وجدتُ نفسي في تجربة مميزة وثرية داخل حلبة صراع في قرية عُمانية. هكذا أخذتني الرحلة إلى داخل الفيلم القصير «أرواح ملتهبة» للمخرج العُماني يعقوب الخنجري الذي يحكي قصة صراع عائلي صامت ينتهي بمأساة صارخة.

نجد أنفسنا أمام علاقات أسرية غير منسجمة وصراعات داخلية تحدث في مناخٍ قروي بحت. حضور الطبيعة بعناصرها البدائية وحضور النهايات المأساوية للشخصيتين الرئيسيتين مع وجود الصراع الداخلي في الفيلم بين أخوين من نفس الأم، كل هذا يحمل المُشاهد إلى الجذور الأصيلة للدراما: التنافس والكراهية وعناصر الطبيعة القاتلة.

يرسم المخرج على لوحة الفيلم أخوين غير شقيقين في حالة تناقض وصراع؛ سلمان الشاب البالغ من العمر خمسة وعشرين عامًا الذي يعاني من اضطراب عقلي يجعله يتصرف كطفل صغير، وأخيه الأصغر خالد ذي الأعوام العشرة، الذي يبدو من تصرفاته وتعبيرات وجهه الجادّة كأنه أكبر من عمره بكثير. سلمان يقضي معظم وقته في الخارج وسط عناصر الطبيعة المتنوعة للقرية العمانية، بينما خالد يقضيه منعزلا داخل غرفته مغموسا في الألعاب الإلكترونية العنيفة.

الفيلم يعطينا إشارات إلى الخلفية الاجتماعية للشخصيات الرئيسية، فالمشاهد الأولية تشير إلى أن العلاقة بين الزوج وزوجته متوترة دائما، وإلى أن العلاقة بين الزوج والابن الأكبر سلمان هي متوترة أيضا لأنه ابن زوجته من زواجها السابق، بينما الابن الأصغر خالد هو ابن للزوجين من هذا الزواج. الثلث الأول من الفيلم يرسم كل التناقضات الممكنة بين الأخوين وبالتالي يهيّأ المشاهد لتقبّل كل الصراعات التي سوف تأتي.

في قلب الفيلم يكمن صراع معقّد بين الأخوين سلمان وخالد، يمكن تفسيره من خلال عدسة علم التحليل النفسي. سلمان، بشخصيته الطفولية، يعاني من صعوبة في التكيف مع الواقع ومع مجتمع البالغين الصّارم مما يجعله هدفًا للسخرية والأذى من الآخرين. مع الإشارات في الفيلم إلى أن سلمان تربّى داخل بيت زوج الأم فإننا نشعر أن نموه العاطفي والعقلي لم يكتمل بشكل طبيعي وكأنما هو مقيّد إلى طفولة لم تكتمل كما ينبغي. من ناحية أخرى، خالد يُظهر انفصالًا عن الواقع من خلال انغماسه في الألعاب العنيفة، مما يعكس رغبته في الهروب من واقع الحياة المعقدة ويمارس إسقاطا نفسيا لعدوانه الداخلي على شخصيات افتراضية في الشّاشة المضيئة. الصراع بين الأخوين تتم الإشارة إليه من خلال خيط سرد رفيع يكاد لا يُرى.

المشهد الذي يفتح عيني المشاهد على وجود هذا الصراع هو مشهد يحدث على أرض الحقل أو المزرعة بجوار فزاعة الطيور، الشاهدة الأيقونية على هذا الصراع.

يتعارك سلمان مع أخيه خالد على أرض الحقل ثم نعرف لاحقا أن السبب هو أن خالد قد وضع ملابس سلمان على الفزّاعة ثم أخذ يرميها بالحجارة في إشارة تقليدية إلى الرغبة في الانتقام والقتل الجسدي مرموزا له بالدمية.

أعتقد أن المشهد يخدم الرمزية المعبرة عن كلا الشخصيتين، فمن ناحية هو عملية إزاحة نفسية يمارسها خالد تجاه أخيه، فهو يرجم الفزاعة بعد أن ألبسها ملابس أخيه، إنه أقصى اقتراب له من إيذاء أخيه. ومن ناحية أخرى فإن الفزّاعة تخدم رمزية سلمان من منطلق كونها تتشابه مع مفهوم الأنا في التحليل النفسي حيث إن مهمة الأنا هي حراسة الذّات من العالم الخارجي ومن رغباتها البدائية الداخلية في الوقت نفسه. من ناحية العالم الخارجي فإن مشهد رجم الفزّاعة يشير إلى الخطر الداهم على شخصية سلمان خارجيا التي يبدو أن الأنا فيها معطوب ولا يقوى على صد أية هجمات اجتماعية ضد الذات والتي تتمثّل في تعرضه للسخرية اللفظية. ومن الناحية الداخلية فإن الأنا الخاص بسلمان يفشل في صدّ رغباته هو نفسه. الأنا يعمل كحارس للذات من «الهو» أي الرغبات البدائية في الأعماق. هذا الجزء يظهر في مشهد تالٍ حيث يمر شباب في سيارتهم بسلمان ويدعونه لمرافقتهم في رحلة تخييمية وهو يرفض ثم يوافق حين يعدونه بتناول اللحم المشوي (المشاكيك) في الرحلة. يمكننا قراءة شهوانية سلمان للحم المشوي كتعبير عن رغبات بدائية مكبوتة يفشل الأنا في كبح جماحها فتؤدي إلى تدميره لأن سلمان سوف يرافقهم من أجل تذوق اللحم المشويّ وهناك سيلقى حتفه بسقوطه في بحيرة مائية.

