الجزيرة:
2024-11-27@13:14:53 GMT

توثيق المأساة والمنفى.. شظايا من غزة

تاريخ النشر: 27th, June 2024 GMT

توثيق المأساة والمنفى.. شظايا من غزة

قبل تسعة أشهر من 7 أكتوبر/تشرين الأول، بدأت أتعلم التصوير الفوتوغرافي بتوجيه من صديقي محمود أبو سلامة، الذي يمتلك كاميرا "كانون"، كان يسمح لي باستخدامها كلما كان لا يحتاج إليها، وكان ذلك يشعرني بأنني تلقيت هدية ثمينة.

أحببت التقاط اللحظات، لكن لأني أنشد الكمال، تردّدت في استخدام الكاميرا حتى شعرت بأنني ماهرة بما يكفي.

بدأت في مشاهدة مقاطع فيديو عبر الإنترنت حول كيفية التقاط صور رائعة، وتعلمت أن التناظر يعزّز الجمال. لذلك، تجدني كلما رأيت شيئًا متماثلًا، شعرت برغبة لا تقاوم في تصويره.

لم يستطع محمود دائمًا إقراضي كاميرته، ولم يكن لدي المال لامتلاك واحدة، لذلك قررت الحصول على كاميرا لوميكس كحل مؤقت حتى أتمكن من شراء كاميرا أفضل. مع لوميكس، اكتشفت أن الأنماط الحلزونية تجذب انتباه الناس.

بعد شهر واحد فقط من رحلتي في التصوير الفوتوغرافي، حصلت على منحة من مؤسسة "إيراسموس" للدراسة لمدة فصل دراسي واحد في إسبانيا كطالبة تبادل ثقافي من قسم الأدب الإنجليزي في جامعتي، الأقصى.

سافرت في 27 يناير/كانون الثاني 2023. وهناك، تعلمت أنّ دمج عنصر بشري يجعل الصور أكثر إقناعًا وأن أفضل الصور هي التي تحكي قصة.

في إسبانيا، فقدت اللوميكس، فشعرت بالإحباط. أعتقدت أنني تركتها في مكان ما، وعندما عدت للبحث عنها، تبينت أنها قد سُرقت. كانت تلك الكاميرا تحوي الكثير من الذكريات التي ربطتني بغزة. ومع ذلك، أدركت أنه إذا كانت الكاميرات تحفظ بعض اللحظات، فإننا نتمتع بقدرة على حفظ أهم الذكريات بداخلنا. بالنسبة لي، تلك هي ذكريات بيتي الحبيب في غزة.

في أغسطس/آب 2023، عدت إلى غزة. بحلول ذلك الوقت، كنت قد بنيت شبكة قوية من العلاقات. اعترف كثيرون بعملي مع المنظمات غير الحكومية، وأصبحت فرص العمل مفتوحة وسهلة رغم درجاتي المنخفضة، والتي تأثرت بتحديات وباء كورونا والانفصال غير المتوقّع لوالدي.

أصبحتُ مستقرة ماليًا، واستطعت دفع تكاليف تعليمي ودعم عائلتي. شعرت والدتي، المثقلة بالديون، بالارتياح عندما استطعت المساعدة. تحسّنت علاقتنا قليلًا، وشعرت بالفخر بإنجازاتي.

بدا كل شيء مستقرًا، وكنت أستعدّ لشراء كاميرا "كانون" و"غيتار"، وأخيرًا تمكنت من الانغماس في شغفي.

كنت أرغب في توثيق ما فاتني توثيقه من ماضيّ الثري، والتقاط كل المشاعر التي لم أصورها، والتي تتمدد ما بين شغفي بالمدرسة وإثبات ذكائي، إلى طموحاتي ومساعي الفكرية.

كنت أتوق إلى أن أصبح أكثر حكمة ولطفًا وأعمق تفكيرًا. كنت أرغب في معالجة الحزن والغضب الناجم عن الفقر المنهجي الذي نتعرض له في غزة؛ والظلم الذي نشهده منذ احتلال فلسطين؛ وخيانة العالم الكبرى لحقوقنا الإنسانية وإنكاره وجودنا، وكل ما تراكم منذ طفولتي وحتى أوائل العشرينيات من عمري. أردت أن أحقق أحلامي بالسفر بحرية ودون صعوبات.

