«لعبة مصائر» هلال البادي.. تكوين لمسارات مختلفة
تاريخ النشر: 26th, June 2024 GMT
أصدر الكاتب هلال البادي حديثًا روايته «لعبة مصائر» عن دار الانتشار العربي في هذا العام 2024م، كما عهدناه أيضا كفنان متميز صمم الغلاف لفضاء ممتد ممزوج بالبحر والصيف؛ إذ لا توجد سحب ثكلى غير أن الصورة أتت بالأبيض والأسود، مما أضفى على غلاف الرواية سيميائية وبعدًا جديدًا للمتلقي وهو يشاهده. الرواية تمتد لأكثر من ثلاثمائة وخمسين صفحة من القطع المتوسط الذي يغريك باقتنائه.
وقبل أن نتطرق للرواية سنتتبع قليلا وربما بصورة غير مكتملة مسيرة الإعلامي والمسرحي وكاتب القصة والروائي هلال البادي، حيث تعرفت على البادي في كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس وتشاركنا في أعمال جماعة الخليل بن أحمد الفراهيدي وتابعت ما نشره البادي في الصفحات والملاحق الثقافية ثم قفزاته للنشر في القصة القصيرة والمسرح والآن بالرواية، لذا للبادي مسيرة طويلة مع القلم والاشتغال على النصوص والحفر والتنقيب والنبش والتشكيل والتكوين، وبتعدد صنوف الكتابة وتنوعها سنجد أنها مسارات ساعدت البادي في نتاجه الأخير «لعبة مصائر»، إذ يستشعر القارئ بذلك التداعي الحر في النص ثم بالمقطع المسرحي العبثي وثالثة بروح ورهان الكتابة الروائية.
ليس عبثًا أن يصدر الروائي عمله بمقطع شعري لمحمود درويش (ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال هو الواقعي على خشبات المسارح/ خلف الكواليس يختلف الأمرُ/ ليس السؤال: متى؟ بل: لماذا؟ وكيف؟ ومن؟) حيث إن الرواية تفتح بما يكسر نمط العادة وسير الحياة ولو كان حادثًا ما وقع فجأة. لتتولى الأحداث التي تبدو لوهلة عادية وربما غير استثنائية، استطاع الكاتب أن يعبر بالمتلقي الشوارع الأفعوانية والعقبات التي تخلقها الطبيعة والبشر والاعتراضات الشبحية والزمجرات الغاضبة ليلملم كل تلك الانفعالات الخارجة من عادتها بموسيقى تنساب من قمة عقبة الشارع وهي نازلة لعلها تنسى مشاهد السيارات المحترقة أو تلك المتدهورة والوفيات المصاحبة، نوع من التماهي ومحاولة الرضا بالواقع والتعايش الملتوي مع المصائر التي تبدو متشابهة ومتعالقة بشكل سوريالي لا يستطيع أعتى الفنانين السورياليين التعبير عنه كما تذكر الرواية.
تبدأ الرواية في رسم حياة عناصرها وتلوين الأمكنة والأزمنة من خلال تعدد الشخوص وأنا الراوي ومن خلال أقاصيص الشخصيات وحكاياتهم، تتعدد الروايات بتعدد الشخوص لعبة يجيدها البادي الذي هو مسرحي بامتياز. من خلال الغنى الواقعي يسيّر الرواية سلسلة لشخصيات وأزمنة يؤرخها النص ورغم أن الرواية لا تتحدث صراحة عن الوقت المعني بسير تلك الأحداث، إلا أنه من خلال المجريات بها تكتشف أنها تنهض بثمانينيات وتسعينيات وحتى بداية الألفية الجديدة. إنها شخصيات معاصرة لم يمضِ على بعضها زمن بعيد بينما لا تزال أخرى تعيش بين ظهرانينا وممتدة في خطوط مصائرها، النهايات الحتمية أو تلك القفلات البطولية للأفلام الهليوودية غير موجودة هنا، إنها الحياة التي بها هذا وذاك، طبيعة المصائر التي كما عنونها البادي لعبة، وبمعنى سابق لعبة سوريالية ربما تندحق كساعة دالي، غير معقولة وأحيانا صادمة.
تتنوع الشخصيات التي ترسمها الرواية وتتعدد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار إلى الوسط وكأنها تحليل سياسي يعج بها مجتمع طبيعي، فهناك الملتزم وهناك من خرج عن نطاقات المتعود والطبيعي وشذ من خلال أبواب الحياة التي سعى إليها، البادي يرسم القرية والريف والبحر والساحل وعلاقة الأشياء بالإنسان وتفاعله فيما بينه وبين محيطه ويرسم ويصف المدينة ومناطقها وبمسمياتها وهناك تبدو تأريخية الأزمنة التي تعطي تفاصيل الوقت وترجع القارئ لزمانية ولحظات مرت وتوثق لما جرى، إنها سيل الذكريات القريبة وهي طبيعة الرواية والقدرة على منح الحجر والشارع والمبنى والشركة تلك الروح وذلك البعد غير المرئي، إنها الرواية التي من خلال تعالقات منتسبيها تبنى الأحداث. يجيد البادي سبر مكنونات الشخصيات التي يقدمها في الرواية من الشيخ الكبير بالسن وذلك الطفل الصغير الذي فقد والديه في حادث بشارع الجزي وهو عائد بالهدايا ورسم الحياة في الحارة وفي المسجد وفي الفرح وفي العزاء، مكنونات الصبية ومكنونات الرجال والنساء، وحتى عندما قدم غرايس الأجنبية استطاع أن يشارك أحاسيسها وعنفوانها وصخبها وعزلتها وحزنها مع القارئ الذي سيتذكر حينها الطيب صالح وموسم الهجرة إلى الشمال ولن يتذكر كتابات صالح الأخرى.
تدور أحداث الرواية في عُمان، حيث تبدأ على ما يبدو في مسقط والعقبة والشوارع وتنتقل بسلالة إلى القرية والبحر والبدايات الأولى للشخصيات التي تنمو على مدارها لتعود إلى مسقط ثم تتراوح بين شدّ وجذب بين القرية ومسقط ومدن أخرى كنزوى وغيرها. أمّا شخصياتها فبعضها ينمو وبعضها يموت وهناك من نفاجأ بموته كما حدث مع شوين وبعضها يهاجر وبعضها يختفي وآخر ينتكس وآخر يحلق عاليا وهكذا تبدو تلك الصيرورات والمصائر مختلفة ومتنوعة ومتجانسة وغير متجانسة أيضا. الحياة في الرواية كدولاب يدور فمرة بالأعلى ومرة تحت الثرى أو فوق الأرض قليلا.
- لأنه ببساطة مش كل المجتمع أبيض! ما صح؟
من خلال سير خطوط أحداث الرواية وتقدم الشخوص في العمق الروائي أو العقدة المفتوحة، القلق المتصاعد نحو المجهول في أحيان كثيرة يستطيع القارئ أن يجد الإشارات التي يريد الكاتب أن يوصلها للمتلقي، أن يجمد تلك المصائر بفلسفة الحياة ذاتها؛ لأنه ببساطة «مش كل المجتمع أبيض، ربما هناك ألوان أخرى»، بعضها واضح ومختلف وبعضها يشبه الأبيض وبعضها يخفي لونه الحقيقي خشية من المجتمع وثيماته وعناصره، وهذا عمل روائي، أن تقول ما هو مسكوت عنه أو أن تشير إليه أو أن تقولبه في نمط قد لا يكون الشائع ولكنه بالتأكيد موجود.
في رحلة الرواية يسير خط الأمكنة بموازاة الأزمنة وتطورها ولا تتقزم بالشخوص، فالفضاء مفتوح والأحداث كثيرة والأمكنة متنوعة والشخصيات تعيش سطوتها وحضورها وعلاقاتها، مركب يحمل على ظهره مجموعة مختلفة من الأبطال أو غير الأبطال ولكن هناك صوتا لم يهمله الراوي لهم جميعهم، ذلك الصوت الذي يشق فضاء الهدوء الذي تبدو عليه الحياة إلا أن وراء الأكمة ما وراءها، ورغم أن الهدوء والبياض والثبات وأن الأشياء كما تبدو عليه ظاهرًا إلا أن صوت الرواية يقول غير ذلك ويفارق تلك النمطية والذهانية وكأنما لا أحد ينام في الإسكندرية لإبراهيم عبدالمجيد.
تطرقت الرواية لأحداث كثيرة ومختلفة، وعلاقتها بالشخصيات في الرواية وعكست التأثيرات المتبادلة التي تضفيها صروف الحياة على الإنسان، بعض تلك الأحداث محلية وربما تكون محلية جدًا كبناء مسجد أو الترشح لعضوية مجلس أو غيرها، ولكنها في تلك الخصوصية تؤثر على الأحداث التي يتفاعل معها متلقوها وفاعلوها من شخصيات الرواية، وبعض تلك الأحداث على المستوى الوطني أو على المستوى العالمي كالانتفاضة وفلسطين واحتلال العراق وغيرها، أيضًا تأثيرها على الناس وعلى طبيعة الحياة، الكثير من المناطق الساكنة في جسد الشخصيات وتفاصيل الحياة التي لا تبدو هادئة كما هي من الوهلة الأولى.
دخل البادي برواية «لعبة مصائر» تجربة جديدة في السرد الطويل والممتد والذي يعطي مساحات وارفة وربما هو ما يختلف عن القصة القصيرة التي عادة يحسب على كاتبها التمدد والتداعي، لقد وجد الروائي ضالته في طوافه وأفاض على شخصياته وألبسها شتى الأنواع من الحكايات والمقتطفات التي يمكن أن تجعل القارئ يتوقف قليلا ويشرب معها رشفة قهوة لن تكون مرة بالتأكيد، في منجز جديد يضاف لهلال البادي ولمحيطه وبلده ومن مثل هذه الأعمال سينمو الاقتصاد البنفسجي كقطاع مهم للصناعة الثقافية.
سلطان العزري قاص وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً: