سؤال، في الحقيقة، طرحه عليّ أحد الإخوة وهو: هل نحن بحاجة إلى إعادة إدماج وتأهيل من جديد؟ لا أدري ما الذي ولّد ذلك السؤال لديه، لكن في الحقيقة، المعطيات كثيرة ومتعددة، يكفي أن نقف ونتأمل ما الذي يحصل من حولنا، ما نشاهده ونسمعه يوميا، يكفي ذلك لنتأكد أن عملية الإدماج والتأهيل قد تحتاج إلى إعادة مراجعة وحوكمة.
يشير مصطلح الاندماج الاجتماعي إلى الانسجام والتعاون والترابط بين أفراد المجتمع مهما اختلفت وتعددت ثقافاتهم وإثنياتهم، وهو كذلك علاقة المودة والاحترام، ولولاه لتحول المجتمع إلى التنافر والتباغض وعدم الانسجام وتولدت المشاكل والأزمات بين مكوناته.
ينعدم الاندماج في حالة من عدم الاستقرار والقلق التي تصيب الأفراد عندما تنهار المعايير والقيم والأخلاق أو الافتقار إلى الهدف والمثل العليا أو (الأنوميا) بحسب (أميل دوركايم).
الاندماج الاجتماعي عمليًا هو إيجاد الآليات المناسبة والكفيلة التي تمكن الأفراد من الانسجام والانصهار في المجتمع. ونظرًا لأهمية الاندماج فقد اضطلعت به مؤسسات اجتماعية وسياسية حملت على عاتقها ترسيخه وتثبيته. ففي المجتمعات العربية التقليدية قامت مؤسسات بعينها بإنتاج آليات الإدماج التي تتمثل في الأسرة ودورها في التنشئة الاجتماعية والقبيلة والعشيرة وغيرها، بأدوار تهدف إلى دمج الأفراد في المجتمع وخلق ما يشبه الإجماع والتعاون والتكافل فيما بينهم.
وفي العصر الحديث أصبح الاندماج الاجتماعي عملًا مؤسسيًا تضطلع فيه الدولة كمؤسسة سياسية اجتماعية بدور رئيسي بوصفها هي المهيمنة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، حيث يتم إنتاج ذلك وفق عمل مؤسس وآليات وبرامج وخطط ورؤى محددة.. وهذا مسعى دائمًا ما يكون من جانب الدولة بما تملكه من وسائل وإمكانيات لا تتوفر لدى الأفراد، ويولد من رحم جدلية العلاقة المضطربة والمعقدة بين المجتمع والدولة التي طالما شابها الكثير من الشكوك وعدم الرضا المتبادل بين الطرفين. بالإضافة إلى ذلك تشارك في تحمّل تلك المسؤولية مؤسسات أخرى منها مؤسسات المجتمع المدني بمختلف أنواعها وتشكيلاتها بما فيها الأحزاب والجمعيات والمنظمات من خلال إضفاء الطابع المؤسسي والرسمي على متطلبات الاجتماعية والمطالبة بالحقوق المدنية للأفراد.
تعمل الدولة على ترسيخ عملية الإدماج في المجتمع وإيجاد مجتمع منسجم متّسق مع نفسه وهو الهدف العام المنشود من وراء كل المبادرات والخطط. كما أنه أحد المؤشرات التي تبين مدى الترابط والانسجام والتعاون بين أفراد المجتمع من جهة والدولة من جهة أخرى، وتسعى إلى إيجاد أنظمة وقوانين تروم إلى العدالة والمساواة بين جميع المواطنين.
إلا أنه ومع التطورات والمتغيرات المتسارعة أصبح الكثير من الدول يعاني من معضلة عدم الاندماج الاجتماعي فتسقط في وحل التشرذم والاختلاف والتباعد بين أفراد المجتمع، على الرغم من الإنجازات التي تتحقق في شتى المجالات كالتعليم والصحة والتوظيف وغيره، ورغم وجود بيئة خصبة للاندماج وذلك لوجود المكونات الضرورية له كوحدة اللغة والثقافة والدين والتاريخ والجغرافيا.
