آخر تحديث: 27 يونيو 2024 - 10:45 صأحمد الشطري تعد الصورة الشعريّة واحدة من أهم البنيات التي يرتكز عليها البناء الفني للنص الشعري، ومن دون صورة شعرية ذات قيمة جمالية جاذبة لا يمكن أن يعد النص الشعري – أيّا كان شكله- نصا إبداعيا، فالعملية الإبداعية تحتاج إلى قدرة على الابتكار والخلق الذي يمنح النص قوة الجذب والادهاش والقيمة الفنية.
ثمة اشكالية تكمن في طبيعة الصورة ومكوناتها وآليات خلقها والمساحة التي تشغلها، وقد نجازف إذا ما قلنا أن هذه الاشكالية لم يكن تحديدها، أو بيان مكوناتها يتسم بصعوبة كبيرة في النقد القديم، باعتبار أن المحدد الأساس لها في الغالب يكمن في الأساليب البلاغية المعروفة، كالتشبيه، والكناية، والاستعارة، والمجاز وغير ذلك من أساليب البلاغة.أما في النقد الحديث فقد باتت عملية تحديد الصورة الشعرية تختلف ليس من حيث الآليات، أو المكونات، بل من حيث المساحة التي تشغلها، والأسلوب الذي يتم فيه تشكليها، باعتبار أن الاساليب البلاغية القديمة لم تعد في الغالب هي التقنية المهيمنة على بنية النص الفنية والجمالية، بل إن ثمة تقنيات حديثة هي التي باتت تضفي على النص بعدا جماليا ودلاليا، إذا ما تم استغلال ثرائها الإبداعي بالشكل المطلوب، وبواسطة هذه التقنيات أصبحت الصورة الشعرية ذات مواصفات وتشكلات مختلفة عن محدداتها السابقة، إذ لم يعد البيت في النص الشعري ذا وحدة مستقلة، بل هو جزء من البناء الكلي للنص، وقد يشكل جزءا من أحدى صور النص ومن ثم يسهم مع غيره في تشكيل الصورة الكلية للنص.في النص الحديث بغض النظر عن الشكل والمسمى ثمة أنواع متعددة للصورة الشعرية، فقد تتشكل الصورة الشعرية بواسطة ثيمة سردية، أو مقطوعة درامية، أو قناع رمزي، أو حوار ديالوجي أو مونولوجي، وليس معنى ذلك التخلي التام عن الأساليب البلاغية القديمة، كما أننا لا ننفي وجود مثل هذه التقنيات في مورثنا الشعري القديم، ولكن الاختلاف في العملية القصدية أولا، وفي عملية الكشف والنظرة الاعتبارية لذلك ثانيا. ومن ذلك على سبيل المثال قول طرفة بن العبد في معلقته: “ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشةِ الفتى/ وجدِّكَ لم أحفلْ متى قام عُوَّدي/ فمنهنَّ سَبقي العاذلاتِ بشَربةٍ/ كُمَيتٍ متى ما تُعلَ بالماءِ تُزبدِ/ وكَرّي إذا نادى المُضافُ مُحنَّبًا/ كسِيدِ الغَضا نبَهتَهُ المُتورِّدِ/ وتقصيرُ يوم الدَّجن، والدَّجن مُعجِبٌ/ ببَهكَنةٍ تحت الطِّرافِ المُعمَّدِ”. فالشاعر هنا قد شكل صورته الشعرية عبر أربعة أبيات، وهي صورة بانورامية تجتمع تحت مجموعة من الصور المستقلة، المتشكلة عبر الوسائط البلاغية المعروفة.أما الصورة السردية فيمكن ملاحظتها في الكثير من قصائد الشعراء الأوائل، ومنها على سبيل المثال: “ولما قضينا من منى كل حاجة.. ومسَّح بالأركان من هو ماسحُ/ وشُدّت على حُدب المهاري رحالنا.. ولم ينظر الغادي الذي هو رائح/ أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا.. وسالت بأعناق المطي الأباطح”.ففي هذه الأبيات الثلاثة نجد أن ثمة ثيمة سردية تشكلت عبرها صورة شعرية مبهرة، رغم أن عجز البيت الثالث بحد ذاته يمثل صورة بالغة الجمال، وهو بهذا يمكن أن يشكل ذروة الحدث السردي. اتساع المساحة التي تشغلها الصورة الشعرية وإن كان من أهم تقنيات النص الشعري الحديث إلا أن تمثلاته في موروثنا الشعري لا شك حاضرة وإن كانت بشكل أقل عناية وأهمية. إن اتساع مساحة الصورة الشعرية في النص رغم أهميتها وقيمتها الفنية والجمالية، إلا أنها ساهمت بشكل كبير في القطيعة بين “الذاكرة الاستعادية”، إن جازت التسمية، وبين النصوص الشعرية الحديثة، وهو ما يعتبره بعض المتشبثين بالقديم مأخذا على الشعر الحديث، إذ يعتبرون حفظ واستعادة الأبيات الشعرية دلالة على جودتها، ومن