بين سلطة الحمار وجشع الفيل
تاريخ النشر: 25th, June 2024 GMT
علي بن سالم كفيتان
كان يَومًا مُمِلًّا بامتياز صَادف آخر أيام إجازة العيد الطويلة؛ فلم ألْمَسُ طوال الأيام التي قبله أي معالم فرح على وجوه معظم الذين قابلتهم؛ بل وجدتُ أُناسًا متجهمين، وإن قابلت أحدهم بالصُّدفة في البقالة أو في المسجد، بالكاد ينطق كلمة "عيدكم مبارك"، في الوقت الذي فِيه الأسواق مفتوحة دون مُتسوِّقين، رغم أنَّ مثل هذه المناسبات في الأعياد الماضية إذا ذهبت وسط المدينة "تتحزَّم زين" وترسم خطة الوصول للهدف؛ من خلال طرق وزقاقات مُلتوية في الحارات المجاورة لشارع المال والأعمال في مدينتنا "شارع السلام".
في هذا العيد، تجوَّلتُ وكأنني الوحيد في هذه المدينة، وما تكاد تُوقف سيارتك، إلَّا ويندفع لها عدد من عمال المحلات عارضين بضاعتهم، بينما كان الوضع في الأعياد السابقة مختلفًا تمامًا؛ حيث لا يحصل على حاجته إلَّا طويل العمر، وعبر زحام وصياح حتى يقذفها لك العامل الآسيوي من بعيد، وما إنْ تلقط غنيمتك حتى تفرَّ بها، وكأنَّك ملكت الدنيا. في هذا العيد، بارت الأسواق وتجهَّمت النفوس والجميع ينتقدون عدم تقديم الراتب قبل حله، فقد بات عصيَّ المنال.
في هذا اليوم الذي ذكرتُه لكم، انطلقتُ للجَبَل المتوشِّح ببياض السُّحب علِّي أجد سلوتي، لكنَّ قطعان الحمير لفتت انتباهي وهم ينزحون الى الشمال بعيدًا عن المطر والضباب.. ومن هنا بدأت حكاية المقال!
رغم شَغَفي بالبيئة والبحث في ظواهرها وتقلباتها التي جعلتْ الحِمَار يعود بقوَّة لبراري ظفار، والغوص في الأسباب والمسببات والحديث المنمَّق بالمصطلحات، أوقفتُ مَركبتي وتمعَّنتُ في المشهد من زاوية أخرى: كيف للحِمار أن يسود ويصبح شعارًا لحزب يقُود أقوى حكومة في العالم، بينما نحنُ نَرَاه كائنًا مُتطفِّلا على بيئة ليست له. ولا أخفيكم إعجابي بصَبْره وجَلَده؛ ففي الوقت الذي تُعلَف فيه الابقار والجمال طوال العام بآلاف الريالات لإبقائها حيَّة، لم أجد في الأعوام الأخيرة حمارًا ماتَ من جوع! ومن ملاحظاتي تغيُّر لونُه؛ ففي وقت القَيظ والقحط يُصبح شاحبًا، لكنَّه يقاوم من أجل البقاء بشكل لافت، لينجو الجميع في النهاية، ويستمتع بأعشاب الخريف القضة الطرية. مُجتمع الحمير هذا له قوانين؛ فنادرًا ما تجد حِمارًا تم دهسه على الشوارع العامة، على نقيض الأبقار والإبل؛ لأنه يمشي بمحاذاة الطريق، وعند العبور، يُمعِن بحذرٍ في الشارع جيدًا.
أتدرُون أنَّ الحمار يُمثل شعارَ الحزب الديمقراطي الحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية؟ وأنَّ هذه الفصيلة هي التي تقود العالم اليوم بكل نَكَباته وكوارثه التي تحدُث في فلسطين!! أنصحكم بالقراءة عن سِر الحمار الأمريكي الذي يحكُم العالم، ولماذا أصبح قاسيًا وظالمًا ومتجبِّرًا؟!
