يجري الحديث كثيرا عن سقوط الغرب خلال السنوات الأخيرة، بمفهوم فقدانه القدرة على حسم القرار في قضايا كبرى تشغل بال العالم. وعمليا، أبانت الحروب الأخيرة، خاصة أوكرانيا وفلسطين عن السقوط المزدوج المادي والأخلاقي للغرب.
والمثير أن العالم انتقل في ظرف عقود قليلة، من التبشير بانتهاء التاريخ والاستمرارية المطلقة لتفوق النموذج الغربي، إلى التحذير من فشله في التحول إلى نموذج لا يقتدى به من طرف باقي الشعوب والحضارات.
كان كتاب فوكوياما نتاج لحظة بشعور حماسي مترتب عن الانتصار في الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشيوعي، وروجت الإدارة الأمريكية لهذه الأطروحة، لأنها جسدت الشعارات التي تنشرها في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وحدث هذا في وقت كانت تدرك فيه واشنطن بنجاح الصين في إرساء أسس قوية لنهضتها الكبرى. ويبقى كتاب إيمانويل تود، نتاج تفكير عميق لعقود من الزمن للمتغيرات الاجتماعية والسياسية في الغرب، ولدى منافسيه، وهو المفكر الذي تكهن سابقا بانهيار المعسكر الشيوعي في كتاب له سنة 1976 بعنوان «السقوط». الدولة العميقة في الغرب تستفيد سرا من كتاب «هزيمة الغرب» لتدارك الأخطاء، وتجنب الأسوأ، إلا أنها تقوم بتبخيس الأطروحة الواردة فيه، وتكفي الرؤية السلبية لمثقفي الدولة العميقة في الغرب من هذا الكتاب.
والقول بهزيمة الغرب بقيادة الولايات المتحدة له دلالات كثيرة، ويمكن إعطاء أمثلة كثيرة تشمل البحث العلمي، والريادة في الإبداع وإيجاد أجوبة شافية للكثير من المعضلات التي يواجهها العالم. ولكننا سنقتصر على مثالين وهما، فقدان الغرب القدرة على الحسم في صنع القرار السياسي والعسكري العالمي، ثم بداية المنحدر نحو الأسفل، أي فقدان الريادة، وكذلك المبادرة بسبب ظهور منافسين جدد قد يتصدرون صناعة القرار العالمي مثل حالة الصين، ويضاف إلى كل هذا كمثال ثان أنه لم يعد يشكل النموذج للآخرين بسبب إفلاسه الأخلاقي.
لم يعد الغرب يمتلك القرار السياسي – العسكري بحكم أن القوة العسكرية تبقى رئيسية لفرض واقع في العلاقات الدولية، إذ أثبت التاريخ أن الاتفاقيات الدولية ما هي إلا انعكاس لمستوى القوة العسكرية لكل طرف، وهكذا، فقد فشل الغرب في مواجهة روسيا في أوكرانيا. فقد اكتفى بتقديم الأسلحة، لكنها لم تغير من ميزان الحرب، ولا يستطيع التدخل مباشرة في الحرب، على الرغم من التهديد بذلك. ويكفي تأمل نتائج الحرب حتى الآن، حيث فقدت أوكرانيا أكثر من خمس أراضيها، وهجرها أكثر من 15% من ساكنتها نحو دول أخرى. وكل حديث عن هزيمة روسيا في هذه الحرب هو من باب الخيال، أو محاولة الغرب الكذب على شعوبه.
