مواصلة مناقشة تحديات التحول الديمقراطي (3/4)
تاريخ النشر: 27th, June 2024 GMT
صديق الزيلعي
نواصل إعادة نشر المقالات كتبتها من 21 والي 24 يونيو 2020، وقد تفضل قوقل بتذكيري بها. النضال لانهاء الحرب، لا ينفصل عن الحوار حول مستقبل ثورتنا ومستقبل قضية التحول الديمقراطي وإقامة دولة مدنية مستقرة.
تحديد اهداف المرحلة الانتقالية مهمة ضرورية حتى تكون الرؤية واضحة امام الجميع. اهدافنا الأساسية هي بناء نظام ديمقراطي تعددي، تفكيك دولة التمكين، حل المشاكل الاقتصادية وتحسين معاش الناس، سياسة خارجية متوازنة.
شاركت النساء بقوة وحماس وبسالة في الثورة. تعرضن للضرب بالسياط واستنشاق مسيل الدموع، واعتقلن ولم يتراجعن. وكن قوة أساسية في الاعتصام، وساهمن بفعالية في كل انشطته. وعندما قامت قوى الشر والظلام بفض الاعتصام نلن نصيبهن من الضرب بالرصاص والسياط والاغتصاب، وقدمن شهيدات من اجل الوطن. والآن وقد حققنا انتصارنا الأولى، يجب علينا ان نحقق دين النساء السودانيات عاينا. ان أي تحول ديمقراطي لا يستجيب لحقوق النساء هو تحول ناقص وغير ديمقراطي. للنساء الحق في المشاركة في كافة أجهزة الدولة، وفي المساهمة الفاعلة في تحديد مستقبل بلدهن. كما يجب علينا تغيير كافة القوانين التي تسلبهن حقوقهن او تذلهن. فقوانين الأحوال الشخصية، والنظام العام، والخدمة المدنية والتمويل الأصغر وغيرها تحتاج لتطوير حتى تحترم حقوق النساء.
الجيل الذي راهنت علية دولة الاسلامويين، وحاولت بمختلف الأساليب تشكيله وقولبته، هو الجيل، ويا للفخر، الذي هزمها. لقد نجح في تحقيق ما فشلت في تحقيقه أجيال سابقة. ونحن لا ننظر للمسألة كصراع بين الأجيال، ولكننا نعطى هذا الجيل حقه المشروع. وهذا الحق لا يتأتى الا بمواجهة الصعاب التي واجهته في دراسته وحياته وعمله. علينا مواجهة قضية عطالة معظم هذا الجيل، وان نفكر بجدية في توفير فرص العمل له. علينا، بعد ان تعرفنا على قدراته، ان نمنحه فرصة عادلة في قيادة البلاد، وفي تبوأ كل المناصب التي يستحقها بعلمه وتأهيله. ويقع على الدولة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني واجب أساسي في فتح المجال امام هذا الجيل ليقود، وان يساهم بفكره في تطوير هذه المؤسسات.
عانت بلادنا، خلال المراحل الديمقراطية الثلاث، من ظواهر التناحر والاختلاف والصراع. فالصراعات والمكايدات الحزبية استهلكت طاقات الأحزاب والدولة والشعب، ومهدت الطريق للانقلابات العسكرية. وعلينا التصدي لها هذه المرة حتى لا تصبح أحد معاول هدم ديمقراطيتنا. ونعلم تماما ان الصراعات القبلية والعنصرية والجهوية كانت من عوامل الهدم واشعال الكراهية. تواجه كافة منظماتنا تحدي تخطي تلك السلبيات، وان تجعل من تعدديتنا وتنوعنا واختلافنا عوامل قوة وازدهار. وأعتقد ان على احزابنا واجب ان تخلق روح جديدة في التعامل مع الآخر، روح جوهرها الحوار العقلاني والطرح الموضوعي والعمل الجماعي لتحقيق الأهداف العليا. وان نعمل جميعا، داخل وخارج الأحزاب، لخلق وعي جماهيري ورأي عام قوي يراقب ويرفض كل التجاوزات، مهما كان مصدرها. وان تعلم الأحزاب، كل الأحزاب، ان وعي الجماهير يراقبها ويلاحقها وسيحاسبها عندما يحين موعد الانتخابات العامة. وان شعبنا سيتعلم، بالممارسة وتطور الوعي، ان يصوت للبرامج وليس للولاءات التقليدية والعصبيات المدمرة.
