الجزيرة:
2025-05-01@20:16:33 GMT

جبل الزيتون.. يوميات ضابط تركي في المشرق العربي

تاريخ النشر: 26th, June 2024 GMT

جبل الزيتون.. يوميات ضابط تركي في المشرق العربي

ظهرت الدولة العثمانية للمرة الأولى على خريطة تاريخ العالم بوصفها إمارة صغيرة تحيط بها الدولة السلجوقية والإمبراطورية البيزنطية في شمال غرب الأناضول، وقد توسعت هذه الإمارة خلال الفترة بين 1489 و1402، وتحولت لإمبراطورية عظمى، ووصلت إلى نهر الدانوب في الشمال الأوروبي والفرات بالشرق الأوسط.

وفي كتابه "جبل الزيتون" الصادر عن دار الرافدين في بغداد (2023) -والذي ترجمه عن التركية أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير- يروي الصحفي والكاتب والسياسي التركي-العثماني فالح رفقي أطاي (1894-1970) ذكرياته ومشاهداته التي دوّنها عن آخر أيام العثمانيين في الجبهة السورية الفلسطينية بالحرب العالمية الأولى (1914-1918) خلال فترة عمله في مقر الجيش الرابع كضابط مساعد لجمال باشا (1872-1922 جورجيا) القائد العام لجبهة فلسطين والحاكم العرفي لسوريا، والذي يعتبر إلى جانب أنور باشا (1881-1922 تركستان)، وطلعت باشا (1874-1921 برلين) من مؤسسي حزب الاتحاد والترقي.

وفي هذه اليوميات نتعرف على واقع المدن العربية (غزة، دمشق، بيروت، القدس)، والتي ربما ما زالت تعيش أجواء الحرب العالمية الأولى، ويرصد المؤلف في كتابه الدور السلبي الذي لعبه جمال باشا على الجبهة الفلسطينية وأهم أحداث تلك الفترة، ومحاولاته الحفاظ على المنطقة العربية ضمن الأراضي العثمانية.

فالح رفقي أطاي كاتب وصحفي وقائد عثماني وعضو برلمان الجمهورية التركية لاحقا (مواقع التواصل) جمال باشا.. حكايات أسطورية

يتحدث المؤلف في مستهل الكتاب عن لقائه الأول مع جمال باشا (1873 – 1922) الحاكم الفعلي لولاية سوريا، إذ يرى أطاي إن جمال باشا قد تغير بعض الشيء، حيث كان قد تعرف عليه أطاي في المدرسة العسكرية في إسطنبول قبيل الحرب العالمية الأولى، وبدا له آنذاك شابا فخورا بنفسه بعض الشيء ولطيفا، حيث تلاشت صورة جمال باشا لدى فالح رفقي أطاي الذي اعتاد عليها في منطقة سيركجي بأسطنبول وفي المدرسة العسكرية، وقد حلت مكانها صورة رجل آخر بخطوط مجعدة، ومن هنا سيكون على أطاي التعرف على جمال باشا من جديد.

وبصرف النظر عن رتبته الكبيرة كانت هناك حكايات أسطورية عنه، في سوريا كانوا يقولون "إن جمال باشا إذا خدش أنفه فإنه يفكر في نفي شخص ما، وإذا عبث بلحيته فهو يفكر في التسامح أم لا، وإذا فتل شاربه فخافوا من هذه المقابلة لأن لها طريقا حتى الموت".

ويروي المؤلف لحظة وصوله إلى مقر الجيش الرابع، فيقول "كان الذهاب إلى مقر الجيش الرابع -خاصة بعد دمشق- يشعر بالدوار مثل تسلق المعبد، هناك جو من الرعب، واسم جمال باشا يشبه الاسم المقدس المأخوذ من التوراة والإنجيل".

وكان المقر الرئيس للباشا في القدس في دار الضيافة الألمانية على قمة جبل الزيتون، وعند وصول أطاي إلى المقر للعمل مساعدا لجمال باشا بطلب من الأخير كان صوت الباشا يهز المبنى، ويصف المؤلف قسوة جمال باشا بقوله "يستطيع أن يقرر الحياة والموت بكلمة واحدة".

