حين بدأت الحرب في أوكرانيا بين روسيا والغرب تنبأ د. جيم مير شيمر أن الغلبة في هذه الحرب ستكون لروسيا، ذلك لأنها تعتبر هذه الحرب حرباً وجوديةً، أمّا الغرب فلا يعتبرها وجوديةً، وهي فعلاً ليست كذلك بالنسبة له.

تذكرتُ هذا القول في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، هذه العملية التي قام بها رازحون تحت الاحتلال ومحاصرون براً وبحراً وجوا،ً ومع ذلك كان ردّ الفعل الغربي كأنه حدث وجودي بالنسبة للغرب، إذ تداعى زعماء الغرب إلى “إسرائيل” يعبّرون عن دعمهم لها والتزامهم بأمنها، وقام المسؤولون الأمريكيون بزيارات مكوكية “لإسرائيل” وأصدقائها في المنطقة، وتحركت البوارج الأمريكية وفُتحت قنوات السلاح والمال لكيان كان الحديث أنه يمتلك أقوى جيش وأحدث الأسلحة في الشرق الأوسط، ومن المفترض أنه لا يحتاج كل هذا الدعم في معركة غير متكافئة أصلاً بين جيش مجهز ومموّل ومدرب وبين بضعة مقاومين في الأنفاق لا حول لهم ولا قوة، فهل كان هذا التداعي وهذا الرهاب الذي عبّر عنه الغرب بشكل آني وملح دليلاً على استشعار خطر وجودي عليه أو على الكيان الذي مرد في دعمه واحتضانه وتبرير كل ما يقوم به من جرائم الإبادة، أم كان الشعور بالذعر منطلقاً من الخوف على المركزية الغربية ومكانتها في جغرافيا وتاريخ الأمم؟

إذا ما استعدنا في الذاكرة ما سبق طوفان الأقصى من تحالفات وتنظيمات ومؤتمرات لدول الشرق والجنوب من منظمة “البريكس” إلى “شنغهاي” إلى مجموعة الـ 77 وكل السرديات التي رافقت هذه التحركات من ضرورة التوصل إلى عالم متعدد الأقطاب، إلى الطموح لتبادل البضائع بالعملات المحلية وكسر احتكار الدولار للتجارة العالمية، إلى التقدم التقني الذي أحرزته الصين في العشرية الأخيرة وتمتين أواصر العلاقات بين الصين وروسيا وإيران وغيرها من المؤشرات، ندرك لماذا سارعت الولايات المتحدة إلى بناء تحالفات جديدة والعمل على حماية تحالفاتها القديمة، حتى وإن تطلب ذلك تقديم بعض التنازلات غير المسبوقة في تاريخ هذه العلاقات.

محمّلةً بكل هذه الحقيبة السياسية التاريخية الثقيلة واحتمالات ارتداداتها عشتُ مأساة حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزّة وفلسطين وكلّ ما تلا 7 أكتوبر على مستويين اثنين: المستوى الأول: الإنساني والأخلاقي، فقد كانت الأشهر التسعة الماضية في غاية الصعوبة ونحن نراقب بعجز لا متناهٍ إبادة الآلاف من أطفال وأمهات وأطباء وإعلاميين ومنقذين ومتطوعين لا ذنب لهم في هذه الحياة سوى أنهم فلسطينيون وُجدوا على أرض وطنهم فلسطين في هذا التاريخ، وأن آلة وحشية غربية صهيونية مستبدة مدعومة من الغرب الاستعماري برمّته قررت الفتك بهم لأنها اعتبرت وجودهم على هذه الأرض تهديداً لوجودها. والمستوى الثاني هو المستوى السياسي، حيث شعرتُ أن الغرب الإمبريالي وعلى رأسه الولايات المتحدة يدافع عن تزعمه للعالم وهيمنته عليه، وأنه اعتبر هيبته وسلطته الدولية على المحك، وأن الرسالة التي ابتغى إيصالها إلى الدنيا هي التحذير من الوقوف في وجهه لأي سبب كان، وأن من كان معه فهو حكماً في موقع الآمن والمنتصر ومن تجرّأ على مخالفته العقيدة والرؤى فمصيره الإبادة والدمار.
ومن هذا المنظور الوحشي برأيي تمّ التعامل مع تحركات الطلبة والأساتذة والإداريين في الجامعات الأمريكية والبريطانية والألمانية لنصرة فلسطين، إذ لم يكن من المسموح لأحد، ولا حتى لمواطني “الديمقراطيات” إظهار أي تحدٍّ لهذا الأنموذج المقدس وما يزعمون أنه “الديمقراطية وحقوق الإنسان”،أو حتى التشكيك بأنه الأفضل والأسمى للبشر جميعاً حيثما كانوا وبأي وقت وُجدوا على هذه البسيطة.

في حمأة هذه الإشكاليات المحيّرة إنسانياً ووطنياً ومستقبلياً التي عايشتُها بعمق وصدق وصلني كتاب الدكتور ناصر الرباط: “تقي الدين المقريزي: وجدان التاريخ المصري” فشكّل لي ومن صفحاته الأولى فسحة أمل للمراجعة والتفكّر والتبصّر بما يجري وأسبابه العميقة وبصائر الأمل بصناعة مستقبل مختلف إذا ما توافرت الإرادة والعزيمة لفعل ذلك.
أول ما لفتني في هذا الكتاب ومن الصفحات الأولى للمقدمة أنه خُطّ بقلم باحث عربي متجذّر في أرضه وتاريخه ومتمكن من أهم وآخر المناهج وأساليب البحث والاستقراء التي توصّل لها الباحثون في الغرب. وكم شكّل هذا علامة فارقة في ذهني ووجداني عن كل ما عهدته من تلامذة المستشرقين الذين مهما دأبوا لفرز الغث من السمين بقي الاستشراق سمة لا شعورية من سمات منتجاتهم، بل بقي أحياناً التماهي مع الاستشراق ومضاهاة منتجاته علامة بارزة في المنتجات الفكرية العربية.

لقد أحيا د. ناصر المؤرخ العربي تقي الدين المقريزي من منطلق فكري ووجداني مستخدماً أرقى وأدق أساليب البحث الغربية ولكن بلغة عربية جزلة تردد في سردياتها جمالية بلاغة القرآن الكريم، وتعيد إحياء التاريخ السياسي والاجتماعي والفكري الذي نهل منه المقريزي أو عاصره أو استند إليه أو أعاد إحياءه، بحيث شعرتُ أنه نفخ الحياة في المقريزي بعد قرون من وفاته من خلال مقاربته الموسوعية البحثية الشاملة والمعمّقة، وإشغال ذهنه المتّقد ونفسه الصافية وحكمه بالقسطاس المستقيم على كل نص واقتباس ورأي أو فكرة.

لقد بعث د. ناصر المؤرخ المقريزي حياً بيننا وأشركه بما نشعر به حول ملابسات وتعقيدات وصعوبات زمننا الراهن فأصبح كلاهما- د. ناصر والمقريزي- ملهمين لتفكيري بعصرنا المعقد وأحداثه الشرسة ومحاولة التبصّر لاستخلاص المخارج المحتملة وسط حملات تضليلية مركّبة لا تعرف للحقيقة سبيلاً ولا للإنصاف دليلاً أو مرشداً.
وخالط امتناني لهذه الاستزادة المعرفية القيّمة شعور بالأسى لندرة أمثال هذا الكتاب الذي يعرّف الأجيال بجوهر محطات تاريخية مفصلية نستلهم منها الجرأة على مقاومة الارتكابات المسيئة بحق البلاد والعباد، ونعمل على أن نكون- كما كان المقريزي ود. ناصر- منارات على طريق الحق مهما جارت الأزمان.

أليس من اللافت أن تصبح هذه السيرة الشاملة والعميقة والموسوعية والمنصفة لمؤرخ جليل عمل على تخليد الوطن الذي عشق، وقاوم الخطأ والظلم بأسلوبه الحكيم وصبره ورقّته ومثابرته رغم حلكة الأيام، أن تصبح عوناً لي ولأمثالي لمواجهة ومعايشة أوقات صعبة بعد ستة قرون من وفاة صاحبها؟ أوليس هذا هو الإبداع بذاته في البحث والتأليف المتوازن الراقي الذي جمع بين عمق وشمولية المضمون وبين أدق مناهج وطرائق البحث الوجداني المعمّق؟

ولكنّ هذه التجربة أيضاً أثارت أسئلةً مقلقةً لديّ: هل تتمثل مشكلتنا نحن العرب في تغلغل المركزية الغربية بين ثنايا تاريخنا بما فيه ذاك النهضوي منه، وتشبّع تلامذة الاستشراق بفكر أساتذتهم، بحيث لم نعد قادرين على صياغة تاريخنا الفكري بشكل مستقل تماماً كما فعل د. ناصر الرباط في هذا الكتاب؟ وهل المركزية السياسية والعسكرية الغربية التي تغذي حرب الإبادة ضد العرب على مرأى ومسمع من العالم برمّته تشكل وجهاً فقط من أوجه المركزية الغربية التي شكلت وعينا ووجداننا من خلال الكتّاب العرب الذين تقمّصوا الاستشراق وانبهروا به، فأصبح مكوناً لا شعورياً من مكونات فكرهم أعادوا إنتاجه بطرائق مختلفة في الأدب الذي سميناه تنويرياً ونهضوياً؟ هل مازلنا نحن في القرن الواحد والعشرين ندفع أثمان عصر الاستبداد الذي أحرق كتب ابن رشد وابن سينا وابن خلدون، بحيث أخذ الغرب السبق في دراسة مؤلفاتهم أحياناً دون إتقان لغتهم العربية وعادوا إلينا بمنتجات ذات نظرة دونية لتاريخنا وديننا ومعتقداتنا، والتي مازال البعض يحتضنها ويتصرف على أساسها ويتحكم بمصائر البلدان من منظور موتور مرتجف لا يمتلك الجذور الضاربة في الأعماق التي تؤهله لاكتشاف سبيل الرشد للبلاد والعباد؟

لقد كنت أتساءل عن موقع العرب في التاريخ الحديث، أما الآن فأتساءل عن ماهية التاريخ والفكر العربيين الذين ندرّسهما للأجيال وما إذا كنا بحاجة لإعادة النظر بهما بعيداً عن الاستشراق وإعادة تأهيل الفكر والهوية العربيين على الأسس التي وضعها الأقدمون قبل أن يتناولها المستشرقون ويردّون بضاعتنا إلينا محمّلة بنظرتهم المنقوصة والدونية لنا.

المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء

إقرأ أيضاً:

دعاء غرة شهر شعبان 2025

شهر شعبان يُعد من أكثر الشهور المباركة في التقويم الهجري، وهو الشهر الذي يسبق شهر رمضان المبارك وفيه تكثر العبادات والأدعية طلباً لرضا الله سبحانه وتعالى، وفرحاً بقرب قدوم الشهر الفضيل، وهناك أدعية كثيرة لهذه الشهور المباركة من بينها دعاء غرة شهر شعبان 2025 الذي يردده المسلم في أواخر شهر رجب:

اقرأ ايضاًدعاء لأبي المتوفي في شهر شعباندعاء غرة شهر شعبان 2025

يحرص المسلمون على استقبال شهر شعبان بالدعاء والأعمال الصالحة، وفيما يلي مجموعة من الأدعية:

اللهم إني أسألك في هذا الشهر المبارك أن تفيض علي من رحماتك، وأن تكلأني برعايتك، وأن تهدني إلى الطريق المستقيم هداية لا أضل بعدها أبدًا.اللهم بارك لنا في شعبان وبلغنا رمضان، واجعلنا من الذين يقيمون الصلاة ويكثرون من الدعاء في هذا الشهر المبارك.اللهم اغفر لنا ذنوبنا في هذا الشهر الكريم، ووفقنا فيه لعمل الخيرات وترك المنكرات.دعاء أول ليلة من شعبان

اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، اكتب لنا في أم الكتاب سعادة ورضا ومغفرة، وبلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين.

ماذا يقال عند دخول شهر شعبان؟اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام.يا رب، هب لنا في هذا الشهر الكريم نورًا يضيء دروبنا، وقربًا منك يريح قلوبنا.دعاء أول أيام شهر شعباناللهم يا كبير فوق كل كبير، يا سميع يا بصير، يا من لا شريك له ولا وزير، يا خالق السماوات والأرضيين.اللهم إنا نسألك من خير ما سألك به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونستعيذ بك من شر ما استعاذ به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.اللهم ارزقنا مغفرتك بلا عذاب، وجنتك بلا حساب، ورؤيتك بلا حجاب.اللّهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني.اللّهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب اللّهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب.
اللهم كن لنا ولياً ونصيراً، وكن لنا معيناً ومجيراً، إنك كنت بنا بصيراً.اللهم أحينا في الدنيا مؤمنين طائعين، وتوفنا مسلمين تائبين.اللهم ارحم تضرعنا بين يديك، وقوّمنا إذا اعوججنا، وادعنّا إذا استقمنا، وكن لنا ولا تكن علينا.اللهم نسألك يا غفور يا رحمن يا رحيم أن تفتح لأدعيتنا أبواب الإجابة، يا من إذا سأله المضطر أجاب، يا من يقول للشيء كن فيكون.اللهم لا تردنا خائبين، وآتنا أفضل ما يؤتى عبادك الصالحين، اللهم ولا تصرفنا عن بحر جودك خاسرين. كلمات دالة:دعاء غرة شهر شعبان 2025شهر شعبان 2025 تابعونا على مواقع التواصل:InstagramFBTwitter

© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com)

نادين طاهر مُحررة قسم صحة وجمال

انضمّتْ إلى فريق "بوابة الشرق الأوسط" عام 2013 كمُحررة قي قسم صحة وجمال بعدَ أن عَملت مُسبقًا كمحُررة في "شركة مكتوب - ياهو". وكان لطاقتها الإيجابية الأثر الأكبر في إثراء الموقع بمحتوى هادف يخدم أسلوب الحياة المتطورة في كل المجالات التي تخص العائلة بشكلٍ عام، والمرأة بشكل خاص، وتعكس مقالاتها نمطاً صحياً من نوع آخر وحياة أكثر إيجابية.

الأحدثترند دعاء غرة شهر شعبان 2025 سلطة العدس والخضروات الصحية طرق تنظيف أجهزة التحكم عن بعد للتلفزيون دعاء اللهم بلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين أفكار لتنظيف المروحة السقفية في المنزل Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا حل مشكلة فنية الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTube

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن

اشترك الآن

© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter

مقالات مشابهة

  • قطار التعددية القطبية وأزمة الغرب
  • أوحيدة: تعامل الغرب مع المواطنين الليبيين وفق مصالح المافيا الإيطالية إهانة للشعب
  • زيلينسكي يطالب الغرب بإرسال قوات إلى أوكرانيا
  • زيلينسكي يعترف: الغرب كذب علينا ..!
  • زيلينسكي يدعو الغرب إلى إرسال قوات لأوكرانيا
  • قانون العفو .. هكذا يحقق آمال “النهيبية”بقلم جاسم الحلفي
  • محمد العزيزي:العرب فرحون أن اليهود يقتلونهم!
  • دعاء غرة شهر شعبان 2025
  • دبلوماسي أوكراني سابق: بوتين يحاول الخروج من عزلة الغرب بالتواصل مع ترامب
  • الخارجية الإيرانية: استئناف المفاوضات مع الغرب بشأن برنامجنا النووي متوفر