كثر الحديث عن ضرورة وجود مشروع وطني سوداني، يجمع عليه الناس، ويحدد مستقبل مسار الوطن. ونعتقد ان من تحديات المرحلة الانتقالية ان تستجيب لهذا التحدي الذي فشلنا في انجازه خلال الستين عاما الماضية. وان تستند حكومة المرحلة الانتقالية للسند الجماهيري الضخم الذي يدعمها لطرح المشروع القومي. ان تفتتح الحوار الشامل والعقلاني والموضوعي حول ما نقصده بالمشروع الوطني، وما هي سمات ذلك المشروع وكيف نحقق التوحد حوله. وان نحسم قضايا محورية حول شكل ومضمون الدولة السودانية، وان نحدد مكامن الخطر والانقسام والتفرق التي عطلت وحدة شعبنا. وان نخلق من تعدديتنا مظهر للقوة والتقدم. والعمل بجد لتدعيم روح الانتماء للسودان ومحاربة العنصرية والقبلية والجهوية والاستعلاء الاجتماعي، وان نعلن بلا تهيب ان هويتنا الأساسية هي السوداناوية، التي صهرت داخلها هوياتنا المختلفة افريقية وعربية وإسلامية ومسيحية. وان يسبق كل ذلك الجهد قيام المؤتمر الدستوري، ثم يتوج، وقبل نهاية المرحلة الانتقالية، بقيام المؤتمر الدستوري، كمؤتمر جامع لكل السودانيين.
الانشغال بكتابة دستور وتشكيل مجلس وزراء مدني واجراء انتخابات عامة، تشكل ضرورات لإنجاز التحول الديمقراطي، وهو ما نسميه بالمنهج الفوقي. ولكن المنهج الفوقي، وحده، لن ينجز التحول الديمقراطي. استخدام المنهج الفوقي، لوحده، يشكل أحد تحديات قضية التحول الديمقراطي في بلادنا فقضية التحول الديمقراطي تحتاج لمنهج شامل يغير كافة أطر وبنيات المجتمع القاعدية. منهج يكتب الدستور الدائم، ثم يغير كل قوانين الحكم المركزي والمحلي والانتخابات والنقابات والمجتمع المدني والاعلام والتعليم والصحة والثقافة والرياضة وكل ما يمس حياة شعبنا. منهج يقوم بحرث عميق للأرض التي تخشبت بفعل الدكتاتوريات المتعاقبة، ليزيل عنها كل الشوائب المتراكمة، ويجعلها صالحة لزراعة الجديد الديمقراطي والإنساني.
يتطلب وضع أساس متين للتحول الديمقراطي أن ينبني جهاز الدولة، من اعلى قممه وحتى أصغر وحداته على نظام مؤسسي صارم. مؤسسي بمعنى ان تتحدد فيه الهياكل الإدارية ومناهج العمل والمسئوليات الفردية وأساليب التقييم بدقة. وذلك النظام ينطبق أولا على الحكومة " السلطة التنفيذية " وهي التي تقود كل مؤسسات البلد. ومن المهم ان تكون عملية الوصول للسياسات ومن ثم اصدار القرارات ان تتم بشكل منهجي به تسلسل منطقي، وان يكوم مبنيا على البحث والدراسة والتمحيص الدقيق. تقوم به هيئات استشارية تقدم بدائل محددة للرئيس أو للوزير. ويكفينا الدمار الذي احدثه تسلط حكم الفرد خلال عهد نميري، ومرة أحري خلال عهد البشير. حيث يقرر الرئيس لوحده، حول أخطر القضايا الوطنية، وغالبا في لحظة انفعال. يتم ذلك رغم وجود المستشارين الذين لا يملكون شجاعة ابداء رأي مخالف. ولكن في ظل الديمقراطية يحق للمستشار الذي يحس بخطورة قرار معين على مصالح البلاد ان يلجأ للاستقالة المعلنة احتجاجا، أو يلتجئ للسلطة الرابعة " الصحافة" للتحذير من المخاطر. وضع مثل النظام المحكم يساعد في اخراج بلادنا من ازماتها المزمنة، ويجعل المنهج العلمي يعلو ولا يُعلي عليه.
استهدف النظام البائد النقابات منذ يومه الأول، فحلها وصادر ممتلكاتها واعتقل قادتها وعذبهم وقتلهم. كل ذلك الحقد الأسود والعداء المر للحركة النقابية لأنه يعلم تماما طبيعتها الديمقراطية وارثها الوطني. ونري، بلا تعطيل، ضرورة اصدار القوانين النقابية الجديدة التي تستبدل قوانين النظام البائد، وتفتح المجال لإعادة تكوينها بديمقراطية تامة نابعة من القواعد. فمنظمات العاملين النقابية هي الحارس الأمين على الثورة وعينها الساهرة في مواقع العمل، وقوتها الضاربة في لحظة المواجهات والأزمات.
كانت قضية الانتخابات وقانونها بؤرة للاختلاف والصراع في كل الأنظمة الديمقراطية التي مرت على بلادنا. فتقسيم الدوائر الانتخابية يستدعى اجراء إحصاء سكاني جديد وملتزم بالمعايير المعروفة. كما ان نصوص قانونه كانت وسوف تكون مصدرا للخلاف. لذلك الانتباه المبكر لإجراء الاستفتاء والتوافق على القانون خطوة مهمة لتحقيق التحول الديمقراطي والمضي بخطي ثابتة نحو ديمقراطية مستدامة.
يشكل الاعلام كعب أخيل المرحلة الانتقالية. فقد عمل نظام الاسلامويين، منذ أيامه الأولى، على احكام قبضته على الاعلام، بشكل مطلق. وضيق الحصار على الصحافة والصحفيين، بقيود وقوانين مشددة. وأضاف لتلك الممنوعات والمحاذير ما اسماه بالرقابة القبلية. وكان يلجأ لحرق النسخ المطبوعة من الجريدة المقصودة امعانا في الأذى والخسائر. ومما زاد وضاعف من ضغوط النظام الدور الذي لعبه رؤساء التحرير، وغالبيتهم العظمي من كوادر النظام، في الرقابة الداخلية. وعندما اشتدت الحملة الداخلية الضغوط العالمية على تكميم الصحافة، لجأ النظام لاستخدام أساليبه الماكرة، وقام بتمليك أو تسهيل امتلاك صحف تحت ادعاء انها صحف مستقلة. وطبقت نفس السياسة على التلفزيون. وهذا هو الوضع الإعلامي الذي ورثته الثورة، ويشكل أحد تحديات التحول الديمقراطي. وقد عاشنا الحملة التي قامت وتقوم بها تلك الجرائد وأولئك الصحفيين ضد خيار شعبنا وضد حكومته الانتقالية. ورغم سيطرة الصحافة المناوئة للثورة، ورغم الصوت العالي للصحفيين الذين تربوا في العهد البائد الا اننا نتمسك بحرية الصحافة. وندعو لمراجعة كل القوانين التي تشكل قيودا على العمل الصحفي مثل القيد الصحفي وتسجيل الصحفيين وشروط اصدار الصحف. لان حرية الصحافة من أسس النظام الديمقراطي، واحدي أدوات رقابته على الجهاز التنفيذي. كما ندعو الدولة للتشريع لحق الصحفيين في الحصول على المعلومة، وانهاء ممارسات النظام المباد في التستر واخفاء المعلومات، واذلال الصحفيين الذين يسعون وراء الحقيقة، ويمارسون عملهم كسلطة رابعة. وعلينا مواجهة اعلام الاسلامويين بإعلام الثورة وليس بمصادرة الحريات الصحفية. وأري ان الجهد يجب الا يكون جهد الحكومة لوحدها، بل جماعي لكل قوى الثورة. ومن الثابت ان المعرفة قوة، وقوة مؤثرة. وانعدام المعرفة الحقيقية الصادقة يشكل خطرا على مستقبل التحول الديمقراطي، وسببا لاضطرابات وقلاقل سببها الجهل بالحقيقة.
