لجريدة عمان:
2024-12-22@17:49:51 GMT

قانون عصر الأنوار

تاريخ النشر: 25th, June 2024 GMT

قانون عصر الأنوار

في صيف عام 1764، في مدينة ليفورنو بإيطاليا، وتحت تأثير روح فلسفة عصر التنوير والموسوعيين، نشر شاب إيطالي، كان يبلغ يومها ستة وعشرين عامًا، ومن دون أن يكشف عن هويته، مقالة قصيرة تناول فيها «قسوة التعذيب وعدم انتظام الإجراءات الجنائية». إلا أن هُوية الكاتب، لم تبق مجهولة لفترة طويلة، إذ سرعان ما تمّ التعرف على الماركيز تشيزره بيكاريا (1738-1794، كاتب المقالة)، بعد أن حقق النص نجاحًا هائلًا، لينتشر في جميع أنحاء أوروبا بعد أن تُرجم إلى لغات عدة، وبخاصة في فرنسا، حيث وجد هناك صدى واسعًا، ما جعل فولتير وديدرو ودالمبير يهتفون له، معتبرين أن بيكاريا يضع أسس التفكير العقابي الحديث.

من هنا، تحول بيكاريا -عبر احتفال عصر التنوير به- مرجعًا أساسيًا للثورة، (وربما لغاية اليوم لا يزال تأثير فكره، يتخذ حضورًا ما في الفكر العالمي).

في الواقع، وعبر ما كتبه، بدا بيكاريا بمثابة الأخ الروحي، التوأم، للموسوعيين، إذ أراد -فيما عبّر عنه- أن يؤسس «في العقل والإنسانية» مبادئ عدالة جنائية جديدة. لذا سعى في أن يطور فكرًا أصيلًا يرى في العقوبة ضمانة للقانون وليس خروجا عن القانون. من خلال دعمه العدالة العلمانية، وحرصه على الدفاع عن المنفعة الاجتماعية، أدان بيكاريا عقوبة الإعدام وآثارها الضارة، معتبرًا أن أي عقوبة يجب أن تكون مرتبطة بالحرية وليس بالسلطة، كما أن تكون مرتبطة بالمطالب الاجتماعية وليس بتعسف الحاكم أو القاضي.

دعا بيكاريا أيضا في مقالته هذه التي حملت عنوان «حول الجرائم والعقوبات»، إلى التشكيك في جزء كبير من عمل العدالة، أي أنه شكك فيها في النظام القضائي الذي كان قائمًا في ذلك الوقت من القرن الثامن عشر. كذلك جاءت مقالته هذه، لتدين الظلم الذي كان يلحق بالأفراد، مثلما أدان، وبشكل خاص، التعذيب الذي وصفه بالقول إنه «البربرية التي تقدسها الممارسة»، والتي لا تؤدي إلا إلى انتزاع اعترافات لا قيمة لها: فالخوف من العذاب المستقبلي يجعل البشر يقولون أي شيء للهروب منه. عقوبة الإعدام لا تجد استحسانًا في عينيه أيضًا، معتبرًا أن الضغط المستمر يتخلل الضمائر وهو أكثر من مشهد عنيف.

باختصار، كانت المسألة بالنسبة له، تكمن، في المقام الأول، في الحفاظ على فرص إعادة اندماج الشخص المذنب في المجتمع، حتى لو كان ذلك مهمًا في نظره، ولكن الدفاع عن الأخير، من دون تجاوز ما هو ضروري للغاية لتحقيق ذلك، ومن دون أي تقصير أيضا. يمكننا أن نلاحظ بشكل عابر، وربما بشكل مسلّ (فيما لو جاز القول)، منطقه لصالح حمل المواطنين للسلاح، وهو بالضبط ما نسمعه من «جمعية البندقية الأمريكية» مثلا: حتى لا نترك احتكار هذه القدرة على حيازة الأسلحة لأولئك الذين لا يحترمون القانون، واستخدامها ضد المجتمع، إذ على الأخير، أن يمنح المواطنين إمكانية امتلاكها. من دون أدنى شك، يتعين علينا أن نضع هذا في سياقه التاريخي، الذي يكاد يكون أيضا سياق التعديل الثاني لدستور الولايات المتحدة، الذي لا يزال ساريًا، ولكنه لم يعد سياق الكثير من بلدان العالم. في عصرنا هذا، من المفترض أن تعمل أجهزة الشرطة الجيدة التنظيم على تحقيق هدف حماية المواطنين بشكل أفضل بكثير مما قد تفعله لوحدها؛ بشرط، بالطبع، ألا يكون حقهم في استخدام العنف المشروع الذي من المفترض أنهم يحتكرونه بشكل غير قابل للطعن.

