تيك توك ومعركة تكسير العظام في أمريكا
تاريخ النشر: 25th, June 2024 GMT
ربما تكون المعركة القانونية حول تطبيق الفيديو الصيني الشهير «تيك توك» في الولايات المتحدة الأمريكية، هي المعركة الأهم في تاريخ الحرب الرقمية -إن صحت التسمية- القائمة بين أمريكا والصين، والتحول الأهم في تاريخ شبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، إذ أنه وفقا لقانون البيع أو الحظر الذي أصدرته إدارة بايدن، سيكون على شركة «بايت دانس» المالكة للتطبيق بيع أصولها وعملياتها في الولايات المتحدة خلال أقل من ستة أشهر من الآن لمشتر أمريكي، وذلك قبل التاسع عشر من يناير القادم، أو مواجهة حظر التطبيق -الذي يستخدمه 170 مليون أمريكي، نشروا عليه أكثر من 5 مليارات مقطع فيديو العام الماضي- في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
القانون الذي تم إقراره في نهاية أبريل الماضي، يمنح الإدارة الأمريكية فرصة أخرى لتفكيك تطبيق تقول إن الحكومة الصينية يُمكن أن تستخدمه لجمع بيانات الأمريكيين على نطاق واسع، وتشكيل آرائهم واتجاهاتهم ومعتقداتهم بطرق خفية، وهو ما يتوافق مع حجج منتقدي التطبيق في واشنطن التي تؤكد أن التطبيق يشكل تهديدًا خطيرًا للأمن القومي بسبب قابليته لجمع معلومات استخباراتية والعمل كمنصة مفتوحة للدعاية الصينية.
الجديد في هذا الصراع القانوني كان الموجز القانوني الأول الذي قدمه محامو الشركة الصينية الخميس الماضي للمحكمة، والذي طعن بعدم دستورية القانون الجديد وطالب بإبطاله، على أساس انه يتعارض مع التعديل الأول في الدستور الأمريكي الخاص بحرية الصحافة، وهو ما يفتح الباب أمام واحدة من أكثر المعارك القانونية أهمية في تاريخ الإنترنت في الولايات المتحدة.
واقع الأمر أنها قد تكون المرة الأولى التي يُقدم فيها الكونجرس على تحدي التعديل الأول في الدستور الذي يمنع الكونجرس من إصدار أي قانون يحد من حرية الكلام أو الصحافة، ويتدخل بالتشريع لإخماد صوت منصة إعلامية تخاطب أكثر من نصف سكان البلاد، وهو بذلك يشكل سابقة خطيرة من وجهة نظر المدافعين عن حرية التعبير تسمح للإدارة الأمريكية والكونجرس باستهداف منصات التعبير عن الرأي المملوكة لشركات أجنبية غير مرغوب فيها وإجبارها على البيع أو الإغلاق.
إن فهم حقيقة الصراع بين «تيك توك» والإدارة الأمريكية يتطلب عدم عزل هذا الصراع عن سياقه العام، وهو سياق الصراع بين الولايات المتحدة وبين الصين ومحاولة كل طرف من الطرفين المتنافسين استخدام كل الأسلحة الرقمية المتاحة لزيادة نفوذه الرقمي من جانب، والحد من نفوذ وحضور الطرف الآخر على الشبكة.
في إطار هذا السياق يمكن فهم أسباب القلق الأمريكي من «تيك توك» والتي تشمل وفق محللين كثر وضع بيانات المستخدمين الحساسة في أيدي الحكومة الصينية، خاصة وأن القوانين تسمح للحكومة الصينية بطلب البيانات سرا من الشركات والمواطنين الصينيين لجمع المعلومات الاستخباراتية. ويشعر الأمريكيون بالقلق من أن تستخدم الصين توصيات محتوى «تيك توك» لنشر المعلومات المضللة. وتزعم الحكومة الأمريكية أن المنصة قامت بذلك خلال الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة وفي الانتخابات الرئاسية السابقة، بالإضافة لمزاعم أخرى لا دليل على صحتها تتعلق بتغذية التطبيق انتشار معاداة إسرائيل والسامية. ورغم أن «تيك توك» نفت كل هذه المزاعم، وأبدت استعدادها لمعالجة كل ما يتعلق بمخاوف الأمن القومي الأمريكي، فإن المشرعين الأمريكيين كانوا يريدون معاقبة التطبيق بأي شكل، بصرف النظر عن حقيقة التهديد الذي يمثله على الأمن القومي.
