توثيق المأساة والمنفى.. شظايا من غزة
تاريخ النشر: 27th, June 2024 GMT
قبل تسعة أشهر من 7 أكتوبر/تشرين الأول، بدأت أتعلم التصوير الفوتوغرافي بتوجيه من صديقي محمود أبو سلامة، الذي يمتلك كاميرا "كانون"، كان يسمح لي باستخدامها كلما كان لا يحتاج إليها، وكان ذلك يشعرني بأنني تلقيت هدية ثمينة.
أحببت التقاط اللحظات، لكن لأني أنشد الكمال، تردّدت في استخدام الكاميرا حتى شعرت بأنني ماهرة بما يكفي.
لم يستطع محمود دائمًا إقراضي كاميرته، ولم يكن لدي المال لامتلاك واحدة، لذلك قررت الحصول على كاميرا لوميكس كحل مؤقت حتى أتمكن من شراء كاميرا أفضل. مع لوميكس، اكتشفت أن الأنماط الحلزونية تجذب انتباه الناس.
بعد شهر واحد فقط من رحلتي في التصوير الفوتوغرافي، حصلت على منحة من مؤسسة "إيراسموس" للدراسة لمدة فصل دراسي واحد في إسبانيا كطالبة تبادل ثقافي من قسم الأدب الإنجليزي في جامعتي، الأقصى.
سافرت في 27 يناير/كانون الثاني 2023. وهناك، تعلمت أنّ دمج عنصر بشري يجعل الصور أكثر إقناعًا وأن أفضل الصور هي التي تحكي قصة.
في إسبانيا، فقدت اللوميكس، فشعرت بالإحباط. أعتقدت أنني تركتها في مكان ما، وعندما عدت للبحث عنها، تبينت أنها قد سُرقت. كانت تلك الكاميرا تحوي الكثير من الذكريات التي ربطتني بغزة. ومع ذلك، أدركت أنه إذا كانت الكاميرات تحفظ بعض اللحظات، فإننا نتمتع بقدرة على حفظ أهم الذكريات بداخلنا. بالنسبة لي، تلك هي ذكريات بيتي الحبيب في غزة.
في أغسطس/آب 2023، عدت إلى غزة. بحلول ذلك الوقت، كنت قد بنيت شبكة قوية من العلاقات. اعترف كثيرون بعملي مع المنظمات غير الحكومية، وأصبحت فرص العمل مفتوحة وسهلة رغم درجاتي المنخفضة، والتي تأثرت بتحديات وباء كورونا والانفصال غير المتوقّع لوالدي.
أصبحتُ مستقرة ماليًا، واستطعت دفع تكاليف تعليمي ودعم عائلتي. شعرت والدتي، المثقلة بالديون، بالارتياح عندما استطعت المساعدة. تحسّنت علاقتنا قليلًا، وشعرت بالفخر بإنجازاتي.
بدا كل شيء مستقرًا، وكنت أستعدّ لشراء كاميرا "كانون" و"غيتار"، وأخيرًا تمكنت من الانغماس في شغفي.
كنت أرغب في توثيق ما فاتني توثيقه من ماضيّ الثري، والتقاط كل المشاعر التي لم أصورها، والتي تتمدد ما بين شغفي بالمدرسة وإثبات ذكائي، إلى طموحاتي ومساعي الفكرية.
كنت أتوق إلى أن أصبح أكثر حكمة ولطفًا وأعمق تفكيرًا. كنت أرغب في معالجة الحزن والغضب الناجم عن الفقر المنهجي الذي نتعرض له في غزة؛ والظلم الذي نشهده منذ احتلال فلسطين؛ وخيانة العالم الكبرى لحقوقنا الإنسانية وإنكاره وجودنا، وكل ما تراكم منذ طفولتي وحتى أوائل العشرينيات من عمري. أردت أن أحقق أحلامي بالسفر بحرية ودون صعوبات.
في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان من المفترض أن أبدأ سنتي الأخيرة في الجامعة. كنت حريصة على الالتزام الكامل بدراستي، ولكن بدلًا من ذلك، استيقظت على أصوات القصف. كان الإنترنت متقطعًا، لكنني تلقيت رسائل من جامعتي تعلن عن توقف الفصول الدراسية؛ بسبب الهجوم على غزة. انقلبت حياتي رأسًا على عقب، وتحول حالي من الإثارة والطموح إلى الحزن والقلق والخوف.
لقد تحولت من طالبة شغوفة إلى شخص يوثق الظلم وانتهاكات حقوق شعبي الإنسانية. صدمت من المعايير المزدوجة في العالم، وتزييف وسائل الإعلام أوضاع الفلسطينيين. ورغم محدودية الوصول إلى الإنترنت، كتبت مقالات وعرضتها على منافذ الأخبار كلما أمكن.
كانت الحياة في غزة قبل الحرب صعبة بالفعل. عانينا من انقطاع المياه والكهرباء المحدودة والسفر المقيد. وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، اشتدت مصاعبنا. أصبحت المياه شحيحة، وانقطعت الكهرباء تمامًا، وتطلّب السفر مبالغ كبيرة، لا تكفي – رغم ذلك – لتضمن الخروج. كنا نعيش في خوف دائم، تحت القصف، دون مكان آمن نلجأ إليه.
تم تدمير معظم الأماكن التي كنت أعرفها وأحبها تمامًا، بما في ذلك منزلي. لو كنت أعرف أن هذا سيكون مصير غزة، لالتقطت المزيد من الصور، والتقطت كل لحظة. كنت سأقول وداعًا لكل بقعة جميلة عرفتها في غزة.
المدارس التي تخرجت فيها وحصلت على جائزة لتفوقي، والأماكن التي أقمت فيها أقوى الصداقات وضحكت، والأماكن التي شعرت فيها بأنني في بيتي، ذهبت جميعها. قلبي يتألم بذكريات ما كان، وما أصبح واقعًا أمامي في غزة.
لم أتمكن من التقاط الملل الذي يتغلب علينا عندما يصمت التلفزيون عند انقطاع التيار الكهربائي، والتقارب الذي استمتعنا به عندما نتجاذب أطراف الحديث دون أن يشتتنا الإنترنت، والفرح الذي يشعر به الأطفال عندما تومض الأضواء مرة أخرى بعد انقطاع التيار الكهربائي، والراحة التي تبدو على الأمهات عندما ترفرف الملابس المنشورة ليجففها النسيم، والبهجة التي تملأ المرء من قيلولة حلوة بعد يوم طويل في الجامعة.
لم أتمكن من الحفاظ على لحظات الغضب من حكوماتنا التي انقسمت منذ عام 2007، وما أدى إليه ذلك من عواقب، والرؤية غير الواضحة لمستقبلنا. لم أستطع التقاط ازدرائنا لأولئك الذين شوهوا أرضنا الجميلة، أو قتلوا، أو طردوا، أو عذبوا، أو قيدوا أيادي، أو عصبوا أعينًا، أو احتجزوا شعبي، ولا الليالي المظلمة التي كنت أدرس فيها على ضوء الشموع التي أحرقت شعر جبهتي، واستغرقت وقتًا للشفاء منها.
الفخر الشديد الذي شعرنا به عندما أسمينا القرى والمدن الفلسطينية التي فقدناها في عام 1948، والعلاقة العميقة الجذور التي تربطنا بأرض تعود إلى العصور القديمة، والدموع التي تغمرنا عندما نتذكر هزائم أسلافنا، كل هذه الذكريات تعيش داخلنا. هي أشياء لا تلتقطها الكاميرا، لكن قلبي استطاع التقاطها.
أنا محظوظة لأنني خرجت من غزة. في 3 مارس/آذار. غادرتها بعد حملة ناجحة لجمع التبرعات، وبفضل دعم أشخاص طيبين وعلاقات طورتها خلال عملي في تدريس اللغة العربية والعمل الحر.
أمي وبعض أشقائي آمنون في القاهرة، لكن والدي بقي في غزة مع أشقائي الآخرين. ترك هذا قلبي ممزقًا، جزء منه موجود في غزة مع والدي وإخوتي وأصدقائي، وثانٍ في القاهرة، وثالث مع أختي في الجزائر، حيث تدرس القانون الدولي في منحة دراسية. وهناك قطعة واحدة من قلبي ماتت عندما غادرت غزة.
أمي، أشقائي وأنا نواجه الآن في مصر المشقة وآلام عدم اليقين: ماذا سيحدث إذا أعلن وقف إطلاق النار؟ هل سنعود إلى غزة، أم سنضطر إلى البقاء في مصر؟ كلا الخيارين مخيفان بنفس القدر.
