لجريدة عمان:
2025-04-02@09:01:31 GMT

قبضة الحزن

تاريخ النشر: 26th, June 2024 GMT

إلى صديقي الراحل

غالب بن ماجد بن حمد الحجري

١٩٧٤-٨ مارس 2024م

١.

ثياب المستشفى التي فارقت بها، لعلها مرمية الآن في مكان ما أجهله، من كان يصدق أن ترحل وأنا حيّ ولا أحضر غسلك ودفنك..

وصلت متأخرًا

رحل صديق عمري الأثير

ولا أملك منه حتى نظرة وداع.

٢.

بلغني الخبر في السابعة صباحًا، كنتَ قد أكملت في العناية المركزة بمستشفى إبراء عدة أسابيع، بقيت أسأل عنك إخوتك وأبناء عمك بالهاتف فحسب، ولم أزرك غير مرتين خاطفتين، مرابطًا مع أبي الذي كنا ننتقل معه من مستشفى لآخر في مسقط.

نصف ساعة في عزائك

ودقائق وقفتها على قبرك

تخيّل، هذا كل ما أمكنني

في وداعك الأخير.

٣.

داخلي تهدر أودية ذكرياتنا المشتركة، وأنا الذي عطلت الذكريات كلها منذ أشهر

بساتين ذكرياتنا مهجورة

عليّ أن أطوف بها وحدي

ما تبقى من العمر

ولا أحد لأسأله: أتذكر؟

٤.

في عز صيف عام ١٩٩٨ غرزت سيارتنا في الرمل، لم نستطع إخراجها وظللنا نمشي على أقدامنا طوال النهار، أشرفنا على الهلاك بلا قطرة ماء، حتى غابت الشمس ولم نجد من يسعفنا إلا عند العشاء، والآن يبدو لي ذلك اليوم كأنه اختصار رمزي لحياتنا كلها..

الحياة هي

إشرافنا على الموت،

وأنت سبقتني الآن

والحياة صحراء صيف أقطع عطشها وحدي.

٥.

الفقد يكشف وجوهًا لم أنتبه لها من قبل، للعالم الذي ظننت أني أعرفه، والآن كم يبدو لي واضحًا، هذا العام بالتحديد، أن العالم لديه ميولات انتحارية عديدة، يدعوها بأسماء مختلفة

هذا العالم الانتحاري

صفعتَه على وجهه

برحيلك.

٦.

ربيع نشط، شهران من الأمطار المتوالية، والأودية الهادرة، والنسيم العليل، والبروق والرعود، كلها تعد بالخصب، لكني بعدك متبلّد المشاعر

عنَّتْ

من شدة قبضة الحزن

عضلة القلب.

٧.

كانت علاقتنا عادية كأي أبناء عم، لم تتوطد إلا في النصف الأخير من التسعينيات، صرنا لا نفترق، أيامًا وليالي ونحن معًا، كبرنا وتزوجنا وأنجبنا واحدنا تلو الآخر، والآن رحلت أنت، وصارت صداقتنا الوثيقة بحكم الماضي

وأنت صادقت الموت ورحلت معه

وتركتني للحياة المصرّة

على تحطيم كل لقاء.

٨.

في زيارتي الخاطفة لقبرك، أنا المكسور في كل جزء من جسدي، تركت كسوري خارج المقبرة، وتقدمت نحو قبرك مترنحًا كأني بلا أطراف.

أمام قبرك

واقفًا بدموعي في صمت

مكسور اللسان.

٩.

في الصباح الذي بلغني فيه خبرك، هرعت كالمعتوه إلى المطار، لأحجز طائرة أنا وحمولاتي الثقيلة، وفشلت في فعل أي شيء، من العجمة والإرباك والتشويش.

في المطار

أمام مكتب الحجوزات

كأني أتبع فكرة خرقاء

للحاق بك.

١٠.

دعني اعترف لك متأخرًا، حين زرتك آخر مرة، حاولت ابتكار كلمات مشجعة لتطمينك، وأنت في شبه غيبوبة، شعرت أني أكذب عليك.

للحظة وأنت في شبه الغيبوبة

كأنما سمعتك تقول

دع عنك هذا الكلام

وكان الصمت أصدق.

١١.

آخر مرة التقينا وتحدثنا فيها، قبل أن تسقط، كان أبي في العناية المركزة، طغى بيننا شعور ثقيل وشبه حاجز غليظ، لم أفهمه حينها والآن عرفته، كانت الروح تشير للطريق، وتودع الروح.

الشعور الثقيل

اتضح لاحقًا

أنه هو بعينه

الوداع.

١٢.

لم أقم في عزائك فظلت التعازي تصلني فيك على البعد، ومع كل تعزية كنت أرثي لنفسي مع هذا الفراق المشت

ترحلون وتصبح الحياة بعدكم

هي تذكركم لا أكثر

نحن من الآن فصاعدًا

أنصاب ذكراكم.

١٣.

هجم الموت من جبهة أخرى غير التي كنت أصارعه عليها، وفجعني فيك. ما أقصر الحياة في الموت الطويل بلا نهاية.

حياتنا محسومة سلفًا بالموت

ولكن لا معنى للموت

دون الحياة التي تسبقه.

١٤.

لي مدة انتظر هذا العام بالتحديد وأقول لنفسي سيحدث شيء ما، كنت أحسبها حوادث رائعة، ولم أتوقع أبدًا عمق هذه الجراح الشخصية والعامة.

من توالي الحوادث

لم أجد وقتًا

حتى لأتمعن

في خيبة الأمل.

١٥.

لي مدة أقول لك: سترحل سريعًا كي تصدقني، وأنا لم أصدق نفسي. والآن يا للشقاء اكتشفت أني كنت صادقًا.

حين حل الربيع

وأقبلت فرص اللقاء

افترقنا نحن.

الأعياد مقبلة

وأنا أفتش في جراحي

عن معاني الألم.

١٦.

رحلت أنت واغتربت أنا، ها أنذا أصارع للكتابة عنك، في مدينة غريبة بها ملايين الناس، لكن لا أحد منهم يعرف شارع الجاحس والمنترب، ولا عرق هاتوه.

المدن الصاخبة بالحياة

أكثر امتلاءً

بالموت.

كل يوم

نكاد نتدافع بالأكتاف

أنا والموت.

كل يوم

أرى الموت أمامي

يخلي أسرة المستشفيات.

هنا تأكدت أن الموت

مسألة شخصية كالحياة

ليست الحياة واحدة ولا الموت.

١٧.

أنت الذي بدأت حياتك العملية معلمًا على جبل القمر، في شهب صعيب، وأنهيتها في سيحٍ غرب الغبّي، وكان مولدك في مستشفيات أبوظبي ومماتك في مستشفى إبراء ومدفنك في الجاحس.

لم يتمهل التيار حتى جرفني

لم يترك لي وقتًا للبكاء عليك

بينما في الجهة الأخرى من قلبي

أصداء النشيج.

١٨.

ما الحياة الآن أيها الصديق؟ لحظات نشوة وحزن وفرح وإرهاق وألم متقطعة

زهرة فرقت شذاها قبل الذبول

قلب خفق بنشاط قبل التوقف

جسدٌ ذاق الوجود

وسقط.

من الآن فصاعدًا

كلما تذكرتك

ترنّ ضحكتك الساخرة.

١٩.

كان يعبّ الموت عبًا/ غير عابئ بتحذيراتنا المتكررة/ قلنا له: تمهّل في العيش/ اشرب الموت بهدوء/ قطرة قطرة/ بالدقائق والساعات/ كالأيام/ وكان يشربه دفعة واحدة/ في كأس ونفس واحد/ بالفصول والسنوات/ مبتهجًا بكل جرعة/ متحملًا مرارته اللاذعة/ صابرًا على كوارثه/ متممًا على عتابنا بالحكمة والتعقل/ مواصلًا اجتراع الموت كأنه ماء الحياة/ بشراهة مفزعة/ حتى رحل هذا الصباح.

حين انقلب العالم على عقبيه

رحل صديقي

تاركًا آثار كفّه

على خدّ الحياة.

٢٠.

لا وقت للحزن ولا لشم الريحان.

ممبي

١٩ مارس 2024م

إبراهيم سعيد كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

قصة ريم التي صارعت الموت 4 أيام وعادت لتروي مأساة غزة

في مشهدٍ أقرب إلى المعجزة، خرجت ريم حسام البلي (16 عامًا) تمشي على قدميها، منهكة ومغطاة بالتراب، بعد 4 أيام من الزحف تحت الأنقاض، حيث كانت تزيح الحجارة بيديها المرتجفتين حتى تمكنت أخيرًا من الخروج وحدها إلى الشارع، وسط دهشة الناس في بيت لاهيا شمال قطاع غزة.

وكانت ريم مدفونة بين الركام حيث فقد الجميع الأمل في نجاتها، حتى تم الإعلان رسميًا عن استشهادها مع 12 فردًا من عائلتها الذين دفنوا تحت أنقاض منزلهم المدمر جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي.

وقبل 4 أيام، وتحديدًا الخميس الماضي، كانت ريم تجلس مع عائلتها عندما سقط صاروخ من طائرات الاحتلال على منزلهم في سكنة فدعوس شمال بيت لاهيا، فهوت الجدران على رؤوسهم، وتحول البيت إلى كومة من الركام.

بعد أربع أيام تحت الانقاض!

الفتاة ريم البلّي، 16 عام إستطاعت الخروج من تحت الانقاض بعد أربع أيام من الحفر بمفردها، بعد قصف منزلها.

#FreePalestine pic.twitter.com/iCukuc6HO4

— S O M A S |????‍???? أحمد المصري (@SomasElmasry) March 31, 2025

وهرع المسعفون بحثًا عن ناجين، لكنهم لم يجدوا أثرًا لأي واحد، ومع قلة المعدات اللازمة لرفع الأنقاض، سُجّل اسمها في قائمة الشهداء، وبدأت عائلتها بتقبّل العزاء.

إعلان

ولم يدرك أحد أنها لا تزال هناك تصارع الموت في ظلام دامس، تتنفس الغبار، وتسمع أصوات من رحلوا من حولها، دون أن تتمكن من الحركة أو طلب النجدة.

بين الموت والحياة

مرت الساعات ثقيلة، ثم الأيام، وريم محاصرة وسط الأنقاض. لا طعام، لا ماء، لا ضوء، فقط الموت يحيط بها من كل اتجاه. لكنها لم تستسلم، كانت تتنفس بصعوبة، تتلمس طريقها بين الركام، تبحث عن أي منفذ للحياة.

مرت عليها 4 أيام وكأنها دهرٌ من العذاب، حتى استطاعت أن تزحف وتزيح الحجارة بيديها المرتجفتين، ثم خرجت وحدها إلى الشارع.

وكانت عيناها تنزفان دماً، وجسدها مغطى بالتراب، ونظراتها تائهة بين الصدمة والذهول. ولم تستوعب بعد أنها على قيد الحياة، ولا كيف نجت وحدها، في حين لم تعد عائلتها موجودة. وقد تحول بيتها إلى مقبرة، وأصبحت ريم الناجية الوحيدة من مجزرة محققة.

شاهدة على مأساة

انتشرت قصة ريم بسرعة عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث اعتبرها الناشطون شاهدًا حيًا على المأساة التي يعيشها أهالي غزة.

وتعليقا على ذلك، قال الناشط خالد صافي عبر منصة إكس "أربعة أيام في ظلام الركام، في حضن الجثث، في صمت الموت.. ثم تنهض، تمشي كأنها خارجة من بطن الأرض، شاهدة على أن الله لا يترك عباده، وأن رحمته وسعت كل شيء".

في زمن الموت والقصف والركام، حيث يظن الجميع أن الأمل قد دفن مع الضحايا، يتجلّى لطف الله على أرض غزة، وتُكتب آية جديدة من رحمته.

ريم حسام البلي، 16 عاماً، انتُشلَت من تحت الأنقاض لا برافعة ولا طاقم إنقاذ، بل بيد الله وحده.
بعد أن قصف الاحتلال منزل عائلتها في بيت لاهيا قبل أربعة… pic.twitter.com/1qIBMEckO9

— Khaled Safi ???????? خالد صافي (@KhaledSafi) March 31, 2025

ثم تساءل بحرقة "هل ترى الآن يا عالم؟ هل تسمع هذه الآية؟ هل تدرك أن شعب غزة ليس وحده، بل معه ربّ لا يخذله، وإن خذلته الأرض كلها؟".

إعلان

أما مقداد جميل فأشار إلى أن ريم ليست حالة استثنائية، بل هي واحدة من مئات الضحايا الذين ظلوا أحياء تحت الأنقاض لعدة أيام، لكنهم استشهدوا في النهاية بسبب منع قوات الاحتلال طواقم الدفاع المدني من إنقاذهم.