ما كتبه بيكاريا يومها، كان متقدمًا جدًا على عصره؛ وربما لذلك، يعتبر اليوم بأنه كان أحد رواد تصور ركائز العدالة التي نعرفها في عصرنا الحالي، أي بعد ثلاثة قرون. بدا كتاب بيكاريا حين صدر بمثابة قنبلة موقوتة، أشعلت نار المفكرين العظماء في ذلك الوقت. تمت ترجمته بسرعة كبيرة في جميع أنحاء أوروبا ولا يزال يشكل حتى اليوم عملًا مرجعيًا لطلاب القانون وحتى للآخرين. إزاء هذا النقد، الذي وجهه إلى تلك الممارسة التي كانت سائدة في عصره، قدم بيكاريا عدة مقترحات للإصلاح، منها: الفصل بين السلطات الدينية والقضائية، وتناسب العقوبات مع الجريمة المرتكبة، وتفضيل المنع بدلًا من القمع.

ومع ذلك، تمّ التخلي عن رؤيته للعدالة جزئيًا: فقد رأى بيكاريا أن الجرائم يجب أن يعاقب عليها وفقًا للضرر الذي تسببت فيه، وليس وفقًا لنيّة الطرف المذنب كما هو الحال اليوم. لقد أراد عقوبة «شخصية» لكل نوع من الجرائم، أما في الوقت الحاضر فإن عقوبة السجن/الغرامة هي التي يتم تطبيقها على الجميع. ينبغي لكل مواطن أن يعرف دائما ما إذا كان يخالف القوانين، وهو ما يجب كتابته «بلغة واضحة وسهلة المنال» : فمن الذي يملك المعرفة الكافية بعشرات الكتب التي تشكل القانون والتي لا ينبغي لأحد أن يتجاهلها؟

وعلى الرغم من أن هذه المقالة (تعيد إصدارها منشورات غارنييه فلاماريون في سلسلة الجيب الخاصة بها) - تحتوي على أفكار وأسئلة لا تزال ذات صلة بعصرنا، إلا أن ثمة سؤالًا لا بد أن نطرحه: هل لا يزال النص شابا، كما كتبه ذلك الشاب يومها؟

من دون أدنى شك، نجد أن هذا النص قد تقدم في السنّ، ومع ذلك، فلا يزال يحتفظ بالقوة والحيوية والعمق. لذا يبدو أن إعادة قراءته أمر ضروري، في وقت نجد فيه أن الكثير من البلدان والحكومات، ترغب في إعادة عقوبة الإعدام، وحيث يريد الناس تحقيق «العدالة» بأنفسهم، ويكونون على استعداد للخلط بين الافتراض والشعور بالذنب، ويعتقدون أن الجميع باستثنائهم يستحقون العقاب والسجن، وتحرم الآخرين من أصغر مقومات الكرامة الإنسانية، وتعتبر أن المحكوم عليه ليس له حقوق، بل إنه ينبغي أن يكون سعيدًا بوجوده في السجن بدلا من رجمه... وهكذا والأفضل... باختصار، قراءتها والتأمل في كل شيء.

نص تأسيسي. للقراءة وإعادة القراءة والمناقشة. بهذا المعنى، يشكل عمل بيكاريا هذا كتابًا كلاسيكيًا في فلسفة القانون الجنائي، علينا فعلا أن نقرأه، وهو بالتأكيد ليس مخصصًا للفقهاء فقط بل ثمة هذا الجانب الإنساني الذي ينبثق من أفكار المؤلف.

كما أن مقدمة روبير بادينتر تستحق القراءة بعناية، إذ يلخص النقاط الأساسية في فكر بيكاريا ويقيم روابط مع أنظمتنا القضائية الحديثة؛ لا سيّما في ظلّ هذه المناقشات الراهنة حول العدالة ووظيفتها وإيديولوجية القضاة، وما إلى ذلك. أليس هذا هو الوقت المناسب لقراءة هذا العمل الشهير، الذي كان له على ما يبدو التأثير الكبير في الجزء الثاني من القرن الثامن عشر على الجمهور المستنير، وحتى على القضاة أنفسهم، وبلا شك في فرنسا أكثر ممّا كانت عليه في بلد المنشأ؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لا یزال من دون

إقرأ أيضاً:

