من يتأمل حياة وسيرة النبي محمد (صلوات الله عليه وعلى آله) وهو دائمًا يلفت نظر الأمة إلى عدة مخاطر داهمة عليها، وكان دائماً يحدثهم عن الانحراف الذي يهدد الأمة في مستقبلها ما بعد وفاة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، فضمن ما ورد عن رسول الله أنه قال: (أيها الناس، سُعِّرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم)، وكذلك تحدث عن الانحراف، فقال في الحديث المعروف عنه، روته الأمة بمختلف اتجاهاتها ومذاهبها: (لتحذُنَّ حذو من قبلكم)، قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: (فمن؟)، وكذلك في روايةٍ أخرى، قال: (لتحذُنّ حذو بني إسرائيل)، حالة خطيرة جدَّا من الانحراف.


تتراكم الفتن على الأمة فتكون كقطع الليل المظلم، كما قال رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله): (فتن كقطع الليل المظلـم يمسي المـرء مؤمنـاً ويصبح كافـراً يصبح مؤمنـاً ويمسي كافراً)، ضلال رهيب والتباس في الأمور، يأتيك الضلال من بين يديك، ومن خلفك وعن يمينك، وعن شمالك.
فتن خطيرة حتى أنَّ الجيل الذي عاصر الرسول «صلوات الله عليه وعلى آله»، وسمعه، وعايشه من المسلمين، معرَّضٌ لهذه الخطورة، فقد ورد في مصادر الأمة المعتبرة (مصادر السنة والشيعة) أن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) قال: (ليردنَّ عَلَيَّ الحوضَ رجالٌ ممن صَاحَبَني، حتى إذا رأيتهم، ورفعوا إليَّ، اُختُلِجُوا دوني، فأقول: أَيْ رب أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: بُعْداً بُعْداً))، وفي الروايات الأخرى: ((سحقاً سحقاً)).
فهذه الحالة الخطيرة التي تهدد مستقبل الأمة كانت تهم رسول الله محمد الذي قال الله عنه: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} كان يقلق على الأمة، ويخاف عليها من الضلال، ومن الزيغ، ومن الانحراف؛ لعواقبه السيئة في الدنيا وفي الآخرة.
فرسول الله كان يفكر بهذه الأمة، ويهمه أمرها في كل العصور، حرصه الشديد على الجيل الذي عايشه وعاصره وعلى الأجيال اللاحقة لأنه رسول الله للعالمين، إلى آخر أيام الدنيا، ولمعرفته بمستقبل الأمة كما عرفه الله كان حريصاً على استقامة الأمة وسلامتها من الزيغ والانحراف.
وفي حجة الوداع أعلمه الله أن أجله قد اقترب، وأثناء أدائه لمناسك الحج كان رسول الله يشعر المسلمين باقتراب أجله، وأن هذا الحج سيودع فيه أمته وله أهمية خاصة، فكان يقول لهم في عدة مقامات: (لَعَلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، وفي مقامٍ آخر: ((إني أوشك أن أُدعى فأجيب))، فكان يشعرهم بقرب رحيله، وأنه مودع هذه الحياة، وهذه مسألة هامة جدَّا، مؤلمة، ومقلقة، وحسَّاسة، وتبرز عندها وعند التحذيرات السابقة من خطورة الزيغ والانحراف علامات الاستفهام: ولا شك أن الكثير سيتساءل عندما يسمع مثل الذي سبق، ماذا بعد رحيل رسول الله «صلوات الله عليه وعلى آله»؟ كيف تفعل الأمة؟ من سينقذ الأمة من هذه الفتن المظلمة؟ من للأمة بعد خاتم الرسل والأنبياء؟ هل سيتركهم رسول الله بدون توضيح القيادة؟ هل رسول الله سيترك الأمة تغرق في ظلمات المستقبل المعتم؟.
لم يكن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أن يترك الأمة بدون توضيح وتبيين الشخصية بإسمها لهذه الأمة، ولا يرضى الله لعباده أن يعيشوا في ظلمات من فوقها ظلمات تنتهي بهم إلى سخط الله وعذابه.
ففي مفترق الطرق وفي منطقة تُسمى وادي غدير خم بالقرب من منطقة الجحفة، أنزل الله قوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَآ أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلكَٰفِرِينَ} وهذه الآية المباركة- هي من آخر الآيات القرآنية التي نزلت في تلك الفترة الأخيرة من حياة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) – آيةٌ عجيبة؛ ومهمة جداً لدرجة أنه لو لم يبلغ فكأنه لم يقدم شيئاً.
وعند نزول هذه الآية عقد رسول الله اجتماعاً استثنائياً طارئاً، وأوقف الناس قبل الظهيرة، وأمر بمن قد تقدَّموا أن يعودوا، وانتظر باللاحقين ليصلوا، حتى أجتمع الجمع بكله، كل أولئك الحجاج الذين كانوا برفقته في الحج وكانوا أكثر من مائة ألف حاج، اجتمعوا بأجمعهم، أمر المنادي أن ينادي: (الصلاة جامعة)، فصلَّى بالناس صلاة الظهر، وبعد صلاة الظهر التفت إليهم، وقام يخاطبهم، فقال: (أيها الناس إن الله أمرني بأمرٍ، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ})، ونادى علياً، وأخذ بيده معه، وأصعده معه على أقتاب الإبل، ثم قال في خطبته: (يا أيها الناس: إنَّ ﷲ مولاي، وأنا مولى المؤمنين، أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه، فهذا عليٌّ)، وأخذ بيد علي، ورفع يدهُ مع يده، (فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، وأخذل من خذله)، ثم في نفس الخطبة أكد رسول الله على التمسك بكتاب الله وعترته أهل بيته، لأن فيهما السلامة من الضلال، والأمان من الفتن المظلمة، لا يزيغ معهما الفؤاد ولا ينحرف العمل، هما الضمانة على الاستقامة، والنجاة من التباس الأمور، والحصانة من الولاء لليهود والنصارى.
في هذا اليوم قدم رسول الله الضمانة بأن علياً هو الذي سيواصل الدور في هداية الأمة، في الحركة بالأمة على أساس هدى الله، بأن شخصية علي شخصيةً تمثِّل الضمانة لاستمرارية حركة الإسلام بشكلٍ صحيح وبشكلٍ كامل، وهو صمام أمان من الضلال في كل مجالات الدين، وفي كل مجالات الحياة.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

