نيكولاس ميركوفيتش يكتب: خطط جهنمية (2).. واشنطن نشرت جيشًا من المنظمات غير الحكومية قبل انهيار الاتحاد السوفيتى
تاريخ النشر: 6th, August 2023 GMT
تم التخطيط لثورة الميدان الأوروبى وتمويلها وتنفيذها بمساعدة المنظمات غير الحكومية الممولة من الولايات المتحدة ولم تنتظر واشنطن التى تريد إبعاد روسيا عن أوروبا لم تنتظرنهاية الجمهورية الاشتراكية السوفياتية حتى تتدخل فى الشئون الداخلية الأوكرانية.
كما نشرت واشنطن قبل سقوط الاتحاد السوفيتى جيشًا من المنظمات غير الحكومية كانت فى الواقع آلات للإطاحة بالحكومات وتحويل المجتمعات؛ البعض منها كان يتلقى تمويلًا مباشرًا من حكومة الولايات المتحدة بينما يتمتع البعض الآخر بالاستقلال المالى ويقومون بنقل نفس الخطاب الأطلسى.
جورج سوروس هو ملياردير أمريكى من أصل مجرى وهو تقدمى منخرط فى القضايا الاجتماعية والسياسية من خلال مؤسسة open society الخاصة به إضافة إلى أنه يتبع نفس الموجة ونفس التردد للسياسة الخارجية والاجتماعية الأمريكية.
وقبل سقوط الشيوعية فى عام ١٩٩٠ أسس مؤسسة النهضة الدولية (IRF) فى جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية وهى جزء مؤسسة أوبن سوسايتى open society، وتعتمد الولايات المتحدة على شبكات وموارد سوروس المالية للتأثير على المشهد السياسى فى الدول الأجنبية مثل كولومبيا والمملكة المتحدة وفرنسا ونيجيريا والعديد من البلدان الأخرى.
وتعبر مؤسسته «open society» هى أكبر ممول فى العالم للمنظمات غير الحكومية والجمعيات التى تعمل من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان والعدالة والديمقراطية.. و«قام هذا الناشط العالمى بتمويل مجموعات صغيرة فى جميع أنحاء الاتحاد السوفيتى السابق لدرجة أن جورج سوروس نفسه قال إنه «ان اتحاد سوروس سوف يحل محل الاتحاد السوفيتي».
فى عام ٢٠٢٣ أعلن صندوق IRF بدعم أكثر من ٩٠٠٠ مشروع فى أوكرانيا لمدة ٢٩ عامًا بميزانية رسمية تزيد على ٢٣٠ مليون دولار. من بين مشروعات سوروس فى أوكرانيا يبرز من بين أمور أخرى إنشاء ميديا اتلانتيست (Unian) وهو اتحاد للصحفيين ومركز تدريب المعلمين وراديو أطلنطى (راديو Hromadske) أو مركز دعم للجنود الذين شاركوا فى الحرب منذ عام ٢٠١٤.
لا يخفى IRF تورط أعضائه فى الضغط لصالح مختلف القوانين التى تم تمريرها بواسطة Rada الأوكرانية. وفى ندوة نظمتها جمعية آسيا عام ٢٠١٥ تباهى سوروس بأنه كرس معظم وقته لأوكرانيا إذ قامت مؤسسته بمرافقة أعضاء الحكومة الجديدة عقب انقلاب ٢٠١٤.
وفى لقاء له يتحدث عن نشاطه فى بلاد أوروبا الشرقية، قال: » إن أكبر نشاط لى كان فى أوكرانيا حيث توجد أوكرانيا الجديدة التى تريد أن تكون جزءًا من الاتحاد الأوروبى.. لقد كان بعض المسئولين فى الحكومة والمجتمع المدنى على اتصال بالمؤسسة». وفى وثيقة سرية تم تسريبها عام ٢٠١٥ بعنوان «مسودة غير رسمية / الإصدار ١٤ استراتيجية شاملة قصيرة ومتوسطة المدى لأوكرانيا الجديدة».
أوضح جورج سوروس أنه يجب العمل على استقرار أوكرانيا لتشجيع الاستثمار، وفى نفس الوقت دعا لإعادة تسليح أوكرانيا. واقر سوروس بأن فلاديمير بوتين يريد تهدئة عسكرية وأن اتفاقيات مينسك ٢ للسلام ستساعد بوتين على تحقيق أهدافه. وبدلًا من المصالحة والسلام اوصى سوروس بأن يكون لأوكرانيا «أولوية دفاعية» واقترح بأن يقوم حلفاء «أوكرانيا الجديدة» بمساعدة الجيش الأوكرانى على استعادة قدرته القتالية.
كما طالب الملياردير الأمريكى من الجنرال الأمريكى السابق ويسلى كلارك (القائد الأعلى لقوات الناتو أثناء الهجوم غير الشرعى على يوغوسلافيا عام ١٩٩٩ والشريك التجارى لسوروس فى شركة بترول bnk) والجنرال البولندى فالديمار Skrzypczak وبعض المتخصصين تحت رعاية المجلس الأطلسى (مركز أبحاث أطلنطي) طالب بأن يقوم كل هؤلاء بنصح الرئيس بوروشنكو باستعادة القدرة القتالية لأوكرانيا دون انتهاك اتفاقيات مينسك.
