الإيرانيون يدلون الجمعة بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية
تاريخ النشر: 28th, June 2024 GMT
سرايا - يتوجه الإيرانيون إلى صناديق الاقتراع الجمعة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية الإسلامية من بين أربعة مرشحين أحدهم نائب إصلاحي لم يكن معروفًا على نطاق واسع ويأمل في تحقيق اختراق على الرغم من هيمنة المحافظين.
كانت الانتخابات الرئاسية مقررة في ربيع 2025، لكن تم تقديمها إلى 28 حزيران/يونيو بعد مصرع الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي وسبعة مرافقين له أبرزهم وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان في تحطم مروحية بشمال غرب البلاد في 19 أيار/مايو.
ويُقام هذا الاقتراع في سياق دقيق بالنسبة للجمهورية الإسلامية التي تواجه توترات داخلية وأزمات جيوسياسية من الحرب في غزة إلى الملف النووي، وذلك قبل خمسة أشهر فقط من الانتخابات الرئاسية المقررة في الولايات المتحدة عدو طهران اللدود.
والمرشحون الستة بالأصل هم من أقر أهليتهم مجلس صيانة الدستور وهو هيئة غير منتخبة يهيمن عليها المحافظون، من بين 80 قدموا طلبات ترشيح، قبل انسحاب مرشحين من المحافظين المتشددين الخميس.
ويحظى ثلاثة من هؤلاء المرشّحين بفرص أفضل للفوز وهم الرئيس المحافظ للبرلمان محمد باقر قاليباف والمحافظ المتشدّد سعيد جليلي الذي قاد التفاوض مع القوى الكبرى بشأن الملف النووي والنائب الإصلاحي مسعود بازشكيان.
وقد تؤدي هذه المنافسة إلى إجراء جولة ثانية، وهو ما لم تشهده الجمهورية الإسلامية منذ قيامها قبل 45 عامًا إلّا مرة واحدة في الانتخابات الرئاسية للعام 2005.
"البطالة والفقر"
إبان الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في العام 2021، رفض مجلس صيانة الدستور طلبات العديد من المتقدّمين الإصلاحيين والمعتدلين، الأمر الذي سهَّل انتخاب إبراهيم رئيسي الذي كان مرشّح المعسكر المحافظ وخلف الرئيس المعتدل حسن روحاني.
وبلغت نسبة المشاركة في تلك الانتخابات 49%، وهو أدنى معدّل مشاركة في الانتخابات الرئاسية منذ انتصار الثورة الإسلامية في العام 1979.
ودعا المرشد الإيراني علي خامنئي الثلاثاء إلى "مشاركة مرتفعة".
غير أن البعض يرى أن الانتخابات "لن تغيّر شيئاً" مثل ندى التي قابلتها وكالة فرانس برس في حيّ تجريش في شمال طهران. وتقول "من المستحيل أن أصوّت (...) لأنه بغض النظر عمّن سيُنتخب، لن يُغيّر ذلك شيئًا بالنسبة للشعب".
أمّا جاليه (60 عامًا) وهي ربّة منزل، فتؤكّد استعدادها "للتصويت هذا العام" بصفته "واجباً" في ظلّ "الكثير من الملفات (العالقة) مثل البطالة أو الفقر".
ويعد خبير الشؤون الإيرانية في مجموعة الأزمات الدولية علي فايز أن على الرئيس المقبل مواجهة "التحدي المتمثل في اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع". ولم يطرح أي مرشح حتى اللحظة "خطّة ملموسة لحلّ المشاكل" وفق قوله.
وسبق أن أكّد الإصلاحي مسعود بازشكيان (69 عامًا) إمكانية "تحسين" جزء من المشاكل التي يواجهها سكان إيران البالغ عددهم 85 مليوناً.
لكن بالنسبة لبعض المقترعين، يفتقر هذا الطبيب النائب في مجلس الشورى، للخبرة في الحكم فهو لم يشغل سوى منصب وزير الصحة قبل نحو عشرين عامًا.
بخلافه، يتمتّع محمد باقر قاليباف (62 عامًا) بخبرة سياسية واسعة بعد أن عمل ضمن الحرس الثوري الإيراني.
