هل يصح أن تتقدّم كلمة الفلسفة على الصبر، وكيف يكون للصبر فلسفته؟ الحقيقة أن كل ما يتصل بالإنسان من قريب أو من بعيد، وراؤه فلسفة، والصبر كمقوم روحى هو من خصائص الإنسان، والفلسفة تتوجه إلى الإنسان: عقله ومعرفته وسلوكه وحضارته، ثم ما يحاط بالإنسان من عوامل تنهض به أو تؤخره ناهيك عن بيئته، يطور فيها أو يتركها هملاً بغير تصريف أو تطوير، وإرادة الاحتمال هى لب لباب الفلسفة، وإذا كان تعريف الصبر فى مجال الدين هو (ثبات باعث الدين فى مقابل باعث الهوى) فإنه فى المفهوم الفلسفى إرادة احتمال، وعزم على مواجهة المصاعب، وقدرة على امتصاص السقطات الإنسانية وتوظيفها ناحية الإيجاب، وطرد السلبى منها، ولن يكون هناك نجاح قط والمرء لا يقوى على الاحتمال ولا تترقى فيه عزيمة الاصطبار.
الصبور هو إنسان بامتياز، والعبادة التى تقوم على أركان الصبر هى عبادة نافعة بكل تأكيد، ونصف الدين صبر، والنصف الآخر شكر. وآفاق الفلسفة وظلال الدين هما قوام الإنسان الراقى لأنهما جعلا منه إنساناً صبوراً يحتمل الآفات والمعاطب، والتسلط الغبى من الأراذل، وسفاهة الأخلاق، وقلة الأدب، وسوء التصرّف ونذالة السلوك. والاحتمال تحكيم للعقل إزاء فلتات الطيش، وضبط للنفس بمقتضاه، والانتصار للمبدأ، ومقاومة ما تكره من واقع كدر قائم على القهر والتسلط.
يمدك رافد الفلسفة بمدد العزم والاحتمال انتصاراً للعقل، وضبطاً لحركته الواعية فى التصرّف الإنسانى. ويمدك رافد الدين بالصبر تعلقاً بالمصير، وتضييقاً للطمع فى الدنيا وترقية لمسيرتها المؤقتة، واعتباراً للانتقال منها ولو بعد حين ومهما طال بقاؤك فيها.
للإمام أبى حامد الغزالى طيب الله ثراه نظرات فائقة فى فلسفة الصبر باعتباره خاصية الإنس، ولا يتصور ذلك فى البهائم والملائكة، أمّا فى البهائم فلنقصانها، وأمّا فى الملائكة فلكمالها.
يرى الغزالى أن البهائم سُلّطت عليها الشهوات وصارت مسخّرة لها فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة، وليس فيها قوة تصادم الشهوة، وتردها عن مقتضاها حتى يسمى ثبات تلك القوة فى مقابلة مقتضى الشهوة صبراً. وتلك هى فلسفة الغزالى فى الصبر، بمجرد النظر فى مضمون التعريفات الأوليّة يتبين لك كيف يعالج هذا العقل الكبير مسألة المفاهيم، ويفتح معانيها أمام القارئ من أيسر الألفاظ. أسس الصبر على المعقولية والتصور حين سلبه عن البهائم وخصّه بالإنسان، وزانه بالفاعلية العمليّة.
وأمّا الملائكة؛ فإنهم جرّدوا للشوق إلى حضرة الربوبية بدرجة القرب منها، ولم تُسلّط عليهم شهوة صارفة صادّة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند.
وأمّا الإنسان فإنه خلق فى ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذى هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة ثم شهوة النكاح على الترتيب، وليس له قوة الصبر البتة، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند فى مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما، وليس فى الصبى إلا جند الهوى كما فى البهائم، ولكن الله تعالى بفضله وسعة جوده أكرم بنى آدم ورفع درجتهم عن درجة البهائم، فوكّل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين أحدهما يهديه، والآخر يقويه فتميز بمعونة الملكين عن البهائم. واختص بصفتين: إحداهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب، وكل ذلك حاصل من الملك الذى إليه الهداية والتعريف.
فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصلحة العواقب، بل إلى مقتضى شهواتها فى الحال فقط فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ.
وأمّا الدواء النافع مع كونه مضراً فى الحال فلا تطلبه ولا تعرفه، فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتّباع الشهوات له مغبّات مكروهة فى العاقبة، ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضرّ، فكم من مضرٍّ يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلاً ولكن لا قدرة له على دفعه، فافتقر إلى قدرةٍ وقوّةٍ يدفع بها فى نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوة، حتى يقطع عداوتها عن نفسه. فوكل الله تعالى به ملكاً آخر يسدده ويؤيده ويقويه بجنود لم تروها، وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة، فتارة يضعف هذا الجند، وتارة يقوّى ذلك بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد، كما أن نور الهداية أيضاً يختلف فى الخلق اختلافاً لا ينحصر.
كلام الغزالى يدفع لجهاد الإنسان ظلمات نفسه ضد كل ما فيه مضرّة، وأبرزها ظلمه لنفسه من قريب. والقرآن الكريم يقول (وقد خاب من حمل ظلماً) لكن أشد أنواع الظلم هو ظلم النفس لنفسها. والأكثر شدة هو ظلمها لغيرها، والظاهر أن ظلم النفس لغيرها نتيجة لظلمها لذاتها، فلن تر ظالماً مطلقاً إلا ونفسه معوجة منحرفة غير مستقيمة بحال. كل الآفات النفسية يعكسها على سواه، فيظلم غيره ويتمادى فى الظلم لأنه كان من قبل ظلم نفسه وأمعن فى ظلمها، وتلك هى الخيبة النكراء المقرونة بالتشويه الباطن للدخائل النفسية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم بالإنسان الله تعالى
إقرأ أيضاً:
عمرو الليثي: لا تشتكي كثيرًا.. ربما تعيش ما يتمناه غيرك
وجه الإعلامي الدكتور عمرو الليثي رسالة مؤثرة خلال مقدمة برنامجه الإنساني "أبواب الخير"، دعا فيها إلى التأمل في النعم اليومية التي قد يراها البعض "روتينية"، بينما يتمناها آخرون.
وقال الليثي: "ربنا يرزقك ويعطيك صحة وأسرة وعافية، وييجي حد يسألك: عامل إيه؟ تقول له: عادي.. مفيش جديد.. روتين وحياة مملة"، مؤكداً أن هذا "الروتين" الذي يراه البعض مملاً، هو حلم يتمناه الكثيرون.
وأشار إلى قول الله تعالى: "وقليل من عبادي الشكور"، داعياً إلى أن يكون الإنسان من هؤلاء القلة الذين يقدرون النعم ويحمدون الله عليها.
وأضاف الليثي: "بص لأي مشكلة من مشاكلك وأنت تعرف أن ربنا لم يكن ليضعك فيها لو مكنتش قدها ومهيأ لها"، مستشهداً بآية: "لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها"، موضحاً أن الإنسان يجب أن ينظر إلى اختباراته في الحياة باعتبارها فرصة للصبر والثبات، لا مدعاة للشكوى والجحود.
وأكد أن الإكثار من التذمر قد يحوّل الابتلاء إلى اختبار لا يحتمله الإنسان، مضيفاً:
"ممكن تكون مش قده، وساعتها بس هتتمنى ترجع تاني لحياتك اللي أنت سميتها عادية، مع إنها مش عادية خالص ونعمة أنت مش داري بها".
وفي جانب آخر من حديثه، سلط الليثي الضوء على أهمية البساطة وسهولة الطبع في العلاقات الإنسانية، قائلاً: "لو لقيت طبع السهولة في شخص، اوعى تفرط فيه، الإنسان السهل.. مفيش أجمل منه".
وتابع: "سهل يسامحك، سهل تطلب منه، سهل تتناقش معاه، عتابه خفيف زي النسمة، وخصامه صمت، وفرحته مفرحة".
واختتم الإعلامي رسالته قائلاً: "خليك بسيط وسهل، متخوفش حد منك، متبينش حواجز نفسية بينك وبين اللي حواليك، صدقوني، من كان نصيبه في الدنيا لين القلب فقد فاز".