قلبي متعب، ولا علاج يمكن أن يساعدني في الشفاء. لن أشفى إلا عندما تتمكن كاميرتي من التقاط صور الطائرات المدنية في سمائنا، وليس الطائرات الحربية الإسرائيلية.
سوف أتعافى عندما أستطيع السفر بأمان حول العالم وأقول بفخر إنني فلسطينية، وعندما أستطيع المرور عبر المطارات الفلسطينية، وعندما لا يتم التشكيك في هويتي أبدًا، وعندما لا يتم استدعائي بعد الآن كلاجئة. عندها فقط سأطمئن إلى أن شعبي لن يشهد الظلم مرة أخرى، وأن العالم قد اعتذر، ونهض من أجلنا.
هذا هو الوقت الذي تنتهي فيه معاناتنا في فلسطين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فی غزة
إقرأ أيضاً:
ما الذي فعلته البطالة بثقافتنا العراقيَّة؟
آخر تحديث: 6 فبراير 2025 - 11:58 صصفاء ذياب تشير أغلب التقارير إلى انتشار البطالة بين الشباب، لاسيّما وأنَّ هناك أعداداً كبيرة منهم يعيشون على رواتب الرعاية الاجتماعية، التي تؤشّر إلى المشاكل الاقتصادية التي أحدثها توقّف أغلب المصانع والمعامل الحكومية، فضلاً عن ندرة الاستثمارات التي كانت ستستخدم هذه الأيدي الشابة، لاسيّما في ظل تزايد عدد الخرّيجين الذين لا يحصلون على التعيين الحكومي، بسبب الأعداد الهائلة من الخريجين كلّ عام في الجامعات الحكومية؛ بفرعيها الصباحي والمسائي، والجامعات الأهلية التي انتشرت بشكل كبير في المدن العراقية كلّها، فضلاً عن حاملي الشهادات العليا إن كانوا خريجي الجامعات العراقية، أو الإيرانية أو اللبنانية ودول أخرى غيرهما. العلاقة بين البطالة والفقر وثقافة الشباب معقدة وتتأثر بعدّة عوامل. إليك بعض النقاط الرئيسة مثل إنَّ البطالة تؤدي إلى فقدان الدخل، ممّا يزيد من خطر الفقر الذي يحدُّ من فرص التعليم والتدريب، وبحسب علم النفس، فإنَّ البطالة تؤدّي إلى زيادة الوقت الحر، الذي يدعو إلى انخراط في السلوكيات السلبية، وذلك يعود لأسباب كثيرة، منها: تدهور الثقة بالنفس والقيمة الذاتية، تقليل فرص الزواج والاستقرار الاجتماعي، تقليل المشاركة السياسية والاجتماعية. ومن ثمَّ، على الرغم من الوقت الذي يملكه الشباب حينها، فهذا الوقت يشكّل عبئاً جديداً يبعدهم عن القراءة والبيئات الثقافية، وبحسب الباحث نعيم حسين كزار البديري فقد أدّت الأزمات (الحروب والحصار والاحتلال) في العراق إلى نتائج خطيرة ألقت بظلالها على المجتمع العراقي، ولعلَّ أخطر تلك الآثار بث التضخّم في كلِّ مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسلوكية، وبسبب استمرار الأزمات مدّة طويلة كانت آثارها بنيوية على المجتمع العراقي، بمعنى أنَّها تمأسست وترسّخت في عمق الممارسة اليومية الاجتماعية، بحيث حازت آلياتها على الاعتراف الاجتماعي وتغلغلت في الحس الجمعي للناس. إذ إنَّ الاحتلال حرّك في المجتمع العراقي ما أسماه العالم (نيل سملزر) عوامل التهيئة البنائية أو المفضية إلى التوتّر البنيوي التي كسرت روتينية الفعل الاجتماعي وتواتره وانتظامه وحوّلته إلى سلوك جمعي أتسم بالعنف وأسفر عن كلف اجتماعية عالية. فصورة المشهد العراقي اليوم تمثّلت بأزمة هي نتاج لأسباب قد أخذت مأخذاً من بنية ونسيج وأواصر هذا المجتمع، إذ تمثلت أزمة العراق بتبعثر واغتراب قيمي واستلاب ثقافي جاء كنتيجة واضحة لما مرَّ به هذا المجتمع من أزمات خانقة والتي قد جعلت منه إن لم نكن نبالغ بقايا مجتمع يحاول الوثوب والنهوض من جديد. مضيفاً أنَّه إزاء هذا الواقع الاجتماعي المأزوم لتضيف مشكلة البطالة بآثارها ونتائجها مزيداً من التوتّر الاجتماعي بين الشرائح الاجتماعية ومصدراً آخر يرفد مصادر الأزمات بين المجتمع والسلطة الحاكمة وحاضنة رخوة لتفريخ صفحات من العنف والتطرّف والإرهاب. وقد استفحلت هذه المشكلة منذ ثمانينات القرن الماضي إثر تزايد اعتماد العراق على قطّاع النفط، والتوسّع غير المخطّط لقطّاع الخدمات غير المنتجة كالزراعة والصناعة، وإهمال الاستثمار الإنتاجي في النشاطات المدنية وتزايد سيطرة النخبة الحاكمة على مؤسّسات الدولة وتسريح ما يقرب من مليون مجنّد عقب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، ليدخلوا سوق العمل من دون مهارات تؤهّلهم للحصول على عمل ذي دخل مجزٍ، وتفاقمت هذه المشكلة في ظلِّ الحصار الاقتصادي (1990-2003) وتدهور مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتراجع مستويات المعيشة وتزايد معدّلات البطالة والفقر بفعل الحصار. وإذا كانت البطالة مستشريه بين الشباب على الرغم من وجود الكثير من المعامل والمصانع حينها، فكيف هو الحال بعد العام 2003 ودخول العراق في حروب عدّة أوقفت الاستثمارات والصناعات الوطنية.فإذا كانت للبطالة والفقر تأثير على البنية الاجتماعية وتكوين الفوارق الطبقية… كيف يمكن وصف تأثيرهما على البنية الثقافية لجيل الشباب؟ بهرجة الانشغالات الصاخبة يشير الشاعر حسام السراي إلى أنَّه بالرغم من تطوّرات الحياة واندماج قطاعات غير قليلة من الشباب في ممارسات حضاريّة، من بينها مثلاً رغبتهم في التعبير العفوي عن أنفسهم؛ بجرأة، ومن دون تكلّف، وبلا عمق أيضاً في الخطاب والمتبنّيات، لم تعد الرغبة في التثقف والاستزادة المعرفيّة، بمعنى قراءة الكتب وتداول الأفكار لدى هؤلاء، مُغرية وخاضعة للاندفاع نفسه بنحوه المعهود الذي عرفناه قبل عقود؛ هناك صور ابنة لحظتها هو ما يشغل جموع من الشباب اليوم.يبدو أنّنا نعيش زمن وأد وإزاحة الأفكار، الأفكار والأيديولوجيات الكبيرة، وهذا له ظلاله على الواقع، في العراق وتونس ومصر، وفي بلدان لها تقاليد ثقافيّة صارمة وتنتمي للعالم الآخر. لننظر إلى حفل تايلور سويفت الأخير في تورنتو بكندا، وهي مغنّية صف أوّل ونجمة بوب عالميّة، ولننتبه لما يفعله إغواء الصورة والجمهرة التي لا تحتفل بالمغنية الرشيقة فقط؛ بل بوجودها في مشهدية هذه اللحظة الجماعيّة، ضمن سلسلة حفلات حول العالم بلغت ايرادات تذاكرها ملياري دولار خلال عامين تقريباً. هل يمكن لأحداث ثقافيّة رصينة أن تنافس وتجلب هذا التأثير والعوائد الماليّة من سلسلة حفلات توقيع كتب وعروض مسرحيّة وفعاليات نخبوية بالغت في ابتعادها عن عموم الناس؟هذا بالنسبة لمزاج وميول الشباب في مقطع راهن من الألفية الحالية التي يتقدّم فيها ما هو سريع التلقي على ما يحتاج لتأنٍ وصفاء ذهني. محليّاً، لدينا اليوم فوارق طبقيّة بدأت تتفاقم بين شبان لا يحصلون على ما يلبي احتياجاتهم وكثير منهم ضيّعه وضعه المعاشي وأبعده عن التحصيل الدراسي والمستوى التعليمي الجيّد، وبين أقران آخرين يتنعّمون بالترف. هل يمكن لشاب يَحار بقوته اليومي أن يفكّر بالذهاب إلى عرض مسرحي أو اقتناء كتاب؛ بل لندقّق في سلوك هذا النوع من الشباب كيف يتخشّن في الشارع ويكون أحياناً مفتقراً للتهذيب؛ والأسباب ثقافيّة توعوية بحتة، قبالة من يعيشون الرخاء ولا يعانون اقتصادياً، لكنّهم لا يأبهون لشيء اسمه كتاب جديد وعرض للأوكسترا السيمفونية؛ في حين لا مانع لديهم من قضاء ساعات طوال في مقهى مع أراكيل وتزجية عابرة للوقت.نعم البنية الثقافيّة للجيل الشاب تأثّرت بفعل بهرجة الانشغالات الصاخبة والتفكير بمتطلبّات الحياة التي لا تتيح في نهاية اليوم قراءة صفحات من كتاب؛ إنّما البحث عن متعة سريعة لا تتطلّب أيَّ جهد ذهني. وجهاً لوجهه ويبين الشاعر حمدان طاهر المالكي أنَّه من الواضح أنَّ الفقر هو المسبّب الأكبر لكل الأمراض الاجتماعية التي تنخر المجتمع وتمدُّ آثاره الكبيرة على مفاصل الحياة كلّها، وحين نتحدث عن أسباب الفقر لا شكَّ أنَّنا نتحدث عن البطالة التي دائماً تأتي بسبب قلّة فرص العمل وندرتها أمام متطلّبات الواقع الحياتي، أصبح الشباب العراقي مع تزايد السكّان المتسارع وجهاً لوجه مع وحش البطالة، ليست هناك تنمية ولا مشاريع اقتصاديه تستوعب هذه الموجة الكبيرة من العاطلين عن العمل. ويضيف المالكي: أستطيع القول إنَّ هذا الأمر ليس مستحدثاً، لقد بدأ منذ نهايات التسعينيات كمرحلة أولى ثمَّ بدأ بشكل واضح للعيان بعد العام 2003، لقد اتضح أنَّ الحكومات المتعاقبة كلّها على حكم العراق لم تستطع أن تشيّد بنية اقتصادية من معامل ومصانع تستوعب الأيدي العاملة ونتج عن هذا فرضية واقعية أنَّ فرصة العمل الوحيدة المتاحة هي مؤسّسات الدولة، وبدأنا نرى بطالة من نوع آخر هي البطالة المقنّعة التي لا تؤدّي عملاً مهمّتها الوحيدة تسلّم الراتب، لقد قادت عوامل الفقر والبطالة إلى انهيار كبير في مستوى جودة التعليم ومؤسّساته التربوية وانعكس هذا الأمر بشكل كبير على المستوى الثقافي وذلك للارتباط الوثيق بين التعليم والثقافة، نرى اليوم الكثير من خرّيجي الجامعات لا يعرفون شيئاً عن ثقافة وتراث وحضارة بلدهم، وهو مؤشّر خطير على تلك الانتكاسة الكبرى. الفقر يمحو الفنون ويرى الروائي أحمد دهر أنَّ البطالة والفقر يؤثّران بشكل عميق على البنية الثقافية لجيل الشباب، إذ يؤدّيان إلى تغيّرات جوهرية في القيم والممارسات الثقافية. عندما يعاني الشباب من انعدام الفرص الاقتصادية، فإنَّهم يواجهون تحديات في تحقيق تطلّعاتهم الشخصية والمهنيّة، ممَّا يؤثّر بشكل مباشر على رؤيتهم للحياة ومستوى انخراطهم في المجتمع. الفقر والبطالة غالباً ما يؤدّيان إلى انتشار الإحباط واليأس بين الشباب، ممَّا يجعلهم أكثر عرضة لاتباع ثقافات الهامش التي قد تتسم بالعنف أو السلوكيات السلبية. فضلاً عن ذلك، يضعف الفقر القدرة على الوصول إلى التعليم والثقافة، ممَّا يحدّ من تنمية المهارات الفكرية والإبداعية. وبالتالي، تصبح الفجوة الثقافية بين الفئات الاجتماعية المختلفة أكثر وضوحاً، ممَّا يزيد من الفوارق الطبقية. من جهة أخرى، يساهم الفقر في تراجع الاهتمام بالأنشطة الثقافية، مثل القراءة والفنون، بسبب الأولويات الاقتصادية الملحّة. كما أنَّه يعزّز انتشار ثقافات استهلاكية سطحية تركز على المظاهر بدلاً من القيم والمضمون.أي لا يمكن أن تطلب من شاب يخرج في ساعة الفجر ويعود آخر النهار يلقط رزقه وتأتي وتسأله عن ماهية الوجود أو هل الحقيقة نسبية أو مطلقة، فهو في هذه الحال سيرد عليك بالسباب هو يريد أن ينتشي بشيء مضحك ويا حبّذا يكون تافهاً جدّاً فيكفيه تعب الجسد ولا يريد أن يجهد عقله أيضاً. لمواجهة هذه التحديات، يجب على المجتمع والمسؤولين عن الملف الثقافي توفير برامج لدعم الشباب، مثل تعزيز التعليم المجاني، وخلق فرص عمل، وتشجيع الأنشطة الثقافية التي ترفع من وعيهم وتمنحهم أدوات للتعبير عن أنفسهم وتطوير قدراتهم. بذلك، يمكن الحد من التأثير السلبي للفقر والبطالة على البنية الثقافية. ثقافات فرعية وبحسب غسان البرهان، فالفقر يحدُّ من الوصول إلى تعليم جيّد، ممَّا يؤدّي إلى ضعف المهارات الثقافية والمعرفية، وبذلك يصبح الاهتمام بالفنون، القراءة، أو المشاركة الثقافية أقل أولوية.مضيفاً أنَّه مع انعدام فرص العمل وغياب استراتيجيات واضحة لدعم الشباب، تتحوّل أولوياتهم من الطموحات الثقافية والإبداعية إلى التركيز على القيم المرتبطة بالبقاء، مثل البحث عن موارد أساسية تضمن الحد الأدنى من المعيشة، وهذا التحوّل يضعف قدرتهم على الانخراط الفعّال في المشهد الثقافي. أمَّا بالنسبة للشباب في الوسط الثقافي العراقي، فإنَّ انحسار الفرص حدّد وجهتهم وجعلها- إلى حدٍّ كبير- محصورة بالعمل الصحافي والإعلامي، وكلاهما يخضعان لرأس مال سياسي له أجندته وأهدافه وخطابه، الأمر الذي يحوّل هذه المنصات إلى أدوات تكرّس التبعية، بدل تحفيز الشباب ودعم أفكارهم المبتكرة، فضلاً عن إخضاعهم لخطابها.هذا التحوّل في الأولويات يُضعف ارتباط الشباب بمفهوم الهوية الوطنية أو الثقافية ويجعلهم عرضة للاغتراب الاجتماعي والثقافي. كما أنَّ الثقافة المحلّية في ظلِّ غياب فرص العمل، تصبح أقل جاذبية، ويفقد الشباب القدرة على رؤية أنفسهم كمساهمين فعّالين في إنتاجها أو تطويرها، وهذا الاغتراب قد يفسّر انجذاب الشباب إلى ثقافات فرعية قد تتخذ جانباً متطرّفاً من أقصى اليمين أو اليسار. اختلال المعايير ويختتم الدكتور خالد عبد المصلاوي موضوعنا، قائلاً: يَطفو تأثير البطالة والفقر على البيئة الاجتماعية وتكوين الفوارق الطبقية على مشهد البنية الثقافية لجيل الشباب بشكل واضح حينما يفقد الشباب أحلامهم وطموحاتهم بالمستقبل المشرق الذي يصبون إليه، ويَذهَب باتجاه عَكسي في تَحطيم ثقافتهم للانحدار إلى هاوية الجهل والتخلّف الثقافي، وبصورة عفوية تقودهم مرغمين للبحث عن فرصة عمل بشتّى الوسائل والطرق من دون الاكتراث أو التقيّد بأيّة مبادئ أو قيم ثقافية ومجتمعية يحملها وينادي بها مجتمعه.وَيتَجَسّد ذلك في غياب القيم النبيلة، ليصبح هدف الشباب هو الحصول على المادة والمال فقط بأيّة وسيلة حتى إذا كانت غير مشروعة وغير قانونية، لتختفي وتَضعف الأهداف والقيم والمبادئ النبيلة التي كان يحملها فكر الشباب، وليحلَّ محلّها التخلّف والانحدار الثقافي والطمع والجَشَع وانعدام الإنسانية، ما يؤدي إلى تسلّط من هم غير مؤهلين- لكنهم يملكون المنصب أو المال- على طبقة وشريحة الشباب المثقفين وأصحاب الشهادات العليا من الطبقة الفقيرة وتجبرهم للعمل في مسلك لا يَتَناسب ومؤهّلاتهم العلمية والثقافية من أجل الحصول على لقمة العيش، ويؤدي ذلك إلى اختلاف المعايير المجتمعية والثقافية.