قضية التحول الديمقراطي في السودان (1/4)
تاريخ النشر: 25th, June 2024 GMT
صديق الزيلعي
أحد أهداف هذه الحرب هو الوصول للسلطة وقطع الطريق على أهداف ثورة ديسمبر في التحول الديمقراطي. صراعنا من أجل انهاء الحرب، يجب ان يعطل حوارنا حول مستقبل بلادنا، وضرورة إقامة ديمقراطية راسخة. ذكرني قوقل بهذه المقالات التي نشرتها في 21و 22 و23و 24 يونيو 2020. أعيد نشرها لفتح الحوار حول المستقبل.
مقال 21 يونيو 2020
شهد التاريخ المعاصر عدة تجارب لتحول أنظمة شمولية إلى أنظمة ديمقراطية تعددية، وتوفرت كتابات نظرية، متعددة المشارب، حول تلك التجارب. وأطلق عليها عدة مسميات واوصاف كالموجة الثالثة من الديمقراطية، وعصر الشعوب، ونهاية التاريخ الخ. وما يميز أيا من تلك التجارب هو سمات التطور السياسي للبلد المعين، وتوازن القوي الداخلي، وموقف الشعب من النظام، بالإضافة لقوة أو ضعف تأثير العوامل الخارجية. كما ان شكل التحول الديمقراطي يعتمد على طريقه تحققه: هل تم بواسطة ثورة شعبية، ام من خلال مساومة بين أطراف من النظام القديم مع قوى التغيير، ام قام النظام القديم بتغيير جلده ولبس قناع ديمقراطي. وشهدت عدة اقطار، خلال العقود الماضية، عمليات تحول ديمقراطي. وكأمثلة في أفريقيا: جنوب أفريقيا، في أمريكا اللاتينية: شيلي، في آسيا: إندونيسيا، في أوربا: نظام فرانكو في اسبانيا. وتجارب مماثلة في بلدان اخري إضافة الى التحولات العاصفة التي حدثت في شرق أوربا ثم انهيار الاتحاد السوفيتي. دونما إغفال لخصائص وتفرد كل تجربة من تلك التجارب، ما كان للتحول نحو الديمقراطية أن يتبلور كإمكانية نظرية ثم يتحول الى واقع سياسي، لولا توفر شروط وعوامل موضوعية وذاتية معينة منها: فشل النظام القديم في الحكم واستحكام ازماته، فشل كل محاولات النظام لإجراء مصالحات او حوارات شكلية مع المعارضة، اقتناع الجماهير الشعبية باستحالة استمرار النظام القديم، اقتناع أطراف داخل النظام بانه من المستحيل إصلاحه، حينها يتم التغيير بثورة شعبية او مصالحة تشمل بعض أطراف النظام السابق.
ان عملية التحول الديمقراطي الحقيقية، هي عملية معقدة بمعني انها تتطلب تحولات أبعد من مجرد تغيير وحيد، في آليات الحكم القديم لجعله أكثر تمثيلا. وانما تستلزم تغييرات مجتمعية شاملة وحقيقية على مختلف الأصعدة البنيوية والأطر التشريعية، للترسيخ لثقافة الديمقراطية ومؤسساتها وممارساتها وأساليب عملها.
وفي السودان لدينا تجارب متنوعة، تضيف لخبرتنا السياسية، من حيث التعلم منها، للأبحار خلال موجات صراعات وتناقضات وتحديات فترات الانتقال الديمقراطي، وتشعب قضاياها وتعقدها، وتحولات مزاج الجماهير من التطلعات العالية ما بين الرغبة والحماس لتغيير سريع، والغضب واليأس من بطء التغيير. مرت بلادنا بأكثر من تجربة للتحول الديمقراطي، مما يملكنا ذخيرة حقيقية للاستفادة منها في مواجهة تحديات الانتقال وفي انجاز التجربة الحالية للتحول الديمقراطي. ورغم اختلاف ثورة ديسمبر عن ثورة أكتوبر وانتفاضة ابريل في عدة نواحي، الا ان ما واجه بلادنا منذ ما بعد الاستقلال، ثم ما بعد أكتوبر، واخيرا ما بعد انتفاضة ابريل له قيمته، كدروس يمكن التعلم منها لكيلا نكرر أخطاء الماضي.
نال الاستاذ إسماعيل الازهري وحزبه اغلبية مقاعد اول مجلس نواب لسودان لما بعد الاستقلال. وكان من الطبيعي ان يمنح صاحب الأغلبية الحق الطبيعي في ان يحكم. ولكن تحركت الصراعات الحزبية والشخصية، وتم لقاء بين السيد عبد الرحمن المهدي والسيد على الميرغني أو ما عرف تاريخيا بلقاء السيدين. أدى اللقاء لأسقاط حكومة الازهري واستبدالها بحكومة تحت الوصاية الكاملة للسيدين. وتبخرت الفرصة التاريخية لإنجاز مهام الاستقلال ووضع البنيات الصلدة للتحول الديمقراطي من دولة تابعة لدولة ديمقراطية. وتستمر المماحكات والصراعات لتنتهي بتسليم عبد الله الحكومة للجيش. وكانت هذه احدى كوارث بلادنا بإقحام الجيش في السياسة، ومن ثم انفراده الكامل بالسلطة، التي استمراها وذاق ثمراتها وقرر الا يتخلى عنها حتى اليوم.
هزت ثورة أكتوبر ساكن الحياة في بلادنا وخلقت وعيا ديمقراطيا طاغيا جعل من الصعب امام كافة القوى السياسية تجاهل الرغبات الاكيدة لجماهير الشعب السوداني في التغيير السياسي والاجتماعي. كما ابرزت الثورة نفوذا جديدا للقوى الحديثة. ورفعت الجماهير شعار " لا زعامة للقدامى" تعبيرا عن محاولات الانعتاق من القوى المحافظة، واستشرافا لواقع جديد. ورغم ان ميثاق أكتوبر ببنوده المعروفة شكل برنامجا لحكومة الثورة، الا ان القوى الحزبية لم تقبل بنفوذ القوى الحديثة التي قادت الثورة، فأسقطت حكومة سر الختم الأولى، وشكلت حكومة تشكل القوى المحافظة اغلبيتها الساحقة.
أجريت في 1965، أول انتخابات بعد ثورة أكتوبر، بدون مشاركة الجنوب لعدم استتباب السلام به، في خطوة اتسمت بقصر النظر وبالتعجل للوصول للسلطة. وتم تشكيل الحكومة من الحزبين الكبيرين اللذين لم يتعلما دروس الماضي، وواصلا صراعاتهما، رغم الشراكة في الحكومة. ورغم أهمية السلام الا ان مؤتمر المائدة المستديرة قد انتهى لفشل ذريع. وبدا الصراع حول الرئاسة مبكرا بتعديل رئاسة مجلس السيادة الدورية، لتكون دائمة للسيد اسماعيل الازهري. من الجانب الآخر صار الامام الهادي المهدي يعد نفسه لانتخابات رئاسة الجمهورية. واستمرت الخلافات فانقسم حزب الامة. وظهرت التنظيمات الإقليمية، في الغرب والشرق، تعبيرا عن رفض مبكر للتهميش. وضاقت الأحزاب التقليدية بالديمقراطية فقررت حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية. كما رفضت الحكومة قرارات المحكمة حول حل الحزب الشيوعي. وفشلت محاولات كتابة دستور دائم للبلاد. وهكذا تبخرت كل أحلام شعب أكتوبر في ديمقراطية مستدامة وحياة سياسية متقدمة ونزيهة. وأجريت انتخابات 1968 التي لم تنتج تغييرا جذريا في ميزان القوى بين الحزبين الكبيرين، ولا في ممارساتهما ومماحكتاهما السياسية. وهكذا ضاعت اهداف ثورة أكتوبر، و"عادت حليمة لقديمها".
استولى انقلاب مايو 1969 على السلطة، وهدم التجربة الديمقراطية الثانية، وكان الانقلاب أكبر أخطاء اليسار. اتخذت مقاومة انقلاب مايو اشكالا مختلفة، ولم تتوقف المواجهات بين المعارضة والنظام. وما يهمنا هنا هي قضية التحول الديمقراطي. فالانقلاب أصدر الامر الجمهوري الرابع وفيه عقوبة الإعدام لكل نشاط معارض أو اضراب. ومضت مايو في الخط الناصري وادعاءات الديمقراطية الشعبية. وكانت مناقشات ما سمي بالتنظيم الشعبي مثالا للتلبس الكاذب بالديمقراطية وادعاء المشاركة الشعبية اسما لا فعلا. ودشن فشل انقلاب يوليو 1971 الجمهورية الرئاسية وحكم الفرد، الذي أعطاه الدستور كل السلطات. وعندما شعر النظام بعزلته بدأ في العمل لتوسيع قاعدته الجماهيرية. فقد طرح النظام في عام 1977 دعوة للمصالحة الوطنية من اجل " لم الشمل وتضميد الجراح وحماية الوطن من التمزق والتدخل الخارجي". ولم تكن مصالحة وطنية شاملة، بل مثال كلاسيكي على سعي النظام الحاكم لألحاق المعارضة به. وتعامل الترابي معها بخبث حيث لبى احتياج نميري لتوسيع قاعدة نظامه، ولكنه عمل لبناء نفوذ تنظيمه في الجيش والاقتصاد خاصة البنوك. من الجانب الشعبي لم تتوقف مقاومة النقابات وتواصلت اضراباتها، والتي شملت حتى القضاة. وأخيرا نجحت النقابات في تصعيد نشاطها وشكلت التجمع النقابي كمركز قائد للمعارضة.