وإضافة إلى كل ذلك، طالب جورج سوروس بتفعيل دور مجلس الإصلاح الوطنى (NRC)، الذى يضم الإدارة الرئاسية ومجلس الوزراء وRada ولجانها وكذلك المجتمع المدنى. تقول إحدى الوثائق إن NRC يحدد الأولويات التشريعية وأن الرئيس ورئيس الوزراء يعملان معًا لتمرير مشاريع القوانين فى البرلمان الأوكرانى.
تذكر وثيقة سوروس بأن IRF وهو الفرع الأوكرانى لمؤسسة سوروس قام بتمويل ١٠٠٪ من NRC وبذلك فان ONG منظمة غير حكومية أمريكية لها علاقات وثيقة مع الحكومة الأمريكية وهى التى تحدد الأولويات التشريعية لـ «أوكرانيا الجديدة» بعد ٢٠١٤. ومن بين الإصلاحات الاقتصادية التى اقترحها سوروس إعادة تنظيم مؤسسة الطاقة Naftogaz.
كما أوصى أن يلعب الاتحاد الأوروبى وصندوق النقد الدولى دورًا رئيسيًا فى الدعم المالى لأوكرانيا. تكاد الولايات المتحدة تتخفى من مسئوليتها عن تنظيم الثورة الملونة والانقلاب وعن توجيه النظام الأوكرانى الجديد عن بعد الذى أقاموه بأنفسهم. عندما سأل الصحفى البريطانى شون والكر الملياردير سوروس عن أكثر المشاريع التى يفتخر بها: «انه التقدم السياسى غير المكتمل والواعد الذى تم إحرازه فى أوكرانيا فقد دعمت مؤسستى مجموعة واسعة من برامج المجتمع المدنى على مدى عقود».
كان التدخل الأمريكى فى أوكرانيا حتى قبل سقوط الشيوعية يهدف إلى تعزيز ظهور نخبة سياسية معارضة للروس والأوكرانيين المتعاطفين مع روسيا والذين تعتبرهم واشنطن منافسًا لها فى القارة الأوروبية. ان استراتيجية إعادة الهيكلة الاجتماعية التى تقوم بها المنظمات غير الحكومية هى السمة المميزة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.
فبفضل مساعدة العديد من المنظمات غير الحكومية مثل NED أو USAid أو American Enterprise Institute أوOPEN SOCIETY التابعة لجورج سوروس، استطاع الأطلسيون دعم وتمويل انقلاب كييف ٢٠١٤. وقد أعلن جورج فريدمان مدير مركز ستراتفور للدراسات الأمنية (التى يشبهها البعض بالفناء الخلفى لوكالة المخابرات المركزية) إن الإطاحة بالحكومة الشرعية لأوكرانيا هى «أفظع انقلاب فى التاريخ».
وقد قاد هذا الانقلاب الأطلسى الأوكرانيين إلى حرب أهلية تحولت إلى صراع دولى ذلك أن المنظمات غير الحكومية الأمريكية وحلفاءها لم يجلبوا السلام والديمقراطية إلى أوكرانيا ولكن الحرب والخراب. وفى الحقيقة، يعمل الأوكرانيون كوقود للمدافع فى صراع أدارته الولايات المتحدة وأثارته للقضاء على منافس محتمل فى القارة الأوروبية.
ولا شك أن تدخل واشنطن فى شئون الدول ذات السيادة هو السبب المباشر للثورات والحروب الأهلية التى تسبب مئات الآلاف من القتلى فى العالم.. إنه بالفعل عمل غير قانونى طبقا لبنود ميثاق الأمم المتحدة وللأسف وحتى هذه اللحظة فإن واشنطن تبدو فوق القانون الدولي!
معلومات عن الكاتب:
نيكولا ميركوفيتش.. محلل فرنسى متخصص فى العلاقات بين شرق وغرب أوروبا والولايات المتحدة. مؤلف كتاب يتناول العلاقات المتضاربة بين الولايات المتحدة وأوروبا بعنوان «إمبراطوريات أمريكا». له أيضًا كتابان عن البلقان: «مرحبًا بك فى كوسوفو» و«استشهاد كوسوفو».. يؤصل، فى هذا المقال، لتاريخ النازية التى تأسست فى النمسا منذ عام 1929، إلى أن تمددت فى أوكرانيا عام 1941.. يستكمل ما بدأه الأسبوع الماضى حول دور المنظمات غير الحكومية الأمريكية فى التغلغل داخل أوكرانيا وإعدادها للحرب منذ تسعينيات القرن الماضى.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: المنظمات غير الحكومية الولايات المتحدة الولایات المتحدة أوکرانیا الجدیدة
إقرأ أيضاً:
محمود مرزوق يكتب: الخواجة جرانجر وسرقة التاريخ
عندما بدأت الثورة الصناعية فى أوروبا كانت صناعة النسيج هى أبرز الصناعات التى أنتجتها هذه الثورة الفاصلة فى التاريخ الحديث.
