شارل دو بلوندان يكتب: يوجين فرانسوا فيدوك.. من «ماضى إجرامى» إلى رئاسة لواء باريس الأمنى !
تاريخ النشر: 6th, August 2023 GMT
أعفى عنه ملك فرنسا لويس الثامن عشر وأعاد إليه حقوقه المدنية رسميًا.. واستغل ثروته التى اكتسبها بطريقة مريبة.. وأنشأ مصنعًا للورق وفى عام 1832.. تم استدعاؤه لقيادة اللواء الأمنى
يوجين فرانسوا فيدوك هو جندى فرنسى مغامر منحرف بشكل خاص.. بصفته مجرما ذكيا أدانه القانون وبعد ذلك رأس فرقة الأمن لمدينة باريس قبل أن يؤسس مكتب التحريات الخاصة الذى يمتلكه.
ليس من الغريب أن يكون للحياة نصيبها من المفاجآت؛ فالقيام بوظائف وأعمال تختلف عن بعضها البعض بشكل جذرى ويفصل بينها بضع سنوات يمكن أن يكون لذلك تأثير الخاص به! قبل كل شيء من يعرف عالم الجريمة أفضل من المجرم نفسه؟ هناك شعرة ما بين الحب والكراهية من جهة والصديق والعدو من جهة أخرى. ومع ذلك، فإن موضوع حرق أرشيف وثائق وسجلات مقر شرطة باريس إحراقه فى تلك الفترة يجعل مسألة فصل الحقيقة عن الباطل أمرا صعبا للغاية، وبالتالى يمكن إضفاء الطابع الرومانسى على مذكرات فيدوك الحقيقية.
شباب متحمس
ولد فيدوك فى ٢٤ يوليو ١٧٧٥ فى أراس ونشأ فى عائلة من الطبقة المتوسطة الدنيا. كان الشاب فيدوك فتى ماكرا ومشاكسا وغير منضبط استطاع أن يجتذب إعجاب الشباب من حوله وأصبح لصًا واستولى على أدوات المائدة الفضية الخاصة بوالديه وقادته جريمته الأولى إلى الحبس الاحتياطى مع الأحداث. ثم بدأ مرة أخرى بعد بضع سنوات وغادر فى سن السادسة عشرة فى اتجاه بلجيكا بهدف الوصول إلى الولايات المتحدة، ولكن لاحقه الواقع القاسى ووجد نفسه مجردًا من كل الأموال التى سرقها ثم تمكن من العثور على عمل مع عدد قليل من التجار قبل أن يعود أخيرًا إلى أراس لمتابعة العيش مع والديه.
من مجرم إلى مخبر شرطة
سعى للحصول على موافقة والده للتجنيد فى الجيش. اشترك فى معركة Valmy ومعركة Jemappes قبل طرده أخيرًا من فوجه بسبب سلوكه. تزوج عام ١٧٩٤ لكنه ترك زوجته بعد أن سرق كل مدخراتها وعاش حياة المحتالين فى شمال فرنسا. تم إلقاء القبض عليه عن عمر يناهز ٢١عاما وحكم عليه فى عام ١٧٩٦ بالسخرة لمدة ٨ سنوات إذ وجهت إليه تهمة «التزوير فى الأوراق الرسمية». حبس فى سجن برست وتمكن من الفرار بعد محاولتين فاشلتين. تم القبض عليه بعد عامين وأرسل إلى سجن طولون حيث هرب منه بعد بضعة أشهر، مما سمح له باكتساب سمعة وسط المسجونين.
اعتقل مرة أخرى فى عام ١٨٠٩ وحاول تعديل عقوبته. ثم قرر مساعدة الشرطة بالابلاغ عن المتورطين خاصة فى سجنى بيستر ولافورس. فى عام ١٨١١ استطاع أن يقنع الشرطة بتوظيفه فى لواء الأمن الجديد المكون من مدانين سابقين. مهمتهم؟ التسلل إلى البيئة المعادية من المحكوم عليهم ومنع أى عمل غير قانونى. على الرغم من أن نتائج هذا اللواء ممتازة إلا أن جنوح بعض أعضائه أضر بسمعة الشرطة. تم الزج بفيدوف إلى رأس هذه الوحدة التى قام بقيادتها بيد من حديد. نجاحاته المتعددة منحته الكثير من المعجبين بقدر ما أكسبته من المنتقدين. كما أن نتائجه ونجاحاته أثارت غيرة عددًا من ضباط الشرطة.
من شرطى إلى محقق
على الرغم من عمله فى الشرطة منذ عام ١٨١١ إلا أن ملك فرنسا لويس الثامن عشر لم يعف عنه إلا عام ١٨١٨ وأعاد إليه حقوقه المدنية رسميًا. ولكن حياة الشرطة صعبة، وأعداءه فى كل مكان سواء كانوا من عالم الجريمة السفلى أو فى دوائر القوة والسطوة. فى عام ١٨٢٧ وبعد فضيحة استقال واستغل ثروته التى اكتسبها بطريقة مريبة كما يدعى منتقدوه وأنشأ مصنعًا للورق فى عام ١٨٣٢، تم استدعاؤه لقيادة اللواء الأمنى لكنه استقال بعد بضعة أشهر واتهم بالمسئولية عن القمع الجمهورى من خلال استخدام العصابات لتخويف أعداء الدولة؛ فلم يعد الحاكم يرغب فى «ضبط اللصوص باللصوص القدامي».
