يوظف الروائي الفرنسي ماثيو بليتزي، في روايته الأحدث "أنا المجيد" الصادرة مؤخرا عن دار "لو تريبود" الفرنسية، الشخصية المروعة والدموية لـ "ألبرت فاندال" المعروف باسم "بوبي البركة" التي اشتغل عليها في كتابه التوثيقي "زمن التماسيح" بالشراكة مع المؤلف كمال خليف.

وتعيد رواية "أنا المجيد" شخصية ألبرت فاندال إلى مسرح السرد، ليس في جلده القاسي وبروحه المجرمة فحسب، بل في شخص رغم ما بلغه من عمر مديد، يستمر في الاعتقاد أن دمويته وفجوره وجرائمه المقترفة في حق الجزائريين، يمكن التغاضي عنها وتبرر بيسر إذا قورنت بالغاية التي ادعاها هو وبقية المعمرين المستعمرين أمثاله، بأنهم رسل حضارة جاؤوا إلى الجزائر لتخليص برابرتها من الظلمات.

"الروائي الفرنسي ماثيو بليتزي ناقش صورة فرنسا الاستعمارية مع صورة فاندال الجشع في روايته الأخيرة (الصحافة الفرنسية) في نقد نظرية "المستعمر الطيب"

يمكن بالطبع فهم هذه العقلية الاستعمارية بقراءة ما صدر من كتب وسير حرب فرنسا على الجزائر بين عامي 1838 و1842، التي تظهر سذاجة الطرح التبريري الذي اعتمده الغزو الفرنسي للجزائر، لكن بليتزي لم ينشغل في روايته "أنا المجيد" بهذه البروباغاندا التاريخية ولم يستهوه الوقوف عندها، تماما كما فعل في روايته التي صنعت الحدث قبل سنتين "مهاجمة الأرض والشمس" الفائزة بجائزة لوموند الفرنسية (2022)، والتي أنهى بها "ثلاثية الجزائر" التاريخية بعد "كانت أرضنا" الصادرة عن دار ألبين ميشال، و"خطوة خاطئة في حياة إيما بيكار" الصادرة عام 2015 عن دار فلاماريون، ويضيف الناقد الفرنسي عمله الموسوم "المجانين المسنون" إلى مشروعه الروائي المشتغل على تعرية فرنسا الاستعمارية، خاصة فيما يتعلق بجرائمها في الجزائر. وهو المشروع الذي يبدو أنه لم يكتمل بعد، بدليل روايته "أنا المجيد" التي دارت أحداثها في الأجواء الظلامية نفسها لسابقاتها.

تدور أحداث الرواية حول شخصية ألبرت فاندال، الذي صوره الكاتب مسرفا في السمنة وطاعنا في السن، بحيث جعل وزنه يناهز 140 كيلوغراما ويبلغ من العمر 130 عاما، وهي إحالة ذكية على الفترة التي قضاها الاستعمار الفرنسي في الجزائر المتجاوزة 132 سنة، وما جره ذلك من خير على فرنسا التي تمكنت بفضل استغلالها للموارد الجزائرية من أن يصبح اقتصادها واحدا من أهم اقتصاديات العالم.

"ألبرت فاندال" المسخ الغول

لا يكتفي بليتزي بهذا الإحالة لمطابقة الصورتين: صورة فرنسا الاستعمارية مع صورة فاندال المعمر الجشع، بل عمل إلى إضافة ما هو ضروري من أحداث وتصوير، يسمح للقارئ بإدراك معنى الوحشية في أحقر تجلياتها، التي كانت من يوميات الجزائري في الفترة الاستعمارية، بحيث أظهر ببراعة الجانب المظلم والحيواني لبطل روايته، فرغم ما بلغه من عمر متقدم وحالته الجدية غير الصحية، لا يفوت فرصة في اغتصاب الجزائريات وإذلال أقاربهن، فهو يرى أن العربي (الجزائري) مجرد شيء، أداة تسمح له بإشباع شهواته ورغباته، وفي أفضل الأحوال ليس إلا دابة وظيفتها خدمته، وهو ما سمح لبليتزي برسم شخصية بطل روايته بألوان من الاحتقار، جعلته كائنا مسرفا في البشاعة الروحية، يجمع في ذاته كل المعمرين الفرنسيين، كأنه فرانكنشتاين جديد صنع من تجميع لحومهم وأعضائهم، على حد تعبير الناقد الفرنسي بيير إدوارد بيون.