قبل قليل.. تمكنت الشابة "ريم حسام البلي" من إخراج نفسها من تحت أنقاض منزلها بمفردها بعد أن تم قصفه قبل 3 ليال، من طيران الاحتلال.

بقيت لأكثر من 3 أيام تحاول تحت الأنقاض!

بلا شك، فإن المئات مثلها كانوا أحياءً تحت الأنقاض، وبقوا حتى لفظوا آخر أنفاسهم، دون قدرة على إخراجهم، لسبب…

— Meqdad Jameel (@Almeqdad) March 31, 2025

وبدوره، كتب أحمد حجازي "اليوم، حدث أشبه بالمعجزة.. فتاة في السادسة عشرة من عمرها تخرج من تحت الركام بمفردها بعد أربعة أيام من القصف، بعدما فقد الجميع الأمل في نجاتها".

اليوم، حدث أشبه بالمعجزة في بيت لاهيا…
فتاة في السادسة عشرة من عمرها تخرج من تحت الركام بمفردها بعد أربعة أيام من الاستهداف ، بعدما فقد الجميع الأمل في نجاتها وأُعلن استشهادها.

تمشي في الشارع وسط ذهول الناس، تمشي متعبة، منهكة، تنزف من عينها، مغطاة بتراب منزلها الذي تحول إلى… pic.twitter.com/PGopw3Pmv8

— أحمد حجازي Ahmed Hijazi ???? (@ahmedhijazee) March 31, 2025

بينما علق أحد المغردين قائلاً "أربعة أيام من الظلام والموت، ثم تنهض وحدها من بين الدمار.. هل ترى وتسمع أيها العالم الظالم؟".

الناجية من القصف والخذلان

اعتبر مدوّنون أن قصة ريم تجسّد معاناة غزة في أبشع صورها، فقد أمضت 4 أيام تحت الأنقاض، فتاة صغيرة وجدت نفسها وحيدة في مواجهة القصف، ثم وحيدة تحت الأنقاض، ثم وحيدة بعد خروجها إلى الشارع تبحث عن بيتٍ لم يعد موجودًا، وعائلةٍ لن تعود أبدًا.

الفتاة #ريم_حسام_البلي من #بيت_لاهيا تبلغ من العمر 16 عام,خرجت اليوم من تحت الركام بنفسها بعد 4 ايام من اعلان استشهادها وفقدان الأمل من انتشالها فتجولت في الشارع وسط ذهول من الناس،و قد كانت في حالة صعبة و مغطاة برماد منزلها الذي قصف واستشهد بسببه كل افراد عائلتها .

— kwika bent (@psychoodemon) March 31, 2025

إعلان

وتساءلوا "كم ريما أخرى كانت تحت الركام، تصرخ دون أن يسمعها أحد؟ كم واحدًا منهم كان يمكن إنقاذه، لكن الاحتلال منع وصول فرق الإغاثة؟".

وأشار مغردون إلى أن هذه الفتاة نجت من القصف، لكنها لم تنجُ من خذلان العالم، ذلك الخذلان الصامت الذي يشبه الموت البطيء، ويشبه نظراتها وهي تبحث عن وطنها الذي أصبح حطامًا.

مقالات مشابهة

  • إيطاليا تستهل محاكمة أنطونيلو لوفاتو الذي ترك عاملًا هنديا لديه ينزف حتى الموت
  • ناقلة النفط الروسية "إيفينتين" في قبضة الجمارك الألمانية
  • الحزن يسود ميت حلفا.. أسرة عروس القليوبية: كانت رايحة تفرش شقتها وتستعد للزفاف
  • قصة ريم التي صارعت الموت 4 أيام وعادت لتروي مأساة غزة
  • العثور على جثث ثلاثة جنود أمريكيين في ليتوانيا والبحث مستمر عن الرابع
  • بعد أن سرقا وكتبا عبارات مرتبطة بـ داعش.. سوريان في قبضة الأمن
  • العثور على جثث ثلاثة جنود أمريكيين مفقودين في ليتوانيا
  • فنانة شهيرة تفاجئ الجميع بما كشفته عن “وتقابل حبيب”
  • مصر.. وفاة مأساوية لشقيقين في ساعة واحدة
  • مصرع طبيبة صيدلانية تحت عجلات قطار في القليوبية