المحتوى الرقمي بين التهليل والتحليل

صناعة المحتوى الرقمي من أهم التحديات التي تواجه الإعلام غير التقليدي اليوم، لا في قدرتها على الرواج اللحظي وسعة الانتشار وحسب، بل في خطورة إمكانية حشو المحتوى برسائل هدّامة مجتمعيا، أو دينيا أو حتى أمنيا، ومهما كانت مادة النقاش اليوم فلا يمكنها البعد عن توثيقها وتسويقها عبر وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية، فإن كان الحديث عن القيم والمبادرات المجتمعية الإيجابية وجدتها حاضرة على مسرح التواصل الرقمي، كما تجد الابتكارات والإبداعات وسبل تطويرها، دورات التطوير المهني والتنمية الذاتية مع المعارف بشتى أنواعها ومختلف مستوياتها، العقيدة والآداب والفنون وحوارات مبدعيها وآخر مستجداتها، لكن صناعة المحتوى قد تنطوي على ما هو أخطر من ذلك متضمنة انحرافات سلوكية وعقائدية، كما قد تتضمن الجريمة بشتى أشكالها، وليست الجرائم الوحشية التي رصدت مؤخرا في مختلف دول العالم وارتباطها بالمواقع المظلمة ( The Dark Web ) عن ذلك ببعيدة، وفيها من تسويق تلك الأفكار ما يدق نواقيس الخطر فعليا لدى الأمم الواعية متجاوزا حدود المتابعة والمراقبة والعقاب.

وإذا ما تساءلنا عن تعريف الإنترنت المظلم ( The Dark Web) سيء السمعة مرتبطا بالفرار من الجريمة، وتوسيع مجالاتها، فالإنترنت المظلم يعتبر جزءاً مهماً من منظومة الإنترنت، حيث يسمح بإصدار المواقع الإلكترونية ونشر المعلومات بدون الكشف عن هوية الناشر أو موقعه، ويمكن الوصول إليه من خلال خدمات معينة مثل خدمة (Tor) وخدمات مماثلة طريقة لتوفير حرية التعبير عن الرأي والارتباط والوصول الى المعلومات وحق الخصوصية، وقد نشأ الإنترنت المظلم في منتصف التسعينيات، حين طور مختبر الأبحاث البحرية الأمريكية مشروع التوجيه البصلي The Onion Routing Project، المعروف اختصاراً بـ TOR، كوسيلة لحماية الاتصالات الأمنية الأمريكية عبر الإنترنت، وبمرور الوقت، بات TOR لا يخدم فقط مصالح الأمن القومي بل أصبح أيضاً أداة شائعة بين الأفراد الذين يسعون إلى الحفاظ على خصوصيتهم على الإنترنت، الويب المظلم، الذي بدأ كأداة للتواصل الآمن داخل وزارة الدفاع الأمريكية يستخدم اليوم بشكل واسع من قبل أفراد حول العالم لأغراض متنوعة، سواء كانت قانونية أو غير ذلك، عبر تقنية التوجيه البصلي التي تحمي المستخدمين من المراقبة والتعقب، وذلك بتوجيه البيانات عبر آلاف نقاط الترحيل لتغطية مسارات المستخدم وجعل التتبع شبه مستحيل، عبر هذه التقنية سعى البعض لهذه المواقع متنفسا لحرية الرأي هروبا من التضييق والحبس، فيما سعى لها آخرون وكرا للجريمة من ترويج للمخدرات والأسلحة والمواد الإباحية، وتسويق للشذوذ والوحشية، هذه الأنشطة غير القانونية جعلته محط أنظار الجهات الأمنية مكافحة للجريمة الإلكترونية وغيرها من الجرائم، ولا عجب حينها أن يوقع مستخدميه في مساءلات قانونية، فضلا عن إمكانية اختراق خصوصية مستخدميه عبر الفيروسات والخوارزميات المرتبطة بالموقع ذاته.

مع كل ذلك، حتى الإنترنت العادي سهل التتبع معروف المصدر لا يخلو من مخاطر مُحدقة إذا ما فكرنا في التركيز على المحتوى الرقمي وصعوبة تحقق المراقبة الدورية ( خصوصا تلك المقطعات القصيرة ذات التأثير السمعي البصري العميق)، أو أمعنا النظر في الخوارزميات الرقمية القادرة على نقل طفل من لعبة للتلوين والرسم إلى مواقع إباحية ومحتوى غير أخلاقي، القادرة يقينا على بث الكثير من الأفكار المزعزعة للثوابت القيمية، والمشتركات الأمنية مجتمعيا وفكريا، وفي ذلك كثير من الأمثلة التي تحكي ارتباطا وثيقا بين جرائم وقضايا مجتمعية (متضمنة اعتداءات وانحرافات سلوكية وقضايا إرهاب) ودور مواقع التواصل الاجتماعي التي سهلت سبلها وسرّعت نتيجتها مما لن تتسع هذه المقالة لسردها.

مع كل تلك السبل في تعقيدات العالم الرقمي وكل تفرع وتوزع المحتوى الرقمي فلا مناص من وجوب إنشاء وتفعيل وسائل لحماية المجتمعات من خطر المحتوى الهدّام، لا بد من خطط منظمة تستهدف متابعة المحتوى الرقمي ووضع آليات لتقييمه وأخرى لتقويمه إن اقتضى الأمر، خطط تنهض بها مجموعات من المختصين في مجالات مختلفة تشمل لجان حقوق الإنسان وحماية الطفل، والمؤسسات الاقتصادية وتنمية المجتمعات، الجهات المعنية بالأمن الوطني والقومي والمجتمعي والفكري، ولا تكتفي بالمتابعة إنما تستغرق في الربط والتحليل، ووضع مناهج وقائية وأخرى جزائية واضحة سعيا لحماية المجتمعات والأفراد والأوطان من مخاطر التحول المادي المُطلق منتصرا للمادة وتشكلاتها على حساب الإنسان وقيمه وعواطفه وتحديات واقعه.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية

مقالات مشابهة

  • فضل قيام الليل في رمضان.. يغفر الذنوب الماضية والقادمة
  • مرايا الوحي: المحاضرة الرمضانية (16) للسيد القائد 1446
  • المحتوى الرقمي بين التهليل والتحليل
  • الأزهر يصحح خطأ شائعا يفعله المسلم عند دخوله بصلاة الجماعة..تعرف عليه
  • سحر البيان في تناسب آي القرآن
  • الفياض:كل مسؤولي الحشد مليارديرية وبحله يرجع الجميع إلى الأرصفة التي جاءوا منها والحشد باقٍ تحت أمرة خامئني
  • دعاء السجود في قيام الليل .. اعرف ماذا يقال في هذا الوقت
  • رئيس المرصد المغربي لمناهضة التطبيع : الدعم العسكري الذي قدمته اليمن لغزة تاريخي وغير مسبوق
  • سورتا الإسراء والكهف .. حين يكون القرآن دليلا للثبات في وجه الفتن| فيديو
  • تداعيات سقوط سوريا