بعض الذكريات.. صراع على النياشين

ينقل المؤلف بحكم عمله إلى جانب إبراهيم باشا في ولاية سوريا وقد أتاح له ذلك الاقتراب بشكل مباشر من حياة المشرق العربي صورة الانهيار المرير الذي عاشته مدن الشرق، وانكسار العثمانيين في تلك الحرب بعد عام 1914، ويعزو المؤلف ذلك إلى التنافس القوي بين الجنرالات العثمانيين آنذاك، والصراع على الأوسمة والنياشين الذي احتدم بين جمال باشا وزير البحرية وقائد الجيش الرابع وأنور باشا وزير الحربية والقائد العام للجيش على الرغم من خطورة الوضع الذي ينذر بزوال سلطة العثمانيين عن مواقع كثيرة ومهمة في المشرق العربي.

ويعلق الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر "كان لضيق أفق الضباط الأتراك الكبار والقادة الإداريين المكلفين إدارة شؤون البلاد العربية شأن مهم في تأليب القبائل العربية على الدولة العثمانية"، مضيفا أن "هؤلاء الضباط والقادة لم يتمكنوا من فهم مصالح السكان العرب واعتراضاتهم".

رياح المشرق العربي.. اختفاء راية الإمبراطورية

يشرح المؤلف فالح رفقي أطاي في كتابه كيف أن الضباط الأتراك والقادة المحليين كانوا سببا في زوال سلطة العثمانيين عن مدن المشرق العربي التي كانت تخفق فوقها راية السلطنة العثمانية لسنوات طويلة، وذلك بسبب إصرارهم على عدم قراءة الأحداث التي تحيط بهم بعقلانية، مما جعلهم يفقدون هذه المدن ويرحلون إلى الأناضول.

ويشير أبو فخر في حديثه للجزيرة نت إلى أن "ملامح انهيار الدولة العثمانية بدت جلية على محيا الصدر الأعظم طلعت باشا حين نزل في محطة قطارات صوفيا، وتلقى أخبار الهزيمة في بلغاريا، وتمنى لو مات في ذلك اليوم، وكذلك الأمر حين سقطت دمعتان على لحية جمال باشا في مكتبه بالقدس بعد فقدان الروملي".

ويبدو أن هذا الانهيار الذي طال كل مدن المشرق آنذاك هو واقع لم يتحمل مسؤوليته الأوروبيون فحسب، المشاركون في الحرب العالمية الأولى ضدهم، بل نجم أيضا -وفقا لأطاي- عن الرؤية العثمانية وجنرالاتها الذين ظلوا ينكرون الخسائر ويركزون على تبني مغامرات كبيرة.

من جهته، يعزو المؤرخ الفلسطيني أحمد الدبش سبب الانهيار العثماني على الجبهة الفلسطينية إلى "عدم قراءة موازين القوى في هذه المرحلة، مما جعلهم يفقدون المدن وانكماشهم في الأناضول".

والسبب الآخر كما يذكر الدبش أن "جمال باشا كان همه الأول والأخير تأمين وجوده في السلطة، وليس مواجهة الاستعمار الأوروبي الجديد".

وعلى الرغم من أن العرب والأتراك تشاركوا في نحو 400 سنة من التاريخ فإن الكاتب يعترف بأنه من بين البريطانيين والروس والإيطاليين والعثمانيين كان العثمانيون "أقلهم معرفة وفهما بشؤون سوريا وفلسطين والحجاز"، مضيفا أنهم كانوا "يتجولون بعربة مدفع ويراقبون ما يحدث بعيني موظف لص".

هزيمة في بلاد العرب.. ولاءات متعددة

أصبحت قوة العثمانيين منهكة، وبدا أن المركز العام للاتحاد والترقي قد فقد الأمل تماما في النصر في العام الأخير من الحرب العالمية الأولى.

ويرى فالح رفقي أن ولاء أنور باشا للألمان هو السبب وراء اعتقاده أن الألمان لا يهزمون، في حين كان جمال باشا ميالا إلى فرنسا ويكره الألمان ويكرهونه، وكما يقول المؤلف "لو كان جمال باشا على رأس الدولة بدل أنور باشا لما دخلت السلطنة الحرب ولما حصل ما حصل".

ويتوقف الكاتب عند معارك غزة بين الإنجليز والعثمانيين في فلسطين بقوله "كان الإنجليز يحتلون الصحراء، وهناك نقص في عدد الجنود العثمانيين حيث لا يغطي الجنود مساحات الخنادق".