ويقول علي رضا فالادخاني وهو مستشار يبلغ من العمر 35 عامًا "سأصوّت لقاليباف لأنه مدير حكيم وقائد لقوات الحرس الثوري في آن معًا" وذلك جيّد "لأمن" البلد.
أمّا المرشح سعيد جليلي (58 عامًا) الذي فقد ساقه خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، فهو يتبنى سياسة عدم المرونة في مواجهة الدول الغربية.
الحجاب موضع نقاش
في المقابل، يدعو مسعود بازشكيان إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا من أجل رفع العقوبات التي تؤثر بشدة على الاقتصاد الإيراني. ويحظى بدعم من وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف مهندس الاتفاق النووي المبرم مع القوى الدولية الكبرى في العام 2015.
وكان بازشكيان انتقد افتقار السلطات للشفافية في قضية مهسا أميني، الشابة التي أثارت وفاتها أثناء توقيفها على خلفية عدم التزامها القواعد الصارمة للباس في الجمهورية الإسلامية، حركة احتجاجات واسعة في أواخر العام 2022.
وقال بازشكيان "منذ 40 عامًا، نعمل على السيطرة على وضع الحجاب، لكننا زدنا الوضع سوءًا".
وتبنى معظم المرشحين الآخرين نبرة حذرة أكثر بشأن هذا الملف، معلنين أنهم يعارضون نشر شرطة الأخلاق.
وواحدة من النتائج المؤكدة للانتخابات هي أن الرئيس المقبل سيكون مدنيًا وليس رجل دين مثل الرئيسين السابقَين حسن روحاني وإبراهيم رئيسي.
لذلك لا يمكن اعتباره خلفًا محتملاً لآية الله علي خامنئي البالغ من العمر 85 عامًا والذي يشغل منصب المرشد الأعلى منذ 35 عامًا.
المصدر: وكالة أنباء سرايا الإخبارية
كلمات دلالية: الانتخابات الرئاسیة
إقرأ أيضاً:
تفعيل العقيدة الإسلامية.. من الإيمان الساكن إلى الإرادة الفاعلة
العقيدة الإسلامية هي حقيقة ثابتة وشاملة تُحدد علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبالآخرين، وبالكون من حوله. فعاليتها تكمن في تحويل الإيمان إلى قوة دافعة للإصلاح والتنمية، مما يجعلها الأساس المتين لبناء الفرد والمجتمع.
الكاتب والمفكر التونسي الدكتور عبد المجيد النجار وهو أحد المفكرين والباحثين في مجال الفقه والفكر الإسلامي المعاصر يواصل في هذه السلسلة من المقالات التي تنشرها "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته على منصة "فيسبوك"، البحث في مدلول العقيدة الإسلامية ومفرداتها.
ثانيا ـ التفعيل الإرادي للاعتقاد
الاعتقاد هو التصديق بمفردات العقيدة تصديقاً يشمل حقّيتها في ذاتها كما يشمل صلاحها للإنسان وخيريتها المطلقة لحياته. وللاعتقاد في حلوله بالنفس درجات يقوم وسطها خط فاصل بين نوعين منها: نوع يبقى الاعتقاد فيه حبيس الذهن، ولا يكون له سلطان على إرادة الفعل، ويمكن أن نسميه بالاعتقاد الساكن، ونوع يقوى فيه الاعتقاد حتى يتعدّى إلى الإرادة فيكون له سلطان عليها يحركها به لتنطلق في إنجاز الأعمال، ويمكن أن نسميه بالاعتقاد الفاعل.
وقد كانت مذاهب اليونان الفلسفية تعتبر معرفة الحقّ فضيلة قائمة بذاتها، ولا تضفي على آثارها العملية قيمة تذكر، وذلك بما هي في عمومها مذاهب نازعة إلى التجريد، عازفة عن الأعمال، ولكن العقيدة الإسلامية جاءت بمفهوم آخر يكون فيه الاعتقاد محددة قيمته بآثاره العلمية، فأصبح فيه التصديق الذهني بالعقيدة ليس مكتملا في قيمته، وإنما قيمته تكتمل حقا بما يؤدّي إليه من الأعمال، وذلك ما أشار إليه ابن خلدون في قوله معبّرا عن عقيدة التوحيد: "إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي، وإنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس" ، والمقصود بهذه الصفة التي تتكيف بها النفس ذلك السلطان الذي يكون للعقيدة على الإرادة فيوجّهها في طريق الأعمال.
وقد كانت الأجيال الأولى من المسلمين تتنزّل العقيدة في نفوسهم تنزّلا مباشرا في الدرجات التي تدفع إراداتهم إلى الأعمال، فما إن يتحمّل الواحد منهم الإيمان بهذه العقيدة حتى يندفع مباشرة في العمل بما تقتضيه في الواقع في شتى الوجوه: جهادا ونشراً للدعوة، أو إنشاء وتعميراً في الأرض، أو طلبا للعلم الديني والكوني، ولم يكن معهودا لدى تلك الأجيال ذلك الاعتقاد السكوني الذي يقصر عن تحريك الإرادة العاملة، فيجتمع الاعتقاد والقعود في الرجل الواحد في ذات الوقت، ومن خير ما يرمز للاعتقاد الذي يتنزّل في النفس تنزّلا مباشراً في موقع الدفع الإرادي للعمل قصّة ذلك الصّحابي في غزوة أحد حينما سأل النبي : " أرأيت إن قتلتُ أين أنا؟ قال: في الجنة، قال: فألقى تمرات في يده [ مستطولا ما يستغرقه أكلها من زمن ]، ثم قاتل حتى قتل" ، فذلك التنزيل المباشر للإيمان بالجنة لم يمهله ليصير عملاً حتى لأن يأكل تمرات كان بصدد أكلهن، وكذلك كان الأمر في حال ما بين الاعتقاد وسائر الأعمال عند تلك الأجيال من التأثير المباشر.
ولكن خلفت أجيال من المسلمين بعد ذلك اختلف عندها الأمر، فإذا العقيدة تقع في النفوس عند كثير منهم موقعاً باهتاً، لا يمتدّ أثره إلى الإرادة فيحرّكها لتدفع بالجوارح إلى العمل إلا قليلا وعلى تطاول في الأثر، ذلك أنها عند بعضهم انحدرت إليه تقليدا من الآباء، ولم يكابدوا فيها معاناة التأمّل لتكتسب به من القوة ما تتعدى به إلى التأثير في الإرادة، وعند بعض آخر جنحت بها مغالاة العقل في التقرير والتفصيل والمجادلة حتى حجبتها عن التمكّن من مجامع النفس لتؤثر في الإرادة، وظلت أقرب إلى الظاهرة العقلية المجرّدة منها إلى الفكرة المتفاعلة مع كيان الإنسان كله فتدفعه إلى إنجاز الأعمال. وسواء كان السبب هذا أو ذاك فقد آل أمر سواد المسلمين إلى واقعهم الراهن الذي تراهم فيه " يتسابقون في انضباط السلوك الظاهر، وفي حساب التعاويذ والأذكار، وطويتهم هواء لا تجيش بحواثّ الإيمان وعزائمه التي تحدث النهضة في واقع الحياة" ، ولذلك فإنه كان لزاما أن يمتدّ ترشيد الاعتقاد ليشمل أيضا مراجعة علاقة العقيدة بالإرادة الفاعلة، فتكون هذه العلاقة علاقة فعل وانفعال تثمر إنجاز العمل الصالح المؤسس للنهضة.
وربما يكون هذا الترشيد متمثّلا بالأخص في أمرين أساسيين:
أ ـ الجزم الاعتقادي
إن الإرادة الفاعلة لا يحركها التحمل العقدي إلا إذا كان حاصلا في النفس على درجة من الشدة والقوة بحيث تتولّد من الإيمان بالحق حواثّ تحثّ الإرادة على دفع الجوارح إلى الفعل. وقوة الإيمان بالعقيدة لا تبلغ درجة الفعل في الإرادة إلا إذا كانت متأتية بالاقتناع الذاتي الحاصل بمعاناة التأمل والتدبّر في مفردات تلك العقيدة، أو في مبادئها الأساسية على الأقلّ، وأما إذا كان ذلك الإيمان حاصلاً من خارج الذات وراثة أو تقليداً فإنه لا يبلغ في النفس مبلغ التأثير الفعلي إلا على سبيل الندور، ذلك أنه يظل أبدا يحمل في نفس المؤمن صفة الغيرية والغرابة، إذ هو متأت من خارجها فيكون فيها كالعارية بشعور أو بدون شعار، فتنصدّ عن أن تنفعل به الانفعال المحرك للإرادة في طريق الفعل. ولكن حينما يكون الإيمان بالعقيدة حاصلاً في النفس بعد معاناة السعي الذاتي بالتدبّر، فإنه حينئذ يحلّ فيها على صفة من القربى والانتماء تنفتح بهما للانفعال به، فيكون له أثر في تحريك الإرادة.
