بوابة الوفد:
2025-04-10@22:20:09 GMT

كراكيب من الخوف

تاريخ النشر: 6th, August 2023 GMT

كان الخوف فى طفولتنا رقيقًا مثل أحلامنا، فأقصى ما كنا نخاف منه عصا سيدنا وفلكته، وما ينتظرنا من العقاب صبيحة يوم غد إذا ساقت الأقدار سيدنا إلى المكان الذى نلعب فيه، فيلمح بطرف عينه تلك الأجسام الضئيلة، وهذه الأقدام الحافية تتسابق وتتصارع خلف كُرة أوشكت معالمها أن تندثر وسط الغبار، ثم يأتينا فجأة صوت المنادى كصافرات إنذار الكوارث: «اجرى.

. سيدنا هيشوفنا!»، لتغير الأجساد وجهتها والأقدام أهدافها، ويتحول مشهد اللعب إلى مشهد فرار من هجوم مفاجئ بالأسلحة الثقيلة، فيبحث كل منا عن ساتر يواريه، ومخبأ يحميه، عسى أن يسقط  اسمه من كشوف سيدنا وعقاب فلكته غدًا.

كنا نخاف من تلك الحكايات التى تمر على أسماعنا بأن فلانًا ابن فلان قد مات غرقًا أو حرقًا، وأنه يظهر ليلًا فى تلك البقعة التى خرجت فيها روحه إلى بارئها، متجسدًا فى صورة قط أسود تخرج من عينيه نار، لتصبح تلك البقع من الأماكن المحرمة، وتصير حدودًا لا يستطيع الاقتراب منها إلا الشجعان، ثم نستمع بإنصات إلى حكايات من تشجع وقرر الذهاب إلى هناك، لينسج لنا بعد هذه الرحلة قصصًا تزيد مخاوفنا وتؤكدها!

كنا نخاف من هتك أسرار شقاوتنا وافتضاح أمرها، تلك الأفعال التى لم تتجاوز محاولات تدخين سيجارة خلسة بعيدًا عن الأنظار، سيجارة قد جمعناها من بقايا أخواتها المتناثرة فى الطرقات هنا وهناك، أو قمنا بشراء عدد منها فى الأعياد لا يتجاوز عدد من قرر الانحراف والإقبال والاشتراك فى تلك الجريمة.. ليتم كشف أمرنا بعد النظرة الأولى من أهالينا، وننال ما نستحق من العقاب. 

ثم كبرنا وكبر الخوف معنا عندما رأينا أطفالنا يتحدثون عن «الكراش والإكس»، ويتحدثون بلهجات غريبة على أسماعنا، ويستخدمون ألفاظًا أغرب لا تستوعبها عقولنا، ويسردون قصص الحب الملتهبة بين تلاميذ لم تتجاوز أعمارهم السنوات الأولى من التعليم الأساسي، ويشتعل الخوف فى قلوبنا أكثر فأكثر، عندما نرى فى أعين تلك البراءة ضحكات من السخرية المعلنة، والصرخات المبطنة بالصمت تقول لنا: انظر حولك وتفحص جيدًا، على من تسلط أضواء الكاميرات وتنهال الأموال، انظر حولك وتفحص جيدًا، فقد تغيرت المعانى وتبدلت الأحوال وتحولت المفاهيم، وأصبح العلم فى «الراس مش فى الكراس».. حابب تتأكد خدلك جولة على «انستجرام» و«التيك توك»  يابابا!

كبرنا وازداد الخوف فى قلوبنا ونحن نشاهد مقاطع فيديو لشاب يطعن فتاة بسكين فى وضح النهار لرفضها الزواج منه أو الارتباط به، طعنة وراء أخرى، لتسقط تلك المسكينة غارقة فى دمائها تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام الناس، ثم يزداد الخوف عندما ترى أن هذه الحادثة أصبحت مسلسلًا يتكرر بالسيناريو نفسه مع تغير الأبطال وأماكن التصوير.  

كبرنا وكبر الخوف معنا كلما رأينا حادثة هنا أو حريقًا هناك، دون أن تجد له تفسيرًا يدخل فى نطاق العقل والمنطق، ودون أن تجد إجابة عن السؤال: كيف يحدث هذا، ولماذا يحدث، ومن المسئول عن ذلك كله؟!

فى طفولتنا كنا نسير بين مخاوفنا وأحلامنا فى شوارع من السكينة والأمان، لا نخاف جوعًا ولا نخشى عطشًا، ولا نحمل همَّ رزق، وعندما كبرنا أدركنا ما كان يحمله الآباء عنا، فتبدلت الأحلام وتغيرت الهموم، وبقيت كراكيب الخوف تلاحقنا وتكبر فى نفوسنا، وبقيت أقصى أمانينا أن نهرب من عقاب سيدنا وفلكته!  

>> يقول نيلسون مانديلا :

تعلمت أن الشجاعة ليست غياب الخوف، ولكن القدرة على التغلب عليه.

[email protected]

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الأسلحة الثقيلة

إقرأ أيضاً:

الغياب.. لحظات إنسانية قابلة للتأمل !

مرّ ذلك العيد بجانبنا مختلفًا عن أعيادنا الماضية؛ دفاتر الحضور والغياب أثبتت بأن الأحياء هم وحدهم من يتألمون ويتجرعون مرارة الفقد والفراق، ففي لحظة التذكّر بمن كان جانبنا في المرة الماضية، تتعمق في نفوسنا معاناة جديدة لا يشعر بها جميع من حولنا، إلا من لامسهم ذلك الغياب قبلنا.

في هذا العيد، كم بلغ شعور الألم بنا وبغيرنا ممن فقدوا عزيزًا عليهم، بقيت أماكن جلوسهم خالية لا يعوّضها أحد من الحضور، بينما النسيان، حتى هذه اللحظة، لم يبدأ مفعوله السحري في تطييب جراح الفقد.

في كل عيد، كنا نخرج من المصلى لنتجه مباشرة نحو منازل متقاربة في البنيان، تمامًا مثلما تتقارب أرواحنا مع أرحامنا وأقاربنا. نستمتع كثيرًا عندما نترجّل سيرًا على الأقدام بين بيوت الحارة وشوارعها وسواقيها وبساتينها التي لا تحدها سوى أسوار المحبة. أحيانًا، عندما كان الصيف حاضرًا في أعيادنا الماضية، كان لا بد لنا من ركوب السيارة التي تنطلق بنا إلى أماكن أبعد مما نصلها ونحن نسير على أقدامنا. نتنقّل في العيد رغبةً منّا، وتقليدًا تراثيًا قديمًا، نقدّم فيه أجلّ عبارات السلام والاطمئنان على الأهل والأحبة والأصحاب، وخاصةً ممن بلغ الكبر بهم مبلغه.

في هذا العيد، كان الوضع مختلفًا تمامًا عن ماضٍ قديم؛ هذه المرة كانت الوجهة الأولى منذ خروجنا من مصلى العيد نحو «المقابر»، حيث أصبح لدينا شخص عزيز يتوسد الثرى. وكان لا بد لنا من زيارته من جهة، وتذكير لنا بالآخرة والمآل الذي ينتظرنا، وأيضًا هذه الزيارة ترقيق للقلوب القاسية التي غرتها مباهج الحياة وزخرفها. وربما مشهد القبور المتراصة مع بعضها البعض يكون رادعًا لنا ولغيرنا عن المعاصي، وطريقًا نحو الزهد في الدنيا الفانية، وتهوينًا لما قد يلقاه المرء منا من مصائب الحياة وفواجعها التي لا تنتهي.

