“الروسوفونية الصاعدة”: هل ينذر تمدد الحزام الروسي بتبعية جديدة في إفريقيا؟
تاريخ النشر: 26th, June 2024 GMT
في الثالث من مايو 2024، عندما أكدت الولايات المتحدة وجود قوات أمن روسية في نفس القاعدة الجوية التي توجد بها قوات أمريكية في النيجر، نشرت قناة “تليغرام” الشهيرة المقربة من الكرملين رسالة ذات دلالة غير خافية تحتوي على مقطع صوتي للأغنية الشهيرة لموسيقى الروك السوفيتية في الثمانينيات “باي باي أمريكا”. بعد ذلك بوقت قصير، اتفق المسؤولون الأمريكيون والمجلس العسكري الحاكم في النيجر على انسحاب تدريجي للقوات الأمريكية من النيجر، وعلى أية حال كان انسحاب القوات العسكرية الغربية من منطقة الساحل مصحوباً بتوسع النفوذ الروسي، وبالفعل حققت روسيا ميزة فعلية في السباق الجيوسياسي في منطقة الساحل، واكتسبت حلفاء مخلصين، وإن كانت دولهم تعاني من وضع الهشاشة، وتسعى موسكو إلى توسيع نطاق نفوذها عالمياً، وإيجاد أسواق تصدير جديدة والوصول إلى الموارد الطبيعية، ولعل إفريقيا تمثل فرصة مثالية لتنفيذ هذه الأهداف الروسية.
وقد حظي توسع النفوذ العسكري الروسي في إفريقيا وحشد التأييد الإفريقي لتحالف “البريكس بلس” باهتمام وقلق كبيرين من القوى العالمية المتنافسة، ولاسيما الدول الغربية، ويشير الوجود المتزايد للقوات العسكرية الروسية في العديد من الدول الإفريقية إلى تحرك استراتيجي من جانب موسكو لملء الفراغ الأمني الذي خلفه النفوذ المتضائل للدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية. ويسعى هذا المقال إلى التركيز على التغلغل الروسي المتزايد في إفريقيا، مع الإشارة إلى الأهداف الاستراتيجية، ونطاق أنشطته، وتداعيات ذلك كله على الاستقرار الإقليمي والعالمي.
الأهداف الاستراتيجية:
إن توسع روسيا في إفريقيا ليس مناورة مفاجئة، بل هو جهد محسوب لإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي لصالحها في إطار التحالف مع دول الجنوب العالمي من أجل وضع قواعد نظام عالمي جديد أكثر عدالة وتوازناً، وربما يتمثل الهدف الأساسي لروسيا في استغلال الثغرات في السياسة الأمنية التي خلفتها الدول الغربية؛ بهدف تغيير ميزان القوى تدريجياً، وخلافاً للنهج الغربي، الذي يؤكد غالباً الشراكات طويلة الأمد في ظل مشروطية سياسية تنطوي على مبادئ النيوليبرالية، فإن الاستراتيجية الروسية تركز على المكاسب الفورية والمزايا التكتيكية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وإعلاء مبدأ السيادة الوطنية للشركاء، ويسمح هذا النهج لروسيا بتثبيت وجودها ونفوذها بسرعة، وإنشاء حزام من التعاون العسكري يمتد من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر.
من جهة أخرى فإن روسيا، في تنافسها مع العالم الليبرالي على تأسيس الخطاب المهيمن -إلى جانب الوسائل العسكرية للقوة- تستخدم القوة الناعمة، وتستفيد من جاذبية القيم غير الليبرالية لتشكيل تحالفات فعالة في السياسة الخارجية، وتقويض مصداقية المؤسسات الدولية، وإعادة تشكيل النظام العالمي، وهنا تحدد الروايات الاستراتيجية الروسية الأهداف السياسية للحكومة الروسية، وتقدم روسيا رؤيتها لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب -عالم مقسم بين القوى الكبرى- إذ تمتلك موسكو سلطة تحديد أنماط التعاون والشراكة مع عالم الجنوب ومنه إفريقيا.
