بوابة الوفد:
2025-01-19@06:20:37 GMT

فلسفة الصبر

تاريخ النشر: 27th, June 2024 GMT

هل يصح أن تتقدّم كلمة الفلسفة على الصبر، وكيف يكون للصبر فلسفته؟ الحقيقة أن كل ما يتصل بالإنسان من قريب أو من بعيد، وراؤه فلسفة، والصبر كمقوم روحى هو من خصائص الإنسان، والفلسفة تتوجه إلى الإنسان: عقله ومعرفته وسلوكه وحضارته، ثم ما يحاط بالإنسان من عوامل تنهض به أو تؤخره ناهيك عن بيئته، يطور فيها أو يتركها هملاً بغير تصريف أو تطوير، وإرادة الاحتمال هى لب لباب الفلسفة، وإذا كان تعريف الصبر فى مجال الدين هو (ثبات باعث الدين فى مقابل باعث الهوى) فإنه فى المفهوم الفلسفى إرادة احتمال، وعزم على مواجهة المصاعب، وقدرة على امتصاص السقطات الإنسانية وتوظيفها ناحية الإيجاب، وطرد السلبى منها، ولن يكون هناك نجاح قط والمرء لا يقوى على الاحتمال ولا تترقى فيه عزيمة الاصطبار.

 

الصبور هو إنسان بامتياز، والعبادة التى تقوم على أركان الصبر هى عبادة نافعة بكل تأكيد، ونصف الدين صبر، والنصف الآخر شكر. وآفاق الفلسفة وظلال الدين هما قوام الإنسان الراقى لأنهما جعلا منه إنساناً صبوراً يحتمل الآفات والمعاطب، والتسلط الغبى من الأراذل، وسفاهة الأخلاق، وقلة الأدب، وسوء التصرّف ونذالة السلوك. والاحتمال تحكيم للعقل إزاء فلتات الطيش، وضبط للنفس بمقتضاه، والانتصار للمبدأ، ومقاومة ما تكره من واقع كدر قائم على القهر والتسلط. 

يمدك رافد الفلسفة بمدد العزم والاحتمال انتصاراً للعقل، وضبطاً لحركته الواعية فى التصرّف الإنسانى. ويمدك رافد الدين بالصبر تعلقاً بالمصير، وتضييقاً للطمع فى الدنيا وترقية لمسيرتها المؤقتة، واعتباراً للانتقال منها ولو بعد حين ومهما طال بقاؤك فيها. 

للإمام أبى حامد الغزالى طيب الله ثراه نظرات فائقة فى فلسفة الصبر باعتباره خاصية الإنس، ولا يتصور ذلك فى البهائم والملائكة‏، ‏أمّا فى البهائم فلنقصانها، وأمّا فى الملائكة فلكمالها‏.‏

يرى الغزالى أن البهائم سُلّطت عليها الشهوات وصارت مسخّرة لها فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة، وليس فيها قوة تصادم الشهوة، وتردها عن مقتضاها حتى يسمى ثبات تلك القوة فى مقابلة مقتضى الشهوة صبراً. وتلك هى فلسفة الغزالى فى الصبر، بمجرد النظر فى مضمون التعريفات الأوليّة يتبين لك كيف يعالج هذا العقل الكبير مسألة المفاهيم، ويفتح معانيها أمام القارئ من أيسر الألفاظ. أسس الصبر على المعقولية والتصور حين سلبه عن البهائم وخصّه بالإنسان، وزانه بالفاعلية العمليّة. 

وأمّا الملائكة؛ فإنهم جرّدوا للشوق إلى حضرة الربوبية بدرجة القرب منها، ولم تُسلّط عليهم شهوة صارفة صادّة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند.

وأمّا الإنسان فإنه خلق فى ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذى هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة ثم شهوة النكاح على الترتيب، وليس له قوة الصبر البتة، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند فى مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما، وليس فى الصبى إلا جند الهوى كما فى البهائم، ولكن الله تعالى بفضله وسعة جوده أكرم بنى آدم ورفع درجتهم عن درجة البهائم، فوكّل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين أحدهما يهديه، والآخر يقويه فتميز بمعونة الملكين عن البهائم‏.‏ واختص بصفتين‏:‏ إحداهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب، وكل ذلك حاصل من الملك الذى إليه الهداية والتعريف‏.‏

فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصلحة العواقب، بل إلى مقتضى شهواتها فى الحال فقط فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ‏.‏

وأمّا الدواء النافع مع كونه مضراً فى الحال فلا تطلبه ولا تعرفه، فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتّباع الشهوات له مغبّات مكروهة فى العاقبة، ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضرّ، فكم من مضرٍّ يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلاً ولكن لا قدرة له على دفعه، فافتقر إلى قدرةٍ وقوّةٍ يدفع بها فى نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوة، حتى يقطع عداوتها عن نفسه. فوكل الله تعالى به ملكاً آخر يسدده ويؤيده ويقويه بجنود لم تروها، وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة، فتارة يضعف هذا الجند، وتارة يقوّى ذلك بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد، كما أن نور الهداية أيضاً يختلف فى الخلق اختلافاً لا ينحصر.

