دعونا نضع حداً لحرب الضعفاء هذه: الجزء الأول

إبراهيم أحمد البدوي

بسم الله الرحمن الرحيم

}وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الَّلََّه شَدِيدُ الْعِقابِ{ )الأنفال: 25(

إن الحرب التي تدور الآن في السودان منذ أكثر من عام هي فتنة ماحقة مكتملةُ الأركان، أهلكت الحرث والنسل ومازالت، بل قد باتت تشكل تهديداً وجودياً للبلاد وأهلها.

فالحروب والنزاعات الداخلية كوارثَ وطنية عظيمة، تُزِهق الأرواح وتُشرد المواطنين الآمنين – نزوحاً في الداخل ولجوءً في المنافي – وتدمر الأصول المادية والبيئية، وتتسبب في المجاعات وغير ذلك من الكوارث، وفى نهاية المطاف قد تؤدي إلى تفتت الأوطان، كما نخشى أن يحدث ذلك، لا سمح الله، لبلادنا الحبيبة السودان .

في إطار السعي لبناء رأ ي عام مستنير لمكافحة الغوغائية والشحن الغرائزي الذي يعتمده دعاة هذه الحرب، علينا التذكير، دون كلل أو ملل، بأن الكل خاسر في هذه الحرب الكارثية، وبطبيعة الحال الخاسر الأكبر هو الوطن والمواطن السوداني اللذان يزعم دعاة الحرب، زوراً وبهتاناً، بأنها تُدار بإسميهما ومن أجلهما .هذه الحرب تندرج فيما أسماه البروفيسور جيفرى ساكس، عالم الاقتصاد الذائع الصيت، مدير مركز التنمية المستدامة بجامعة كولمبيا الأمريكية، “حروب الضعفاء”. ففي محاضرة له للجمعية الباكستانية بجامعة أكسفورد بمناسبة الذكرى الخامسة والثمانون لوفاة الشاعر والمفكر الباكستاني الكبير محمد إقبال تحدث بروفيسور ساكس عن ثلاثة أنواع من الحروب، منها اثنتين أسماهما حروب الأقوياء. أولاهما، حروب التباعد الاقتصادي والتقني، حيث تمتلك مجموعة من الدول ناصية التكنلوجيا المدنية والعسكرية والتطور الاقتصادي، مما يم كِ نها من بناء قوة عسكرية واقتصادية متفوقة مقارنة بالدول الأخر ى، الأمر الذي يغريها بإشعال الحروب العدوانية طمعاً في الموارد الأولية والأيدي العاملة الرخيصة، كما حدث في حالة الحروب الإمبريالية بعد الثورة الصناعية. ثانيهما، حروب التقارب الاقتصادي والتقني، والتي عادة ما تكون حروباً بالوكالة أو توترات كبيرة في العلاقات الدولية، كما كان الحال بين الغرب والاتحاد السوفيتي السابق وكما يحدث الآن بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية. أما حروب الضعفاء فهي تلك التي تحدث في الدول الفقيرة المنهكة بفساد الحكم وضعف المؤسسات والاقتصاد وسوء إدارة التنوع الهويوى، مما يؤدى إلى النزاعات والحروب الأهلية، خاصة في ظل عدم قدرة القوات النظامية على “احتكار العنف الشرعي المنظم”. مآلات هذه الحروب المزيد من الضعف الاقتصادي والمؤسسي والتشرذم المجتمعي، بل وتفكك الدول وربما زوالها في بعض الحالات.