سبق بليتزي أن تناول عقلية المعمرين في روايته "مهاجمة الأرض والسماء"، الذي يبدو أنه تناول يصب في العقيدة التاريخية التي اعتنقها، القائلة برفض أي تبرئة للمعمرين على أنهم مجرد مدنيين، لم يستولوا على أراضيهم إلا بأمر من الدولة والجيش الفرنسي، فبليتزي يرى أنهم يتحملون القدر نفسه من المسؤولية، بل رصد في أكثر من رواية أنواعا رهيبة من الجرائم التي اقترفها المعمرون، تفوق بشاعة ما اقترفه الجنود الفرنسيين من محارق ومذابح.

هكذا يلبس الروائي بطله "ألبرت فندال" جلد الغول الذي ما استقر على أراضيه الشاسعة إلا بعد أن قام بتطهيرها من مالكيها الأصليين. إننا أمام إبادة جماعية تبررها نبالة الحضارة التي تدعيها فرنسا، والشبيهة بنحو مختل بالإبادة الممارسة على الفلسطينيين في وقتنا الراهن، بالاسم نفسه لهذه الحضارة وبالأدوات ذاتها، ليتأكد مرة أخرى أن التاريخ لا يعيد نفسه فحسب، بل يستمتع أحيانا بإعادة نفسه.

المجرم الفخور بجرائمه

وكأي فعل ينتج عنه رد فعل، فإن ما يمارسه فندال من حقارة وظلم وجرائم، سرعان ما سينقلب عليه، ليس عليه فقط، بل على جميع من ينتمون إلى فصيلته من الغيلان البشرية، مع اندلاع الثورة الجزائرية واشتعال حربها لمدة تزيد على 7 سنوات.

جاءت رواية "أنا المجيد" على لسان راو واحد بضمير المتكلم، كشهادة لألبرت فندال، تشبه الاعتراف الذي رغم ما تضمنه من ضعف لم يكن شهادة ندم، بل كان إصرارا على الكذب على النفس ومحالة لتبرير ما لا يقبل التبرير فيما أقدم عليه الجيش والمعمرون الفرنسيون من نهب للأرض وإخضاع بشع للجزائريين وعنف مستمر، تبرره العنصرية والأنانية والشعور بالفوقية.

فقد تمكن الروائي من رصد العقل المريض للمعمرين المتسم بانعدام تام للضمير، ولعل هذا ما يفسر -ولو قليلا- النوستالجيا الفرنسية بخصوص جنتها المفقودة في الجزائر، فلن يشعر القارئ طوال السرد بأي نوع من الندم على جميع ما حدث من جرائم وتقتيل لا يبررها عقل أو دين، بل كل ما سيشعر به هو حنين البطل إلى سلطة كان يملكها، تسمح له بفعل أي شيء دون عقاب.

حنين يجعله يتصور دائما أن بمقدور المستقبل القريب أن يجعله يسترد جنته، وكأننا نستعيد بلسانه أحلام ميشال دوبري وهو يخطب في البرلمان الفرنسي عام 1959 مصرحا: "ستشكل الجزائر نفسها بسماتها الخاصة في إطار السيادة الفرنسية"، وهي الأحلام التي استمر في الإيمان بها عقودا بعد ذلك حتى سنة رحيله عام 1996.