ويقول المؤرخ أحمد الدبش في حديثه للجزيرة نت "اندفع جمال باشا بقواته عبر سيناء وكأنه يبعث جنوده إلى الموت ليكونوا طعاما للقوات المعادية المتربصة بهم، وهو ما حدث بالفعل حيث كانت مدافع الفرنسيين والبريطانيين تنتظر هذه القوات الواردة لتحصدها أولا بأول دون أن تمكنها من عبور قناة السويس".

وكان الإنجليز قد هاجموا جيش غزة مرتين، وتم تدمير السفن المدنية من البحر، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1917 تمكن الإنجليز من احتلال غزة وانسحاب العثمانيين.

بدوره، يرى أبو فخر أن سقوط غزة في مستهل هجوم الحلفاء على بلاد الشام "دشن البداية الحقيقية لهزيمة الدولة العثمانية في بلاد العرب".

ويوضح أن "سقوط العقبة في أغسطس/آب كان بداية النهاية لحكم العثمانيين في فلسطين وسوريا، وهو الذي مهد الطريق لسقوط غزة".

ويبين المؤلف أنه لم تكن لدى أي من القادة الأتراك الجرأة لفتح هذا الأمر مع أنور باشا إلى أن قرر نجيب بك (والد حسن رضا صوياك الكاتب العام لأتاتورك) شرح الموقف لأنور باشا، فما كان من الأخير إلا أن رد عليه بالقول "واه يا نجيب بك، واه، لقد سمموك أيضا، أنت رجل مؤمن، فاعرف أنني وكيل الله لتأسيس الملك التركي العظيم، اذهب لبيتك ونم مرتاحا".

وعندما عاد نجيب بك إلى المنزل أخذ يقول "لو لم يكن هذا الرجل وزيرا للحرب ونائبا للقائد العام ومساعدا لحضرة السلطان لكان مكانه فقط في مستشفى المجانين".

مجاعة المشرق.. أمام موكب الباشا

كان جمال باشا يعتقد أن سياسات إعادة الإعمار والإصلاح وشيئا من القسوة سوف تساهم في الاستقرار وتأييد شعوب المشرق العربي السلطنة العثمانية.

يشار إلى أن جمال باشا وقيادة الجيش الرابع سكنوا في حي الصالحية في وسط دمشق، وبحلول كل يوم جمعة كان الشيوخ السوريون في منتصف العمر وكبار السن يأتون إلى المقر العسكري، وقد بدا جمال باشا وسط هذه الحلقة التي تشبه حلقات الذكر والموالد الدمشقية الشهيرة متكئا في جلسته وهو يحمل بيده مسبحة ذات الـ99 حبة.

القائد العسكري التركي جمال باشا (وسط) (شترستوك)

وفي بيروت بدا المشهد مختلفا وأكثر مأساوية بالنسبة للباشا ومرافقيه، فعند دخول فالح أطاي مع (خديوي سوريا.. جمال باشا وفق ما كان يطلق عليه آنذاك) بالقطار شاهدوا الأطفال المنتفخة بطونهم يجلسون على قشور البرتقال الملقى على الأرض، والنساء الضعيفات يقضمن بقايا الخبز.

ويصف المؤلف تلك المشاهد المأساوية بقوله "كنا نستمع إلى آخر أنين الهياكل العظيمة الجائعة وغير القادرة على العثور حتى على قطعة من الشجرة أو قشر برتقال جاف، حيث زحف أولئك الجياع على الرصيف أمام موكب الباشا وهم يهتفون: جوعانين.. جوعانين".

قلة يهودية و600 ألف عربي

يرد في الكتاب أنه كانت هناك ما يمكن وصفها بحكومة صهيونية سرية في فلسطين، فقد كان لليهود أعلامهم وبريدهم الخاص، يضعون طوابعهم على رسائلهم ويرسلونها مع موظفين خاصين بهم.

ويشير المؤلف إلى أن جمال باشا لم يكن قائدا غرا، فقد كان يعرف رؤساء الحركة الصهيونية، وكان قد استدعاهم مهددا.

وبحسب الكاتب، لم يكن اليهود سذجا، لذلك توجهوا إلى مكاتب البريد واستطاعوا إرسال برقيات حول الموضوع إلى الصحف الصادرة في لندن وباريس لإثارة الرأي العام الأوروبي ضد السلطنة العثمانية.