ولعل المراوغة الأمريكية هي ما دفعت الشركة الصينية المالكة للتطبيق إلى اتخاذ موقف هجومي في الموجز الذي قدمته للمحكمة، وكشفت فيه لأول مرة عن وثائق داخلية تعود إلى سنوات من المفاوضات الفاشلة مع الحكومة الفيدرالية الأمريكية تؤكد أن الإدارة الأمريكية لم تكن تعمل في هذا الملف بحسن نية. وكشفت الشركة مسودة اتفاق سبق أن عرضتها على الإدارة الأمريكية في أغسطس 2022 يتضمن منح المسؤولين الفيدراليين مفتاح إيقاف من شأنه أن يغلق التطبيق في الولايات المتحدة، إذا شعر هؤلاء المسؤولون أنه لا يزال يمثل تهديدًا للأمن القومي، بالإضافة إلى السماح لهم بالتدخل في اختيار أعضاء مجلس إدارة الشركة، ومنح الحكومة حق الاعتراض على كل موظف جديد يتم تعيينه في الشركة. ومع ذلك رفض الأمريكيون الاقتراح، وخسروا التأثير المحتمل على أحد التطبيقات الأكثر شعبية في العالم لصالح خيار أكثر قسوة وهو قانون البيع القسري الذي قد يؤدي إلى حظر «تيك توك» على مستوى البلاد، واختارت بدلاً من ذلك معركة دستورية محتملة طويلة يتوقع الكثيرون ألا تنتهي سوى أمام المحكمة العليا.
إن الخطورة في هذا الصراع القانوني تتمثل في تأثيراته العالمية على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة إذا انتهى الأمر ببيع التطبيق إلى شركة أمريكية أو إغلاقه، إذ سوف يكون أمام الدول المترددة في التعامل الخشن مع هذه المنصات بدعاوى الحفاظ على الأمن القومي فرصة تاريخية ليس فقط لحجب «تيك توك» ولكن أيضا لحجب الشبكات والتطبيقات الأخرى الأكثر أهمية وتأثيرا مثل فيسبوك واكس ويوتيوب وغيرها. صحيح أن هناك دولا بادرت إلى هذا الحجب مبكرا وحظرت التطبيق بشكل كامل مثل أفغانستان والهند والنيبال والباكستان والصومال والصين، بالإضافة إلى إيران وقيرغيزستان وأوزبكستان، أو بشكل جزئي بحظر تنزيله على أجهزة العاملين في الإدارات الحكومية ووزارات الدفاع أو الخارجية في أستراليا، وبلجيكا، وكندا، والبرلمان والمفوضية والمجلس الأوروبي، وفرنسا، وإندونيسيا، ولاتفيا، وليذرلاند، ونيوزيلاندا، والنرويج، وتايوان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة. ومع هذا فإن بيع التطبيق أو إغلاقه في الولايات المتحدة سيمثل سابقة عالمية لمطاردة حرية التعبير التي وفرتها المنصات الرقمية خاصة في الدول الديكتاتورية، بمزاعم حماية مواطنيها من العواقب السلبية مثل إساءة استخدام البيانات والمعلومات الكاذبة وحماية النظام والآداب العامة.
من المؤكد أن الصراع القانوني المشتعل في واشنطن بين الإدارة الأمريكية وبين «تيك توك» سيكون له تأثير ذلك على مستقبل حرية التعبير عبر الإنترنت. فالتمسك بقانون البيع أو الحظر يمكن أن يقضي ليس فقط على منصة عالمية للأخبار والترفيه يستخدمها نحو ملياري شخص على مستوى العالم، ولكن أيضا على التعددية الرقمية التي أتاحها الإنترنت، وقد يفتح بابا لمزيد من الصراع التجاري بين الولايات المتحدة وبين الصين التي تنظر إلى الإجراءات الأمريكية بحق «تيك توك» على أنها تشبه تصرفات قطاع الطرق، وتوعدت في تصريحات رسمية سابقة للناطق باسم وزارة الخارجية باتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية مصالح شركاتها في الخارج على أساس إن القانون الأمريكي الجديد يضع الولايات المتحدة على الجانب المعاكس من مبادئ المنافسة العادلة والقواعد الاقتصادية والتجارية الدولية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الولایات المتحدة الإدارة الأمریکیة تیک توک
إقرأ أيضاً:
أمريكا تعترف بفشل حملتها على اليمن: صنعاء تفرض معادلة الردع البحري وتربك الاستراتيجيات العسكرية الأمريكية
يمانيون../
رغم الاستعراض العسكري الواسع خلال ولاية ترامب الثانية، أقرّت الولايات المتحدة بفشل حملتها على اليمن، في ظل استمرار وتعاظم الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة التي تنفذها القوات المسلحة اليمنية ضد كيان الاحتلال الصهيوني ومصالح واشنطن في البحر الأحمر، وتعثّرها في تأمين ممرات التجارة الدولية رغم الكلفة العسكرية الهائلة.