يمتلكُ الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن أيديولوجية مُعادية للعرب ومُؤيدة بشكل متطرف للصهاينة طوال عمره السياسي من حاكم ولاية إلى عضو في مجلس النواب ومن ثم الشيوخ ونائبًا للرئيس، ثم رئيسًا. والمتتبِّع لخطاباته يستغرب قَدْر العداء والحقد الذي يُضمِره هذا الرجل للفلسطينيين، وفي المقابل ولاؤه مُطلق للصهاينة! وأستغربُ ممن يُعوِّل عليه لوقف حرب الإبادة في فلسطين؛ فهو مُتفق تمامًا مع مجرم الحرب نتنياهو، وهو من يمده بالذخائر من المصانع الأمريكية، وإذا تاخرت شحنة بضعة أيام قامت الدنيا ولم تقعد، حتى اتُّهم بايدن بخيانة قسمه وانتمائه للصهاينة؛ فهو -وليس غيره- من يُمطِر الأبرياء بأطنان المتفجرات وآلاف الصواريخ، ومن ثمَّ يتحدث ببلاهة مع الحكام العرب عن أنه مع "حل الدولتين"، في الوقت الذي تستخدم فيه مندوبته الدائمة لدى الأمم المتحدة حق النقض "الفيتو" ضد الاعتراف بدولة فلسطين، التي تعترف بها اليوم أكثر من 150 دولة من أصل 190 تقريبًا.
الحِمَار الأمريكي لم يعُد كحمارنا العربي المسكين المتنقِّل بخَجَل بن الريف والبادية، بعد أن فقد الأمل في بلوغ تخوم المدينة.
إذا سقط الحمار الأمريكي في الانتخابات القادمة، وهو المتوقَّع بشكل كبير، سيأتي الفيل (شعار الحزب الجمهوري) الذي نَقَل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس المحتلة؛ تعبيرًا عن ولائه لبني صهيون؛ فجميعُهم سواء، ولا يُوجد فرق بين الحِمَار والفيل الأمريكيين تجاه العرب وتجاه القضية الفلسطينية، بينما أوروبا ذهبت بعيدًا وأصبحتْ تُنتِج أغلى جبنة من حليب الحمير! والصين تطمَح لطحن كل حمير الأرض وتحويلهم الى كُولاجين، وبعض الدول ترَى في العودة لاستخدام الحمير في التنقل وفاءً أصيلًا بالتزاماتها لمنع الانبعاثات وتقليل حرارة الأرض والتحول نحو الطاقة الصديقة للإنسان!
غابتْ شمسُ ذاك النهار الكئيب رُويدًا رويدًا، وقطيعُ الحمير تلاشَى في الأفق البعيد.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
سلطة رام الله واستكمال الحصار
كان من الطبيعي أن تترافق حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة إثر عملية «طوفان الأقصى» التي قادتها «حماس» في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أن تترافق تلك الحرب مع هجمة على الضفة الغربية، إذ رأت الدولة الصهيونية في العملية المذكورة فرصة ذهبية للانقضاض على الشعب الفلسطيني في الأراضي التي احتلتها عام 1967 بغية استكمال نكبة 1948 فيها.
ذلك أن إسرائيل، لمّا احتلّت تلك الأراضي المتبقية من فلسطين الانتداب البريطاني الواقعة بين النهر والبحر، فوجئت بصمود معظم سكانها فيها ورفضهم الفرار إلى خارج ساحة الحرب بخلاف ما جرى في عام 1948، عندما فرّت أغلبية سكان الأراضي التي استولت عليها القوات الصهيونية، ولم يُسمح لهم بالعودة فتحوّلوا إلى لاجئين.
وقد استوعب سكان الضفة درس تلك التجربة التاريخية المريرة، وكذلك سكان غزة (فضلاً عن أن الشروط الجغرافية ذاتها تجعل من الفرار إلى سيناء مغامرة مجهولة العواقب).