من جهته، يوضح الكاتب صقر أبو فخر "أيقظت الحملة التركية على قناة السويس الذعر لدى البريطانيين في شأن مصير خط التجارة بين بريطانيا والهند، ومنذ تلك الحملة ازدادت المحاولات لتأسيس دولة لليهود في فلسطين تحمي المصالح البريطانية وتخلص أوروبا من المسألة اليهودية".

وعن مشاهداته في فلسطين يقول المؤلف "سافرت عدة مرات من يافا إلى القدس، المختار في القرى يهودي إنجليزي يرتدي بدلة في المساء، والفتيات اليهوديات الألمانيات ذوات الخدود الحمر يعدن إلى القرية من الكرم ويغنين فوق عربة الحصان، أما القرية العربية فكانت كومة من الأرض، دمرت الحدائق، والناس عارية، والعيون مريضة".

الرحيل إلى الأناضول.. وداعا دولة الخيمة

يصف فالح أطاي عودة جمال باشا إلى إسطنبول على متن قطار خاص بعد هزيمة العثمانيين في فلسطين، نظر جمال باشا إلى الأراضي الفقيرة في الأناضول وقال "أتمنى لو تم تعييني هنا".

ويرى الكاتب أن سوريا هي التي كانت تسقط وليس جمال باشا، ومع ذلك يقول أطاي "نظرا لأنها كانت دولة تحترم الرتب والنياشين كثيرا فلم تكن هادئة مثل قرى الأناضول، لكنها سقطت وهي تلف نفسها بزي القائد العام والمارشال والوزير".

ويشير فالح أطاي إلى أن جمال باشا لم يكن فاسدا، لكنه كان يسمح لزواره الكثيرين بأخذ الأقمشة الحريرية إلى إسطنبول، وقد استغل أعداؤه ذلك ونشروا إشاعة أن جمال باشا كان تاجرا.

ويعتقد الدبش أن شخصية جمال باشا التي توصف بالقسوة "ساهمت في نفور سكان المشرق العربي من السلطة العثمانية، فكانت سياسته الأكثر تدميرا للعلاقة بين العرب والعثمانيين، مما أفاد بريطانيا وفرنسا، وبالتالي زوال النفوذ العثماني من المشرق العربي".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الحرب العالمیة الأولى الدولة العثمانیة العثمانیین فی المشرق العربی الجیش الرابع فی فلسطین أبو فخر لم یکن إلى أن

إقرأ أيضاً:

بين بارت والذكاء الاصطناعي.. رحلة النص من نبض القلب إلى نبض الآلة

حين أعلن رولان بارت عام 1967 أن «ولادة القارئ تُبنى على موت المؤلف»، لم يتخيّل أن قاتل الكاتب الحقيقي سيكون خوارزمية بلا قلب ولا ذاكرة. ما أراده بارت، في جوهره، لم يكن اغتيالا لفعل الكتابة، بل إزاحة مركز الثقل من المؤلف إلى القارئ، من السلطة إلى التلقي كما فهمناه من دراستنا للنقد البنيوي على مقاعد الدراسة. وبعد أكثر من نصف قرن، تُعاود أطروحة بارت الظهور في سياق مغاير تماما: لقد مات المؤلف مرة ثانية، لكن القاتل هذه المرة ليس النقد البنيوي، بل الذكاء الاصطناعي، الذي يكتب دون تجارب حياتية، ودون عذابات، وينتج نصوصا دون توقيع أو إمضاء.

***

كانت الكتابة على امتداد التاريخ محاطة بأثر إنساني لا يخطئه القارئ، بدءا من رعشة اليد إلى توتر اكتشاف المعنى ودهشته، ذلك الذي تسميه الناقدة الأمريكية كيثرين هايلز بـ«الحمض النووي للخبرة»؛ فهو ما يفصل بين رواية ودفتر إحصاءات، وبين قصيدة ووصفة طعام على حد تعبيرها. لكن خوارزميّات التوليد اللغوي تُنتج اليوم قصصا تكاد تكتمل فيها الحبكة، وتحكم الاستعارة وأساليب البلاغة الأخرى، من دون أن يجرحها قلق وجودي أو يُرهقها سؤال التجربة الإنسانية.. فهل يكفي الإتقان ليولد الأدب أم أن الأدب يولد من عذابات الإنسان وتجاربه وانكساراته؟

لكن المشكلة لا تبدو تقنية فقط، فحين يقرأ القارئ نصّا جميلا لا يعرف صاحبه، يتضاءل فضول نسبته إلى كاتبه ويعلو فضول الاستخدام: «أمتعني إذا هو جيّد»!. هنا نستعيد تحذير الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين من أن تَغلُّب التقنية على العمل الفني يُحوّل المتلقي من شريك في التجربة إلى مُستهلك سريع للسلعة. النصّ المولد قد يُشبع جوع السرد، لكنه يُفرغ الكتابة من دورها الأعمق: أن تكون انعكاسا للوجود لا ترفا لحظيا يولد دون معاناة.