لهذا واجبنا الوطني كقوى مدنية ديموقراطية وأيضاً كمواطنين سودانيين شرفاء، مهما اختلفت مشاربنا وتباينت رؤانا، واجبنا أن نسعى بالكلمة المقروءة والمسموعة لبناء رأى وطني عام مناهض لهذه الحرب وتفعيل ذلك بالتعبئة الشعبية في كل الساحات المتاحة، خاصة في العواصم العالمية الكبرى، تماماً كما حدث في ثورة ديسمبر المجيدة، حيث كانت الدياسبورا السودانية حاضرة وبقوة في دعم الثورة ونزع ما تبقى من ش رعية نظام الإنقاذ البائد، مما كان له أبلغ الأثر في الدعم العالمي والإقليمي لشباب الثورة الأبطال في داخل البلاد .هذا العمل التعبوي سيسلط المزيد من الضوء علي معاناة المواطنين السودانيين جراء النزوح الداخلي واللجوء القسري إلى دول الجوار، الأمر الذي قد يفضي إلى مشروع أُممي لإعلان وفرض مناطق آمنة داخل السودان لإعادة توطين النازحين واللاجئين، خاصة أن ت وَ سع وكثافة ظاهرة اللجوء قد أصبحت تشكل عبئاً ثقيلاً على دول الجوار وأدت إلى ارتدادات سلبية رغماً عن أنها ظاهرة اضطرارية، مفروضة علي شعب مغلوب على أمره يتم قتله وتدمير مقدرات حياته بذات الموارد التي وفرها لمن ائتَ منهم على حمايته لكى يعيش معززاً مكرماً في وطنه “آمناً في سربه، يمتلك قوت يومه”.

أكثر من ذلك ،إذا لزم الأمر، يمكن تطوير هذا الزخم الشعبي التعبوي للمطالبة بعملية للأمم المتحدة متعددة الأبعاد لإسناد منبر جدة وغيرها من مبادرات بناء السلام الإقليمية، خاصة بعد إعلان الاتحاد الأفريقي الهام بالنظر في تشكيل مجلس رئاسي لوضع حد لهذه الحرب. إلا أنه من الأهمية بمكان التنويه إلى أن العملية ا لأُممية التي نحن بصددها لا تسمح بالتدخلات الخارجية الأحادية غير المحايدة من جانب فرادى البلدان، حيث أن عمليات الأمم المتحدة المناسبة لبناء السلام تعمل بموجب ولاية صارمة تضمن الحياد والنزاهة والتبعية لسيادة البلد المعني. بالمقابل، لابد من التشديد على أنه لكي تكتسب العملية الأمُمية المستهدفة الشرعية الكافية لأداء مهمتها في فرض وبناء السلام، يجب أن تكون مسنودة بموقف شعبي وطني واز ن، تحت قيادة جبهة مدنية ديمقراطية عريضة القاعدة لا تستثني أحداً على قاعدة وقف الحرب وبناء السلام والالتزام بمبادئ وأهداف ثورة ديسمبر المجيدة. ربما قد أصبح بناء هكذا جبهة ممكناً في سياق المزيد من التوسع والتصويب والمأسسة لمبادرة “تنسيقية تقدم”، أو على أقل تقدير بناءها كتحالف “افقي “لإنجاز الأهداف المرحلية لوقف الحرب واستحقاقات بناء السلام على لمدى القصير، ممهدة الطريق للتوافق علي عقد اجتماعي مستدام لبناء دولة مدنية، ديمقراطية قوية، متصالحة مع شعبها ومحيطها الإقليمي.

من الأهمية بمكان أن يتواكب مع هذا الجهد التعبوي والسياسي مساهمات فكرية عميقة تعتمد طرائق البحث الحديثة في علوم الاقتصاد والسياسة وغيرها للتوفر على نتائج وبرامج يمكن أن تشكل عناصراً لبناء مشروع وطني يُعتد به. أيضاً، نقترح أن تتناول الدراسات المقترحة ثلاث مراحل هامة في المشروع الوطني السوداني. أولاً، بناء سردية وطنية جامعة عن المخاطر الوجودية لهذه الحرب العسكرية الفصائلية وضرورة إيقاف تحولها المتسارع إلى حرب إثنية/جهوية متطاولة ،وضرورة نزع شرعيتها وشرعية من أيقظ فتنتها ومن شارك وأجرم فيها. ثانياً، قضايا بناء واستدامة السلام والاستحقاقات المترتبة على القوى الوطنية المدنية الديمقراطية لإنجاز هذه الأهداف الوطنية السامية. ثالثاً، تحديات وآفاق التوافق علي عقد اجتماعي وازن لتحقيق الانتقال المدني، الديمقراطي، النهضو ي وتأسيس شرعية سياسية-اقتصادية مزدوجة لبناء ديمقراطية برامجية تتعدى التنافس الانتخابي إلى إنجاز تحو لات اقتصادية نهضوية تعالج جذور أزمة التخلف والشمولية والنزاعات التي أقعدت بالبلاد – هذه البلاد التي حباها الله سبحانه وتعالى بخير كثير وسَعة، الأمر الذي دفع مجلة النيوزويك الأمريكية في العام 1953 إلى وصفها بأنها “بقعة مضيئة في قارة مظلمة”: مجلة نيوزويك الأمريكية.

