تلقّفت وسائل التواصل الاجتماعي إشاعة خبر وفاة عالم النفس المعرفي وعالم اللغة الأشهر نعوم تشومسكي ،فانتشر التأبين في كل مكان من دون أن يفحص أحدهم الخبر من مصادر صحيحة موثوقة إلى الدرجة التي اضطرت زوجته البرازيلية فاليريا ،إلى الخروج إلى الإعلام والإعلان عبر وكالة الأسوشيتد بريس أن الخبر غير صحيح ،وأن زوجها عالم اللغة الشهير قد تحسّنت حالته الصحية وخرج من المستشفى لإكمال علاجه بالمنزل في ساوبالو بالبرازيل ،حيث يعيش هناك منذ 2015 .
لاشك أن صحة تشومسكي، 95 سنة، قد اعتلّت مؤخراً خاصة بعد إصابته بسكتة دماغية قبل عام أبقته على مقربة من المستشفى بين الحين والآخر. هذا بالإضافة إلى أمراض الكهولة الأخرى التي تطارد كل من يقترب من حاجز القرن، أو المائة سنة من العمر. جيروم برونر، زميله في قسم علم النفس بجامعة هارفارد، تجاوز هذا الرقم وبلغ من العمر 100 سنة قبل أن تقضي عليه أمراض القلب التي لم تمكّنه من
البقاء سنة واحدة بعد حاجز المائة سنة، مازال أمام تشومسكي 5 سنوات ليلحق برقم زميله برونر.
نعوم تشومسكي وزميلاه جيروم برونر وجورج ميلر، وكلّهم يشتغلون في نفس القسم بجامعة هارفارد، يمثّلون الثلاثة الذين قادوا الثورة المعرفية ضد النظرية السلوكية التي كانت مسيطرة على الساحة التربوية منذ مطلع القرن الماضي ، والتي كان يقودها في نفس القسم من الجامعة ،طيب الذكر ب.ف.سكنر الذي يعتبر تشومسكي عدوّه اللدود.
السلوكيون عادة، أمثال سكنر وكل سلوكي، ينفرون من الأشخاص الذين يهدّدون سلطتهم، وهذا الموقف العدائي الذي تبنّاه سكنر جاء بسبب أن تشومسكي زلّزل كيان النظرية السلوكية ببحثه الشهير في نهاية الخمسينات من القرن العشرين الذي أثبت فيه عجز النظرية السلوكية في تفسير تعلّم اللغة وخاصة عند الأطفال في الوقت الذي كان فيه سكنر يروّج لفكرة أن اللغة سلوك. ماتت النظرية السلوكية على الورق منذ تلك الورقة البحثية التي جاء بها تشومسكي، وقد ساعده في دفنها جيروم برونر وجورج ميلر؛ لكن شبحها ظلّ موجوداً في الساحة وعادت إلى الحياة مجدداً بسبب معطيات وقوىً أخرى ليس هذا المكان مناسباً للحديث عنها.
المفارقة الساخرة في قضية خبر وفاة العالم الشهير تشومسكي المكذوب ،هو أنه جاء بسبب قضية الإعلام التي حذّر منها تشومسكي كثيراً في كتابه الذي يحمل عنوان “صناعة الموافقة”، وفي مقالاته ومحاضراته إذ بيّن أن الإعلام يخدم مصالح مالكيه ، وهم عادة أولئك النخبويون الأقوياء والأغنياء أو الشركات الكبرى ، ويتجاهل في الوقت نفسه الجمهور من عامة الناس وقضاياهم الكثيرة.
يقول تشومسكي أن الحاجة أصبحت ملحّة في هذا العصر المجنون الذي نعيشه ، إلى عدم تقبّل الأخبار من أول وهلة، كما فعل الناس في شبكات التواصل وبعض المنصّات الإخبارية الهشّة، بل يجب أن نمارس التفكير الناقد مع أي خبر يصل إلينا لمقاومة الانحياز الذي ينتشر في الإعلام ،ومواجهة بعض الأجندات التي تختفي بين سطور الأخبار الرئيسية التي نطالعها يوميا.
لعلنا في مقال قادم ، نتناول جانبا أخر من نشاطات تشومسكي الفكرية الأخرى ،التي لا تقل أهمية عن نظرياته العلمية المؤثرة في علم النفس المعرفي، ونأمل أن يكون ذلك قبل أن يتوفّاه الله.
khaledalawadh @
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
خالد نبهان.. الشهيد المبتسم الذي سلبه الاحتلال روح الروح
لم يكن خالد نبهان جَدّا عاديا، بل لم يكن أيضا شهيدا عاديا، كان قصة أحزان وأشواق دخلت كل بيت في العالم تقريبا، ورأى الناس كيف رسم بكلماته الجريحة قصة من أروع قصص الفراق الدامي في غزة.
فبعد طول انتظار وترقب التحق خالد نبهان بحفيدته "روح الروح" والتحف البياضَ الذي كان قد وخَطَ رأسه ولحيته، وكساها هيبة ووقارا، ازداد إشعاعها وهو يغادر الدنيا شهيدا مبتسما.
ما كانت الشهادة تخطئ أبا ضياء خالد نبهان، إلا لتصيبه في مقتل من الروح، وشغاف من الفؤاد.
قبل نحو عام من الآن، التحف نبهان الصبر وهو يحتضن حفيدته ريم ويقبل جسدها الصغير، كالوردة متلفِّعة بلون شقائق النعمان، إلا أنها محمرة بالدم القاني، مثل شقائقها اللائي سبقنها من كل بيت، بعد أن كسرت تلك العظام الرخوة والجسد الغض البريء قاذفات اللهب الإسرائيلية.
انتشل خالد نبهان حفيدته الصغيرة ريم من تحت الركام، ولم يكن يصدق أن عمرها البهيج قد أوقفه الجيش الإسرائيلي عند 3 سنوات، وأن ضحكتها التي كانت تملأ البيت سعادة، قد تحولت إلى نشيج دائم، وأن صورها البراقة، قد تحولت إلى أطياف محلقة تؤرق الليل وتهيج الذكرى، وتستدر الدمع النبيل.
يتمسك الجد الوقور، بالجثمان الصغير، يشمه ويقبله، ويضمه إلى صدره، ويتمنى لو انطلقت من ذلك الكفن الوديع ضحكة طفولية، لتقول له إن الأمر مزحة كله.
إعلانلكن "روح الروح" كانت حقيقة في قربها ومأساتها، وحقيقة أخرى صارخة هي أن المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة لم تكن تفرق بين صغير أو كبير بين مدني أو مقاتل، فقد كان التطهير العرقي والإبادة الجماعية والعدوان يستهدف كل ما يرف للحياة من جفن في القطاع المدمر كما يقول الكثيرون.
الشيخ المحتسب الصبور، خالد النبهان، يسلم الروح شهيدا في #غزة، ملتحقا في الأعالي بحفيدته الصغيرة التي دعاها "روح الروح" يوم فقَدها.. اللهم اجمعهما في علِّيين pic.twitter.com/G6s5U1uklz
— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) December 16, 2024
ذكرى الميلاد وموعد الرحيلفي ديسمبر/كانون الأول، ولد الجد والحفيدة وفيه رحلا معا في عامين متتاليين، ففي العام الماضي، ودعت الصغيرة قبل نحو شهر من عيد ميلادها الرابع.
وفي حين كانت الصغيرة تنتظر تلك الذكرى العطرة، كان الجد الحنون يعد ما يليق بتلك اللحظة الشذية بالمشاعر والأحاسيس الرقراقة، وكانت المصادفة الأكثر حلاوة في الأمر أن الجد وحفيدته يلتقيان في شهر ميلاد واحد، وكم كان للفرح من أرجوحة في قلب الشيخ النبيل، وكم كان للسعادة من وردة متفتقة، ولحن طفولي عذب في القلب الصغير للوردة ريم الصغيرة المذبوحة برصاص إسرائيلي.
بعد أشهر قليلة ولدت لخالد نبهان حفيدة أخرى أطلق عليها اسم "روجاد" ويعني وقت صلاة الفجر، أي وقت انبلاج النور من رحم الظلام، ووقت انطلاق عصافير الحياة مرفرفة في الكون الذي لم يعد فسيحا، منذ أن أصبحت أزهاره وعصافيره هدفا لقناص إسرائيلي يرسل الموت شراكا قلّ أن ينجو منه جد ولا حفيد.
ورغم عمق المأساة والألم الذي أحدثه رحيل "روح الروح" فقد ظل الجد خالد ذا روح مفعمة بالحب والجمال، كان حاضرا بقوة في الإنقاذ والتثبيت، مالكا لأسلوب رائع في تخفيف المآسي على قلوب الصغار، يملك روحا مشرقة، وخطابا إيمانيا متوثبا، ويعيش عالما من الرضا، يلين راسيات الجبال، ويذيب -لو كان لفراق روح الروح من سلوان- ما يراكمه الحزن اللاهب من جبال ألم، وما يسقي من أودية أشجان.
في الخالدين يا روح الروح
أبو ضياء شهيداً
عوَّضك الله الجنة على صبرك وإيمانك
وجمعك بحفيدتك في جنَّات النعيم pic.twitter.com/UkXg9EMKwg
— أدهم شرقاوي (@adhamsharkawi) December 16, 2024
إعلان غدا نلقى الأحبةريم وخالد حفيدا خالد النبهان، روحان من وهج الحياة المحروقة في غزة، وقصتان من بين عشرات الآلاف من القصص الموحدة العناوين المختلفة، في حين تغرز من مخالب الألم في تلك القلوب الرطبة والأجساد الصغيرة، إنها قصة قتل الحياة، وسفك دم الطفولة الرقراق.
لكن خالد كان من بين أفصح الجراح التي تمشي على قدمين، وأبلغ الأصوات التي تتحدث بلسان، كان صوته وصِيته وبسمته وحزنه وأشواقه رسائل تدك العالم كله، تتحطم أمامها أسوار التجاهل، فقد كانت عبارة روح الروح تهز ما بقي من روح في العالم المبَنّج.
ولأن روح خالد كانت قد حلقت في عالم الأشواق، يوم أرخى للحزن زمامه أسفا على روح الروح، فقد كان يحث السير ويترقب الرحيل كل حين، وفي واحدة من آخر تغريداته على حسابه على الإنستغرام، كان الرجل ينظر من سجف الغيب، ويهتف عبر ستائر الأشواق إلى حفيديه، بأنه قادم إليهما قريبا "هل نلتقي؟ فالبُعد مزّق خافقي. هل نلتقي من بعد شوق مُحرق؟ صدقا، توقفت الحياة، وما لها في ليل هجرك أي فجر مشرق". كما تقول كلمات الأنشودة التي كانت مرافقة لصورة نشرها قبل نحو أسبوع على حسابه في إنستغرام.
برحيل خالد نبهان لا ينضاف اسم جديد إلى لائحة طويلة من الشهداء فحسب، بل تكتب قصة ميلاد ملحمة حزن عابر للأيام، وقصة أجيال جمع بينها العدوان الإسرائيلي في كفن منسوج من عبق الكلمات الجريحة والأشواق المطهرة، والرضا والتوكل، والمقاومة التي تأخذ كل لبوس، من قسمات الطفل الرضيع، وهو يتلقى الرصاص قبل أن ينقطع حبله السري، وبسمة الرضيع وهو ينشق عبق المقاومة ويحتسي لبان الجهاد، ومن روح الروح وهو تكتب للحزن آمادا مفعمة بالألم، وترسم قصة جد، ملأ الدنيا حبا وشغل الناس حزنا، ومضى إلى حيث مراقد الصالحين، ومنازل المقاومين، إلى فردوس مديد، وروح وريحان… إلى حيث "روح الروح".
إعلان