توقعت جماهير شعبنا التحسن المباشر لحياتها فور تحقيق الاستقلال، ولم يحدث. وتكرر نفس التطلع بعد ثورة أكتوبر 1964، وبعد انتفاضة مارس، ولم يحدث1985. والآن نواجه نفس الإحساس الجماهيري الطاغي بتغير حياتها فور سقوط نظام الاسلامويين. ولم يحدث ذلك مباشرة بعد سقوط رأس النظام وحتى الآن. الأمر الذي بدأ يحدث احباطا وسط بعض القطاعات الشعبية. وبالخبث الذي نعرفه عن الاسلامويين صاروا يخلقوا الازمات التموينية والمعيشية والاقتصادية، بما لهم من سيطرة على قطاعات أساسية من اقتصاد بلادنا، ثم يأتون ببراءة الذئب ويتحدثون عن معاناة الجماهير. قضية الآمال العظام للجماهير ثم تعرضها للإحباط بسرعة، قضية من الأهمية بمكان. والسعي الجاد لحلها بتمليك الحقائق وحل المشاكل المعيشية ضروري لاستقرار الثورة والإعداد لإنجاز التحول الديمقراطي.
وحدة قوى الثورة، التي تتكون من قوى الحرية والتغيير، والقوى الأخرى التي شاركت في الثورة من خارج قوى الحرية والتغيير أكبر ضمان لحماية التحول الديمقراطي. تواجه، قوى الثورة التي اسقطت رأس النظام السابق، مصاعب كثيرة وكبيرة في الفترة القادمة. لان القوى التي فقدت السلطة والثروة لان تستكين حتى تسترجع سلطتها وتحكم قبضتها مرة أخرى. ومعرفتنا بان اهداف قوى الثورة، في حدها الأدنى، واحدة ومعروفة وموثقة، يستدعى منا التمسك بوحدتها. الوحدة لا تلغي الفوارق بين التنظيمات، ولكنها تملك مناهج لتنظيم الاختلاف والوصول للهدف المشترك. أن الدعوات لقسم قوى الثورة تحت أي مسميات هي دعوات مصرة بمستقبل الثورة. هدفنا واضح هو إقامة نظام ديمقراطي تعددي برلماني.
يعاني المجتمع المدني السوداني من الضعف، وندرة الإمكانيات المادية والبشرية. ونتج ذلك عن ثلاثين عاما من القمع والتسلط والمحاربة. فقد كان حكم الاسلامويين يعرف أهمية منظمات المجتمع المدني لذلك عمل بقوة على السيطرة عليها أو تحطيمها. وأصبح مكتب العون الإنساني ومكتب المنظمات الثقافية بوزارة الثقافة بؤر امنية، تمارس دورا منظما في منع ومصادرة ممتلكات المنظمات. وكانت تلك المكاتب تصر على شطب بعض أعضاء لجان المنظمات قبل تسجيلها. والمعروف عالميا دور منظمات المجتمع المدني في إنعاش الفضاء بين المجتمع والدولة. وانه ضروري لحيوية وانتعاش الممارسة الديمقراطية. وضعف مجتمعنا المدني سيضعف من تحولنا الديمقراطي، ولكن الممارسة الصبورة ستعيده لمكانه الطبيعي عامل من عوامل الارتقاء والسداد لتجربتنا الديمقراطية الوليدة.