الولاية القضائية العالمية وعدم الافلات من العقاب

أعرب بعض الخبراء القانونيين عن شكوكهم بشأن فعالية الولاية القضائية الدولية في تحقيق العدالة، خصوصًا في ظل عدم تعاون بعض الدول في إفريقيا وأوروبا وآسيا، إلى جانب التنافس بين القوى الكبرى مثل روسيا والصين والولايات المتحدة. وأكدوا أهمية إدماج ميثاق روما في التشريعات الوطنية لتعزيز تنفيذ الاختصاص الجنائي الدولي.
كما أشار الخبراء إلى نجاحات سابقة للولاية القضائية الدولية، حيث تمت محاكمة رؤساء سابقين في إفريقيا وأوروبا بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وأعمال تعذيب وحشية، مما يدل على إمكانية تحقيق العدالة من خلال التنسيق الدولي.

مفهوم الولاية القضائية الدولية
المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان بدر الدين حمزة يوضح أن مفهوم الولاية القضائية الدولية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم حقوق الإنسان كقضية دولية. نشأت حقوق الإنسان بعد نضال طويل لشعوب العالم، وهي مستمدة من فلسفة القانون الطبيعي التي تؤكد على الحقوق الأساسية مثل الحق في الحياة الكريمة، منع التعدي على الممتلكات، حرية الفكر، العقيدة، التنقل، والعمل، وغيرها. هذه الحقوق أصبحت، أو ينبغي أن تكون، محمية عالميًا.

ملاحقة ومحاكمة
يرى حمزة أن الولاية القضائية الدولية تُعد أداة أساسية لضمان منع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وقد تطور هذا المفهوم مع تطور الدول الحديثة التي يُفترض أن تعتمد على نظام عادل ومتوازن يضمن الفصل بين السلطات: التشريعية التي تسن القوانين، التنفيذية التي تخدم مصالح الشعوب، والقضائية التي تضمن تطبيق العدالة بفعالية.

ويشير حمزة إلى أن تطور العلاقات بين الدول ككيانات مستقلة، وما تتطلبه من تبادل المنافع وحماية الأمن والسلام، أدى إلى ضرورة التنسيق الدولي. وبعد الحروب الكبرى والفظائع التي شهدها العالم، برزت الحاجة إلى إطار قانوني دولي يُجرّم الانتهاكات ويُلزم الدول بملاحقة مرتكبيها. وقد تمثل هذا التنسيق في مواثيق الأمم المتحدة التي حددت حقوق الإنسان وفرضت حظرًا على الانتهاكات الجسيمة.

السودان والتطبيقات العالمية
يوضح حمزة أن السودان دخل نطاق تطبيقات الولاية القضائية الدولية بعد الانتهاكات الجسيمة التي شهدتها دارفور بين 2003 و2005. آنذاك، برز القصور في التشريع الجنائي الوطني، مع عجز النظام القضائي عن ملاحقة المشتبه بهم في ارتكاب جرائم مثل الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. أبرز هؤلاء كان عمر البشير، عبد الرحيم محمد حسين، وأحمد محمد هارون.

وأشار إلى أن عدم توقيع السودان على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية لم يمنع إحالة قضايا هؤلاء المتهمين إلى المحكمة عبر مجلس الأمن. وفي محاولة لتجنب المحاكمات الدولية، قام النظام السوداني في عام 2009 بتعديل القانون الجنائي الوطني لتقويض إمكانية ملاحقة المشتبه بهم بموجب الولاية القضائية الدولية.

لكن التعديلات تعارضت مع مبدأ "القانون الأصلح للمتهم"، إذ وقعت الجرائم قبل تعديل القانون، مما جعل محاكمتهم داخليًا غير عادلة وفقًا للمعايير القانونية الدولية، وفتح المجال لإفلاتهم من العقاب. وأكد حمزة أن محاكمتهم في الخارج باتت ضرورة إنسانية لتحقيق العدالة الدولية وإنصاف الضحايا.

القتل الممنهج
بحسب حمزة، فإن تعديل القانون الجنائي السوداني في 2009، مع المواثيق الدولية ذات الصلة، كان أساسًا لتحريك الإجراءات القانونية الدولية ضد البشير وأعوانه على خلفية انتهاكات دارفور (2003-2005). كما فتح المجال للتحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة خلال الحراك الثوري منذ 2018، والحرب الوحشية المستمرة حاليًا.