كلام الغزالى يدفع لجهاد الإنسان ظلمات نفسه ضد كل ما فيه مضرّة، وأبرزها ظلمه لنفسه من قريب. والقرآن الكريم يقول (وقد خاب من حمل ظلماً) لكن أشد أنواع الظلم هو ظلم النفس لنفسها. والأكثر شدة هو ظلمها لغيرها، والظاهر أن ظلم النفس لغيرها نتيجة لظلمها لذاتها، فلن تر ظالماً مطلقاً إلا ونفسه معوجة منحرفة غير مستقيمة بحال. كل الآفات النفسية يعكسها على سواه، فيظلم غيره ويتمادى فى الظلم لأنه كان من قبل ظلم نفسه وأمعن فى ظلمها، وتلك هى الخيبة النكراء المقرونة بالتشويه الباطن للدخائل النفسية.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم بالإنسان الله تعالى

إقرأ أيضاً:

التوفيق الإلهي بين النجاح والخسران في مسيرة الإنسان

محمد الفرح *

عندما نقول إن الخيار الذي اتخذه اليمن في إسناد غزة كان بتوفيق الله، فإننا ننطلق من سنة إلهية ثابتة مفادها أن مسيرة الحياة عبارة عن مراحل يخضع الإنسان فيها للاختبار، ونتيجته في كل مرحلة تضعك بين خيارين: إما السخط الإلهي أو التوفيق الإلهي، يقابل ذلك خبيثًا أو طيبًا، كما قال تعالى: (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).

إذا كنت مسنودًا بمعونة الله وهدايته وتوفيقه، فأنت ستتجاوز كل مرحلة بنجاح، وتدخل إلى مرحلة أخرى تختبر فيها وتتجاوزها بنجاح، وهكذا حتى تلقى الله. وهي مراحل ارتقاء تحوز فيها رصيدًا تراكميًا إيمانيًا يجعلك قريبًا من الله. يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).

وإن كنت في دائرة سخط الله، تنتقل من مرحلة لأخرى بضلال وعمى حتى تلقى الله، وفيها يجمع الإنسان رصيدًا تراكميًا سلبيًا في كل مرحلة، نتيجته تبعدك عن الله وألطافه أكثر حتى تلقاه وأنت منحرفًا وخاسرًا.

علامات نجاحك وخسارتك تظهر مؤشراتها ودلالاتها هنا في الحياة من خلال المواقف الصحيحة التي وقفتَها ووفقك الله لها، ومن خلال الأعمال التي قمت بها دون أن تحبطها أو يشوبها خلل نفسي أو عملي. لأن البعض يوفقه الله إلى مرحلة معينة، فتدخل الكثير من المؤثرات أو الشبهات التي تؤثر على إيمانه ونشاطه، فتصرفه عن هداية الله، بالتالي يتعثر في منتصف الطريق، والبعض يسقط في بداية المشوار، والبعض يحتفظ بخلل إيماني أو فكري يظهر عند أي اختبار ولو في نهاية العمر، فيتعرض الإنسان للزيغ. قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ).

أما أسباب التوفيق فتتمثل في الارتباط الوثيق بالله وفق رؤية صحيحة، ليس ارتباطًا أعمى أو ارتباطًا وفق عقائد باطلة أو ارتباطًا قاصرًا. ويدخل ضمن ذلك الدعاء بالتوفيق والهداية والثبات، كما في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). إضافة إلى الارتباط بهدى الله ارتباطًا سليمًا وصحيحًا، يرتبط بالقرآن ليس من الناحية الفنية والتجويدية فحسب، بل ارتباطًا عمليًا وفق رؤية القرآن وسنة الله في الهداية.

فضلاً عن أهمية الالتزام العبادي ومراجعة هدى الله والذكر لله والاستغفار، الذي يساعد في تزكية النفس ويحصّنها من الانحراف والسقوط السلبي، ويهيئها للقيام بالمسؤولية وأن تحظى بتوفيق الله وتثبيته وتسديده.

نسأل الله أن يوفقنا ويثبت أقدامنا وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، كما جاء في قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

* عضو المكتب السياسي لأنصار الله

مقالات مشابهة

  • التوفيق الإلهي بين النجاح والخسران في مسيرة الإنسان
  • الآيات الطبية فى القرآن
  • كيف نصبر على الابتلاء والأقدار الصعبة؟
  • انجلز والدفاع عن فلسفة هيجل
  • ما هي أمراض القلوب في الدين؟.. اعرف أخطرها وكيفية العلاج منه
  • مفتي الجمهورية: يجب ألا يُحكم على الإنسان بالكفر إلا ببرهان ساطع
  • ممكن تخرجك عن الدين.. أهمية الكلمة وأثرها كما علمنا القرآن| فيديو
  • جامعة ظفار تطلق برنامج دكتوراة في فلسفة القانون
  • جمعة: التغيير بين اختيار البشر وإرادة الله
  • الدعاء العنيف- جدلية الدين والسياسة بين التاريخ والحاضر السوداني