siddigelzailaee@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوى الحریة والتغییر المرحلة الانتقالیة التحول الدیمقراطی المجتمع المدنی قوى الثورة
إقرأ أيضاً:
مناقشة حول جملة تغبيش الوعي
كتب الأستاذ الجامعي د. محمد عبدالحميد
لا تكاد تُعبّر جملةٌ في أي جدل سياسي عن مستوى مُغالي في التطرف، والذاتية، والإعتداد بالرأي أكثر من إطلاق جملة (تغبيش الوعي). فهذه الجملة عند استخدامها بشكل واعي أو غير واعي تؤكد على أن قائلها يقوم بعملية(إطلاق نار تحذيري) للآخر من التوغل في مناطق وعيه.
إن مُطلِق هذه الجملة يحاول تأكيد أن ما عدا رأيه ما هو إلا محاولة "لتغبيش الوعي" ... وهو في نهاية المطاف شكل من أشكال الإرهاب الفكري يستخدمه عادة المتطرفون في آرائهم الذين لا ينظرون لغير فكرهم إلا على أنه توجه نحو "تغبيش الوعي".. وهذا إتجاه يجب مناقشته قبل إطلاق حكم الفساد عليه.
إن الوعي بشكل عام هو حالة عقلية تنتج عن الذات بحقيقة أن كون الفرد يعيش في واقع يأخذ عنه تصورات يأمل ويطمح في أن تكون متمثلة له وللجميع.. وتختلف درجات هذه الحالة العقلية وكيفية التعبير عنها من شخص لآخر، غير أنه من الصعب القول جملة واحدة أن شخصا معينا مغيب عن الوعي، طالما كان ذلك الشخص متفاعل في علاقات اجتماعية متفاوتة بين المادي والروحي والقيمي والنفسي والاخلاقي مع بيئته... وما يفرق حقيقة في أمر الوعي هو المشرب الذي إستُمِدت منه المعرفة (وهذا مبحث آخر يبحث في مضمار علم المعرفة - الإبستمولوجي) ... لذلك فإن كل فرد في المجتمع عاقل وقادر على التفاعل هو واعٍ بدرجة ما لأنه ممتلك لدرجة ما من المعرفة، غير أنه لابد من التأكيد على حقيقة أن هذا الوعي في حد ذاته دينامي متحرك وليس ثابتا، فقد يمكن أن يتلقى الشخص مستويات أرفع أو أكثر تعقيدا من المعرفة بالظواهر التي تحيط به.. إن كانت نظماً سياسية، أو علاقات إنتاج مادي، أو تعلقاً بقيم دينية أو أخلاقية أو روحية.. وقد يحتاج لتبني أي منها هضم مرجعياتها الفكرية وما قد تقود له انحيازاتها الايدولوجية بإستعدادت نفسية خاصة. وربما تخضع تلك القناعات في لحظة ما للتغير أو التبدل في سياقات إجتماعية وتاريخية وبيئية وحتى عُمرية مختلفة.
مهما يكن من أمر، فالمدافع عن وجهة نظر النظم السياسية الفاشية على سبيل المثال، لا يمكن أن يُقال أنه غير واعي، فالواقع إنه إنسان مختلف مع شخص آخر يُعلي من قيمة النظم الديمقراطية.. فإذا ما عمد الفاشستي لبث دعاية لفكره لا يمكن أن يقال أنه "يغبش الوعي"، لأنه يبث قناعاته المتعارضة مع غيره المختلف معه، وكذلك الأمر بالنسبة للمعتقد في الأفكار الدينية وهو يبث فكره، لا يمكن أن يقال إنه "يغبش الوعي" مِن قِبل مَن يقول بأن الوعي تحدده علاقات الفرد ضمن حالة وجوده المادي... فالحقيقة التي لامراء فيها أن الفضاء العام يستحمل كل الأطروحات القائمة على كل حالة وعي بما يمكنها من أن يُبشَّر بها بكل حرية وديمقراطية.