وإذا وسعنا الدائرة النقدية من بارت وبنيامين إلى ميشيل فوكو، فإن صدى محاضراته «ما المؤلِّف؟» يعود إلينا اليوم مضاعفا: إذا كان دور المؤلف، عند فوكو، وظيفة خطابية تنظم النص وتضبطه، فإن الذكاء الاصطناعي يُجرد هذه الوظيفة من لحمها وذاكرتها تاركا جملة بلا «سلطة اسم».. نحن إذا أمام خوارزمية تكتب خارج التجربة الشخصية وخارج الصمت الفلسفي معا، فهل يكون المؤلف الأخير هو القادر على أن يزرع شقا إنسانيا في هذه اللغة المحسوبة؟

***

تتحدث الكثير من الصحف والمجلات والكثير من الجامعات أنها استعملت الذكاء الاصطناعي بطريقة أو بأخرى سواء في توليد النصوص أو في تحريرها أو في إعداد الملخصات البحثية. وتلقت جريدة عمان، على سبيل المثال، خلال الأشهر الماضية عشرات المقالات إن لم يزد، بدا واضحا أنها مولدة بالذكاء الاصطناعي دون أدنى تدخل أو تحرير بشري، ونشرت مجلة Clarkesworld بيانا يشرح كيف اضطرّت إلى إغلاق باب استلام النصوص السردية مؤقتا بعد أن تلقت 700 قصة مولدة بالذكاء الاصطناعي خلال 48 ساعة فقط. هذه الوقائع تُشير إلى أننا نُغادر زمن السؤال الفلسفي الذي يمكن البحث عنه في النصوص الإبداعية إلى زمن الإجراءات التي تجعلنا نطور أدواتنا للتحقق من نسبة النص، هل نفرض وسما «كتبَته خوارزمية» كما نوسِم الصور المُعدَّلة أم نُسلم، كما يقترح البعض بأن «المؤلّف الجديد هو شبكة بشرية ـ خوارزمية»؟

إنه تحوّل يخلخل وظيفة المحرر الثقافي كما يخلخل وظيفة المتلقي. لم يعد المحرر الذي يفرز الغثّ من السمين؛ بل بات، حارس الحدود بين البشر والذكاءات اللاعضوية. عليه أن يختبر النص لا بجمالياته وحدها، بل بحقيقة التجربة فيه: هل هذه تراكيب بشرية أم تراكيب ذكاء اصطناعي تخلو من الحياة؟ هل تتعثر الاستعارة لأن الذاكرة خانت الكاتب الحقيقي؟ هل نسمع تأوها خافتا خلف بناء سردي متماسك؟ تلك الهفوات قد تُصبح توقيع الكاتب الأخير.

***

غير أنّ ذعر «سرقة الحكاية» قد يحجب فرصة أخرى: لعل الذكاء الاصطناعي هو المرآة التي تُرينا سطحية كثير مما نُنشره بأيدينا. فالآلة تستطيع محاكاة البلاغة المألوفة، لكنها، حتى اللحظة على الأقل، تفشل في توليد النبرة الخاصة بكل مبدع التي معها لا يحتاج القارئ إلى كثير عناء ليعرف نسبة النص إلى كاتبه حتى لو توارى اسمه. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن النصوص عندما تتحول إلى نصوص نمطية متشابهة في الأسلوب وتغيب عنها النبرة الخاصة يزداد الطلب في الصحف والمجلات والملاحق الثقافية على الكتابة التي لا تُشبه إلا صاحبها. ما يعني أن التكنولوجيا التي تهمش المؤلف قد تعيدنا، بطريقة أو بأخرى، إلى الاحتفاء بالفرادة، بالأسلوب الذي لا يُشبه إلا نفسه. ولذلك يجادل بعض النقاد بأن المهنة الإبداعية المقبلة ليست إنتاج النص، بل منح النص قيمة الاختلاف، ونبرته الخاصة التي تشبه كاتبا محددا.