لذا امتنعت إسرائيل عن ضمّ الأراضي المحتلة في عام 1967، باستثناء القدس الشرقية. وقد تداولت الحكومات الصهيونية المتتالية خططاً شتى لتهجير السكان من غزة والضفة سعياً وراء استكمال استيلائها على كامل فلسطين بين النهر والبحر، وذلك بضمّ أراضي 1967 بدون مواجهة معضلة مصير سكانها الأصليين الذين لم يكن وارداً أن يمنحهم الحكم الصهيوني المواطنة الإسرائيلية مثلما منحها للأقلية الفلسطينية التي بقيت في الأراضي المحتلة عام 1948 بما أتاح له ادّعاء الديمقراطية.
بيد أن الحكومة الصهيونية التي أشرفت على حرب 1967 أعدّت أيضاً خطة احتياطية عُرفت باسم الوزير الذي تولّى صياغتها، وهو إيغال آلون، تقضي بالاستيلاء الدائم على مساحات استراتيجية من الأراضي المحتلة، منها غور الأردن، وذلك بنشر قواعد عسكرية ومستوطنات في تلك المساحات، وتسليم المساحات الأخرى ذات كثافة سكانية فلسطينية عالية لوصاية المملكة الهاشمية الأردنية.
وقد قضت الانتفاضة المجيدة في عام 1988 على هذا المشروع، إذ تنصلّت المملكة الهاشمية من مسؤولية إدارة الضفة، بل تخلّت عن المطالبة باسترجاعها بوصفها أرضاً جرى ضمّها إلى المملكة في عام 1949. وهو قرار كان ظاهرياً تنازلاً عند رغبة الفلسطينيين بأن يكون لهم حكمٌ ذاتي، كما كرّسها المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر في ذلك العام، وكان في الحقيقة تعبيراً عن اقتناع المملكة بأن السيطرة على الشعب الفلسطيني في أراضي 1967 باتت مستعصية وخطرة. فإن تسلسل الأحداث ذاك هو ما أقنع حزب العمّال الصهيوني، الذي تصرّف بموجب خطة آلون عندما كان حاكماً، بأن يستبدل المملكة الهاشمية بالقيادة العرفاتية لمنظمة التحرير الفلسطينية بعدما عاد إلى الحكم بقيادة إسحاق رابين في صيف 1992.
كان ذلك هو المدخل إلى مفاوضات أوسلو السرّية، التي خاض فيها ياسر عرفات ومحمود عبّاس وراء ظهر سائر أعضاء القيادة الفلسطينية والتي أفضت إلى الاتفاقيات الشهيرة التي جرى توقيعها في البيت الأبيض، في واشنطن، في أيلول/ سبتمبر 1993.
أما الغاية من تلك الاتفاقيات، فقد كانت جليّة لكلّ من لم يتوّهم بحدوث معجزات مؤدّية إلى «الدولة الفلسطينية المستقلّة» التي بشّر بها عرفات، حيث عمل الحكم الصهيوني على الفور على تصعيد النشاط الاستعماري الاستيطاني في أراضي 1967 وأناط بما سمّي «السلطة الوطنية الفلسطينية» مهمة قمع أي محاولة تمرّد أو مقاومة في صفوف الشعب الفلسطيني. وهي المهمة التي قبلت إسرائيل من أجل تنفيذها بدخول «جيش التحرير الفلسطيني» (المؤلف من لاجئين فلسطينيين) إلى أراضي 1967 وتحوّله إلى جهاز شرطة مزوّد بأسلحة خفيفة، مسؤول عن السيطرة على السكان المحلّيين.
وإذ بدأ تنفيذ اتفاقيات أوسلو بتسليم غزة وأريحا للسلطة الفلسطينية الجديدة في صيف 1994، رأت هذه الأخيرة أن تثبت للمحتلّ قدرتها على لجم شعبها بقمعها الدموي لتظاهرة قادتها «حماس» في غزة في خريف العام ذاته، في حادثة عُرفت باسم «مجزرة مسجد فلسطين»، كانت أبرز فاتحة لسلسلة من الأعمال القمعية نفّذتها قوات الأمن التابعة للسلطة، ضد الحركات الإسلامية بوجه خاص.
والحقيقة أنه لا يمكن أن تقوم بجوار الدولة الصهيونية وبرضاها «سلطة وطنية فلسطينية»، بل فقط سلطة تابعة للمحتلّ على غرار حكومة فيشي التي تولّت إدارة ذلك القسم من الأراضي الفرنسية الذي لم تحتلّه ألمانيا النازية مباشرة في عام 1940. وهو التشبيه الذي أجراه إدوارد سعيد في نقده الشهير لاتفاقيات أوسلو، وقد أثار غيظ القيادة العرفاتية إلى حدّ تحريم كتابات أشهر المفكرين الفلسطينيين في الأراضي التي أشرفت عليها.
وقد تأكدت حقيقة التشبيه الذي أقامه سعيد، غير أن ياسر عرفات أبى أن يستمر في لعب دور الماريشال فيليب بيتان، القائد العسكري الذي ترأس حكومة فيشي، بعد أن فطن أن حلمه بالدولة المستقلة كان وهماً ليس إلّا، وأدرك حقيقة المرامي الصهيونية ولو بتأخر كبير. وقد قاد انتفاضة الأقصى بدءاً من خريف عام 2000، الأمر الذي أدّى إلى هلاكه بعد أربع سنوات.
وبينما كانت لدى غالبية الشعب الفلسطيني أوهامٌ عند الإعلان عن اتفاقيات أوسلو والبدء بتنفيذها، لا سيما بسبب المجد التاريخي الشخصي الذي تمتّع به ياسر عرفات، تبدّدت هذه الأوهام كلياً بعد خلافة محمود عبّاس لعرفات. وقد غدا الفساد والقمع ملازمين لسلطة رام الله إلى حد خسارة «فتح» لانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في عام 2006.
والباقي معروف: فوز «حماس» بالانتخابات، ثم المحاولة التي قادها محمد دحلان في القطاع لإقصاء الحركة في عام 2007، وقد منيت بالفشل، لكنّها أدّت إلى انقسام أراضي 1967 بين سلطتين فلسطينيتين متخاصمتين، سلطة محمود عبّاس في الضفة وسلطة «حماس» في القطاع.
وها أن مشهداً مخزياً يدور تحت أنظارنا في الضفة منذ استكمال السنة الأولى من حرب الإبادة الصهيونية الجارية على غزة، أي منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. فقد شنت قوات الاحتلال الصهيوني أعنف هجوم في الضفة منذ قمع انتفاضة الأقصى قبل أكثر من عشرين عاماً.
فمثلما جرى في خريف 1994، شنّت «السلطة الفلسطينية» هجوماً دموياً على الفصائل الشبابية المسلّحة، بدأ في مدينة طوباس، ثم بلغ ذروته في الهجوم على مخيّم جنين حاضن «كتيبة جنين» المقاوِمة للاحتلال الإسرائيلي.
وفي رغبتها إقناع الولايات المتحدة وإسرائيل بقدرتها السيطرة على زمام الأمور، ذهبت سلطة رام الله إلى حدّ أنها، وهي تخوض حرباً على مخيم جنين، قرّرت منع قناة «الجزيرة» في أراضيها. ونحتار إزاء ذلك المشهد الصادم بين الامتعاض من السلطة، وبين السخرية من توهّمها في إقناع دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو بقدرتها على أن تقوم بلعب دور حرس السجن الكبير الذي يودّون أن يحصروا فيه من تبقّى من سكان الضفة والقطاع.
القدس العربي