ثم فإن هذه الجودة هي ما تجعلها تعلق في الذاكرة، وهو أمر يرجع في حقيقته إلى الذائقة الشفاهية التي لا تزال تهيمن على وعي هؤلاء، رغم أن كثيرا من الأبيات التي يرددونها لم تكن تعلق بذاكرتهم لجمال صورتها، وإنما لما تتضمنه من حكمة أو مفارقة، وقد تكون في بعض الأحيان لا تعدو أن تكون تشكيلا وزنيا لمقولة بديهية. من مثل: “كأننا والماء من حولنا.. قوم جلوس حولهم ماء”. إن تشكلات الصورة الشعرية في النص الحديث قد تستغرق نصا كاملا، ومن ثم يصبح من الصعب أن يعلق في الذكرة بصورته الكلية، ولكن ملامح تلك الصورة وأثرها الإداهشي قد يبقى محفورا في الذاكرة.وبما أن النص الحديث هو نص رؤيوي، وليس نصا تطريبيا، فهو أبعد ما يكون عن الذائقة أو الذكرة الشفاهية على حد سواء، إنه نص يمتد من البصر إلى البصيرة، وليس من السمع إلى الإسماع، والصورة فيه هي صورة تأملية تسعى إلى الاهتزاز الذهني، ولكنها قد لا تخلو من الاهتزاز العاطفي، أو هو ليس مبتغاها الرئيس، بينما الصورة في النص الشفاهي غالبا ما تمنح الاهتزاز العاطفي قبل الاهتزاز الذهني، ولكننا لا ننفي عنها الأثر الذهني بكل تأكيد.ويمكن أن نمثل للصورة الشعرية الحديثة بهذا النص للشاعر عبد الزهرة زكي: “الورقة التي مازالت على الشجرةِ/ تقول لأخرى سقطت: يا لسعادتك! حرة تمضين مع الهواء/ الورقةُ الميتة على الأرض/ لا تقوى على القول لأخرى ما زالت خضراء على الشجرة: يا للحياة”.ففي هذا النص صورة متكاملة تنطوي على السردية والمفارقة والاقتصاد والفكرة الفلسفية العميقة. إن الصورة الحديثة، كما أشرنا، صورة ذات مساحة واسعة، وذات تقنيات لا تعتمد على المحسنات البديعية أو الأساليب البيانية بشكل أساس، بل تعتمد على تشكل فني ودلالي خارج اللغة وداخلها، تشكل يرتسم في البصر والذهن وليس في السمع والنطق.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: الصورة الشعریة فی النص
إقرأ أيضاً:
أعجوبة القرن الحديث
قبل إصلاحات عام 1978، كان ما يقرب من أربعة من كل خمسة صينيين يعملون في الزراعة. وبحلول عام 1994، لم يعد يعمل سوى واحد من كل اثنين. وسّعت الإصلاحات نطاق حقوق الملكية في الريف، وأطلقت شرارة سباق لتشكيل شركات صغيرة غير زراعية في المناطق الريفية.
كما أدى إلغاء نظام المزارع الجماعية وارتفاع أسعار المنتجات الزراعية إلى زيادة إنتاجية المزارع (العائلية) وزيادة كفاءة استخدام العمالة.
دفعت هذه العوامل مجتمعةً العديد من العمال إلى ترك الزراعة. وقد أدى النمو السريع الناتج عن ذلك في المشاريع القروية إلى استقطاب عشرات الملايين من الناس من الزراعة التقليدية إلى الصناعات التحويلية ذات القيمة المضافة الأعلى.
منذ سلسلة الإصلاحات التي جرت في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وبعد سنوات من سيطرة الدولة على جميع الأصول الإنتاجية، شرعت الحكومة الصينية في برنامج إصلاح اقتصادي شامل. وفي محاولة لإيقاظ عملاق اقتصادي خامد، شجعت على تأسيس الشركات الريفية والشركات الخاصة، وحررت التجارة والاستثمار الأجنبيين، وخففت من سيطرة الدولة على بعض الأسعار، واستثمرت في الإنتاج الصناعي وتدريب القوى العاملة.
على سبيل المثال، إعطاء استقلالية أكبر لمديري المشاريع. أصبحوا أكثر حرية في تحديد أهدافهم الإنتاجية، وبيع بعض المنتجات في السوق الخاصة بأسعار تنافسية، ومنح مكافآت للموظفين الجيدين وفصل غير الجيدين، والاحتفاظ بجزء من أرباح الشركة للاستثمار المستقبلي.
كما أتاحت الإصلاحات مساحةً أكبر للملكية الخاصة للإنتاج، ووفرت هذه الشركات الخاصة فرص عمل، وطوّرت منتجات استهلاكية مطلوبة بشدة، وكسبت عملات صعبة مهمة من خلال التجارة الخارجية، ودفعت ضرائب الدولة، ومنحت الاقتصاد الوطني مرونةً وقدرةً على الصمود لم تكن متوفرة من قبل.