إن كل نفس إنسانية تنطوي على ما يمكن أن نسميه بالفطرة الكونية، وهي متمثلة في نزوع طبيعي إلى البحث عن علل الموجودات الكونية وأسبابها، ولهذا ظلّ الإنسان يبحث عن هذه العلل منذ فجر تاريخه إلى اليوم، ولهذا أيضا وجّهه القرآن الكريم إلى النظر في الكون وآياته لاكتشاف أسبابه، والوصول إلى الحقّ العقدي منها، استثماراً لهذه الفطرة، وتوجيهاً لها نحو تحقّقها الطبيعي.وقد جاء القرآن الكريم يشدّد النكير على التقليد الذي لا يستند على شيء سوى انحدار المعتقد من الآباء والأجداد، ويكون ذلك الانحدار هو السند الوحيد للحقيقة، فقد قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴿٢٣﴾ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴿٢٤﴾ ﴾ (الزخرف/23-24).
ثم هو يوجه العقول بديلا من ذلك إلى النظر والتأمل والتدبر في النفوس والآفاق لتحصيل العقيدة بالاقتناع الذاتي الناشئ من الدليل بعد التأمل والتدبر كما في قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿١٩﴾ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٠﴾ ﴾ (العنكبوت/ 19-20). وقد جرى عند علماء العقيدة أن الإيمان بالعقيدة إنما يكون إيمانا معتبرا حينما يكون ناشئا عن النظر المفضي إلى الجزم، وأما إيمان المقلد فقد تراوح عندهم بين البطلان أصلاً كما روي عن بعضهم، وبين الضعف الذي يقصر به عن المطلوب الديني عند الأكثرين . وأحسب أن من موازين هذه المعايرة للإيمان ميزان أيلولته إلى التأثير على الإرادة الفاعلة وعدمها، إذ إيمان التقليد لا يؤول إلى ذلك خلافا للإيمان الجازم.
والمتأمّل في أحوال الأمّة كما آل إليه أمرها اليوم يجد أن السواد منها يتحمل العقيدة تحمل تقليد لا تحمل نظر وتدبّر، سواء كان ذلك التقليد تسليماً بعقائد الآباء، و محاكاة لما عليه الهيئة الاجتماعية العامّة، أو تعلّماً من معلّمي العقيدة تلقيناً مجردا ضمن العلوم الصورية التي تلقّن للمتعلمين، ولو بحثت في هذه الأمّة لوجدتهم قلّة أولئك الذين حصّلوا إيمانهم بمعاناة النظر والتدبّر، فجاسوا خلال الأنفس والآفاق لينتهوا إلى إيمان مكسوب من قِِبلهم، فيه من قوة الجزم ما يشتدّ به على النفس فتندفع إلى العمل، ولو بحثت في هذه الأمّة لوجدتهم قلّة أولئك الذين حصّلوا إيمانهم بمعاناة النظر والتدبّر، فجاسوا خلال الأنفس والآفاق لينتهوا إلى إيمان مكسوب من قِِبلهم، فيه من قوة الجزم ما يشتدّ به على النفس فتندفع إلى العمل، فكيف بأمّة سوادها يحمل إيمانه وراثة وتقليداً أن تكون لها عزمة تنهض بها من السبات؟ إن تلك العزمة لا تكون إلا بأن يحوّل موقع الإيمان في النفوس من درجة التقليد إلى درجة الإيقان الذاتي الحاصل بالنظر والتأمّل.