وأكدت مجلتا “فورين بوليسي” و”معهد واشنطن للدراسات” في تقريرين منفصلين أن اليمن بات يشكل تهديداً نوعياً على الهيمنة البحرية الأمريكية، ويقوّض فعالية الإنفاق الدفاعي الهائل الذي بذلته وزارة الدفاع دون تحقيق أهداف ملموسة.
مجلة فورين بوليسي وصفت العمليات الأمريكية في اليمن بأنها “نزيف عسكري بلا إنجاز”، مشيرة إلى أن الأهداف التي أعلنتها واشنطن، وعلى رأسها تأمين الملاحة البحرية وردع الهجمات، لم تتحقق، بل تصاعدت عمليات صنعاء التي استهدفت السفن الأمريكية و”الإسرائيلية” في البحر الأحمر، ما أدى إلى شلل شبه تام لحركة السفن عبر هذا الممر الحيوي.
كما انتقدت المجلة غياب الشفافية العسكرية الأمريكية، حيث تفتقر العمليات إلى بيانات رسمية واضحة، وتُختزل التغطية الإعلامية بفيديوهات دعائية. وأشارت إلى أن الهجمات اليمنية استخدمت ذخائر موجهة تستهلك قدرات بحرية “محدودة أصلاً”، بحسب وصف خبراء عسكريين.
من جهته، حذّر تقرير أعده المقدم في القوات الجوية الأمريكية “جيمس إي. شيبارد” لصالح معهد واشنطن، من أن الحصار البحري الذي تفرضه صنعاء بات يهدد ليس فقط التجارة العالمية بل كذلك قدرة واشنطن على التحرك السريع عسكرياً في مناطق النزاع، مؤكداً أن مضيق باب المندب يُعد أحد أهم الشرايين الحيوية للوجستيات العالمية والعسكرية، حيث تمر عبره سلع تتجاوز قيمتها التريليون دولار سنويًا.
ووفقاً للتقرير، أجبرت هجمات القوات اليمنية شركات الشحن العالمية على تجنب البحر الأحمر وسلوك طريق رأس الرجاء الصالح، وهو مسار أطول بـ15 يومًا وأكثر كلفة بمليون دولار إضافي لكل رحلة، ما يمثل ضغطاً هائلًا على سلسلة الإمدادات الدولية.
ورغم محاولات واشنطن لفرض الحماية على سفنها، فإن بعض السفن تعرضت لهجمات رغم وجود مرافقة عسكرية، ما كشف ضعف الردع الأمريكي في المنطقة. واعتبر التقرير أن هذه التطورات تتطلب “إعادة صياغة العقيدة البحرية الأمريكية”، إذ إن تعطيل النقل البحري يهدد فعليًا القدرات الأمريكية على الاستجابة الطارئة وإعادة التموضع الاستراتيجي.
واعتبر التقرير أن صنعاء، ورغم غياب حاملات الطائرات أو الأساطيل العملاقة، قد نجحت في فرض معادلة ردع دقيقة وفعالة، أربكت المخططين العسكريين الأمريكيين وأجبرتهم على مراجعة الخيارات التكتيكية واللوجستية.
وتوقع التقرير استمرار الهجمات اليمنية باستخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية، ليس فقط في البحر الأحمر، بل لتمتد إلى بحر العرب وشمال المحيط الهندي، مع احتمال توسع الأهداف لتشمل الممرات البديلة التي تحاول واشنطن الاعتماد عليها.
وفي محاولة للحد من تأثير الهجمات اليمنية، اقترحت شبكة النقل عبر الجزيرة العربية (TAN) التابعة للبنتاغون إنشاء 300 منشأة لوجستية – تشمل مطارات وموانئ ومراكز برية – لتسهيل نقل البضائع خارج باب المندب، مشيرة إلى إمكانية نقل الحمولات عبر ميناء جدة أو ممر بري يربط ميناء حيفا في الكيان الصهيوني بالخليج العربي مروراً بالأردن والسعودية والبحرين.
ورغم ما يبدو من بدائل، إلا أن التقارير الأمريكية نفسها تحذر من أن هذه الخيارات مكلفة ومعقدة، وتقع هي الأخرى في نطاق نيران القوات اليمنية، ما يعقّد قدرة واشنطن على تنفيذ استراتيجيتها البحرية في المنطقة، ويجعلها عرضة لردود فعل غير تقليدية من صنعاء، التي تُدير المعركة بإيقاع منضبط يدمج بين السياسة والتكتيك العسكري بفعالية غير مسبوقة.