ما الذي يفشل الاندماج الاجتماعي رغم سعي الدولة الدؤوب لإدماج مواطنيها اجتماعيا؟ فتوسم الدولة بكل بساطة بأنها لم تستطع ولم تنجح في توفير المناخ اللازم والمثالي للاندماج الاجتماعي. إذ تتحول الدولة كجهاز سياسي مهيمن إلى أداة طاردة تساعد في خلق بيئة غير موازية وظروف قاسية كفيلة بدورها في خلق معوقات للاندماج الاجتماعي.
تتعدد الأسباب في فشل الاندماج الاجتماعي؛ فهناك أسباب دينية عقائدية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وأسباب أخرى سياسية تفشل عمليات الإدماج فتكون القوانين والأنظمة حبرًا على ورق -كما يقال- أو تُطبَّق بشكل انتقائي وتمييزي، غير عابئة بالتعدد الثقافي والإثني والديني والمذهبي، ونبذ ما يؤدي إلى التمييز والعنصرية، عندما تنعدم المساواة والعدالة والديمقراطية، ويرزح الأفراد تحت حكم ظالم متجبر وتنتشر المحسوبيات والفساد والظلم والعدوان وقت يشعر فيه المواطن بأنه شخص لا يستطيع تحقيق تطلعاته والحصول على حقوقه القانونية والإنسانية ويسري التمييز في الوظائف والامتيازات التي تقتصر على فئة معينة دون غيره. كذلك يعيش ظروفا قاسية تؤدي إلى حرمانه من الإمكانيات والفرص المتاحة في سبيل تحقيق الرفاهية والسعادة. وقد توجد القوانين والأنظمة التي تسنها الدولة ظروفا تعجيزية لا تخدم المواطن البسيط بينما تشرع لصالح فئة بعينها وعندما تشرع الضرائب التي تثقل على المواطنين البسطاء فتسقطه في الفقر والعوز والاختلال في المعاملة، ناهيك عن معوقات أخرى للاندماج الاجتماعي الأخرى التي يتمثل في استفحال القبيلة والتعصب والتمذهب والمناطقية. وما ليس بخافٍ على أحد من أن واقعا مؤلما يعيشه الكثير من المواطنين فقط لكونهم لا يستطيعون التواؤم مع الأوضاع وكأنه يعيش منفصلًا عن المجتمع بعيدًا عنه وعن واقعه ويعيش في عزلة ناتجة عن تراكم الكثير من المعطيات غير مندمج مع المجتمع، لا يشعر إلا بالقلق والخوف.
إن الإدماج الاجتماعي لا بدّ أن يقوم على عدة معطيات واعتبارات؛ لكي يحقق هدفه في إيجاد مجتمع منسجم ومتعاون يدين بالولاء للوطن مدافعا عنه، مجتمع تنصهر فيه كل الثقافات والعرقيات والتعدديات في بوتقة واحدة عنوانها الوطن لا غير. يجب أن يتجاوز الاندماج الإنشاء والخطابات والمدونات إلى الواقع.
تأتي في أولوية تلك المعطيات، تعزيز المواطنة الحقة بممارسة المواطن لحقوقه وواجباته وأدواره داخل البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع أو يتحقق بقيام الدولة بتفعيل مكانته داخل المجتمع سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وإيجاد الفرص المتساوية والعدالة سواء في المناصب والترقيات بحيث تمكن الأفراد من الانصهار في مجتمعاتهم والاندماج يساعد الفرد على التكيف مع المجتمع وانعدامه يشيع التفرقة والتباغض والعنصرية، ويؤثر على الثقافة بشكل عام. أن يعاد تعريف المواطنة والمشاركة والقوانين وأن يتم التخلص من الكثير من الشوائب والمنغصات التي تعيق ذلك الاندماج والمحافظة على المضمون الإنساني والأخلاقي.
يجب أن تُبنى العلاقة بين الدولة والمواطنين على مبدأ التعاقدي، وأن يقاس الاندماج الاجتماعي بالقدرة على المشاركة المجتمعية بين الثقافات المختلفة دون تمييز. إذ لا تشكل الاختلافات الدينية عقبة أمام الاندماج وهي مسؤولية مشتركة بين الدولة وأفراد المجتمع وخصوصًا الدولة لما تشيعه من عدالة ومساواة ومواطنة حقة.
إنَّ فقدان المواطنة الحقة يضرب الاندماج الاجتماعي في مقتل فيسقط المواطن في وحل من الأزمات التي لا تزيده إلا غموضًا وتعقيدا، يقف حائرًا أمامها لا يستطيع مواجهتها ولا التأقلم معها فيظل قابعًا لا يقدر على فعل شيء، وقد تسقطه في عالم من التناقضات والأزمات والصراعات مع النفس، مما قد تؤدي إلى إصابته بالعديد من الانتكاسات والأزمات المرضية والنفسية، فلا خيار آخر له، إما أن يكون صلبا لا تبعثر صلابته أي رياح أو عواصف عاتية، وإما تتراخى قواه وتخور عزيمته وتعصف به المحن وتتشتت أحواله ويتداعى قوامه ويسقط في وحل من العزلة والضياع. ومهما كان الإنسان قويًا وجلدًا فإن ذلك يبقى له حدود، وقد يشعر بالاغتراب، غربة تأكل أحشاءه وتلتهم أيامه، يشعر وكأنه غريب لا يمت للواقع بصلة وقد لا يعنيه ما يجري حوله، فيختار لنفسه وبكل حرية الصمت مستلقيا على «الكنبة» يراقب من بعيد، فاقدا الثقة، محتجا بالصمت، مغتربًا عن ذاته، تضطرب شخصيته ويتسم بالعجز عن إقامة علاقات مع المجتمع ولا يستطيع الاندماج فيه وقد تتسع الفجوة بين المواطن والدولة وتزداد تلك الفجوة في الاتساع عندما يشعر المواطنون بأنهم غرباء في وطنهم وهم بكامل قواهم العقلية والنفسية، لا سبيل لهم لمقاومة ذلك ولا يملكون القوة لتغييره ولا التأقلم مع التغيرات والمعطيات وتسيطر حالة سيكولوجية تهيمن على الإنسان قد تزداد حدتها وتعيش حالة من الانفصام والاغتراب.
هل نحن فعلا بحاجة إلى صيغة ما لنندمج اجتماعيًا ؟ هل نحن كأفراد أيضًا مسؤولون عن عدم الاندماج الاجتماعي؟ هل المسؤولية مشتركة في ذلك؟
للإجابة على ذلك السؤال يجدر بنا أن نسعى أولا إلى أن نندمج مع ذواتنا قبل طلب الاندماج مع الآخر، أو قبل أن يكون الاندماج عملا رسميا ومؤسسيا. نحن بحاجة إلى تعلم معنى التعايش واحترام الآخر واحترام القوانين والأنظمة، احترام خصوصيات وأعراف الناس والعادات والتقاليد والمجاملات، نحتاج فعليًا أن نعيد تعريف بعض الأشياء وفقًا للمنظور مختلف أكثر حداثة وتطورا، نحتاج أن نتعلم كل شيء عن تفاصيل العيش المشترك والحياة وأسلوب التعاطي مع الأزمات. أن يكون الهدف من ذلك أن نصبح جزءا من نسيج المجتمع المتعدد ضمن مفهوم المواطنة التي تحتضن الجميع تحت مظلة القوانين والأنظمة التي تنظم العلاقات بين الجميع. نحن بحاجة ماسة للتحلل من تبعات الماضي الذي ما زلنا رهائنه بكل حمولاته الثقيلة وأسرى لخلافاتنا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القوانین والأنظمة فی المجتمع الکثیر من
إقرأ أيضاً:
«الصحة» تطلق الدليل الوطني للكشف الصحي لطلبة المدارس
دبي/ وام
أطلقت وزارة الصحة ووقاية المجتمع، الدليل الوطني للكشف الصحي المدرسي للطلبة، بالتعاون مع الجهات الصحية والتعليمية والاجتماعية، وذلك بهدف الكشف المبكر عن الحالات الصحية أو النمائية لدى الطلاب بدءاً من مرحلة الروضة وحتى الصف الثاني عشر.
ويتيح هذا الدليل التدخل وتقديم الدعم اللازم في الوقت المناسب لتعزيز صحة الأجيال الحالية والمقبلة، ضمن منظومة عمل متكاملة من خلال إجراء الفحوص الصحية المدرسية في الدولة، وتوحيد جهود الرعاية الصحية للطلاب، إلى جانب إنشاء قاعدة بيانات وطنية وموثوقة لنتائج الكشف الصحي المدرسي للطلاب، ما يسهم في تعزيز صحة المجتمع وتحسين جودة الحياة.
جاء ذلك خلال فعالية نظمتها الوزارة في دبي، بحضور الدكتور حسين عبد الرحمن الرند، الوكيل المساعد لقطاع الصحة العامة في وزارة الصحة ووقاية المجتمع، ومسؤولين من الإدارات والأقسام المعنية بالوزارة وممثلي الجهات الصحية والتعليمية والاجتماعية في الدولة.
ويشكل الدليل الوطني للكشف الصحي المدرسي للطلبة، إطاراً وطنياً شاملاً للكادر الصحي بالدولة لتقديم الخدمات الصحية الوقائية وفق نهج ثابت ومسار موحد ضمن جدول زمني محدد، كما يتضمن الدليل سلسلة توعوية مناسبة لاحتياجات الطلبة في المراحل العمرية المختلفة لتعزيز الوعي الصحي لديهم.
ويشتمل الدليل على الخطوات التفصيلية النموذجية للكشف المبكر عن الحالات الصحية والنمائية لدى الطلبة، من خلال إجراء الفحوص الصحية المدرسية وتحديث التاريخ الطبي لكل طالب سنوياً، وتقييم مؤشرات النمو كالطول والوزن ومؤشر كتلة الجسم، إضافة إلى فحص البصر، ومتابعة حالة التطعيم لجميع الطلاب وتحديثها وفقاً للبرنامج الوطني للتحصين، بجانب إجراء فحوص متخصصة أهمها الفحص البدني الشامل، والكشف عن حالات ميلان العمود الفقري، وفحص السمع، وصحة الأسنان، والصحة النفسية والسلوكية، والتقييم عن حالة التدخين لدى الطلبة فوق سن العاشرة لتقديم المشورة الطبية.
وأكد الدكتور حسين الرند أن هذا الدليل يعكس التزام وزارة الصحة ووقاية المجتمع بتطبيق أفضل الممارسات العالمية في مجال الرعاية الصحية المدرسية، من خلال توظيف كل الإمكانات المتطورة في إنشاء قاعدة بيانات وطنية لنتائج الكشف الصحي لطلاب المدارس الحكومية والخاصة، بما يتماشى مع معايير منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسف»، ما يسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ويلبي طموحات مئوية الإمارات 2071، لإعداد أجيال تتمتع بأفضل مستويات الصحة والجاهزية للمشاركة في بناء مستقبل مستدام.
وأضاف أن حكومة الإمارات، بفضل توجيهات القيادة الحكيمة، أولت اهتماماً استثنائياً بالأطفال واليافعين في قلب سياساتها التنموية، إيماناً بأن الاستثمار في صحتهم هو استثمار في مستقبل الوطن، لذلك تقود الوزارة الجهود الوطنية لتعزيز الصحة العامة لطلبة المدارس، وضمان توفير رعاية صحية وقائية ومتكاملة لهم من خلال تطوير وتحديث الأدلة العلمية للكشف الصحي المدرسي، بالتعاون مع كافة الشركاء الاستراتيجيين في الدولة.
من جهتها أشارت الدكتورة سعاد العور رئيسة قسم صحة الأسرة في وزارة الصحة ووقاية المجتمع، إلى تضافر جهود جميع الجهات الصحية والتعليمية والاجتماعية في الدولة لتعزيز صحة طلاب المدارس، وهي المرحلة التي تشكل الجزء الأكبر من طفولتهم، مؤكدة الدور الحيوي للبرامج الوطنية في الدولة ومنها البرنامج الوطني لمكافحة السمنة والبرنامج الوطني للتطعيمات وغيرها.