سقطت مايو في 6 ابريل 1985 عندما قاد التجمع النقابي جماهير شعبنا في انتفاضة مجيدة، دعمها نجاح صغار الضباط في إلزام قيادة الجيش الرسمية على الانحياز للشعب. ولكن قيادة الجيش الرسمية ، سعت بكل السبل، لفرض نفسها كبديل لنميري تحت اسم المجلس العسكري الانتقالي. بعد تفاوض مع التجمع تم الاتفاق على تقاسم السلطة بين المجلس العسكري ومحلس الوزراء، ولكن المجلس العسكري نال سلطات تشريعية أكبر. نلاحظ تكرار نفس السيناريو بعد ثورة ديسمبر 2018 بإصرار قيادة اللجنة الأمنية على وراثة البشير.
نجح المجلس العسكري الانتقالي في تعطيل بل افراغ شعارات ومطالب الانتفاضة. فلم يتقدم بشجاعة لإنهاء الحرب الاهلية، واغفل تصفية آثار مايو الاقتصادية والتشريعية خاصة قوانين سبتمبر، وفرض قانون مشوه للانتخابات، رفض فيه بشدة تخصيص دوائر للقوى الحديثة وهي القوى التي حققت الانتفاضة. ونسق مواقفه مع قيادة الجبهة الإسلامية، ووضعها في كفة مساوية لكافة قوى الانتفاضة. واستفاد من الخلافات الحزبية ليسيطر على كامل الموقف السياسي في البلاد.
دخل شعبنا المرحلة الديمقراطية الثالثة وهو يحمل الآمال العراض. ولكنه صدم بالتخلي عن كل الشعارات. وكمثال قوانين سبتمبر التي وصفت بانها لا تساوي الورق الذي كتبت فيه، تركت كما هي. وازداد الوضع الاقتصادي والمعيشي سوءا، مما أدى لموجة من الإضرابات. وكانت انتفاضة السكر 1988 مظهرا للإحباط الذي أصاب الجماهير. وأصبحت الجبهة الإسلامية تغازل الجيش علنا، وتواصل نشاطها داخله بلا خوف. وصارت قضية السلام لعبة سياسية بين الأحزاب، وعندما تمت الاتفاقية التاريخية بين الميرغني وقرنق تحولت لأداة في الصراع السياسي. وكانت مذكرة الجيش مظهرا واضحا لتدني الروح المعنوية داخله. وزاد الطين بلة النشاط المنظم لإعلام الجبهة الإسلامية لنسف كامل التجربة الديمقراطية. وهكذا انجز الاخوان انقلابهم الذي كان مكشوفا، وساعدته الحكومة التي كانت تراقب ما يحدث ولا تتحرك.
هذه عرض سريع ومختصر جدا لضياع فرص التحول الديمقراطي في بلادنا. ضاعت الفرصة الذهبية الاولي بعد الاستقلال حيث نال حزب الازهري الأغلبية (هي اول وآخر مرة ينال حزب سوداني اغلبية النواب)، ولكن التشاحن الحزبي ادي لإسقاطه. وجاءت أكتوبر بكل شعاراتها ولكن سر الختم الخليفة أسقط حكومته بنفسه، بدون علم الوزراء، وسلمها للأحزاب التقليدية. وتكرر نفس السيناريو بعد الانتفاضة برفض المجلس العسكري قيام حكومة مدنية حقيقية. الآن نواجه نفس التحدي لإنجاز تحول ديمقراطي حقيقي، في ظل نفوذ طاغي للعسكر في السياسة القومية.
فهل ننجح هذه المرة بعد التجارب المرة التي مررنا بها؟ هذا هو التحدي الحقيقي الذي يجابهنا جميعا وهو ما سأناقشه في الحلقات القادمة.
siddigelzailaee@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التحول الدیمقراطی المجلس العسکری النظام القدیم ثورة أکتوبر ما بعد
إقرأ أيضاً:
في ذكراه الـ 155 كيف كان دور لينين في الثورة الروسية؟
في ذكراه الـ 155 كيف كان دور لينين في الثورة الروسية؟
تاج السر عثمان بابو
1
تمر الذكرى الـ 155 لميلاد لينين الذي كان في 22 أبريل 1870 الذي لعب دورا كبيرا في ثورة اكتوبر الاشتراكية الروسية.
الواقع أنه لا يمكن عزل سيرة لينين عن الثورة الروسية التي كانت من أهم أحداث القرن العشرين، مثل الثورة الفرنسية التي كانت من أهم أحداث القرن الثامن عشر، كما يقول ماركس: الثورات قاطرة التاريخ، فقد كانت الثورتان الفرنسية والروسية من أهم معالم التحول في التاريخ الإنساني.
في الثورة الفرنسية كانت الشعارات: حقوق الإنسان- الإخاء- المساواة.
في الثورة الروسية كانت الشعارات: السلام- الحرية- الخبز.
وهى شعارات مازالت حية رغم هزيمة الثورة الفرنسية وعودة الملكية، وعودة الرأسمالية البشعة التي أفقرت الشعب الروسي ونهبت ثرواته وهربتها للخارج، وأدت للحرب المدمرة الجارية حاليا في اوكرانيا.
معلوم أنه سبق ثورة 1917 الروسية ثورات استفاد البلاشفة من تجاربها مثل: الثورة الفرنسية 1789، ثورات 1848 العمالية في أوروبا، كومونة باريس 1871 في فرنسا، ثورة تحرير الرقيق في روسيا 1861، ثورة 1905 في روسيا التي وصفها لينين بأنها كانت “البروفة” لثورة 1917.
كانت الثورة تتيجة لتراكم كمي للمقاومة ضد النظام القيصرى المستبد منذ ثورة تحرير الرقيق “الأقنان” 1861، وثورة 1905، واضرابات العمال وانتفاضات الفلاحين والمسيرات المظاهرات السلمية التي تم قمعها بوحشية مثل: أحداث “الأحد الدامى”، وثورة فبراير 1917 التي أنهت الحكم القيصري، وتم تكوين الحكومة البورجوازية المؤقتة حتى ثورة أكتوبر 1917.
توفرت ظروف موضوعية لاندلاع الثورة يمكن تلخيصها في الآتي:-
– الظروف القاسية بسبب الحرب العالمية الأولى التي مضى عليها ثلاث سنوات.
– جند النظام القيصري 15 مليون روسي في الحرب مما أدى لنقص الأيدي العاملة في الزراعة ونقص الحبوب والمجاعة.
– ديون روسيا الخارجية التي بلغت 13,5 مليار روبل، منها 8 مليار روبل لبريطانيا وفرنسا وأمريكا.
– الاعتماد على رأس المال الأجنبي أدى لفقدان روسيا سيادتها الوطنية.
– الملايين من الروس ماتوا في الحرب.
– انهارت الصناعة والزراعة وقطاع النقل.
– مصادرة الحريات الديمقراطية.
– كان الرأسماليون وتجار الحروب يجنون أرباحا طائلة من الحرب، وليس لهم مصلحة في وقفها.
تلك هى الظروف الموضوعية التي أدت لنشوب الثورة باعتبارها كانت المخرج الوحيد.
2
– كما توفرت ظروف ذاتية تمثلت في: الدرجة العالية من التنظيم في المصانع والمكاتب والحقول والثكنات العسكرية وفي المؤسسات التعليمية، التي لعب فيها البلاشفة دورا كبيرا، والتنظيمات القاعدية للمقاومة والتي تم تتويجها بتكوين سوفيتات العمال والفلاحين والجنود، إضافة لاستمرار إضرابات العمال وانتفاضات الفلاحين والجنود، ونزولهم للشارع في الإضراب العام، حتى تم تتويج ذلك بالإطاحة بالنظام القيصري في ثورة 27 فبراير 1917، تحت شعار الثورة الذي لخصه لينين في: السلام- الخبز- الحرية.
– استولت البورجوازية على السلطة وشكلت الحكومة المؤقتة..
– فشلت الحكومة المؤقتة في وقف الحرب، ولم تلب مطالب الشعب، واستمرت المجاعة وموت الالاف في الحرب والخراب الاقتصادي.
– كتب لينين “موضوعات نيسان- أبريل” التي طرح فيها تحويل الثورة الديمقراطية الى ثورة اشتراكية، ومواصلة النضال ضد الحكومة المؤقتة البورجوازية واسقاطها بسبب عجزها وفشلها، ونقل كل السلطة لمجالس السوفيتات، وتغيير اسم الحزب من الاشتراكي الديمقراطي الى “الشيوعي”. واعتمدت اللجنة المركزية هذا الخط بعد مناقشة واسعة.
– كان خط البلاشفة حتى يوليو 1917 هو مواصلة النضال السلمي الجماهيري وكسب الأغلبية ديمقراطيا في السوفيتات ونقل السلطة لها، ولكن بعد القمع الوحشي للمسيرات السلمية في يوليو 1917 والقمع الوحشي للبلاشفة الذين كانوا منحازين للجماهير وفي قلبها، مما اكسبهم تأييدها، وأدى لاكتساح البلاشفة السوفيتات في 31 أغسطس 1917.
– بعد اشتداد القمع الوحشي تحول البلاشفة الى الانتفاضة المسلحة.
– في سبتمبر وأكتوبر شارك أكثر من مليون عامل في الإضراب العام بجميع أنحاء روسيا، وسيطر العمال على الإنتاج والتوزيع.
– في 10 أكتوبر 1917 صوتت غالبية اللجنة المركزية للبلاشفة للانتفاضة المسلحة.
– في 16 أكتوبر 1917 تم إنشاء اللجنة العسكرية الثورية للانتفاضة، وتم وضع الخطة المحكمة لنجاح الانتفاضة.
– في 25 أكتوبر 1917 بالتقويم الروسي القديم السائد يومئذ “الموافق 7 نوفمبر1917″، تمكنت قوات البلاشفة من الاستيلاء على السلطة.
– بالاستيلاء على السلطة تم تأميم البنوك والصناعات الكبيرة، وتحقيق شعار الأرض للفلاحين بمصادرة الملكيات الكبيرة لأغنياء المزارعين “الكولاك”، ووقف الحرب.
– نجحت الثورة بعد أن توفرت الشروط التي حددها لينين في مقاله “الماركسية والانتفاضة” الذي اعتبر الانتفاضة فنا، واعتمادها على طبقة العمال والفلاحين والجنود، ووصول التناقضات داخل الطبقة الحاكمة الى قمتها. وعجز الطبقة الحاكمة عن قمع الانتفاضة، وواكب ذلك نهوض جماهيري وجيش ثوري دافع عن الانتفاضة حتى النهاية، ووجود القيادة الثورية التي حددت البديل للنظام القائم. والاستيلاء على السلطة في الوقت المناسب والدقيق حسب عبارة لينين “أمس مبكر غدا متأخر، بل اليوم”.
– تلك هي القواعد التي أكدتها تجربة ثورة أكتوبر السودانية في 1964.
– الثورة الروسية كانت ملحمة جماهيرية حقا، عكسها الصحفي الأمريكي بشكل رائع في مؤلفه “عشرة أيام هزت العالم”.
3
كل ما سبق لا ينفصل عن النضال السياسي والنظري الذي خاضه البلاشفة ضد التيارات اليمينية التي دافعت عن التطور الرأسمالي باعتباره أسبقية، تجلى ذلك في مؤلفات لينين مثل:-
تطور الرأسمالية في روسيا 1899 الذي توصل فيه لينين الي أن روسيا دخلت مرحلة التطور الرأسمالي وتفككت المشاعية وبرزت زراعة المحاصيل النقدية، وتطورت ونشأت الصناعات وبرزت طبقة عاملة، وغير ذلك من السمات والخصائص التي ميزت التطور الرأسمالي في روسيا.
مؤلف لينين “ما العمل؟” 1901، الذي أوضح فيه لينين طبيعة الحزب من النوع الجديد الذي يقوم علي مبدأ المركزية الديمقراطية التي تقوم على الحرية الواسعة في النقاش مع الالتزام برأي الأغلبية ، وشروط العضوية التي تستند على قبول البرنامج والدستور وتسديد الاشتراكات والعمل في إحدى الهيئات، وطبيعة الحزب الطبقية الذي يستند علي الطبقة العاملة، إضافة لاستناد الحزب علي النظرية الماركسية ، باعتبار لاحركة ثورية بدون نظرية ثورية، والصراع ضد تيارات “ العفوية” و “ الاقتصاديوية” التي تحبس نضال الطبقة العاملة في النضال الاقتصادي فقط ، بدلا من النضال السياسي لتحرير المجتمع بأسره من كل أشكال الاضطهاد الطبقي والاثني والديني والقومي.الخ.
مؤلف لينين “ المادية والمذهب النقدي التجريبي 1908 ” الذي تصدي فيه لينين للهجوم علي الماركسية ومنهجها الديالكتيكي المادي بعد القمع الوحشي الذي تعرض له البلاشفة بعد هزيمة ثورة 1905 ، والتطورات الجديدة في العلوم الطبيعية بعد اكتشاف الالكترونات ومكونات الذرة الأخرى، واكتشاف النظرية النسبية ، وتوصل بعض الفلاسفة والعلماء مثل : ماخ، الخ إلي تلاشى المادة، دافع لينين عن الديالكتيك المادي ،وقدم مفهوما أوسع للمادة بأنها الواقع الموضوعي المستقل عنا، وأن أشكال المادة تتنوع، وإن ما تلاشى هو المفهوم القديم للمادة، وأوضح أن الحقيقة المطلقة هي المجموع اللانهائي للحقائق النسبية، وأنه لايمكن الفصل بين المادة والحركة والمكان والزمان، وكانت مساهمة لينين تطويرا للمادية الفلسفية في ظروف الاكتشافات العلمية الجديدة.
ساهم لينين في دراسة ظاهرة الامبريالية أو المرحلة الجديدة من الرأسمالية في مؤلفه “ الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية 1916” والذي درس فيه المتغيرات في الرأسمالية ، وتصدير الأموال للخارج، والصراع بين الدول الرأسمالية لاقتسام ونهب موارد بلدان المستعمرات والحروب كشرط ملازم للمرحلة الجديدة من الرأسمالية.
ساهم لينين في تطوير التاكتيكات استنادا للتحليل الملموس للواقع الملموس، وأشار إلي أن النظرية رمادية والواقع أخضر ، وأن الماركسية ليست عقيدة جامدة بل منهج للعمل، كماأو ضح في مؤلفات : “ تاكتيكان للاشتراكية الديمقراطية.الخ”، “ موضوعات نيسان” ، “ مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”. الخ.
كما أشار إلي أنه لاحركة ثورية بدون نظرية ثورية ، وأن دراسة الماركسية تعني دراسة الثقافة الإنسانية ، ودراسة واقع وخصائص وسمات كل بلد.
لاشك أن الصراع في كل الجبهات السياسية والاقتصادية والنظرية أسهم في وضوح خط البلاشفة السياسي والفكري ، وكان له الأثر الحاسم في نجاحهم في الوصول للسلطة.
4
ماهي منجزات ثورة أكتوبر؟
كانت ثورة أكتوبر متسقة مع شعاراتها ، وعدت وأنجزت الآتي:-
أنهت ويلات ومآسي الحرب العالمية الأولي بتوقيع معاهدة صلح “ بريست – ليتوفسك” مع المانيا .
وفرت إحتياجات الجماهير الكادحة الأساسية في التعليم والصحة والسكن والعمل ومحو الأمية ، وحماية الأمومة والطفولة والشيخوخة، وطورت الثقافة والفنون والموسيقي والرياضة.
حررت شعوب روسيا من الإضطهاد القومي علي أساس المساواة وحق تقرير المصير بما في ذلك حق الإنفصال وتكوين الدولة المستقلة في ظروف حرية الارادة والديمقراطية، وحق كل قومية في تطوير لغتها وثقافتها الخاصة.
ساهمت في تحرير شعوب المستعمرات من النير الاستعماري، وكشفت المعاهدات السرية مثل: معاهدة “ سايكس – بيكو” التي تم بموجبها تقسيم العالم العربي الي مناطق نفوذ وانتداب ، كما ساهمت في اندلاع ثورات المستعمرات في : الهند والصين ومصر وفيتنام والعراق وسوريا والسودان “ ثورة 1924”، والتي كانت تطالب بالاستقلال.
نقلت روسيا من دولة متخلفة إلي دولة صناعية متقدمة ، وكانت أول دولة في العالم استخدمت الطاقة الذرية لأغراض سلمية ، وتمت “كهربة” روسيا حسب شعار لينين “ الشيوعية تعني كهربة روسيا”، وكانت أول دولة تطلق الصواريخ العابرة للقارات ، وأول من بدأ غزو الفضاء ، وكان نجاح القمر الصناعي الأول “ سبوتنك” حافزا لأمريكا للاهتمام بالبحث العلمي وتطوير نظامها التعليمي، كما طورت علوم الرياضيات والفيزياء.
حفظت روسيا التوازن العالمي ، وغلت يد أمريكا عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخري “ مثال : العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956 الذي قامت به بريطانيا وفرنسا واسرائيل.
ساهمت بفعالية في تحرير البشرية من البربرية النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية. بعد الحرب العالمية الثانية ، تحررت شعوب المستعمرات من النير الاستعماري، وقامت الثورات الاشتراكية في بلدان شرق اوربا ، والصين وفيتنام وكوبا وكوريا ، ونهضت حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتقدمة وحققت مكاسب كثيرة بأثر الثورة الروسية مثل : الحق في التعليم والصحة والضمان الاجتماعي.. الخ.
أعطت المرأة حقوقها التي انتزعتها بنضالها الفعال في الثورة مثل: الحق في الأجر المتساوي للعمل المتساوي ، وحق الترشيح والانتخاب ، وحق الطلاق .الخ.
أكدت إمكانية التنمية المستقلة عن مسار الفلك الرأسمالي والسيادة الوطنية لأكثر من 74 عاما ، ونجحت خلال ثلاثين عاما في أن تصبح دولة صناعية متطورة.
5
دروس التجربة الروسية:-
عندما نتحدث عن أسباب تقويض التجربة الاشتراكية والارتداد للرأسمالية ، يمكن الاشارة إلي العوامل التالية-
– عوامل موضوعية يمكن تلخيصها في الآتي :-
التدخل الخارجي: في الفترة من 1918 حتى أواخر 1922 ، تدخلت قوات المانية ونمساوية ومجرية وأمريكية وايطالية ويابانية. الخ، والتي قدمت عونا مباشرا للقوى المعادية والحرس الأبيض لاسقاط النظام. ولكن صمدت روسيا في أحلك سنوات التدخل الخارجي ، إضافة للحصار الاقتصادي الذي فرضته الدول الرأسمالية علي روسيا.
بالتالى ، فأن روسيا أنجزت مهمة التصنيع واللحاق بركب الدول الصناعية المتقدمة بتكلفة إنسانية باهظة ، وفي ظروف حصار وحرب أهلية. فضلا عن الحرب العالمية الثانية التي فقد فيها الاتحاد السوفيتي ملايين الشهداء من القوى الحية المنتجة ، وتدمير ثلثي المدن الروسية والمصانع، والجهد الكبير الذي بذله الاتحاد السوفيتي بعد الحرب لإعادة البناء والتعمير.
فرض سباق التسلح الذي أنهك الاقتصاد السوفيتي، خاصة بعد إعلان أمريكا برنامج حرب النجوم ، إضافة للمساعدات العسكرية التي كان يقدمها لبلدان حلف وارسو وللدول الأخرى ، والمساعدات الاقتصادية والتعليمية والعلاجية لبلدان العالم الثالث التي كانت على حساب سلع الاستهلاك، والتكلفة الباهظة لتدخل الاتحاد السوفيتي في حرب افغانستان.
من الأسباب أيضا ظروف روسيا التاريخية التي كانت متخلفة ، 70% اميين، ووجود تقاليد عبادة القيصر والايقونات، وشهدت روسيا الثورة الصناعية بداية القرن العشرين.
– أسباب ذاتية أو داخلية يمكن تلخيصها في الآتي: –
محاولة القفز فوق المراحل في البداية ، باعلان سياسة شيوعية الحرب التي أنهكت الفلاحين والشعب ، رغم منجزاتها في توفير مقومات الصمود بوضع كل العائدات في يد الدوله ، مما أدى للتراجع في النهاية وإعلان الدولة السياسة الاقتصادية الجديدة “ النيب” التي وفرت حافزا للمزارعين ، وأدت إلى تحسين الاقتصاد .
تمّ إ غلاق باب التعددية السياسية بمحاولة الاشتراكيين الثوريين لاغتيال لينين ، مما أدى لمأزق الحزب الواحد الذي كان يحذر منه لينين ويتخوف من تسلل البيروقراطية الضارة بمسيرة الحزب والثورة، وتحول المأزق الي تجربة. بالتالى غابت التعددية السياسية جراء فرض نظام شمولي بعد وفاة لينين ، تميز بالحزب الواحد ، وتم ربط المؤسسات التشريعية بالدولة والحزب والنقابات والاتحادات بالدولة، في حين كان لينين يشدد علي استقلال الحزب والنقابات والسوفيتات عن الدولة ، وكفالة حق الإضراب للعاملين، مما أدى لغياب الرقابه.