وفى هذه الأثناء كانت فرنسا وإنجلترا فى حالة تنافس محموم بغية النهوض بصناعة المنسوجات ومن ثم الاستغناء عن الاستيراد من الهند وحواضر الشرق الأوسط مثل القاهرة وحلب وديار بكر والانتقال لمرحلة الإنتاج والاكتفاء الذاتى والتصدير، لكن هذا الطموح كان يواجه عقبة كبيرة تتمثل فى التقنيات المصاحبة لعملية التصنيع، وتحديداً عملية صباغة المنسوجات، فكانت فرنسا تضطر لإرسال أقمشتها لتُصبغ فى هولندا ثم تكتمل عملية تصنيعها فى فرنسا من جديد.
وبدأ الفرنسيون يفكرون فى إيجاد طريقة اقتصادية لتلوين أقمشتهم ومنسوجاتهم تسهم فى النهضة بمشروعهم الصناعى الناشئ، غير أن محاولاتهم لم تُكلل بالنجاح، فبدأوا جولة جديدة من التجسس الصناعى بعدما تواترت لديهم معلومات تؤكد أن أفضل ما يمكنهم فعله هو اقتباس التقنية المصرية فى تبييض وصبغ الأقمشة والمنسوجات، وقد كانت مصر وصُناعها لديهم خبرة متراكمة عبر الزمن فى معالجة الألوان واستنباط الجديد والطريف والمركَّب منها بدراية هائلة وخبرة تناقلوها من عصور ما قبل الأسرات.
وفى الوقت الذى كانت تتطلع فيه فرنسا لطرف خيط يسهم فى نجاح صبغ وتبييض الأقمشة كانت القاهرة تعج بطوائف الصُناع المهرة المدربين على التقنيات التقليدية فى صبغ المنسوجات، فكانت هناك طائفة الصباغين بالأحمر وطائفة البصمجية الموكلين بوضع الألوان الزاهية المتداخلة على الأقمشة.
اقتضى نظام طوائف الحرفيين آنذاك أن تكون الطائفة مغلقة على نفسها ولا تسمح إطلاقاً بوجود دخلاء على المهنة ومن يمارس المهنة دون تصريح من شيخ الطائفة يُعرِّض نفسه للمساءلة القانونية أمام المحاكم الشرعية، والتى كانت تحكم بالقانون الداخلى لكل طائفة.
ولضمان الجودة ومنع التنافسية كانت أسرار الصنعة حكراً على كل طائفة، وهو ما ضمن ربحاً كبيراً للطائفة التى لا ينافسها أحد وتحتكر أسرار الصنعة، غير أن القائمين على صناعة النسيج فى فرنسا كانوا يتطلعون لإنجاح تجربتهم الخاصة بصنع النسيج، وكانت الحلقة المفقودة التى يبحثون عنها هى تقنية إنتاج ملح النوشادر، وهى مادة كيميائية يتم إنتاجها بطريقة تقليدية وتسهم فى ثبات الألوان واستمرارها زاهية فترة طويلة بعد الصباغة والاستعمال، وهنا قرر الفرنسيون استخدام مهارتهم فى التجسس الصناعى فأرسلوا قناصل وتجاراً ورهباناً بهدف جمع معلومات عن تقنية صناعة ملح النوشادر، وجاء النجاح واقتناص المعلومات على يد طبيب يُدعى جرانجر تنكَّر فى زى رجل عربى وبدأ التجول حول ورش صناعة هذه المادة الكيمائية بغية تحصيل أى معلومات تكشف له سر الصنعة، إلى أن سنحت الفرصة عندما فقد الوعى فجأة أحد صُناع ورش ملح النوشادر، وهنا اندس جرانجر وسط الجموع التى تحاول إسعاف الرجل ونجح فى علاجه بحكم عمله كطبيب، وأثناء جلسة ودية أعقبت إسعاف المريض انحلت عقدة لسان معلمى الملح وتباسطوا مع الخواجة جرانجر وشرحوا له من الألف للياء طريقتهم السرية فى تحضير ملح النوشادر، وبسرعة البرق أرسل جرانجر ما تراكم لديه من معلومات ثمينة لفرنسا فاعتبروا ذلك نصراً كبيراً وعلقوا: «الناجحون هم الذين لا تشيع أسرارهم»، وهكذا فقدت مصر أحد أوجه تميزها وتفردها بفعل خديعة أتقنها الخواجة جرانجر.
هذه الواقعة وغيرها من وقائع كثيرة تُعد حلقة من حلقات ممتدة لسياسات الاستيلاء الثقافى التى شملت سرقة الأفكار والآثار، وتؤكد أن لحظة الاصطدام بالغرب وقت الحملة الفرنسية ما هى إلا لحظة مهمة ولكنها ليست فريدة.
* كاتب وباحث فى الآثار المصرية