في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان من المفترض أن أبدأ سنتي الأخيرة في الجامعة. كنت حريصة على الالتزام الكامل بدراستي، ولكن بدلًا من ذلك، استيقظت على أصوات القصف. كان الإنترنت متقطعًا، لكنني تلقيت رسائل من جامعتي تعلن عن توقف الفصول الدراسية؛ بسبب الهجوم على غزة. انقلبت حياتي رأسًا على عقب، وتحول حالي من الإثارة والطموح إلى الحزن والقلق والخوف.

لقد تحولت من طالبة شغوفة إلى شخص يوثق الظلم وانتهاكات حقوق شعبي الإنسانية. صدمت من المعايير المزدوجة في العالم، وتزييف وسائل الإعلام أوضاع الفلسطينيين. ورغم محدودية الوصول إلى الإنترنت، كتبت مقالات وعرضتها على منافذ الأخبار كلما أمكن.

كانت الحياة في غزة قبل الحرب صعبة بالفعل. عانينا من انقطاع المياه والكهرباء المحدودة والسفر المقيد. وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، اشتدت مصاعبنا. أصبحت المياه شحيحة، وانقطعت الكهرباء تمامًا، وتطلّب السفر مبالغ كبيرة، لا تكفي – رغم ذلك – لتضمن الخروج. كنا نعيش في خوف دائم، تحت القصف، دون مكان آمن نلجأ إليه.

تم تدمير معظم الأماكن التي كنت أعرفها وأحبها تمامًا، بما في ذلك منزلي. لو كنت أعرف أن هذا سيكون مصير غزة، لالتقطت المزيد من الصور، والتقطت كل لحظة. كنت سأقول وداعًا لكل بقعة جميلة عرفتها في غزة.

المدارس التي تخرجت فيها وحصلت على جائزة لتفوقي، والأماكن التي أقمت فيها أقوى الصداقات وضحكت، والأماكن التي شعرت فيها بأنني في بيتي، ذهبت جميعها. قلبي يتألم بذكريات ما كان، وما أصبح واقعًا أمامي في غزة.

لم أتمكن من التقاط الملل الذي يتغلب علينا عندما يصمت التلفزيون عند انقطاع التيار الكهربائي، والتقارب الذي استمتعنا به عندما نتجاذب أطراف الحديث دون أن يشتتنا الإنترنت، والفرح الذي يشعر به الأطفال عندما تومض الأضواء مرة أخرى بعد انقطاع التيار الكهربائي، والراحة التي تبدو على الأمهات عندما ترفرف الملابس المنشورة ليجففها النسيم، والبهجة التي تملأ المرء من قيلولة حلوة بعد يوم طويل في الجامعة.

لم أتمكن من الحفاظ على لحظات الغضب من حكوماتنا التي انقسمت منذ عام 2007، وما أدى إليه ذلك من عواقب، والرؤية غير الواضحة لمستقبلنا. لم أستطع التقاط ازدرائنا لأولئك الذين شوهوا أرضنا الجميلة، أو قتلوا، أو طردوا، أو عذبوا، أو قيدوا أيادي، أو عصبوا أعينًا، أو احتجزوا شعبي، ولا الليالي المظلمة التي كنت أدرس فيها على ضوء الشموع التي أحرقت شعر جبهتي، واستغرقت وقتًا للشفاء منها.

الفخر الشديد الذي شعرنا به عندما أسمينا القرى والمدن الفلسطينية التي فقدناها في عام 1948، والعلاقة العميقة الجذور التي تربطنا بأرض تعود إلى العصور القديمة، والدموع التي تغمرنا عندما نتذكر هزائم أسلافنا، كل هذه الذكريات تعيش داخلنا. هي أشياء لا تلتقطها الكاميرا، لكن قلبي استطاع التقاطها.

أنا محظوظة لأنني خرجت من غزة. في 3 مارس/آذار. غادرتها بعد حملة ناجحة لجمع التبرعات، وبفضل دعم أشخاص طيبين وعلاقات طورتها خلال عملي في تدريس اللغة العربية والعمل الحر.

أمي وبعض أشقائي آمنون في القاهرة، لكن والدي بقي في غزة مع أشقائي الآخرين. ترك هذا قلبي ممزقًا، جزء منه موجود في غزة مع والدي وإخوتي وأصدقائي، وثانٍ في القاهرة، وثالث مع أختي في الجزائر، حيث تدرس القانون الدولي في منحة دراسية. وهناك قطعة واحدة من قلبي ماتت عندما غادرت غزة.

أمي، أشقائي وأنا نواجه الآن في مصر المشقة وآلام عدم اليقين: ماذا سيحدث إذا أعلن وقف إطلاق النار؟ هل سنعود إلى غزة، أم سنضطر إلى البقاء في مصر؟ كلا الخيارين مخيفان بنفس القدر.

قلبي متعب، ولا علاج يمكن أن يساعدني في الشفاء. لن أشفى إلا عندما تتمكن كاميرتي من التقاط صور الطائرات المدنية في سمائنا، وليس الطائرات الحربية الإسرائيلية.

سوف أتعافى عندما أستطيع السفر بأمان حول العالم وأقول بفخر إنني فلسطينية، وعندما أستطيع المرور عبر المطارات الفلسطينية، وعندما لا يتم التشكيك في هويتي أبدًا، وعندما لا يتم استدعائي بعد الآن كلاجئة. عندها فقط سأطمئن إلى أن شعبي لن يشهد الظلم مرة أخرى، وأن العالم قد اعتذر، ونهض من أجلنا.

هذا هو الوقت الذي تنتهي فيه معاناتنا في فلسطين.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فی غزة

إقرأ أيضاً:

كيف يستخدم الاغتصاب سلاح حرب في السودان؟.. المأساة أكبر من المعلن (شاهد)

"الموت أحسن من الاغتصاب".. صرخة ضحية عنف جنسي في الحرب الدائرة في السودان وصلت إلى الأسماع بخلاف صرخات أخرى تقدر منظمات أنها أكبر بكثير من المعلن لم تجد منقذين من أيدي المغتصبين ولا أياد رحيمة تعتني بها بعد الفاجعة لتواجه معاناتها في صمت يضجّ أحيانا بكوابيس تصل حد التفكير في الانتحار للتخلص من الآلام والهروب من الوصم الاجتماعي لضحايا الاغتصاب.

وتحول الاغتصاب إلى سلاح حرب منذ بدء الاشتباكات بالسودان في أبريل/نيسان 2023. ولا يتوقف العنف الجنسي في حرب السودان على الاغتصاب، بل يشمل كذلك الاستعباد الجنسي والاتجار في البشر والحمل القسري على غرار 331 حالة وثقتها وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل في السودان، بحسب ما أكدته رئيسة الوحدة سليمى إسحاق لـ"عربي21".

 ورغم صعوبات الرصد والتوثيق في ظل استمرار الحرب، فقد وثقت المبادرة الاستراتيجية للمرأة في القرن الأفريقي ما لا يقل عن 300 حالة حتى الآن.

وقالت المديرة التنفيذية للمنظمة، هالة الكارب، في تصريح خاص لـ"عربي21"، إن 33 من هذه الحالات الموثقة سجلت في ولاية الجزيرة خلال الفترة الممتدة من الأسبوع الثالث من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى بداية نوفمبر/تشرين الثاني الجاري عقب الحملات الانتقامية الأخيرة لـ"قوات الدعم السريع" في الولاية.



المأساة أكبر من المعلن

ورغم أن وزارة الخارجية السودانية أكدت، في بيان أصدرته يوم الأحد الماضي، توثيق "ما لا يقل عن 500 حالة اغتصاب بواسطة الجهات الرسمية والمنظمات المختصة ومنظمات حقوقية"، إلا أنها نبهت إلى أن هذه الأرقام لا تعبر عن الواقع، بل "تقتصر على الناجيات من المناطق التي غزتها مليشيا قوات الدعم السريع"، منبهة إلى أن هناك أعدادا كبيرة من الحالات غير موثقة، ومنها " مئات من المختطفات والمحتجزات كرهائن ومستعبدات جنسيا وعمالة منزلية قسرية، مع تقارير عن تهريب الفتيات خارج مناطق ذويهن وخارج السودان للاتجار بهن"، وفقا للخارجية السودانية.

وعن أسباب عدم رصد هذه الجرائم وسط استمرار الحرب، تتحدث سليمى إسحاق، في تصريحها الخاص لـ"عربي21" عن "معيقات كثيرة للإحاطة بحالات العنف والاغتصاب منها عدم التبليغ من طرف الضحايا، وضعف خدمات الدعم والمتابعة وتشتتها بين الولايات بسبب النزوح". كما أن خبراء كثيرين وناشطين سودانيين نبهوا إلى أن التطورات في السودان، بما في ذلك الانتهاكات التي تطال الفئات الأكثر هشاشة، وفي مقدمتها النساء، لا تحظى بتغطية إعلامية كافية رغم زيادة ملموسة في الاهتمام في بعض المناسبات على غرار اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد النساء الذي يحل في 25 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام.

وقد أكد المحامي السوداني معز حضرة، في تصريح لـ"عربي 21"، أن أعداد حالات العنف الجنسي التي رُصدت أقل بكثير من الأعداد الحقيقية، مسلطاً الضوء على سبب رئيسي يعوق الرصد والتوثيق على غرار ظروف الحرب وتدهور أوضاع البلاد. ويتمثل هذا السبب في "الطبيعة المحافظة للمجتمع السوداني" التي لا تسهل طريق الضحايا نحو البوح بما تعرضن له من جرائم وانتهاكات، ما يدفع حضرة للقول "إننا نعتقد بأن الحالات المسكوت عنها أكبر بكثير مما جرى رصده".




عرض هذا المنشور على Instagram ‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎Arabi21 - عربي21‎‏ (@‏‎arabi21news‎‏)‎‏
سلاح حرب

تتهم السلطات السودانية "قوات الدعم السريع" بشكل صريح باستخدام الاغتصاب كسلاح في الحرب بهدف "إجبار المواطنين على إخلاء قراهم ومنازلهم لتوطين مرتزقتها"، وهو ما جددت الخارجية السودانية التعبير عنه في بيان سالف الذكر. وفي هذا الإطارـ، تؤكد رئيسة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل في السودان أن "العنف الجنسي المتصل بالنزاع يُوظّف من أجل التطهير العرقي والتهجير القسري من مختلف المناطق".

ومن المؤشرات على استخدام قوات الدعم السريع الاغتصاب سلاحا في الحرب أن "هذه الانتهاكات تستهدف مجموعات إثنية بعينها، حيث تقتل كل الذكور من تلك المجموعات وتغتصب النساء والفتيات بغرض إنجاب أطفال يمكن إلحاقهم بالقبائل التي ينتمي إليها عناصر المليشيا"، وفقا لبيان الخارجية السودانية الذي أوضح أن "تلك الفظائع تشمل جرائم الاغتصاب، والاختطاف، والاسترقاق الجنسي، والتهريب، والزواج بالإكراه، وأشكالا أخرى من العنف والمعاملة غير الإنسانية والمهينة والقاسية والحاطّة للكرامة للنساء وأسرهن ومجتمعاتهن".

غير أن الحالات الموثقة من العنف الجنسي لا تحمل بصمات عناصر "الدعم السريع" فقط، بل تكشف كذلك عن تورط أطراف أخرى في هذه الانتهاكات. وفي هذا الصدد، يؤكد المحامي السوداني معز حضرة "أن العدد الكبير من جرائم العنف الجنسي التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، لا يعني أن الأطراف الأخرى غير متورطة في هذا النوع من الجرائم".

ويتحدث عن "رصد ارتكاب جرائم اغتصاب وعنف جنسي من أطراف أخرى، بما فيها أفراد من القوات المسلحة السودانية، وبعض الحركات المسلحة والقبائل التي تدعم الطرفين".

أكثر من ذلك، "تم توثيق حالات استغلال في ظروف الحرب والمجاعة والنزوح من أجل ابتزاز النساء وتقديم الطعام مقابل الجنس"، بحسب المحامي حضرة، الذي نبه إلى أن استخدام الاغتصاب سلاح حرب من جرائم الحرب مخالف للقوانين الجنائية السودانية والقانون الدولي الإنساني، وكذلك "نظام روما الأساسي" الذي أُنشئت بموجبه المحكمة الجنائية الدولية.

وتواصلت "عربي21" مع الخارجية السودانية، ولم تتلق ردا، حتى وقت نشر هذا التقرير، وفي حال أرسلت الرد سوف يتم تعديل هذا النص ليتضمن موقفها.







ضحايا من مختلف الأعمار

دقت الأمم المتحدة جرس الإنذار في عدة تقارير من أن "حوالي سبعة ملايين امرأة وفتاة في السودان تواجه خطر الاغتصاب والعنف الجنسي". ورغم أن الحالات الموثقة تعد بالمئات، إلا أن سليمى إسحاق تنبه إلى أن "حالات العنف الجنسي التي تم توثيقها بشعة جدا" بعضها طال طفلات دون الست سنوات. أما أكبر الناجيات الموثقة حالتها فيناهز عمرها 76 عاما".

وقد رصدت وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل التي ترأسها سليمى أن "النساء الكبيرات في السن رفضن الخدمات والمتابعة بعد تعرضهن للعنف، إذ كان ذلك ثقيلا عليهن نفسيا بشكل كبير". 
حالات الاغتصاب لا تنسى بحسب سليمى إسحاق، ومنها جريمة تتذكرها بحزن ضحيتها فتاة من العاصمة الخرطوم، اقتحمت قوات الدعم السريع منزل أسرتها، واستفراد أحد العناصر بها محاولا اغتصابها، فكان "مغتصبها" يزيد من تعنيفها وضربها كلما لهجت بالدعاء ومناجاة الله، مبديا امتعاضه من رفضها بدعوى أنها فتاة من العاصمة حيث "التحرر" يفترض أن ترحب بما يحدث لها، ثم نهرها بقوله: "ما في لطيف في بس أنا"، ثم تناوب سبعة عناصر على اغتصابها.

وما زالت "هذه الفتاة تعاني من آثار هذه الجريمة" حتى الآن وقد لا تتعافى منها قريبا لأن "التعافي النفسي منها صعب خاصة أن الاغتصاب داخل المنزل يحوّله من مصدر أمان وذكريات الطفولة إلى ذكرى أليمة تركت ندوبا عميقة في نفسية الضحية"، وفقا لسليمى إسحاق.

كما روت هالة الكارب حكايات "جدّات" من جنوب أم درمان تتراوح أعمارهن بين 70 و80 سنة، كنّ قبل الحرب يعملن في خدمة المجتمع تحت إشراف المبادرة التي ترأسها الكارب، وبعد الحرب تعرضن لـ"الاسترقاق"، حيث "أجبرن على القيام بأعمال التنظيف والطبخ وحمل آليات وأسلحة لقوات الدعم السريع"، ويرافق ذلك "تعرضهن للسخرية والحط من كرامتهن وتهديدهن بالسلاح". وقد وثقت الكارب قصة ناجية من هؤلاء الجدات استطاعت أن تبوح بجانب من مأساتها قبل أن تتوفى بعد وقت قصير من تحريرها. ومن ذلك، أن محتجزي النساء كانوا يطلبون منهن الرقص وهم سكارى ويطلقون النار عشوائيا في الهواء، إضافة إلى انتهاكات أخرى جعلت الكارب تقول إنها "لا تستطيع تصور درجة القسوة وانعدام الإنسانية هذه تجاه الجدات اللاتي نسميهن في السودان الحبوبات".