إضافة للصراعات داخل السلطة والحزب الحاكم وسيطرة حكم الأمن والمخابرات والذي أدى لفقدان وابعاد عدد كبير من الكوادر الشيوعية المخلصة، ونتج عن ذلك التفسخ والفساد في جهاز الدولة، وظهرت فئات رأسمالية فاسدة أثرت من ممتلكات الدولة، والتي لعبت دورا كبيرا فيما بعد في تفكيك وانهبار النظام السوفيتي ونهب ثرواته وتهريبها خارج البلاد.
السياسة الخاطئة تجاه الأديان ، بجعل الالحاد سياسة رسمية للدولة ، في حين أن ماركس وانجلز كانا يركزان على حرية العقيدة ، وأن الدولة للجميع غض النظر عن الدين أو المعتقدات السياسية أو الفلسفية، وأن المسائل التي تتعلق بحرية الضمير لاتحل بقرارات ، وانما تركها للتطور الطبيعي” راجع نقد برنامج غوتا – لماركس”.
أخطاء ومشاكل اقتصادية مثل : تغليب الصناعة الثقيلة علي حساب سلع الاستهلاك ، وتباطؤ النمو ، والتحول للزراعة التعاونية بالقسر ، لا الاقناع كما كان يشير انجلز.
كان ماركس وانجلز يتصوران أن الاشتراكية سوف تنطلق في بلدان متطورة تقنيا مثل : المانيا ، انجلترا.الخ، ولكن ذلك لم يتوفر في روسيا ، كما أن افتراض لينين بقيام الثورات الاشتراكية في المانيا وبقية البلدان المتطورة لم يتحقق ، بسبب فشل ثورة المانيا 1918 ، والمجر، .الخ.
كما أشار ماركس أن فترة الانتقال للمجتمع الشيوعي سوف تكون طويلة ، وأن الاشتراكية طور أدنى من الشيوعية يستمر فيها التفاوت والحق البورجوازي والصراع الطبقي، ويأخذ الانسان حسب عمله ، ولكن بدلا من الاعتبار لذلك كانت التوجهات الايديولوجية الخاطئة التي كانت تصور أن روسيا دخلت مرحلة الاشتراكية المتطورة، وأنها اصبحت على قاب قوسين أو أدنى من الشيوعية.
التهجير القسرى للشعوب ، وتغليب النزعة القومية الروسية ، مما كان له الأثر في تفكيك الاتحاد السوفيتي.
هذا التراكم الكمي من الأخطاء والتي استغرقت سنوات طويلة، ولم يتم معالجتها جذريا وفي وقتها ، أدت في النهاية الي تحول نوعي في تفكيك الاتحاد السوفيتي ، وعودة الرأسمالية.
كان من نتائج عودة الرأسمالية نهب ثروات روسيا وتهريب أموالها للخارج ، علي سبيل المثال : يوجد 700 مليار دولار يملكها أغنياء روسيا في البنوك السويسرية ، و7 تريليون روبل مستثمرة في أمريكا، إضافة الي تدهور قيمة العملة “ الدولار يساوي 60 روبل” ، وتدهور مستويات المعيشة ، وفقدت البلاد سيادتها الوطنية حيث بلغت نسبة الاستثمار الأجنبي في القطاع الصناعي الروسي 55,8%، إضافة للفساد ومشاكل غسيل الأموال. الخ.
من آثار انهيار الاتحاد السوفيتي إنفراد أمريكا وسعيها المحموم للسيطرة الاقتصادية والعسكرية علي العالم ، والنهب البشع لثروات البلدان المتخلفة والتابعة، والهجوم علي المكاسب التي حققها العاملون في بلدان العالم في : التعليم والصحة والضمان الاجتماعي وحماية الشيخوخة والطفولة، والتفاوت المتصاعد في توزيع الثروة، اذ يبلغ ما يملكه 1 % من أغنياء العالم نصف ما يملكه سكان العالم. اضافة الي الحروب وتجارة البشر والمخدرات والجنس، وغير ذلك من الواقع البشع الذي يعيشه العالم الآن والتي تناضل الشعوب والأحزاب الشيوعية والعمالية والاشتراكية والوطنية من أجل تغييره.
[email protected]