وليس المقصود بالنظر والتأمّل تلك القياسات المنطقية المعقّدة التي درج عليها المختصّون في علم الكلام، فإن ذلك ليس في طاقة عامّة المسلمين، فضلا على أنه قد لا ينشئ في النفس الإيمان الجازم، وإنما المقصود به استنهاض الفطرة الاستدلالية الكامنة في كل نفس على قدر مشترك بينها، ثم على أقدار قد تتفاوت بين فرد وآخر ليُبسط محصول العقيدة الموروثة على تلك الفطرة بحسب أقدارها بسطاً تقلّب فيه تلك العقيدة على الآيات الكونية والاجتماعية تقليب بحث لا تقليب شكّ على هيئة فعل إبراهيم الخليل في استعراضه لأحوال النجوم وانتهائه باليقين الجازم بألوهية الله الدائم القيوم. وإن هذا الاستنهاض للفطرة الاستدلالية في النفوس لهو اليوم موفور الدواعي والمقدّمات والآلات أكثر من أي وقت مضى، فإن كتاب الكون فتحت صفحات كثيرة منه، فباتت آيات الله فيه جليّة، وإنّ أديان الناس ومذاهبهم التي وضعتها عقولهم بان خسرانها جليا أيضاً، ومن هذه وتلك يمكن تأليف مادّة ذات فعالية شديدة لاستنهاض فطرة المسلمين في هبّة دعوية وتربوية شاملة لتحويل إيمانهم من موقع التقليد إلى موقع الجزم على النحو التالي:
ـ استنهاض الفطرة الكونية
إن كل نفس إنسانية تنطوي على ما يمكن أن نسميه بالفطرة الكونية، وهي متمثلة في نزوع طبيعي إلى البحث عن علل الموجودات الكونية وأسبابها، ولهذا ظلّ الإنسان يبحث عن هذه العلل منذ فجر تاريخه إلى اليوم، ولهذا أيضا وجّهه القرآن الكريم إلى النظر في الكون وآياته لاكتشاف أسبابه، والوصول إلى الحقّ العقدي منها، استثماراً لهذه الفطرة، وتوجيهاً لها نحو تحقّقها الطبيعي.
إن كل نفس إنسانية تنطوي على ما يمكن أن نسميه بالفطرة الكونية، وهي متمثلة في نزوع طبيعي إلى البحث عن علل الموجودات الكونية وأسبابها، ولهذا ظلّ الإنسان يبحث عن هذه العلل منذ فجر تاريخه إلى اليوم، ولهذا أيضا وجّهه القرآن الكريم إلى النظر في الكون وآياته لاكتشاف أسبابه، والوصول إلى الحقّ العقدي منها، استثماراً لهذه الفطرة، وتوجيهاً لها نحو تحقّقها الطبيعي.
إن في الإنسان نزوعا فطرياً إلى تحصيل المنفعة متمثلة في معان كلية من الأمن والطمأنينة والكفاية ورغد العيش، ومتفرعة إلى فروع وجزئيات كثيرة. وهذه الفطرة المشروعة كثيراً ما تدفع الإنسان إلى البحث عن الحقيقة من خلال ما يحقق له من النفعواليوم وقد كشفت العلوم الطبيعية عن حقائق كثيرة من سنن الله في الكون، وأصبحت هذه الحقائق ميسورة التناول والفهم لسواد الناس بما تيسّر من وسائل التقديم والشرح، فإنه يمكن أن تستخدم وسيلة دعوية ناجحة تقدّم للمسلمين مخاطبة فطرتهم الكونية، فتبيّن لهم ما في هذا الكون من عظمة الصنع ودقّة النظام وغائية السيرورة، ولمّا يقفون على ذلك رأي العين، توجّه فطرتهم إلى سبب الأسباب في ذلك كلّه، فتنفعل النفوس إذن بذلك انفعالاً جديداً، ويحصل الاقتناع بعقيدة الألوهية وما يتبعها من العقائد حصولاً ثانياً، تنزّل فيه منزلة الجزم بعد ما كانت نازلة منزل التقليد.وقد رأينا برامج تلفزية في هذا الشأن تحدث في النفوس انقلاباً إيمانياً لا تحدثه وسائل الدعوة والتعليم النظرية الجافّة، وذلك لأنها خاطبت عن قرب الفطرة الكونية في المسلم فاستنهضتها لتحصيل الإيمان الجازم. ولا يخفى أن كثيراً من الملحدين الذين يمارسون البحث في العلوم الكونية تحوّلوا إلى الإيمان بما وقفوا عليه من أسرار الكون، وآيات دقته ونظامه .