الجزئيين الثاني والثالث من هذا المقال سيسعيان إلى استدعاء الدروس والعِبَر من تراثنا العربي-الأفريقي المزدوج عن الحروب الأهلية وكوارثها وأيضاً نِعَم ومِنَن السلام وعظمة من قيضهم الله سبحانه وتعالى لبنائه، لما لهذه العِبَر والدروس من دلا لا ت عظيمة لحالنا ومآلنا في ظل هذه الحرب المأساوية.

بروفيسور إبراهيم أحمد البدوى عبد الساتر

وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السابق يونيو، 2024

الوسومالأمم المتحدة الحرب السودان الغوغائية مبادرات السلام منبر جدة وزير المالية السابق إبراهيم البدوي

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الأمم المتحدة الحرب السودان الغوغائية مبادرات السلام منبر جدة بناء السلام هذه الحرب

إقرأ أيضاً:

الفريق أسامة ربيع: نسعي لتوطين الصناعات البحرية وإعادة الريادة للترسانة الوطنية

تفقد الفريق أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس، أعمال بناء القاطرات الجديدة التي يتم بناؤها لصالح هيئة قناة السويس بمصنع مصر للقاطرات بترسانة جنوب البحر الأحمر بمدينة سفاجا، يرافقه  مصطفي الدجيشي رئيس مجلس إدارة شركة ترسانة جنوب البحر الأحمر، وعدد من قيادات الهيئة والشركة، وذلك لمتابعة سير العمل والتعرف على مستجدات عملية بناء خط إنتاج القاطرات البحرية من طراز" Rastar 3200-W" بقوة شد ٩٠ طن. جاء ذلك فى بيان اليوم للمركز الإعلامي لهيئة قناة السويس.
 

شملت الجولة التفقدية، الأعمال الجارية بالقطاعات الثلاثة الرئيسية بمصنع مصر لبناء القاطرات وهى قطاع التقطيع، وقطاع التشكيل، وقطاع البناء، والمجهزة بالتكنولوجيا الأحدث عالميا في مجال بناء الوحدات البحرية المختلفة.

كما اطلع رئيس الهيئة على مستجدات أعمال بناء القاطرات الجديدة بمصنع مصر للقاطرات وعددها ١٠ قاطرات بحرية تحمل اسم" عزم"، حيث بدأ العمل الفعلي لبناء ٦ قاطرات على التوازي بالمصنع بسفاجا ومن المقرر بدء العمل لبناء ٤ قاطرات بالتعاون مع ترسانة بورسعيد البحرية التابعة للهيئة.
يبلغ طول القاطرة الواحدة ٣٢ مترا، وعرضها ١٣.٥ مترا، وارتفاعها ٦ أمتار، وسرعتها ١٢ عقدة، وتمتاز القاطرات الجديدة بتصميمها الفريد بالتعاون مع مكتب التصميم العالمي روبرت آلان أكبر مكاتب التصميم العالمية في مجال بناء القاطرات وهو التصميم الذي يتيح لها مزايا متعددة تضمن لها تحقيق أعلى قدر من المرونة خلال مناورات الحركة والإبحار وتحقيق قوة شد كبيرة قدرها ٩٠ طن.  واكد الفريق ربيع أن قناة السويس قطعت خطوات جادة وفعالة نحو تنفيذ توجيهات القيادة السياسية بتوطين الصناعات البحرية وتشجيع الشراكة مع القطاع الخاص ضمن الاستراتيجية القومية التي تستهدف عودة الريادة للترسانات الوطنية والدخول بقوة في مجال الصناعات الثقيلة كثيفة العمالة بما يساهم نحو تحقيق العديد من الأهداف التنموية بتلبية الاحتياجات المحلية وتوفير فرص عمل للشباب، فضلا عن دعم الاقتصاد الوطني بفتح أسواق جديدة للتصدير الخارجي. 
وأوضح رئيس الهيئة أن القاطرات البحرية الجديدة ستساهم في دعم جهود تطوير وتحديث أسطول الهيئة من القاطرات البحرية المعاونة متعددة المهام والتي تستخدم في أعمال مصاحبة السفن العابرة للقناة وأعمال التأمين الملاحي والتعامل مع المواقف الطارئة. خلال جولته، وجه رئيس الهيئة بضرورة الالتزام بالجدول الزمني المحدد لتنفيذ أعمال بناء القاطرات مع مراعاة تطبيق شروط الجودة والمعايير العالمية خلال مراحل البناء ومراحل تركيب المعدات والتجهيزات البحرية والملاحية والتي تحظى بمتابعة دورية لكل مراحل البناء من قبل لجان فنية متخصصة تابعة لهيئة قناة السويس، وتحت إشراف واعتماد هيئة الإشراف الدولية الفرنسية وهيئة الإشراف الدولية الإيطالية. 