عاد إلى الحياة المدنية وأسس شركة تحقيقات خاصة تهدف إلى تزويد عملائه بمعلومات اقتصادية فى قضايا الميراث والاختفاء والزنا والاحتيال مع سير العمل بشكل جيد شارك فيدوك فى الحياة الاجتماعية ولكن لسوء حظه فإن قضايا الاحتيال لاحقته. فى عام ١٨٣٧ اضطر إلى إغلاق مشروعه وسجن لمدة عام.
وأخيرا.. سافر إلى لندن فى عام ١٨٤٥ لعقد مؤتمرات ولعرض إبداعاته خاصة اختراعه للورق المقاوم للتلف وبعد ذلك عاد إلى فرنسا وعاد فيدوك إلى جهاز المخابرات فى عام ١٨٤٨ بعد الثورة.. أصيب بالكوليرا فى عام ١٨٥٤ وتوفى يوجين فرانسوا فيدوك فى شقته فى باريس فى ١١ مايو ١٨٥٧ بعد أن أصيب بالشلل فى ساقيه.
معلومات عن الكاتب:
شارل دو بلوندان.. تخرج فى كلية إدارة الأعمال الكبرى، وعمل مستشارًا فى القضايا الاقتصادية.. بعد استكشاف الشرق الأوسط والعيش فى الأردن لدراسة اللغة العربية، قرر تأسيس شركة Billet de France الإعلامية فى عام 2019، والتى يرأس تحريرها. وكتب العديد من التقارير الرئيسية عن الأوضاع فى أرمينيا وموريتانيا وأوكرانيا وغيرها من الدول.. يكتب عن جندى فرنسى له ماضٍ إجرامى قبل أن يصبح رئيسًا للوحدة الأمنية فى باريس.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: فى عام
إقرأ أيضاً:
د. عبدالله الغذامي يكتب: الفكر تحت سلطة الحرف
ذكر عباس محمود العقاد قصةً عن لجنة حكومية انتظمت في مصر لاختيار نشيدٍ وطني، وعرضوا عليهم بضعة نصوص غفلاً من الأسماء ليختاروا واحداً منها يرونه الأقوى في تمثيل مجد مصر، وظهر على رئيس الجلسة أنه يجر الحديث باتجاه نصٍ محدد، ولكن العقاد كان مع نص آخر أقوى في شعريته وفي تمثله للقيم الوطنية المصرية، وراح العقاد يبين عوار ذلك النص المفضل لرئيس اللجنة، وكان الأعضاء يميلون لموقف العقاد، وحين اشتد النقاش وتوتر، صرخ رئيس اللجنة وقال: هذا النص لأحمد شوقي، مما جعل الأعضاء كلهم يغيرون رأيهم لمصلحة نص شوقي، وتم لهم ذلك رغم غضب العقاد واعتراضه.
وهذه القصة تبين مدى تأثير الذاكرة البشرية على قرارات الناس، وكل شخصيةٍ تحتل الذاكرة فإنها تتحول لقيمةٍ مركزية تتغلب على كل القيم الأخرى، حتى قيم الحق وقيم العلمية وقيم الواقعية، وللاسم قوته في فرض قيمته على الاستقبال وعلى القرارات إذا ما كان اسماً مترسخاً في الذاكرة العامة.
وحول ذلك كنت في نقاش مع ناشر مصري في مطلع حياتي الثقافية، وسألته عن فن اختيار أغلفة الكتب فقال لي هناك ثلاثة خيارات:
إن كان المؤلف اسماً مهماً جعلنا اسمه بحرف كبير ويتصدر وجه الغلاف، وإن لم يكن اسماً ضارباً نظرنا في الموضوع، فإن كان لافتاً ومغرياً ركزنا عليه وكبرنا حجمه، فإن لا هذا ولاذاك.. فزي بعضه.
وفي زمن التدوين المبكر في الثقافة العربية كان سوق المربد في البصرة، وكانت تتصدره الأسماء الكبرى في ذاكرة الثقافة من الجاهليين الذين أصبحوا فحول الثقافة، لدرجة أن الانتحال لا ينجح إلا إذا استخدم اسم شاعرٍ فحل أو شعرٍ عن قبيلة لها ذاكرةٌ مترسخة مثل قبيلة بني عذرة، حيث يروج أي شعر في الحب إذا ما انتسب لعذري، بل أصبحت عبارة الشعر العذري مصطلحاً شعرياً ونقدياً.
وفي زمننا هذا احتلت العلامات التجارية صدارة الانتشار في غلاء الثمن وهيمنة السوق.
وفكرياً كان الجاحظ يضع أسماء مشاهير على كتبه المبكرة كي تحظى بالقبول بما أن اسمه في البدء لم يكن ذا بال. وهذه صورة لقوة الحرف في توجيه المسارات، والاسم ليس سوى حرف (حروف) منطوق أو مكتوب، ولكنه يتحول لسلطةٍ معنوية وقيمية.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض