#مبتدأ_وخبر د. #هاشم_غرايبه
المبتدأ: كان سامي أفندي مدير الدائرة شخصا مرموقا، فرغم أنه موظف من ذوي الدخل المحدود، إلا أنه كان ميسور الحال، فهو يملك سيارة فارهة وله أكثر من شقة، لكن من الصعب إخفاء سر ذلك، إذ أنه كان يكسب الكثير من وراء (الإكراميات) التي كان يتقاضاها جراء انجاز معاملات المواطنين، وكان من لا يدفع تتعقد معاملته أو تضيع أو تحول الى جهات بعيدة، لذلك كان الكثيرون يدفعون صاغرين.
كانت كلمة السر أن جعل إتمام المعاملة منوطا بأن يحولها الموظف المختص إليه لأجل أخذ الموافقة، وعندما يدخل المراجع الى مكتبه يستقبله هاشا باشا، وينظر في هيئته وهندامه، فإن وجده مليئا يقول للحاجب “وزع شكولاته وطعمينا”، فيناوله حبة وللمدير حبة، ويأخذ منه المعاملة، مخبرا إياه أن يعود بعد يومين لاستلامها، ثم يرافقه خارجا ويهمس في أذنه: إن كنت مستعجلا سأعطيها الأولوية وتستلمها الآن، فيفهم المراجع ثمن ذلك ويدفع المعلوم.
الخبر: منذ وجدت الدول القطرية العربية، كان من أهم الوسائل لإفشالها وجعل اقتصاداتها مرتهنة بالمساعدات والقروض، أن تم إضعاف وسائل الانتاج وتقليص دور القطاع الخاص فيها، فجعلت الوظيفة المدنية المطلب الأسمى للباحثين عن العمل، فتوسع الجهاز الإداري المدني وترهل ليلبي الطلبات المتزايدة سنويا، رغم أن مساهمته في الدخل القومي منعدمة تماما، بل يحمّل الخزينة نفقات رواتب الموظفين من غير تحقيق عائد انتاجي، وليس كالمصانع مثلا التي انتاجها والدخل المتحقق من بيعه أضعاف كلف العاملين فيه.
وفي سبيل تحقيق الغاية المرجوة من أنظمة سايكس بيكو، وهي الإفقار والعجز لدوام الاقتراض وبالتالي الخضوع لإملاءات المقرضين الغربيين السياسية والاجتماعية، لمنع الاستقلال الاقتصادي المؤدي الى التحرر والنهضة، في سبيل ذلك تم نشر الفساد وتعميمه على أوسع نطاق، ولحمايته مجتمعيا تم نشر مفاهيم أعطت للسطو على المال العام مسميات ملطفة مثل “بركة اليد” أو “الفهلوة” أو يسمون البارع فيها “كسّيب”.
لذلك تعممت ثقافة “وزع شكولاته وطعمينا” على جميع القطاعات، وشملت جميع المناصب في الدولة.. حتى أرفعها، كما تجاوزت القطاع العام لتشمل القطاع الخاص.
ففي قطاع شركات الاتصال التي تحقق أرباحا هائلة، يفترض بالدولة أن تشكل هيئة للرقابة عليها حتى لا يتعرض المواطنون الى الابتزاز كون هذه الخدمة غدت من ضرورات الحياة، لكن هذه الهيئة فعليا هي تحمي هذه الشركات.
وقد توصلت شخصيا الى هذا الاستنتاج من تجربة تعرضت فيها لغبن واضح من إحداها، ولم يستجيبوا لاعتراضي، فقدمت شكوى الى الهيئة، وبعد عدة مراجعات أفادوا أنهم لا يملكون مساعدتي، وعلي أن أرضخ.
التفسير واضح، فعندما نجد رفعا لأسعار بعض الخدمات بين الحين والآخر ومن غير اعلان رسمي من أجهزة الدولة المختصة، وتسكت الحكومة عن ذلك، فالتفسير الوحيد هو أن هنالك من استفاد من “وزع شكولاته وطعمينا”، فسكت لأن له حصة.
المصيبة أن الأمر توسع ليشمل قطاعات كنا نظنها ستبقى نظيفة من هذه الآفة، فقد بلغني أن شخصا أعرفه أصابه دوار ووقع عندما سمع بوفاة عزيز عليه، فهرع أهله به الى احدى المستشفيات الخاصة، وهنالك جرى تنفيع أكثر من اختصاصي بالكشف عليه وأبقوه عدة أيام بحجة المراقبة، وخلالها اخضعوه بلا داع لفحوص على جميع الأجهزة العالية الكلفة، وبالطبع لم يجدوا شيئا، لكن كانت فاتورته 16 ألف دينار، ولم يكتفوا بذلك بل حولوه الى مستشفى باهظ التكاليف في عمان لتنفيعة أخرى بحجة أنهم يشكّون في وجود جرثومة، ولم يجدها هذا المستشفى أيضا، لكن فاتورته كانت 29 ألفا أخرى.
بالطبع لن يستفيد المغبونون من مثل تلك الاعمال من تقديم شكوى، فكل ما حصل مغطى بإجراءات قانونية والحجة أنها تمت بموافقة المريض الخطية، فيستغل المستشفى أن صاحب الحاجة أرعن، ويوافق على فعل أي شيء إذا أوهم أن حياته في خطر، لهذا ينجو الفهلوية دائما لأن هنالك من “وزع شكولاته وطعمينا”.
هكذا يتبين لنا أنه لأن القوانين الوضعية يضعها من يملكون الشكولاته، فهي لتخدمهم لا لتدينهم، وليست لحماية من يدعونهم بالمغفلين، الذين هم ليسوا أغبياء، إنما بسطاء لا حول لهم برد كيد الأقوياء المتنفذين.
لذلك لا يمكن تحقيق العدالة والصلاح إلا بتطبيق منهج الله الذي يحمي الجميع على السواء.
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
مبتدأ وخبر
#مبتدأ_وخبر
د. #هاشم_غرايبه
المبتدأ: كنا طلاب الصف الرابع الإبتدائي نزيد على الأربعين، وبالكاد كانت تتسع لنا الغرفة، ولما ترفعنا الى الخامس وجدنا أن عشرة بقوا فيه (ذلك أنه لم يكن النجاح تلقائيا تلك الأيام)، فأصبح عددنا خمسين، ولا تتسع لنا أكبر غرفة في المدرسة، لذا لابد أن ننقسم الى شعبتين، ويبدو أن المدير قسمنا بحيث يراعي التوازن في الأسماء حسب تسلسل الحروف الهجائية، وليس مستوى التحصيل، فتصادف أن كل العشرة الأوائل نقلوا الى الشعبة (ب).
ولما ظهرت النتائج الفصلية، كان الأول في شعبة (أ) هو من الطلبة المتوسطي التحصيل، ومعدله كان 72 ، وهكذا خلصه حظه من منافسيه، فنال مرتبة لم يحلم بها.
صحيح أن مستوى تحصيله لم يتغير، لكنه اعتبر الأول على شعبته، مثله مثل الأول على شعبة (أ) الذي كان معدله 92، والأدهى من ذلك أنه بات في مرتبة متقدمة عن الثاني في شعبة (أ) رغم أن ذاك كان معدله 90 .
الخبر: المعروف أن الدول العربية جميعها تأسست في بدايات القرن العشرين، ليس عن قرار من شعوبها، ولا بعد نضالهم للتحرر من دولة مستعمرة، وإنما بقرار من شخصين هما سايكس وبيكو.
كان المستعمرون الأوروبيون متوجسين من ردة فعل الشعوب العربية على خطتهم لتفتيت الدولة الإسلامية التي ظلت اثني عشر قرنا متوحدة في دولة واحدة، لذلك حاولوا اسباغ هالة من الوطنية على الحكام الذين اختاروهم، وشجعهم في ذلك نجاحهم بتقديم أتاتورك كبطل نجح في تحرير “إزمير” من الإحتلال اليوناني عام 1922 في مسرحية من ترتيب بريطانيا، وبذلك جرى ترقيته ليصبح قائد الجيش فرئيس الجمهورية الجديدة.
كرروا هذه المسرحيات في أغلب الدول العربية المنشأة حديثا، لكن بسناريوهات متعددة، والتي قسموها الى شعبتين: الشعبة (أ) اختاروا أن يكون نظامها جمهوريا، فدبروا في بعضها انقلابات عسكرية أسموها ثورات، مع أن الثورة لا تكون إلا بثوران الشعب على من يحكمه، والحالة الوحيدة في تاريخ العرب كانت عام 2011، لذلك كل تلك (الثورات) لم يعلم بها الشعب الا بعد صدور بيان مجلس قيادة الثورة، وسواء أن زعيم الإنقلاب اختاره الغرب، وبعد أن علمنه وصهينه، انتدبه لهذه المهمة (الوطنية!)، أو أنهم اكتشفوا مواهبه فتبنوه وأزالوا العقبات من أمامه وأحاطوه (بالمستشارين!)، والذي هم (شلّة) من المخترقين، ائتلفت وتعارفت في السهرات، يحملون أوسمة لإنجازات وهمية، اوعلى صدورهم نياشين تقديرا لانتصارات في معارك لم يخوضوها.
أما الشعبة (ب) فجعلوا نظامها ملكيا أو أميريا، واختاروا لكل دولة عائلة تتوارث الحكم، وفي ما عدا ذلك فالمنهاج المطبق في الشعبتين ذاته، وأبلت الأنظمة في كلتي الشعبتين حسنا في الإلتزام بكل تعليمات المُوجّه الأعلى، لينالوا رضىاه، فيأمنوا استبدالهم، فرضي عمن أدائهم وأوقف الإنقلابات في الشعبة (أ)، وسمح بتوريث السلطة فيها أيضا، طالما أن الجيل الثاني ملتزم بالمتطلبين الأساسيين: العلمنة والصهينة.
لذلك ففي كلتي الشعبتين، كان الأداء السلوكي مرضيا للمدير، فلم يتأخر أي نظام عن أداء المهام الموكولة إليها، بل كان التفوق فيها سمتها العامة، سواء كانت في منع الإسلام من الوصول للحكم لمنع أية فرصة لعودة الدولة الإسلامية الموحِّدة للأمة، أو إجهاض أية فكرة لمهاجمة الكيان اللقيط، بل حراسة حدوده بيقظة تامة، وحمايته من أي إزعاج، والتنكيل بكل من يدعو الى تحرير فلسطين.
لذلك كانت الشهادة المدرسية، وللجميع وفي الشعبتين، مذيلة في نهايتها بتقييم موحد: حسن السلوك، منضبط، مؤدب، وملتزم بالتعليمات تمام الإلتزام.
لكن المشكلة في علامات المباحث.
فقد اعتاد تلاميذ شعبة (أ) على التفاخر بأنهم المتفوقون فهم التقدميون والوطنيون، فيما يرمون شعبة (ب) بالتخلف والرجعية…لكن الإمتحانات أثبتت أن المجموعتين مقصرتان في جميع المباحث، ولم يحقق أي منهم علامة النجاح، ولم يكن الذين يدّعون الذكاء والمفهومية في شعبة (أ)، أفلح من شعبة (ب)، فقد كانت علامات المجموعتين في كل المباحث: الزراعة، والصناعة، والتجارة، والإقتصاد، ومكافحة الفساد، وتقليص البطالة، وتحقيق السلم المجتمعي، والحريات العامة، والتعليم، والبحث العلمي…جميعها: راسب!.
مصيبة أهالي التلاميذ أنهم صبرواعليهم قرنا كاملا وهم يعيدون الفصل الدراسي مرة بعد مرة، لكنهم سواء كانوا في شعبة واحدة أم في شعبتين .. فالنتيجة ذاتها: لم ينجح أحد!.