سجلت الصين نمواً ملحوظاً لعقود. من عام 1978 إلى عام 2010، تراوح متوسط النمو حول 10%، مما وضع الصين ضمن نسبة 1% المئوية للدول التي تنتقل من 1,000 إلى 10,000 دولار أمريكي للفرد. هذا إلى جانب انتشال أكثر من 800 مليون شخص من براثن الفقر، يبرر بوضوح تعبير “المعجزة الاقتصادية الصينية”. وحتى اليوم، لا تزال الصين بمثابة المحرك الأهم للنمو العالمي، حيث ساهمت بنحو ثلث إجمالي النمو العالمي على مدى العقود الثلاثة الماضية.
مع “الإصلاح والانفتاح” كشعار رئيسي منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي لتحويل الصين من اقتصاد مخطط إلى اقتصاد سوق، تشابكت البلاد بشكل متزايد مع بقية الاقتصاد العالمي من خلال التجارة والاستثمار والمشاركة المتزايدة في سلسلة القيمة العالمية.
يُعزى ذلك إلى اقتصادات الحجم الواضحة في الصين، والأجور المنخفضة نسبياً، والبنية التحتية اللوجستية الداعمة للتصنيع. كما يُعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، ودعم الشركات الغربية التي تستثمر فيها، إلى جانب نقل التكنولوجيا على نطاق واسع، عوامل خارجية مهمة وراء نجاح الصين.
فأنا أعتقد أن مفهوم الأعجوبة تتحقق بغياب المصادر الرئيسة لتحقيق الأهداف، والانفراد بالنمو القياسي. لم يستيقظ التنين الصيني فجأة في عام 2003، بل استغرق 33 عاماً من التحضير. لذا، بفضل تلك الأعوام من العمل الشاق والصبر، انطلقت الصين بسرعة الصاروخ من عام 2003 إلى عام 2023 لأنها كانت تتمتع بأساس متين بفضل أبناء ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ومراحل التخطيط السليم.
كان بالسابق نشاهد المنتجات الغربية خاصة الأمريكية والاوربية تغزو السوق الخليجي على مدار عقود من الزمن، اما الآن احتل التنين العملاق الأسواق المحلية والعالمية بشكل كاسح. وذهبت المنتجات الغربية في الصفوف الخلفية وبعضها اختفت عن الوجود.
فهو مؤشر قوي على صلابة السوق الصيني، وينقلنا لدراسة وفهم أعمق لثقافة الصينية والاستفادة منها.
قبل أيام قليلة، حفزت المملكة العربية السعودية دراسة اللغة الصينية في مراحل دراسية معينة، وابتعاث عدد كبير من طلابها، وهذه خطوة استراتيجية في بالغ الأهمية لفهم أكثر المجتمع والثقافة الصينية والتعرف عن قرب التأثيرات والفرص الذهبية للوطن. أعتقد أنها خطوة رائعة جداً.
استراتيجيات الصين الناجحة تم ترجمتها إلى مشاريع ضخمة بوتيرة غير مسبوقة، وستُكمل خلال عقود مرحلة البنية التحتية التي ستُنافس ما بنته الولايات المتحدة في تاريخها. على سبيل المثال:
* 143,000 كيلومتر مجموع أبعاد الخطوط السريعة للمركبات، المصنف الأضخم على الأطلاق بالعالم
* 30,000 كيلومتر، واحدة من أسرع القطارات التشغيلية بالعالم، وهي تملك 02:03 من مجموع ابعاد العالم
* 100 مليار كيلووات بالساعة، أكبر محطات الطاقة الكهرومائية من حيث إنتاج الكهرباء بالعالم. Three Georges Dam with 100 Billion Kilowatt-Hours
* 25,526 مليار متر مكعب، مشروع تحويل المياه من الجنوب إلى الشمال. أكبر مشروع نقل مياه بالعالم، والذي يخدم على الأقل 100,000,000 فرد
* 8,704 كيلومتر، مشروع غرب الى شرق انابيب الغاز، أطول مشروع خط انابيب بالعالم
* 55 كيلومتر، Hong Kong – Zhuhai – Macao Bridge أطول جسر مائي للمركبات، وأطول نفق تحت البحر يمتد الى 6.7 كيلومتر
نعم، التنين العملاق الذي كرس قوته وعمل على مدار الساعات والعقود لبناء ترسانة مهيبة بعيدة عن التوترات والصراعات العالمية، قاعدة تعليمية، وعقول متعلمة قوية، ومواطنون يتمتعون بأفضل أخلاقيات العالم، واستعداد دائم للتعلم والتكيف، وعدم الاختباء أمام التحديات، واتباع أوامر من هو أحقّ وأكثر جدارة. هذه هي الصين العظيمة “أعجوبة القرن الحديث”.