إن حجر الزاوية في هذه المناقشة يرتكز على المجهودات المبذولة لخلق بيئة تتوافر على إشتراطات خلق الوعي الكلي من تعليم ومعارف وابتكارات وثقافة وآداب وفنون وتكنولوجيات تجعل من الفرد قادر على تطوير وعيه بالإختيار الحر، أما إن لم تكن البيئة تتوافر على قواعد الوعي تلك، فستبقى قدرة الإنسان على الوعي في أضعف حدودها كما تجعله نهباً لإبتزاز القوى المدعية للوعي كما هو الحال تماماً في السودان، لذلك تتكرر بين مختلف القوى السياسية تهمة (تغبيش الوعي) كأنهم قد انجزوا تلك البيئة المواتية للوعي وأن الآخرين لا يلعبون إلا دور المخرب لذلك المنجز. وقد يلاحظ المتابع أن الأمر في جوهره مستند على درجة كبيرة على حالة من الكسل الذهني وعدم الفاعلية والركون لإطلاق مثل هذه الجملة (تغبيش الوعي) إذ يمكن النظر للواقع في وسطٍ ما منحاز كبيئة لواحدة من مستويات الوعي الخاص، كالوعي الديني مثلاً وهو الأكثر سيادة في واقع المجتمعات ما قبل الصناعية أو التي لم تدخل في علاقات إنتاج معقدة.. هذا الواقع يفرض على مَن يتبنى قيم غير المستدنة للمرجعيات الدينية (العَلمانيّة) أن يبذل جهداً مضاعفاً ليقنع الآخرين بأن واقعهم لا تحدده النصوص أو المسلمات الدينية فحسب، وهذا في حد ذاته عملية صراعية عميقة تتطلب قدراً عالٍ من الشجاعة الفكرية وتملك أدوات خطاب تتناسب ومستوى وعي الناس في ذلك المجتمع.. أما أن يشيح صاحب هذا التوجه بوجهه عن المجتمع ويدغمه بصفة التخلف وأن الآخرين يمارسون (تغبيش الوعي) ، فذلك ضرب من الهروب وتعبير عن القنوط وتمسك بحالة تطرف لا تسمن ولا تغني من جوع.. والأمر نفسه في المقابل ينطبق على حامل الفكر الديني في مجتمعات لا تحفل بالدين أو تدير ظهرها للمرجعيات الدينية.. فلا يمكن أن يتم دمغها بالكفر والإلحاد ومخاصمتها وشن الحرب عليها بعمليات إنتحارية أو إرهابية أو إنقلابية لمجرد أن وعيهم لا يتسق مع وعيه.
في خاتمة هذه المناقشة يجدر إعادة التأكيد على إن إطلاق جملة (تغبيش الوعي) في المساجلات والحوارات السياسية المستخدمة بإفراط في المسرح السياسي السوداني تُعبر عن موقف ذاتي يعتقد مطلقها أنه مركز حركة الوعي. ويفترض أن وعيه وحده الصحيح وأن ما دونه أو غيره ما هو إلا محاولة لتغبيش وعي الجماهير، مما يمكن أن يتسبب في تسميم الفضاء العام بهذا التوجه الفاسد، فالعمل في الفضاء العام مفترض أنه متاح للجميع ليبث مَنْ يشاء ما يشاء مِن أشكال الوعي التي يريد ليكون الإختيار والخيار حراً.
د.محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com