وبعيداً عن الجوانب العسكرية وأمن الطاقة، تسعى موسكو أن يكون نموذجها جذاباً للدول الإفريقية، ويسهم في التنمية الاقتصادية لموسكو نفسها، وعليه تسعى روسيا إلى تطوير الفرص الثنائية للشراكة التكنولوجية التي تُعد محركاً للتنمية في سياق الثورة الصناعية الرابعة، وحافزاً لخلق تحالفات استراتيجية جديدة، وفي ظل الخبرات السابقة منذ العهد السوفيتي، يمكن أن ينمو الطلب على التقنيات الروسية في إفريقيا بشكل كبير؛ لأن روسيا لديها كفاءات عالية في تلك المجالات الأكثر طلباً اليوم في القارة الإفريقية.
إن نقل التقنيات الروسية، فضلاً عن التعاون في المجال العلمي، لا يفيد روسيا فقط من حيث الصورة، بل يقدم موسكو كقوة تسهم في التنمية المتقدمة لإفريقيا وتعزيز سيادتها الاقتصادية، إنه يسمح لروسيا بتأسيس “روسوفونية” جديدة من خلال حل مشكلة التغلب على التخلف التكنولوجي وتدريب الموظفين المؤهلين الذين سيتقنون ويروجون للحلول التكنولوجية الروسية على وجه التحديد، بالإضافة إلى ذلك، تحظى روسيا “بأرضية اختبار” واسعة لمعالجة وتحسين تقنياتها، التي يطلبها الشباب الأفارقة الذين يتزايد عددهم بسرعة، وسوق ضخمة للسلع والخدمات الروسية عالية التقنية، والتي تُعد ضرورية للغاية للكثيرين من الأفارقة، وعلى أية حال فإن الكرملين عازم على توسيع وجوده في إفريقيا، إذ إن الموارد الطبيعية للقارة، وأصواتها الـ54 في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقربها من أوروبا، من شأنها أن توفر لروسيا حليفاً مهماً وموقعاً استراتيجياً يمكن من خلاله تطويق خصمها الأوروبي.
الحزام الروسي الجديد:
تتعدد الأنشطة العسكرية الروسية في إفريقيا ويتسع نطاقها بشكل تدريجي. ففي بوركينا فاسو ومالي، شاركت القوات الروسية بنشاط؛ إذ قدمت المساعدة العسكرية وأقامت علاقات تعاون، وفي النيجر، هناك علامات على التعاون العسكري الذي يزداد رسوخاً، وتشير الاجتماعات السياسية رفيعة المستوى في تشاد إلى تعميق العلاقة مع زيارة الرئيس ديبي لموسكو مطلع 2024، وتمتلك روسيا وجوداً أمنياً قد يصل إلى حد بناء قاعدة للفيلق الإفريقي في جمهورية إفريقيا الوسطى. كما يعود تاريخ التدخل الروسي في ليبيا إلى عام 2016، إذ أدت دوراً مهماً في الصراع الدائر. وعلى أية حال اتجهت البلدان عبر منطقة الساحل، وهي المنطقة الممتدة من السنغال إلى البحر الأحمر، نحو روسيا للحصول على المساعدة الأمنية في السنوات الأخيرة في مواجهة عدم الاستقرار الإقليمي المتزايد. فعلى سبيل المثال، دعمت قوات الفيلق الإفريقي -فاغنر سابقاً- القوات المسلحة في بوركينا فاسو ومالي في حربهما ضد الجماعات المتمردة.
واليوم تعمل روسيا على مضاعفة تركيزها على المنطقة من خلال إحكام قبضتها على العديد من دول الساحل والبحث عن شركاء جدد في مناطق أبعد، وهي استراتيجية قد تضعها في مواجهة قوى عالمية أخرى، وقد تكون ساحة المعركة التالية هي الدول الساحلية في غرب إفريقيا، ويلاحظ أن المصالح الاستراتيجية لروسيا في ساحل غرب إفريقيا تركز على تأمين اتفاقيات عسكرية ودبلوماسية واقتصادية مع زعماء الدول في هذه المنطقة مقابل الوصول الاستراتيجي إلى المحيط الأطلسي، ويشبه هذا النهج الوجود العسكري للولايات المتحدة في جيبوتي؛ إذ يمنح معسكر ليمونيه في جيبوتي، الولايات المتحدة سيطرة استراتيجية على مناطق المحيط الهندي، وقناة السويس.
وفي ظل التجاذبات الجيوستراتيجية الهشة في الساحل الإفريقي بمعناه الواسع، كشف مساعد القائد العام للجيش السوداني ياسر العطا، في 25 مايو 2024، عن موافقة حكومته على اتفاق وقعه النظام السابق عام 2019؛ لإنشاء مركز لوجستي للبحرية الروسية في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، وبالفعل توجه وفد سوداني برئاسة مالك عقار إلى موسكو؛ لبحث التعاون العسكري والاقتصادي بما في ذلك مشروعات التعدين والزراعة، ومن المنتظر أن يوقع على الاتفاقية النهائية للقاعدة البحرية رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان. ويوضح هذا النطاق الواسع من الأنشطة النهج الشامل الذي تتبعه روسيا في تأمين مصالحها في جميع أنحاء القارة، ولاسيما منطقة الحزام الإفريقي. فمن خلال تقديم الدعم العسكري وإقامة التحالفات مع الدول الإفريقية، تضع روسيا نفسها فاعلاً رئيسياً في ديناميكيات الأمن الإقليمي، وهذا لا يعزز نفوذها الجيوسياسي فحسب، بل يمكّنها أيضاً من موازنة النفوذ الغربي في هذه الدول.
عواقب محتملة:
يلاحظ المتابع للشؤون الإفريقية وجود حركة شعبوية مناهضة للغرب ذات طبيعة عضوية -حتى لو غذتها جزئياً الروايات الصينية والروسية واستغلتها المجالس العسكرية الحاكمة في الدول الإفريقية- وتركز هذه الحركة على مظالم طويلة الأمد مع القوى الاستعمارية الغربية السابقة، وأيضاً على الحرمان من الحقوق والتهميش الاقتصادي والسياسي، وتُفقد الدول الغربية والولايات المتحدة نفوذها في إفريقيا، ويرجع ذلك جزئياً إلى الفشل في التصدي للإرهاب على مدى عقدين من الزمان، ولعل السؤال الذي يطرحه كثير من الأفارقة هو لماذا يوجد الغرب أو الفرنسيون في المنطقة؛ إذا كنا لا نزال نعاني من نفس المشكلات؟ بل إنها قد تفاقمت بالفعل!
لقد اعتمدت القوى الغربية إلى حد كبير على مقاربات العسكرة والترتيبات الأمنية مع الدول الإفريقية في منطقة الساحل، وفشلت في تركيز الاهتمام على نهج التنمية المستدامة وهو ما خلق “فراغاً” في السلطة في جميع أنحاء القارة.
وعليه فإن النفوذ الروسي المتنامي في إفريقيا يحمل في طياته عواقب كبيرة على الاستقرار الإقليمي والعالمي. بالنسبة للدول الإفريقية، يمكن أن يعني التدخل الروسي المتزايد الوصول إلى موارد عسكرية جديدة والتدريب؛ مما قد يعزز قدراتها الأمنية الداخلية، ومع ذلك، فإن هذا يثير أيضاً مخاوف بشأن التأثير طويل المدى في الحكم والسيادة وديناميكيات القوة الإقليمية. فعلى سبيل المثال، يدل نشر الفيلق الإفريقي، وهو قوة عسكرية تسيطر عليها الدولة، على تحول استراتيجي في النهج الذي تتبناه روسيا في التعامل مع النفوذ العسكري في إفريقيا، وعلى عكس شركة فاغنر العسكرية الخاصة، يخضع الفيلق الإفريقي مباشرة للدولة الروسية؛ مما يضمن قدراً أكبر من السيطرة والتنسيق، وكان أول انتشار مؤكد له في بوركينا فاسو؛ حيث يدعم الحكومة العسكرية لإبراهيم تراوري، ويعتقد أن قوات هذا الفيلق حلت محل فاغنر في ليبيا، ومن المتوقع إجراء عمليات نشر مستقبلية في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى والنيجر، وربما يطرح ذلك تساؤلات بشأن الحوكمة وقضايا المساءلة والنفوذ الاقتصادي؛ إذ تكمل موسكو وجودها العسكري بأدوات اقتصادية، بما في ذلك مبيعات الطاقة والأسلحة، لتعميق نفوذها في القارة.
وبالنسبة للغرب فإن الوجود الروسي المتنامي يمثل تحدياً مباشراً لمناطق نفوذه التقليدية. فالتمركز الاستراتيجي للقوات الروسية على طول الممرات الجغرافية الرئيسية من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر؛ يهدد بتقويض الجهود الغربية للحفاظ على الاستقرار وتعزيز الحكم الديمقراطي في إفريقيا، وقد يؤدي هذا التحول إلى زيادة المنافسة والتوتر بين القوى العالمية؛ إذ تتنافس على النفوذ على موارد القارة ومواقعها الاستراتيجية، ومع ذلك، تواجه المنطقة تحديات كبيرة من الجماعات الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية، والتي اخترقت الدول الساحلية مثل: بنين وغانا وتوغو. فعلى سبيل المثال، في بنين، تضاعفت الهجمات الجهادية ضد المدنيين ثلاث مرات تقريباً في عام 2023، من أكثر من 30 حادثاً إلى ما يقرب من 80 حادثاً، ورداً على ذلك، تحاول الولايات المتحدة إنشاء قواعد عسكرية للطائرات من دون طيار على طول ساحل غرب إفريقيا؛ للحد من انتشار هذه الجماعات المتطرفة، ومع ذلك، أكد الجنرال مايكل لانجلي أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في 16 مارس، أن الحرب الإعلامية الروسية أدت إلى تقليص نفوذ الولايات المتحدة في إفريقيا بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
علاوة على ذلك، فإن النهج الروسي، الذي يعطي الأولوية للمزايا التكتيكية المباشرة، قد يسهم في دورة من التبعية والصراع داخل الدول الإفريقية، وقد يؤدي ذلك إلى تفاقم القضايا القائمة مثل: عدم الاستقرار السياسي، والصعوبات الاقتصادية، والاضطرابات الاجتماعية؛ مما يجعل تحقيق التنمية المستدامة والسلام أكثر صعوبة بالنسبة لهذه البلدان. ولا أدل على ذلك من التقارب الروسي الحاصل مع مجلس السيادة في السودان؛ وهو ما يدفع بالبلاد إلى خطر التقسيم وتكرار السيناريو السوري مع حصول روسيا على قاعدة عسكرية تطل على البحر الأحمر، ولعل ذلك يؤكد للأفارقة أن العلاقات الدولية تحكمها لغة المصالح، وأن مهمة إصلاح البيت تقع على قاطنيه كما أكد الاقتصادي النيجيري الأشهر كلود أيك؛ أي أن المشكلات الإفريقية تتطلب حلولاً إفريقية.
في الختام، يمثل النفوذ العسكري الروسي واسع النطاق في إفريقيا تحولاً كبيراً في المشهد الجيوسياسي للقارة، ومن خلال التركيز الاستراتيجي على ملء الفراغ الأمني الذي خلفه الغرب، تعمل روسيا تدريجياً على إنشاء حزام من الوجود العسكري يمتد من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، ويطرح هذا الانتقال من التحالفات الغربية إلى التحالفات الشرقية في منطقة الساحل تساؤلات حول مستقبل الأمن الإقليمي وإدارة الموارد الوطنية. ويظل من غير المؤكد ما إذا كان هذا التحول سيخفف من عنف الجماعات الجهادية المتطرفة الذي أدى إلى زعزعة استقرار المنطقة لسنوات، وبينما يتراجع الغرب على ما يبدو، ويتبنى دوراً أكثر سلبية، فإنه يراقب منطقة الساحل الإفريقي وهي تمضي قدماً في هذا الواقع الجيوسياسي الجديد؛ مما قد يؤدي إلى فترة من الاضطرابات المستمرة وإعادة الصياغة الجيوستراتيجية لمنطقة الساحل الإفريقي الكبير.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الدول الإفریقیة منطقة الساحل الروسیة فی فی إفریقیا روسیا فی من خلال
إقرأ أيضاً:
صدام الأقطاب الصاعدة.. كيف قادت واشنطن العالم إلى حرب باردة جديدة؟ كتاب جديد
الكتاب: الحرب الباردة الجديدةالمؤلف: جلبير الأشقر
الناشر: دار الساقي
المترجم: عمر الشافعي، عمر فتحي
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022 سارع العديد من المراقبين والمحللين للتحذير من حرب باردة جديدة، الأمر الذي نظر إليه البعض باعتباره قراءة غير دقيقة للواقع، إذ أن هذه الحرب، على ما يبدو، لم تنته أصلا وظلت حاضرة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، إنما اتخذت أشكالا جديدة في القرن الجديد. وفي كتابه هذا يشير الباحث وأستاذ العلاقات الدولية جلبير الأشقر إلى أن "أبكر" تحذير من وقوع حرب باردة جديدة، ربما، يكون قد جاء في العام 1994 من قبل جورجي أرباتوف، العضو السابق في كل من مجلس السوفييت الأعلى واللجنة المركزية للحزب الشيوعي الحاكم، ومستشار ميخائيل غورباتشوف.
ففي مقالة له نشرت في مجلة "فورين بوليسي" حذر أرباتوف الأميركيين من عواقب الإصلاحات الاقتصادية "الكارثية" التي أملتها الولايات المتحدة على روسيا، مع حلفائها في مجموعة السبع وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وسياسة واشنطن تجاه روسيا بشأن "جوارها القريب" أي بلدان أوروبا الشرقية، وما عرف سابقا بالجمهوريات السوفييتية.
بعد اندلاع الحرب في جورجيا في العام 2008، ثم في أوكرانيا بعد 6 سنوات في العام 2014، وكانت كلتاهما ردا روسيا على توسع الناتو في الجمهوريات السوفييتية السابقة، أضحى من الصعب إنكار وجود حرب باردة جديدة، مع ما شهده الواقع من "انهيار في العلاقات بين روسيا والغرب".وحدث ذلك بينما كانت التصريحات الصينية في تصاعد ضد "نزعة الهيمنة" الأميركية. لكن في المقابل شاعت حالة من الإنكار في العالم الغربي، وخصوصا في الولايات المتحدة، لاحتمالات عودة الحرب الباردة. إذ ساد الاعتقاد بين المعنيين بالسياسة الخارجية بقدرة الولايات المتحدة على التفوق الكاسح اقتصاديا وعسكريا، رغم الصعود السريع في قوة الصين الاقتصادية، فضلا عما يشبه الاطمئنان إلى فكرة القبول العالمي بهيمنة الولايات المتحدة من جانب "الدول العظمى الأخرى"، الذي يترجم القناعة باستراتيجية "المحور والفروع"، حيث "تشكل الولايات المتحدة محور العجلة بينما تشكل أوروبا واليابان وروسيا والصين فروعها، فتحتاج جميعا إلى الولايات المتحدة أكثر من حاجة بعضها لبعض". وهي استراتيجية أثبتت فشلها، فخلافا لليابان والقوى الأوروبية، تسعى الصين وروسيا إلى تحقيق موقع مكافئ للولايات المتحدة، وتدركان تماما أن "القوة العالمية المسيطرة" تسعى إلى احتوائهما، وهو ما دفعهما بشكل أساسي للتحالف معا.
يبدأ الأشقر كتابه بمقدمة يشرح فيها مفهوم "الحرب الباردة الجديدة"، يليها فصلان شكلا كتابه "الحرب الباردة الجديدة: العالم بعد كوسوفو"، الصادر في العام 1999 بالفرنسية، مبررا ذلك بأن مضمونهما لم يفقد شيئا من راهنيته لفهم الوضع العالمي الحالي. وفي القسم الثاني من الكتاب المخصص لروسيا والصين، يبحث في تطور روسيا في ظل حكم فلاديمير بوتين، ويتناول كل من البلدين من زاوية سياساته الخارجية وعلاقاته بالولايات المتحدة، وتقييم تفاعل تلك السياسات مع العوامل المحلية الخاصة بكل بلد.
حالة إنكار
بعد اندلاع الحرب في جورجيا في العام 2008، ثم في أوكرانيا بعد 6 سنوات في العام 2014، وكانت كلتاهما ردا روسيا على توسع الناتو في الجمهوريات السوفييتية السابقة، أضحى من الصعب إنكار وجود حرب باردة جديدة، مع ما شهده الواقع من "انهيار في العلاقات بين روسيا والغرب". وبينما أقر روبرت ليفغولد، أحد الوجوه البارزة في الدوائر الأكاديمية والدبلوماسية الأميركية، في مقالة له بهذه الحقيقة، واصل تجاهل وجود تحالف غير رسمي بين الصين وروسيا للتصدي للهيمنة الأميركية، معتبرا أن الحرب الباردة الجديدة لن تشمل النظام العالمي، "حيث سيتجنب لاعبون رئيسيون مثل الهند والصين الانجرار إليها". متجاهلا أن الصين كان لديها دائما شعور بأنها في المركب نفسه مع روسيا كهدف للاحتواء، بحسب ما يقول الأشقر.
وحالة الإنكار هذه استندت أيضا إلى حقيقة أن روسيا أضعف من الاتحاد السوفييتي السابق، وأن كل من روسيا والصين لم تعد ترفع راية "الشيوعية" ولا تسعى لتوسيع امتدادها العالمي. لكن الأشقر يلفت إلى أن السبب الذي جعل مصطلح الحرب الباردة(القديمة) يسود بعد عام 1954 لم يكن أيديولوجيا بالأساس، إنما كان مرتبطا بما يعرف ب "توازن الرعب" بين القوتين المتنافستين بعد الحرب العالمية الثانية واستخدام القنبلة الذرية.
يضيف الأشقر: إن جولات توسع الناتو في دول أوروبا الشرقية خلال السنوات الأولى من هذا القرن شكلت مصدر قلق وانزعاج كبيرين لروسيا فلاديمير بوتين، اذ منحت الناتو حدودا مباشرة مع الداخل الروسي، لتضاف حلقات جديدة إلى سلسلة الحرب الباردة الجديدة- التي بدأتها إدارة بيل كلينتون- مع إلغاء جورج بوش الإبن في العام 2002 للمعاهدة المتعلقة بالصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية المبرمة منذ العام 1972، وإصراره على نشر دروع مضادة للصواريخ على تخوم روسيا والصين.
أوهام بوتين
أراد بوتين، مع وصوله للحكم في العام 2000، إنعاش الاقتصاد، وتحديث الجيش الروسي، والاستفادة قدر الإمكان من ارتفاع أسعار النفط والغاز، لذلك، وبحسب ما يشرح الأشقر، لم يرغب بالاصطدام مع الولايات المتحدة، بل إنه دشن "حملة تودد في علاقاته مع الدول الغربية.. وأعرب عن رغبته في تلقي دعوة للانضمام إلى الناتو.. لكن روسيا لم تكن راغبة في المجازفة بالتعرض للإذلال من خلال تقديمها طلب انضمام دون التأكد من قبولها". وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تبنى بوتين "بحماس" خطاب بوش بشأن "الحرب على الإرهاب"، إذ وجد فيه ما يبرر ويشرعن حربه على الشيشان، التي وصفها في إحدى لقاءاته ب "أفغانستان الصغيرة".
غير أن طموحات بوتين بالانضمام إلى نادي الدول الغربية لن تستمر طويلا. فبغزوها العراق في العام 2003كانت واشنطن تتجاهل القانون الدولي ومعه معارضة موسكو وبيجين وحق النقض لديهما، وتتجاهل حتى حلفاءها في برلين وباريس. لتدشن احتلالا غير قانوني لبلد كانت فيه لروسيا والصين مصالح تم انهاؤها سريعا.
أراد بوتين، مع وصوله للحكم في العام 2000، إنعاش الاقتصاد، وتحديث الجيش الروسي، والاستفادة قدر الإمكان من ارتفاع أسعار النفط والغاز، لذلك، وبحسب ما يشرح الأشقر، لم يرغب بالاصطدام مع الولايات المتحدة، بل إنه دشن "حملة تودد في علاقاته مع الدول الغربية.. وأعرب عن رغبته في تلقي دعوة للانضمام إلى الناتو.. لكن روسيا لم تكن راغبة في المجازفة بالتعرض للإذلال من خلال تقديمها طلب انضمام دون التأكد من قبولها".وبحلول العام 2007 سيقدم بوتين خطابا في مؤتمر ميونيخ للأمن سيشرح الكثير عن توجهات سياسته الخارجية التي سيلتزم بها في السنوات المقبلة. حيث عبر عن استيائه من سلوك واشنطن و"طموحاتها أحادية القطب"، ما سيدفعه تاليا للبحث عن تحالفات "توازن الكفة"، لا سيما مع الصين. فضلا عن إعرابه عن غضبه من انتهاكات القانون الدولي المتكررة من قبل الولايات المتحدة وحلف الناتو، و"إحباطه من رفض الدول الأعضاء في الناتو التصديق على معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا،.. وانزعاجه من الانتشار العسكري الغربي وتوسع الناتو.. ما سيدفعه إلى الشروع في إجراءات وقائية مضادة..
كما أن سخطه العميق من الدعم الغربي للمعارضة الديمقراطية الليبرالية في المجال السوفييتي السابق، بما فيها روسيا، سوف يحرضه على تطوير تدخل انتقامي في السياسات الداخلية الغربية لصالح قوى رجعية معادية للديمقراطية". يقول الأشقر أن بوتين في السنوات التالية تصرف ب"حرية" أكبر على الساحة الدولية تجاه كل ما اعتبره دفاعا عن مصالح روسيا، مادامت القوى الغربية أظهرت مرارا أنها تستطيع فعل ما تريد بالقوة وباستخدام المعايير المزدوجة، في أفغانستان والعراق وليبيا وكوسوفو. وستكون هذه حجته دائما في مواجهة الانتقادات حول الحرب على جورجيا وأوكرانيا وضم القرم والتدخل في سورية.
تحالف المصالح
أما عن الصين فيذكر الأشقر أن العلاقات بين موسكو وبيجين اكتسبت زخما في التسعينيات من القرن الماضي، ربما بفضل سياسات واشنطن العدائية تجاه البلدين. وصحيح أن القواسم المشتركة بين البلدين كانت أكثر في زمن الاتحاد السوفييتي، لكن العلاقات بينهما شهدت انقطاعا لثلاثة عقود قبل أن تعود في العام 1991، لتتحد البلدان في دعم "التعددية القطبية" في مواجهة الهيمنة الأميركية، وتوقعان في العام 2001 معاهدة "حسن الجوار والتعاون الودي". وهي معاهدة حملت بصمة واضحة لفلسفة الصين في العلاقات الدولية، بحسب الأشقر، حيث أعلنت الدولتان أن تعاونهما العسكري لا يستهدف دولة ثالثة، وأنه لا يجوز لأي منهما الدخول في تحالف يهدد أمن الطرف الآخر، وأن كليهما يؤيد التقيد الصارم بالقوانين الدولية، وتعزيز دور الأمم المتحدة المركزي في إدارة الشؤون الدولية، لا سيما في مجالي السلام والتنمية، ويعارضان التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة تحت أية نوع من الذرائع.
يؤكد الأشقر مع ذلك على أن التحالف بين الصين وروسيا هو تحالف قائم على المصلحة المتبادلة أكثر منه تحالفا أيديولوجيا أو تحالفا قائما على القواسم المشتركة. فرغم اعتماد الصين في تسليحها على روسيا في البدايات إلا أنها تدريجيا ومع التطور التكنولوجي السريع لديها بدت أقل اعتمادا على موسكو، والحال كذلك في وارداتها من النفط والغاز، حيث تستمر في تنويع مصادرها من جميع أنحاء العالم. وأكثر من ذلك يلفت الأشقر إلى أن الصين في الواقع تفضل "الحفاظ على علاقات جيدة من كل من الولايات المتحدة أوروبا وروسيا واليابان، على حد سواء، الأمر الذي من شأنه أن يكون أكثر فائدة لتنميتها السلمية.. ولو لم تدفعها واشنطن إلى أحضان موسكو لأعطت ربما الأولوية لعلاقاتها مع الولايات المتحدة على علاقاتها مع روسيا، نظرا إلى ارتهانها الاقتصادي المتبادل مع الأولى الأكبر بشكل لا يضاهى مما هو مع الثانية". يؤكد ما سبق الموقف الصيني من غزو روسيا لأوكرانيا، إذ" امتنعت بيجين عن إدانة العدوان، مظهرة بعض التفهم للمخاوف الأمنية الروسية تجاه حلف الناتو، لكنها لم تؤيده" ولم تشارك في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، لكنها كذلك لم تعرض نفسها لعواقب مجابهة هذه العقوبات.
تظل الفكرة الرئيسية التي يشدد عليها الأشقر أن الحرب الباردة الجديدة إنما هي صناعة أميركية بحتة، سببها هذه الرغبة المرضية بالهيمنة على كل القوى الدولية الأخرى.