مغتصبات ينتحرن هروبا من الوصم

تستمر المعاناة والندوب الناجمة عن الاغتصاب طويلا، وقد لا تزول أبدا حتى إن الحياة تضيق ببعض الضحايا إلى حد التفكير في وضع حد لحياتهن. واقع وثقه صندوق الأمم المتحدة للسكان عبر ممثله في السودان، محمد الأمين، الذي صرح في يوليو/تموز الماضي أن "بعض النساء وصلن إلى مرحلة من اليأس دفعتهن إلى محاولة الانتحار". وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، جرى توثيق "انتحار 3 نساء في ولاية الجزيرة وحدها"، بحسب ما كشفت عنه هالة الكارب في تصريحات صحافية.

كما أن أغلب حالات الانتحار كانت لضحايا جرائم الاغتصاب الجماعي، بحسب هالة الكارب. إذ تتعرض الضحايا من النساء والفتيات الصغيرات للتعذيب والاحتجاز ونتيجة لذلك يقررن إنهاء حياتهن. كذلك ترتفع مخاطر محاولة الانتحار في صفوف ضحايا الاغتصاب أمام أفراد الأسرة لما له من آثار عميقة على الضحية ومحيطها. وفي هذا السياق، قال المحامي السوداني معز حضرة، لـ"عربي 21"، إن الانتحار لم يطل فقط ضحايا الاغتصاب، "بل تم توثيق انتحار أفراد من أسر الضحايا خاصة ممن شهدوا جريمة الاغتصاب". وهنا، تشير هالة الكارب إلى ضحايا توفين قهراً بعد عودتهن إلى أسرهن لتُدفن معهن تفاصيل معاناتهن، خصوصا أن من بينهن من تعجز عن البوح بمأساتها حيث تعانين في صمت بلا علاج إلى أن يلفظن أنفاسهن. وتستحضر هالة الكارب من الحالات قصة فتاة أكد أهلها أنها تعرضت للاختطاف والاغتصاب الجماعي لشهور من قبل "الدعم السريع"، وقد توفيت قهرا بعد بضعة أيام من عودتها إلى أسرتها.

ورغم أن وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل في السودان لم توثق من جهتها حالات انتحار لضحايا الاغتصاب، إلا أن رئيستها سليمى إسحاق لا تستبعد لجوء بعض ضحايا العنف الجنسي للانتحار، خاصة مع "حالة الوصم ولوم الضحية التي تلاحق النساء دائما"، منبهة في هذا الصدد إلى أن آثار الاغتصاب لا تتوقف عند الضحايا فقط، بل إنه يسبب ندوبا عميقة في المجتمع كله. ووضعت سليمى إسحاق إصبعها هنا على قصور في معالجة هذه الجرائم وكبح تداعياتها يتمثل في "أن الاهتمام غالبا ما ينصب على السياسة والأرقام دون الالتفات إلى نتائج هذه الانتهاكات التي ستؤثر على أجيال كاملة"، ومنها الآثار النفسية، ومخاطر انتشار الأمراض الجنسية، وولادة أطفال نتيجة الاغتصاب، وغيرها من التداعيات الخطيرة التي تستمر طويلا ويتجاوز تأثيرها الضحايا إلى محيطهن.



حالات حمل جراء الاغتصاب

يعتبر الحمل نتيجة التعرض للاغتصاب إحدى النتائج الخطيرة، التي تعرض الضحايا لآثار جسدية ونفسية واجتماعية وخيمة. فقد شددت "هيومن راتس ووتش في مايو/أيار 2023 على أن "الندوب الجسدية والعاطفية والاجتماعية والنفسية التي تعرضت لها الضحايا هائلة".

ورصدت المنظمة حالات الوصم الاجتماعي، منها لإحدى الضحايا "طردها زوجها وأخذ أطفالهما منها، وتُركت في الشوارع" حين اكتشف حملها نتيجة تعرضها للاغتصاب. 

قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إن قوات الدعم السريع متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين في ولاية الجزيرة وسط #السودان، شملت القــتل والاحتجاز التعسفي واغتـصاب النساء والفتيات، مؤكدة على أن تصاعد هذه الهجمات الشنيعة مؤخرا ينهي الآمال المتبقية بإيقاف جـرائم الدعم السريع بدون رد… pic.twitter.com/26dgMuJYco — عربي21 (@Arabi21News) November 11, 2024
كما أكدت سليمى إسحاق لـ"عربي 21" توثيق 31 حالة ولادة من حمل ناتج عن الاغتصاب.

هذا إجمالي الحالات التي امتلكت الشجاعة وتوفر لها الدعم والسند للوصول إلى الوحدة، إذ تؤكد رئيسة الوحدة أن عددا أكبر من الضحايا لا يبلغن بسبب ظروف الحرب والسكن في الأرياف البعيدة، قبل أن تخلص مجددا إلى أن " الأرقام الحقيقية أكبر مما هو موثق بكثير".

وفي حين تستمر معاناة النساء اللواتي يضعن أولادا جراء الاغتصاب، يُسلّم مواليدهن في الغالب إلى مؤسسات ترعى الأطفال فاقدي السند في مختلف ولايات السودان. وأحيانا لا تلتقي الأم طفلها بعد ذلك، إذ تفضل معظم الأمهات عدم التواصل مع أطفالهن بسبب "الوصم وتجريم النساء" الذي يشكل عبأ ثقيلا على الضحايا، على حد تعبير هالة الكارب، ما يضاعف معاناة النساء في صمت جراء ندوب العنف الجنسي وانقطاع الاتصال بفلذات أكبادهن، ما يجعلهن في أمسّ الحاجة إلى الدعم والمساعدة.

غير أن الضحايا لا يحصلن على الرعاية والدعم اللازمين في ظل معاناة السودان عموما من ضعف كبير في الخدمات الصحية زاده الحرب والنزوح الكثيف تفاقما. وفي هذا الإطار، تتحدث هالة الكارب عن "قصور في الاستجابة وتوفير بروتوكول التعامل مع حالات العنف الجنسي"، بالإضافة إلى انعدام الدعم النفسي والخدمات الصحية المجانية، ولا سيما ضحايا الاغتصاب الجماعي اللواتي يحتجن أحيانا إلى تدخل جراحي لا يكون متاحاً في ظل انهيار المنظومة الصحية. كما تحتاج العديد من الناجيات للعون المادي لمواصلة حياتهن وفي الغالب لا يحصلن على أي نوع من الدعم، بحسب الكارب.

 وكان خبراء أمميون قد حذروا، في أغسطس/ آب الماضي، من نقص كبير للرعاية والخدمات الصحية والدعم النفسي، وخدمات ما قبل الولادة التي "أصبحت نادرة وغير آمنة أو غير متاحة على الإطلاق بالنسبة للناجيات اللاتي أكملن حملهن حتى نهايته".

ومع ذلك، تقول سليمى إسحاق إن هناك رعاية، لكن جودتها سيئة بسبب الحرب والنزوح، حيث يتم توفير الدعم النفسي للضحايا عن بعد، ولكن صعوبات الاتصال وانقطاع خدماته، تؤثر على وصول النساء إلى الدعم النفسي. وفي السياق نفسه، أشادت إسحاق "بمبادرات شجاعة أنشأت غرف طوارئ لتقديم المساعدة والدعم النفسي رغم أنها لا تستطيع الوصول إلى الجميع". كما أن خدمات الرعاية تختلف من ولاية إلى أخرى. فقد أدى اجتياح "الدعم السريع" ولاية الجزيرة إلى انهيار كبير في المنظومة الصحية ليحرم الأهالي من الخدمات الطبية.