وفي نقطة أخرى مرتبطة بصنع القرار العالمي، لقد ارتبط الغرب بالبحر وتأمين الملاحة الدولية منذ الاكتشافات الجغرافية الكبرى، هذه الأخيرة التي كانت النواة العملية لتبلوره. ويرى العالم كيف أن هذا الغرب من خلال عمليتين بحريتين في باب المندب والبحر الأحمر «حارس الرفاهية» بقيادة الولايات المتحدة و»أسبيديس» بقيادة الاتحاد الأوروبي لمواجهة الحوثيين، لم ينجحا في تأمين الملاحة الدولية. ويطالب الحوثيون بإنهاء حرب الإبادة ضد الفلسطينيين لكي يسمحوا بعودة الملاحة الدولية بشكل طبيعي في البحر الأحمر. وعلى الرغم من اعتراف البنتاغون بأن عملية مواجهة الحوثيين هي أكبر عملية للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أن الفشل هو النتيجة الواضحة حتى الآن. وقد يستصغر البعض ما ينفذه الحوثيون، لكن إذا تأملنا أبعاده الحقيقية سنجد أنه لأول مرة ومنذ فتح قناة السويس، تشهد الملاحة الدولية تغييرا بتوجه غالبية السفن إلى الإبحار عبر جنوب افريقيا، بما في ذلك السفن التي تقصد البحر الأبيض المتوسط، على الرغم من أن قناة السويس مفتوحة للملاحة، عكس ما حدث ما بين 1967 إلى 1975 عندما تم إغلاق القناة من طرف مصر. وعلاوة على هذا، عمد البنتاغون الى إبعاد حاملة طائرات «إيزنهاور» من باب المندب خشية من مفاجأة حوثية بصاروخ باليستي، يحدث هذا، رغم أن قوة الولايات المتحدة تتجلى في نشر سفنها الحربية لضمان الملاحة الدولية.
وإلى جانب مثال تراجع قوة الغرب للحسم العسكري في قضايا دولية، فقد تراجع أخلاقيا بشكل مهول مع حرب «طوفان الأقصى»، ما بين فبراير/شباط 2022، تاريخ اندلاع الحرب الأوكرانية وأكتوبر/تشرين الأول 2023، تاريخ اندلاع حرب طوفان الأقصى، ما يشكل إحدى اللحظات التاريخية التي تكشف عن تناقض الغرب الكبير، ونقصد غالبية حكوماته وصناع القرار فيه وليس بالضرورة الشعوب. فقد تباكى الغرب على سقوط مدنيين في أوكرانيا، ولم يبد الموقف نفسه من سقوط المدنيين في فلسطين، وتعرض هذا الشعب لحرب إبادة حقيقية. إن أسوأ ما قام به الغرب هو تبرير جرائم إسرائيل بحجة القضاء على حركة حماس، وهو موقف شبيه بممارساته الاستعمارية في الماضي عندما برر القضاء على شعوب وحضارات بمبرر نشر الحضارة الغربية التي اعتبرها عنوان التقدم الإنساني. إن الحديث عن سقوط الغرب لا يعني فقدانه القوة بين ليلة وضحاها، بل هو مسلسل مستمر في التاريخ، تتراكم فيه الأخطاء ونقاط الضعف لتكون النهاية هو تعويضه بمنظومة ثقافية وسياسية واجتماعية بديلة.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطينيين احتلال فلسطين غزة اوكرانيا مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الملاحة الدولیة سقوط الغرب
إقرأ أيضاً:
ترامب: أنا وبوتين يمكننا إنهاء الحرب في أوكرانيا
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الجمعة، أن إدارته أجرت بالفعل مناقشات "جدية للغاية" مع روسيا حول حربها في أوكرانيا، وأنه والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمكن أن يقوما قريباً بعمل "مهم" نحو إنهاء الصراع الطاحن.
Trump says he and Putin could do something 'significant' toward ending Russia's war in Ukraine https://t.co/SNvLnUFA6G
— Yahoo News (@YahooNews) February 1, 2025وقال ترامب للصحافيين في المكتب البيضاوي: "سنتحدث، وأعتقد أننا ربما نفعل شيئا سيكون مهماً... نريد إنهاء تلك الحرب. لم تكن هذه الحرب لتبدأ إذا كنت رئيساً".
ولم يقل ترامب من الذي أجرى اتصالات من إدارته مع الروس، لكنه أصر على أن الجانبين "يجريان محادثات بالفعل".
ورداً على سؤال عن محادثة مباشرة مع بوتين، قال ترامب : "لا أريد أن أقول ذلك".
وأكد ترامب مراراً أنه لم يكن ليسمح بالصراع إذا كان في منصبه، رغم أنه كان رئيساً عندما بدأ القتال في شرق أوكرانيا بين قوات كييف والانفصاليين المدعومين من موسكو، قبل أن يرسل بوتين عشرات الآلاف من القوات في 2022.
وانتقد ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، قائلاً إنه كان عليه أن يبرم صفقة مع بوتين لتجنب الصراع.