من جهته، أوضح  مصطفي الدجيشي رئيس مجلس إدارة شركة ترسانة جنوب البحر الأحمر أن مصنع مصر لبناء القاطرات يستهدف تحقيق ميزة تنافسية على المستوى الإقليمي ترتبط بالمستوى الفني والتقني للوحدات البحرية المصنعة ومعدلات بنائها في أوقات قياسية وهو ما يعكسه مستوى تقدم أعمال بناء القاطرات الجديدة. 
وأشار رئيس مجلس إدارة شركة ترسانة جنوب البحر إلى  انتهاء أعمال بناء بدن القاطرة "عزم ١ "، وقرب انتهاء أعمال بناء بدن القاطرة الثانية "عزم ٢" والتي بلغت نسبة إنجازه  ٨٥٪ ومن المقرر تدشين القاطرتين  شهر ديسمبر المقبل بمشيئة الله، فيما وصلت نسبة إنجاز بدن القاطرتين "عزم ٣" و"عزم ٤" إلى ٣٠٪، و٢٠ ٪ على التوالي، ويجري العمل على  تصنيع خطوط المواسير وأعمال التشطيبات الداخلية طبقا للرسومات الهندسية المعدة.

في ختام الجولة التفقدية، حرص الفريق أسامة ربيع على  تحية عمال ومهندسي مصنع مصر لبناء القاطرات، مشيدا بكفاءة العمل وسرعة الإنجاز، معربا عن تطلعه ليصبح المصنع قلعة صناعية وطنية وأحد منجزات الجمهورية الجديدة.

الفريق أسامة ربيع نسعي لتوطين الصناعات البحرية واعادة الريادة للترسانة الوطنية 0f290480-ec29-47f7-a958-687924be11a6 b180a78b-95f2-4e87-b3ce-1c6205c8d4e1 a26881ef-38f9-4720-9069-7de1ac73ba5d a3d1e4aa-d5c8-4609-850e-cc9a2426e435 e6b9fa71-7077-4262-a245-f4105c22cae9 54ec39cc-a134-4198-abed-1506db2d379d 2dd93c56-8d52-4bca-ab06-bc6d0364b6b5

مقالات مشابهة

  • رئيس هيئة قناة السويس مصنع مصر لبناء القاطرات بترسانة سفاجا
  • الفريق أسامة ربيع: نسعي لتوطين الصناعات البحرية وإعادة الريادة للترسانة الوطنية
  • قناة السويس تبني 10 قاطرات جديدة بترسانة البحر الأحمر
  • رئيس ترسانة البحر الأحمر: مصنع مصر للقاطرات يستهدف تحقيق ميزة تنافسية
  • الحروب بالوكالة: حزب الله وقبرص
  • دعونا نضع حداً لحرب الضعفاء هذه: الجزء الثالث
  • الجزائر: السلام في اليمن بناء على المرجعيات أمر أساسي للإستقرار في المنطقة
  • الحروب الثقافية وحرب غزة.. كيف صاغ السابع من أكتوبر مفهوم الأمة؟
  • دعونا نضع حداً لحرب الضعفاء هذه: الجزء الثاني