***

يبقى أن نسأل: هل نُسلم بنهاية المؤلّف لأن الآلة قادرة على تركيب الحكاية، أم لأننا ـ نحن القرّاء ـ استبدلنا اللذة الغامرة للدهشة بلذّة النقر السريع؟ إذا كان موت المؤلّف حدثا نقديا تسبب فيه البنيويون، فإن «نهاية المؤلّف» الآن حدث اجتماعي واقتصادي يشارك فيه الجميع: القارئ الذي يكتفي بالتلخيصات، والناشر الذي يطارد التكاليف الأقل، والجامعة التي تُقايض أصالة الفكرة بسرعة التخرج.

ومع ذلك، لا تزال هناك مسافة يقف عندها الذكاء الاصطناعي مدهوشا: تلك المنطقة الرمادية التي يسميها الروائي خوسيه ساراماجو «حيرة اليد قبل أن تجرؤ على النقطة الأخيرة»، فالآلة لا تعرف التردّد، ولا تشك في ضرورتها، ولا تعاني تناقض الرغبة والواجب ولا تقف حائرة بين الخوف والرجاء، وما دام هذا الصراع قائما في نفس الكاتب، سيبقى هناك نص ينتظر أن يُكتَب تحت بصيص ضوء، وأن يُوقع باسم قابل للخطأ والنسيان.

***

حين نُطلق هذا الملف بعنوان «الكاتب الأخير.. أو زمن النصوص بلا ذاكرة»، لا نفعل ذلك لنشيّع الكتابة إلى قبر مفتوح، بل لنحاول مراجعة شروط وجودها. نحن لا نواجه ذكاء غريبا فقط، بل نواجه هشاشتنا: اكتشفنا أن كثيرا من «أدبنا» يمكن استنساخه؛ وأن كثيرا من استطراداتنا يمكن ضغطها في محركات توليد ملخصات. ما يتبقى هو ما لا يُلخص: التأتأة، الرائحة، التردد، والدمع الخفي بين السطور الذي يولد هُوية كل كاتب.

قد يأتي يوم لا نستطيع فيه تمييز القصيدة الأصيلة من القصيدة المصطنعة.. قد يكون ذلك قريبا، بل إنه حدث مع البعض في هذا الملف، لكن حتى في ذلك اليوم سيظل شيء واحد عصيا على الخوارزمية: أن تعرف لماذا احتاج الإنسان، منذ الكهوف الأولى، إلى أن يحكي حكاية لا ضرورة لها سوى أنه سيبات خاوي القلب إن لم يحكها أو أنه قد يفقد حياته فجرا إذا لم يختر الوقت المناسب للسكوت عن الكلام المباح كما كان حال شهرزاد.

وقبل أن نطوي هذه الصفحة، لعلّنا نسأل سؤال رولان بارت على نحو مغاير: إذا كان النص بلا مؤلّف، فهل يظل قارئه إنسانا؟

ربما يكون الجواب في الصفحات التالية، حين يقرأ النقاد قصصا كتبتها الآلة ثم يختلفون: من أين يأتي هذا النبض إن لم يكن ثمة قلب؟

إنه، باختصار، رثاء للمؤلّف.. ومحاولة إنعاش أخيرة للنص.

عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان

مقالات مشابهة

  • مصطفى بكري: عبد الناصر كان يدافع عن الحق العربي لآخر يوم في حياته
  • سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات المحو
  • حساسية الزيتون: الأعراض، طرق الوقاية والعلاج
  • أم محمد الطلالقة.. يوميات فلسطينية في طوابير الجوع داخل غزة المحاصرة
  • "المشرق" يسجل دخلًا تشغيليًا بأكثر من 3.1 مليارات درهم إماراتي
  • "هيئة المعابر" تعلن موعد انتهاء مدة السماح بإدخال زيت الزيتون إلى الأردن
  • السودان… مشاهد من يوميات حرب عبثية
  • حول حقوق المؤلف والملكية الفكرية لما ينتجه الذكاء الاصطناعي
  • تحولات العلاقة بين المؤلف والنص
  • بين بارت والذكاء الاصطناعي.. رحلة النص من نبض القلب إلى نبض الآلة