توطين مجرمو الحرب

تدخل هذه الرواية ضمن المشروع السردي الذي يشتغل عليه بليتزي منذ عقود، والمتناول "تجريم المعمرين" في الجزائر، فقد دأب الروائيون وحتى المؤرخون إلى تجريم الاستعمار الفرنسي دون الاستيطان.

غير أن موجة فكرية جديدة يقودها بليتزي في عالم الرواية والمؤرخ بنجامين ستورا بين المؤرخين الجدد، بدأت تنتشر بغاية تجريم المعمرين الذي يرى أصحاب هذا الرأي، أنهم السبب المباشر بعد الغزو في بقاء الاستعمار أزيد من 132 سنة، على اعتبار أنهم مع الوقت أصبحوا فئة اعتقدت الجمهورية الفرنسية بضرورة حمايتهم كبقية مواطنيها، حتى قامت الجمهورية الخامسة التي أقرت بمواطنتهم دون إقرارها بحقوقهم في الجزائر، لكنها لم تسع يوما إلى تجريمهم أو حتى توبيخهم.

وهي موجة كما يبدو تشتغل على تدمير المنطق الاستعماري من الداخل رغم ما تواجهه من تجاهل ومقاومة، زادت شدتها بعدم انضمام الكتاب الجزائريين على اختلاف لغات إبداعهم إليها، بسبب ما تعرفه الرواية الجزائرية التاريخية من انتقائية وتردد أحيانا، استحال معهما إجماعهم على مفهوم واحد للذاكرة.

ماثيو بليتزي هو الاسم الأدبي المستعار الذي اختاره الفرنسي جيرارد مارتيال برينسو، تزامنا مع صدور كتابه "الملك الصغير" عام 1998، وكان قد أصدر باسمه الحقيقي 3 أعمال دون أن تحقق له أي نجاح، ليجد إلهامه في رواية الذاكرة عبر عمله الموسوم "كانت أرضنا" الذي اعتبره النقد شهادة ميلاد هذا الروائي المتميز.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أنا المجید فی الجزائر فی روایته

إقرأ أيضاً:

اليقظة في وجه الاعتياد

مها الحجري
النفس البشرية، في فطرتها، لم تُخلق لتحمل هذا السيل الجارف من الفواجع والمآسي، إنها تهرب من قسوة الواقع إلى حيلة خفية، تُلبس بها الفظائع ثوب الألفة، لئلا ينكسر القلب تحت وطأة الألم..
ولكن ما تراه النفس راحة قد يكون الفخ الذي تُطفئ فيه جذوة إنسانيتها، فتتبلد مشاعرها، ويخبو غضبها، وتتحول إلى شاهدة باردة على ما لا يجوز أن يُرى إلا بالروح الثائرة.
إنَّ الاعتياد على المآسي هو القيد الذي يكبل الإنسان عن الفعل، فهو يغمس الظلم في كأس مألوفة، حتى لا يعود مرارها يستفز الذائقة ولا يُثير النفوس، ومن هنا كان لزامًا أن نجدد شعورنا بالغضب الشريف، ذاك الغضب الذي يُبقي فينا روح الإنسان الذي لا يرضى الدنية في حق أخيه ولا يقبل السكوت على الفجور في الحق.
ولا تُطلب هذه اليقظة برؤية المشاهد المؤلمة دائمًا، فقد يُثقل ذلك على القلب، وإنما يُطلب تجديد الإحساس عبر التأمل في الحياة كما ينبغي أن تكون حياة الطفل في داره آمنًا بين أهله، وحكايات الذين أحبوا وانتظروا بعضهم سنين وراء قضبان الظلم، وأحلام العائدين الذين حملوا مفاتيح بيوتهم في المنافي كأنها قطع من أرواحهم، في هذه الصور ترى النقيض الجلي لما يفعله الظلم، فيشتعل في قلبك الحزن لا قنوطًا، بل حزنًا يدفعك إلى رفض الاعتياد والمقاومة.
أما مقاومة الاعتياد، فهي مقاومة الموت البطيء للضمير، فهي اليقظة التي تُعيد للروح عنفوانها، وتزرع فيها الإباء الذي لا يرضى بأن يتطبع مع القهر، هي الصرخة التي تُبقيك إنسانًا حيًّا، يرى المأساة في حقيقتها، فيغضب لها غضبًا عاقلًا، ويمتلئ حزنًا شريفًا يُحركه نحو الحق، لا يجعله أسيرًا للألم.
وعلى من يقف بعيدا أن يُبقي عينيه مفتوحتين على الحقيقة، فلا يغض الطرف عن المأساة، ولا يدع الألم ينزلق بين سطور الأخبار كخبرٍ عابر تُطوى صفحته بلا أثر، إن دوي القصف، وأنين الجراح النازفة في غزة، ليس مجرد ضجيج في أذن العالم، بل هو نداءٌ مزلزل للضمائر الحية، يطالبها باليقظة والانتباه، تلك الدماء التي تسيل، لا يجوز أن تُختزل في أرقامٍ تُحصى لتُنسى، بل هي مشاعل تنير لنا الطريق إلى الإصرار على مقاومة الظلم، ورفض الانحناء أمام طغيان القوة.
غزة ليست مكانًا عابرًا في هذا العالم، بل هي فكرة تتجاوز الجغرافيا لتُصبح رمزًا خالدًا للإباء في وجه الطغيان، إنها لوحة إنسانية تتشابك فيها الألوان بين الظلم والأمل، بين الدمار والإصرار، هناك كل حجرٍ يحمل حكاية، وكل طريقٍ يروي قصصًا من التحدي، حيث يُكتب التاريخ بدماء الأبرياء وبصبر من لا يملك إلّا إرادته، غزة هي النداء الصامت الذي لا يحتاج إلى كلمات يُلقي بثقله على الضمائر ليوقظها، هي الامتحان الذي يُظهر من يقف مع الحق ومن يُشيح بوجهه عنه، إنها ليست فقط صراعًا مع آلة الحرب؛ بل مع الزمن الذي يُحاول أن يجعل الألم جزءًا من العادة، لكنها تبقى شاهدة على أنَّ الحق مهما بدا ضعيفًا، يملك من القوة ما يكفي ليصمد.
ليس المطلوب أن تُغرق نفسك في الألم حتى تفقد القدرة على الفعل؛ بل أن تجعل من الغضب نورًا يتقد في داخلك، ومن الحزن قوة تحرك ضميرك، لا تدع الاعتياد يسلبك إنسانيتك، فإنَّ الغضب الواعي هو الذي يُحيي القلوب، والحزن النبيل هو الذي يجعلنا نرفض الظلم ونقاوم الطغيان، كُن كالنار التي لا تكتفي بالاحتراق؛ بل تُنير الطريق أمام السائرين نحو الحق.
 

مقالات مشابهة

  • اليقظة في وجه الاعتياد
  • بودبوز لشرقي وأكليوش: “اختارا المنتخب الذي يريده القلب”
  • رفيق شلغوم يكتب: دولة ناشئة.. أهداف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الواضحة
  • هذه التحديات الجيوسياسية التي تنتظر الجزائر خلال عام 2025
  • حقوقي لـ عربي21: الجزائر توظف ملف التجارب النووية الفرنسية لأهداف شعبوية
  • ” الجزائر لن تغفر ولن تنسى”.. تبون يشدد على ضرورة اعتراف فرنسا بما ارتكبته من مجازر في بلاده
  • الرئيس الجزائري مهاجمًا الكاتب بوعلام صنصال: لص مجهول الهوية أرسلته فرنسا
  • تبون يهاجم كاتباً جزائرياً: محتال وخائن
  • تبون يتحدث عن الصحفي الموقوف صنصال.. مجهول الأب أرسلته فرنسا (شاهد)
  • حوادث من العالم.. «حدث» يقتل شقيقته ومصرع مهاجرين وسيّاح