لا غنى عن الدعم الدولي

طالبت سليمى إسحاق بضرورة بذل المجتمع الدولي جهودا من أجل وقف هذه الانتهاكات، وتحسين أوضاع النساء وتسهيل وصولهن إلى العدالة، وتمكينهن نفسيا وجسديا واقتصاديا، لأن سلامة النساء من صميم سلامة المجتمع كله. وفي هذا الإطار، أطلقت وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل "مبادرة 16 يومًا من النشاط النضاليّ ضد العنف الجنسانيّ" برسالة مفادها أن "نساء السودان وفتياته لسن وحدهن". وقد صارت الحملة حدثا سنويا، إذ تنطلق في 25 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام بمناسبة اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، وتستمر حتى اليوم العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر/كانون الأول.

غير أن نسخة هذا العام من المبادرة تأتي "في خضم أوضاع مأساوية تعاني فيها النساء والفتيات في السودان جراء الحرب والانتهاكات المروّعة التي ارتكبتها –وما تزال ترتكبها– عناصر "الدعم السريع" في الجزيرة ودارفور والخرطوم ومناطق أخرى في البلاد"، بحسب بيان للوحدة شددت فيه كذلك على ضرورة "حماية النساء في معسكرات النزوح ومراكز الإيواء من مختلف الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها".

ومن هذا المنطلق، شددت المديرة التنفيذية في المبادرة الاستراتيجية للمرأة في القرن الأفريقي، في تصريحاتها لـ"عربي21"، على الحاجة إلى "قوانين داخلية صارمة تتصدى لكافة أشكال العنف، بالإضافة إلى التعاون مع المحكمة الجنائية ومنظومة حقوق الانسان الدولية وتسليم الجناة للعدالة"، مع "تبني وتفعيل القوانيين الدولية والإقليمية لمكافحة العنف ضد النساء"، لأن ما يحدث في السودان وفقا لهالة الكارب "ليس وليد اللحظة، بل نتاج أربعة عقود أو أكثر من الحصانة والإفلات من العقاب".

أما المحامي معز حضرة فقد لفت النظر إلى أهمية الجهود الداخلية من أطراف الحرب جميعها، وأول هذه الجهود السماح بدخول أعضاء لجنة تقصي الحقائق التي شكلتها جنيف، وتسهيل وصولهم إلى المواقع من كل الأطراف المتحاربة، من أجل كشف الحقيقة والوصول إلى الضحايا. وفي انتظار ذلك ستبقى البيانات التي تصدرها أطراف الصراع، بحسب حضرة، غير ذات جدوى ما لم تقترن بجهود حقيقية لإنهاء النزاع "لأن الحرب هي أكبر جريمة".

مقالات مشابهة

  • الجزيرة ترصد الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي على بلدات بعلبك
  • كيف يستخدم الاغتصاب سلاح حرب في السودان؟.. المأساة أكبر من المعلن (شاهد)
  • من هو العلامة السعودي الذي وثّق جغرافية الجزيرة العربية؟
  • هذه هي قيم الجيش وأخلاقه هذا هو الرحم الذي لا ينجب إلا الفرسان
  • أهالي لبنان يحتفلون بسقوط الثلج رغم الحرب.. أمل في الحياة رغم المأساة
  • شاهد بالفيديو.. الناشط الذي اشتهر بتقليد أفراد الدعم السريع يعود بمقطع ساخر ويكشف ردة فعل “الدعامة” عندما تأتيهم تعليمات بدخول الفاشر ومتابعون: (الله يجازي محنك قطعت مصارينا بالضحك)
  • شاهد بالفيديو.. “كيكل” يكشف معلومات خطيرة عن قيادات بارزة بالدعم السريع: (قجة أكبر شفشافي ودخلت في معارك مع قائدهم الذي اقتحم الجزيرة وجلحة دا ما محسوب)
  • شظايا صاروخ من لبنان تسقط بالضفة الغربية.. وإصابات عدة
  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • شاهد بالفيديو.. البرهان يكشف تفاصيل تحرير “سنجة” (نصبنا لهم “الشرك” الذي توعدنا به قائد التمرد والدعامة الدخلوا الجزيرة والخرطوم مافي زول بطلع منهم)