هذا وقد بات من البيّن اليوم أن العقلية العلمية التجريبية التي تنفتح للفهم والاقتناع بما هو علمي تجريبي أصبحت عقلية سارية في قطاع كبير من المسلمين، تأثرا بالعقلية السائدة في التحضّر الغربي، ويمكن أن تستثمر هذه الخاصية بتوجيه العقول إلى حقائق العلم الكوني، ثم توجيهها إلى دلالات تلك الحقائق على ما وراءها من حقائق أخرى غيبية، فإنها حينئذ لا تملك إلا الإذعان الإيماني، ولكنه إذعان حصل بمعاناة النظر والتدبر، وهو إيمان الجزم القادر على تحريك إرادة الفعل.
استنهاض الفطرة النفعية
إن في الإنسان نزوعا فطرياً إلى تحصيل المنفعة متمثلة في معان كلية من الأمن والطمأنينة والكفاية ورغد العيش، ومتفرعة إلى فروع وجزئيات كثيرة. وهذه الفطرة المشروعة كثيراً ما تدفع الإنسان إلى البحث عن الحقيقة من خلال ما يحقق له من النفع، وقد أصبح هذا الأمر اليوم فلسفة سائدة في الغرب متمثلة في المذهب النفعي، وقد أصاب شيء منها عالم المسلمين، وتسرّب إلى كثير من أهله. وإذا كان هذا المذهب انحرف بالفطرة الإنسانية عن حقيقتها، حيث انحصر النفع فيه إلى منافع الرجل الأبيض ولو كان ذلك على حساب شقاء الأمم والشعوب الأخرى كما شهدت بذلك الحركة الاستعمارية، إلاّ أن أصل الفطرة النفعية يمكن استثمارها فيما نحن بصدده من ترشيد الاعتقاد.
إن العالم اليوم تتوفّر فيه الشواهد الكثيرة على إفلاس المذاهب والأديان في تحقيق المنفعة للإنسان، ولا أدلّ على ذلك من أن هذه الحضارة الغربية العاتية في إنجازها المادي لم يتحقق لأهلها الأمن والطمأنينة والهناء، فضلا عن أن يتحقق ذلك لسائر الأمم والشعوب الأخرى، وقد أصبحت هذه المعاني تضجّ بها محافل الفكر الغربي نفسه فيما يشبه النذير بالمآل المظلم لهذه الحضارة .
وإذن فإنها تتوفّر فرصة ثمينة في أن يُعرض الإسلام في مبادئه العقدية على المسلمين أنفسهم من المقلّدين في إيمانهم عرضاً تظهر به تلك المبادئ من حيث ما تحققه للناس من الخير والمنافع بموازينها الإنسانية العامّة، وذلك من خلال التجربة الحضارية الإسلامية التي قامت على تلك المبادئ، ومن خلال اللازمة المنطقية بين حقائق العقيدة في ذاتها وبين آثارها في نفع الإنسان، وبالمقارنة مع فشل كل المذاهب والأديان في تحقيق هذا النفع. إن هذا العرض من شأنه أن يجعل المسلم يعيد تحصيل عقيدته بما استثار فيه من فطرة المنفعة، فترقى تلك العقيدة في نفسه إلى منزلة الجزم بعد النظر في آثارها، والاقتناع بأنها الحلّ الوحيد الذي يحقق للإنسان السعادة والخير .
إذا ما سلك الدعاة والمربّون مسلك استنهاض الفطرة الكونية والفطرة النفعية في نفوس المسلمين، فإن ذلك من شأنه أن يحرّك النفوس، وينفض عنها غبار التقليد، فتتحرّك لتحصّل عقيدتها بذاتها تحصيل الناظر في الآفاق وفي الآثار العملية، فتنخرط إذن هذه العقيدة في سياق التأثير على الإرادة، وتدفع بها إلى العمل التعميري الصالح بعدما كانت متسكنّة في النفوس وكأنما هي غريبة عنها لانحدارها إليها من خارجها. وليس هذا الأمر بعزيز على هذه الأمة في واقعها الراهن، فإن أقدارها من الفطرة ومن القابلية للنظر والفهم لا تقلّ عن أقدار أهل الجاهلية الذين تأملوا العقيدة الجديدة بسليم فطرتهم، فآمنوا بها إيمان الجزم، فانطلقت بهم الإرادة إلى الإنشاء الحضاري المشهود، إذن هو ترشيد لاعتقاد المسلمين ضروري لدفعهم في سبيل النهوض.