جمعٌ من الناس أتى إلى ساحة المقبرة، كلٌ يقف بجانب قبر عزيز عليه. فالساحة الممتدة تظهر أسماء كثيرة وتواريخ قديمة وحديثة على شواهد القبور، هدفها تذكير الناس بمن رحلوا واحدًا بعد آخر. في القرب من قبر ميّتنا، هناك قبر جديد لا تزال معالمه واضحة، يذكّر بأن القدر لم يُمهل صاحبه فرصة العيش معنا في هذا العيد. في مثل هذه المواقف، يستحضر في ذهني أن كل هؤلاء الموتى الذين تتحلل أجسادهم في قبورهم ينتظرون الدعاء لهم بالعفو والمغفرة.

رغم أن الكم كبير من الناس في المكان، إلا أن الصمت كان يتسيّد الموقف. أشخاص جالسون بصمت، وآخرون يقفون يتأملون ويستذكرون كيف أصبح حال من كان بالأمس يذكّرهم بأن الموت حق وقدر محتوم، ويأمل أن يكون معهم في فرحة هذا العيد.

أمام ذلك القبر الذي يأوي من نحب، لا شيء يُجدي غير الدعاء والتضرع إلى الله بالرحمة لميّتنا وأموات المسلمين. كم هو مؤلم أن ينتزع القدر منك شيئًا غاليًا، رغم أنك مؤمن تمامًا بأنه واقع لا محالة على كل إنسان، لكن لم تتخيله يأتي بهذه السرعة. تحاول أن تكفكف الدمع خوفًا من أن يعلو صوتك فتقع في المحظور، لذا عليك أن تلتزم بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم» - وأشار إلى لسانه -، ولما مات ابنه إبراهيم قال عليه الصلاة والسلام: «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

رغم أن البكاء لا يُجدي ولا يُرجِع من رحل، لكن الله تعالى يسمع أعمق صرخات قلوبنا التي يعتصرها الألم، ويجزي كل صابر على قدر صبره، ولذا يبشّر الله تعالى كل صابر محتسب الأجر والثواب بقوله تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».

انقضى الوقت وعدنا إلى منازلنا التي كانت عامرة بالناس في العيد، عندما كان ذلك العزيز يتجلى في وسط مجلسها. انفضّ الناس من حولنا، ولم يأتِ أحد كعادة كل عيد قد مضى، عندما كنا نحاول أن نتهرب من المجلس الذي يعج بالناس، ونتذمر كثيرًا عندما كان أحد المهنئين يمكث طويلًا في حديث ممتد يشعرنا بالملل. في هذا العيد، بقيت الأبواب مفتوحة، لكن عتباتها عانت فقدان خُطى المهنئين أو القادمين للتهنئة، كما كانت في الأعياد الماضية.

ويبقى الدعاء هو ما يوصلنا بمن نحب من الآباء والأمهات والإخوان وعامة الناس، فاللهم اغفر لتلك الأرواح التي لا تُعوّض، وأنفسنا النقية التي فارقتنا، وتركت لنا في القلب حنينًا لا يفارقنا أبدًا.

اللهم ارحم تلك الوجوه الطيبة التي فارقت الدنيا وانتقلت إلى جوارك، اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وتجاوز عنهم، واجعل قبورهم روضة من رياض الجنة يا رب العالمين.

اللهم واجمعنا وإياهم برفقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في علّيّين.

مقالات مشابهة

  • عندما تتحوّل المهنية إلى تهمة
  • الغياب.. لحظات إنسانية قابلة للتأمل !
  • قوى السودان الناعمة والشعب المُعَلِم
  • عندما تُباع العدالة
  • “إن الإنسان خلق هلوعا”
  • آفـة الترويض السياسي (1 – 3)
  • مصرع 79 شخصًا عقب انهيار سقف ملهى ليلي في الدومينيكان
  • خبيرة طاقة: كراكيب المطبخ تؤثر على الرزق.. فيديو
  • الحبّ الفلسفي
  • تداعيات الرسوم الجمركية: ترامب يرفع جدران الخوف والأسواق ترتجف