يظهر خالد عدوانه المكبوت تجاه الآخرين كطريقة لتجنب مواجهة مشاعره الحقيقية تجاه سلمان والوضع الأسريّ المعقد. في المقابل، يمثل هروب سلمان من الرجال الأشرار الذين يسخرون منه في مشاهد الرحلة التخييمية محاولته للفرار من واقع حياته القاسي، وهو ما يؤدي في النهاية إلى موته المأساوي.

يستثمر الفيلم عناصر الطبيعة كرموز تعكس الصراعات الداخلية للشخصيات. النار والماء يؤديان دورًا محوريًّا في تصوير هذا الصراع. سلمان يلقى حتفه غريقا في الماء وخالد محترقا في النار. تمثل النار غضب خالد المشتعل وتدميريته لذاته، وهو ما يتجلى في مشهد موته في الحريق أثناء محاولته إيذاء زملائه الأطفال. النار هنا ترمز إلى الغضب الداخلي والدمار الذاتي، مما يعكس المسار التدميري الذي سلكه خالد. في المقابل، يمثل الماء براءة سلمان وأعماقه اللاواعية التي يغرق فيها. إنه يذهب إلى البدايات التي لم يغادرها أبدا (يتصرف ويتكلم كالأطفال طوال الفيلم). مشهد غرق سلمان في البحيرة يرمز إلى عودته إلى حالة بدائية، حيث يمكن اعتبار الماء رمزًا للاوعي والتحرر من العذاب الخارجي وعودة إلى الطفولة التي لم يغادرها تماما. يستخدم الفيلم هذه العناصر الطبيعية لتعميق فهمنا للصراعات النفسية التي تعصف بالشخصيات، مما يضفي على القصة بُعدًا رمزيًّا يثري هذه التجربة السينمائية.

الملحوظات التي يمكن ذكرها والتي قللت من قدرة الفيلم على إكمال دائرة النجاح هي أن رمزية عناصر الطبيعة كانت تتطلب استثمارها في مشاهد أكثر مما قدم الفيلم. فرغم أن الفيلم ينجح في تكثيف هذا الرمز عبر النهاية المأساوية لسلمان إلا أنه لم يمهّد لهذه النهاية عبر مشاهد أولية، وأعني أنه كان يمكن أن يزيد من مشاهد يظهر فيها الفلج مثلا على اعتباره عنصرا أصيلا في ملامح القرية العمانية وكذلك رمزا للماء ورمزا لجهد الإنسان في تطويع الطبيعة.

وأعتقد أيضا أن الصيغة السّردية التي استخدمها الفيلم حول علاقة الابن الأصغر خالد بالألعاب الإلكترونية العنيفة قد وضعت هذه العلاقة سببًا للعنف بينما أعتقد أن إعادة ترتيب هذه المشاهد مع بثّ خيوط سردية في البدايات سوف تحول انطباع المشاهد لاعتبار هذا العنف مع الألعاب نتيجةً وليس سببا، وأعتقد أن ذلك أعمقُ سيكولوجيّا وثقافيّا.

في الختام، يقدم هذا الفيلم القصير رؤيته عن الصراعات النفسية الخافتة عبر استخدام عناصر الطبيعة كرموز للصراعات الداخلية وكذلك عبر رؤية بصرية اجتهدت كثيرا لتذهب داخل أرجاء القرية بما تمثله من كثافة للمشاعر المكبوتة والرغبات السرية التي قد تنتهي إلى مأساة.

أعتقد أن طاقم العمل يستحق إشادة كبيرة لمحاولته خلق سياق سينمائي محلي يمكن أن تنشأ من خلاله أعمال قادمة تثري الساحة السينمائية المحلية والعربية.

عبدالله خليفة عبدالله كاتب وقاص عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من ناحیة

إقرأ أيضاً:

سرطان البصرة: ثمن النفط يدفعه المواطنون أرواحًا

24 نوفمبر، 2024

بغداد/المسلة: أصبحت معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية في جنوب العراق، ولا سيما في محافظة البصرة، مصدر قلق كبير يتفاقم يومًا بعد آخر.

التقارير تشير إلى تزايد الحالات بشكل مثير للقلق، وسط تحذيرات من خبراء الصحة ومنظمات حقوق الإنسان، بينما تبدو الإجراءات الحكومية لمعالجة الأزمة متواضعة وغير فعالة.

منذ سنوات، تعيش البصرة، الغنية بثرواتها النفطية، في ظل تلوث بيئي حاد.

ووفقًا لتقارير بيئية، تعتبر عمليات حرق الغاز المصاحب لاستخراج النفط واحدة من أبرز مسببات الانبعاثات السامة التي تغمر أجواء المدينة.

و تحدث الناشط في مجال حقوق الإنسان، عبدالوهاب أحمد، عن أن : “المدينة تختنق. الأرقام تتحدث عن مئات الحالات الجديدة من السرطان كل عام، وأطفالنا أول الضحايا”. مطالبًا بتدخل دولي لإنقاذ السكان من هذا الكابوس المستمر.

في هذا السياق، يعتبر الخبراء أن التلوث البيئي الناجم عن النشاطات النفطية هو العامل الأبرز وراء ارتفاع معدلات الإصابة.

الدكتور قاسم البدري، الباحث الاجتماعي   يرى أن “الإهمال الحكومي لتحسين البنية التحتية الصحية، والتراخي في تطبيق القوانين البيئية، قد أسهم في تفاقم الأزمة”. وأضاف: “المدارس والمنازل باتت قريبة جدًا من مناطق حرق الغاز. أطفالنا يستنشقون الموت يوميًا”.

على منصة “إكس”، غرد حساب يديره ناشط محلي يُدعى أحمد العبيدي قائلاً: “البصرة، مدينة الذهب الأسود، أصبحت مدينة السرطان الأسود. النفط يجلب المال لكنه يأخذ الأرواح”. التغريدة، التي لاقت تفاعلًا واسعًا، تسلط الضوء على التناقض الواضح بين ثروات المدينة النفطية وحالة البؤس الصحي التي يعيشها سكانها.

وتحدثت مواطنة تُدعى أم حسين، وهي من سكان منطقة القرنة شمال البصرة، عن معاناتها قائلة: “فقدت زوجي بسبب سرطان الرئة، واليوم أتابع حالتي الصحية بعد اكتشاف ورم في جسدي. نعيش بين أدخنة المصانع وسموم المخلفات الصناعية، ولم نجد حتى مستشفى يلبي احتياجاتنا للعلاج”.

قصتها ليست الوحيدة، فوفق معلومات صادرة عن مستشفى البصرة التعليمي، فإن أقسام الأورام أصبحت مكتظة بالمرضى الذين ينتظرون دورهم في العلاج الكيميائي.

النائب عن محافظة البصرة، هيثم الفهد، حذر من أن “البصرة تسجل مئات الإصابات السرطانية سنويًا نتيجة الاستخراجات النفطية. هذا الوضع لا يمكن أن يستمر دون تدخل جذري”. وأشار في حديثه إلى ضرورة تخصيص موارد أكبر لبناء مستشفيات تخصصية وتطبيق صارم للمعايير البيئية، معتبرًا أن تجاهل الأزمة قد يؤدي إلى كارثة إنسانية أكبر.

وقالت تحليلات   إن المشكلة لا تتوقف عند انبعاثات الغاز فقط، بل تشمل المخلفات الصناعية التي تُلقى في شط العرب دون معالجة. هذه السموم تدخل السلسلة الغذائية، مما يزيد من خطورة الأمراض المزمنة، بما فيها السرطان. وأضافت الدراسة: “البنية التحتية المتهالكة للصرف الصحي في البصرة تسهم في تحويل مياه الشرب إلى مصدر آخر للخطر”.

الناشطون يطالبون بإجراءات استباقية وليس فقط ردود أفعال. من بين الأفكار المطروحة، إيقاف حرق الغاز واستبداله ببرامج لمعالجته، بالإضافة إلى إنشاء مناطق عازلة بين المصانع والمناطق السكنية. ومع ذلك، لا تزال الاستجابة الحكومية بطيئة ومحدودة.

 

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • زاخاروفا: إسقاط القضايا المرفوعة ضد ترامب يظهر الطبيعة الدورية المفاجئة للعدالة الأمريكية
  • المغرب.. اعتماد تقنيات «الذكاء الاصطناعي» لتحسين الطرق والبنية التحتية
  • مقاربة بين "ذات الرداء الأبيض" والوضع السوداني الراهن
  • وزارة التجهيز والماء تتخذ مجموعة من الإجراءات لمواجهة توحل السدود
  • وساطة مهدّدة ومعركة ملتهبة..هوكستين يُلوّح بالانسحاب ومصير التسوية بين حزب الله وإسرائيل غامض
  • العربية لحماية الطبيعة تغرس أشجار الزيتون واللوزيات في ارض عائلة الشهيد الجازي / صور
  • سرطان البصرة: ثمن النفط يدفعه المواطنون أرواحًا
  • المستشار العسكري للمبعوث الأممي لليمن يثمن جهود مشروع مركز الملك سلمان للإغاثة “مسام” لحماية أرواح المدنيين
  • إلى أرواح الشهداء في ذكراهم
  • كيف يقبض ملك الموت عدة أرواح في وقت واحد؟..دار الإفتاء توضح