وذكر أن الجرائم الموثقة، مثل القتل الممنهج للمدنيين، الاغتصاب، التعدي على المناطق السكنية، واستخدام المدنيين كدروع بشرية، تخضع لنطاق القانون الجنائي السوداني (المواد 186-1992). ومع ذلك، فإن عجز الأجهزة القضائية الوطنية عن ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم يجعل المسؤولية تقع على عاتق الولاية القضائية الدولية والشعب السوداني.

دعوة للعمل المشترك
حمزة شدد على أهمية دور المنظمات الحقوقية والقانونية، سواء داخل السودان أو خارجه، في توثيق الانتهاكات، رصد الضحايا والجناة، والضغط المستمر لضمان ملاحقة المتورطين وإنصاف الضحايا. وأكد أن تحقيق العدالة يتطلب تعاونًا دوليًا منسقًا وجهودًا متواصلة لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.

الاختصاص المكاني:
المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان، سمير مكين، يوضح أن مفهوم الولاية القضائية يعني في بعض الحالات أن تمتلك دول معينة، وفق شروط محددة، الحق في النظر في قضايا تتعلق بجرائم ارتكبها متهمون خارج حدودها. هذا المفهوم يعد استثناءً من القاعدة العامة في القانون التي تنص على محاكمة الجاني في مكان وقوع الجريمة. وقد تبنى الفكر القانوني الجنائي الدولي هذا الاستثناء لأسباب تتعلق بتحقيق العدالة، وهو ما تجسد في اتفاقيات دولية مثل اتفاقية مناهضة التعذيب، التي تمنح الدول الموقعة عليها الحق في ملاحقة مرتكبي جرائم التعذيب بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة.

فيما يخص الاختصاص الجنائي الدولي، يشير مكين إلى أن ميثاق روما يمنح الدول الموقعة عليه صلاحية ممارسة هذا الاختصاص على الجرائم التي تندرج ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، يتساءل مكين عن مدى تطبيق هذا المبدأ على الجرائم المرتكبة في السودان، سواء الحالية أو السابقة. ويرى أن ذلك يعتمد على إدراج ميثاق روما في القوانين الوطنية للدول الموقعة، وهو ما يواجه تحديات عدة، أبرزها عدم رغبة بعض الحكومات في تنفيذ التزاماتها، رغم توقيعها ومصادقتها على الميثاق. مثال على ذلك هو تهريب الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، من جنوب إفريقيا، رغم التزاماتها الدولية.

كما يشير مكين إلى أهمية دور منظمات المجتمع المدني في بناء قضايا تستند إلى أدلة واضحة وتحقيقات مهنية تشمل الضحايا والجناة المباشرين والمسؤولين عن الانتهاكات، وذلك وفق مبدأ "مسؤولية القائد". وأكد أهمية التنسيق بين المنظمات الإقليمية والدولية لتحقيق العدالة.

وفيما يتعلق بالسوابق الناجحة، أشار مكين إلى محاكمة الرئيس التشادي الأسبق حسين حبري، ومحاكمة الجنرال أوغستو بينوشيه في إسبانيا، إضافة إلى محاكمات رموز النظام السوري السابق في ألمانيا، المتهمين بارتكاب جرائم تعذيب وقتل خارج إطار القانون.

تقرير: حسين سعد  

مقالات مشابهة

  • عقوبة الخطأ الطبي الذي يؤدي لوفاة المريض وفقا لمشروع قانون المسؤولية الطبية
  • عضو «صحة الشيوخ»: المسؤولية الطبية ضمانة لتحقيق العدالة في المنظومة
  • الولاية القضائية العالمية وعدم الافلات من العقاب
  • لمقدمي الخدمة.. عقوبة جرح المريض وإيذائه بمشروع قانون المسؤولية الطبية
  • غسلا 100 مليون جنيه.. تاجرا عملة يواجهان عقوبة الحبس وغرامة 5 ملايين جنيه
  • غرامة 50 ألف جنيه.. عقوبة منع تسليم شهادة تسجيل السفينة لصاحب حق استعمالها
  • الحبس وغرامة تصل لمليون جنيه.. عقوبة تسيير سفينة غير مسجلة تحت علم مصر
  • الحكومة الأمريكية تقترب من الإغلاق بعد رفض الجمهوريون مشروع قانون الإنفاق الذي يدعمه ترامب
  • احذر.. الحبس سنة عقوبة التلويح بالعنف طبقا للقانون
  • بلا قيود تدعو إيران الى إلغاء قانون العصور الوسطى المخزي الذي يرسخ سلطة النظام الوحشي