهر المبارك
  • خطيب المسجد النبوي يحذر من 5 أفعال شائعة عند نزول المِحن والبلاء
  • خطيب المسجد النبوي: لا أحد تصيبه عثرة قدم ولا خدش إلا بقدر
  • خطيب المسجد النبوي: الدنيا دار ابتلاء لا يجزع فيها العبد المؤمن
  • الإنسان ضعيف.. خطيب المسجد الحرام: يجب أن يتعلق قلب المؤمن بالقوي العزيز
  • خطيب المسجد الحرام: الكون كله بيد الله ومن سواه لا يملك لنفسه حولًا ولا قوة
  • خطيب المسجد النبوي يتضرع إلى الله بالدعاء لنصرة أهل فلسطين على الاحتلال
  • علي جمعة: ليلة النصف من شعبان عظيمة وتحويل القبلة حدث تاريخي في الإسلام
  • خصوصية جبل الطور حتى يتجلى الله تعالى عليه