أسئلة وجودية.. بقلم: بثينة شعبان
تاريخ النشر: 24th, June 2024 GMT
حين بدأت الحرب في أوكرانيا بين روسيا والغرب تنبأ د. جيم مير شيمر أن الغلبة في هذه الحرب ستكون لروسيا، ذلك لأنها تعتبر هذه الحرب حرباً وجوديةً، أمّا الغرب فلا يعتبرها وجوديةً، وهي فعلاً ليست كذلك بالنسبة له.
تذكرتُ هذا القول في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، هذه العملية التي قام بها رازحون تحت الاحتلال ومحاصرون براً وبحراً وجوا،ً ومع ذلك كان ردّ الفعل الغربي كأنه حدث وجودي بالنسبة للغرب، إذ تداعى زعماء الغرب إلى “إسرائيل” يعبّرون عن دعمهم لها والتزامهم بأمنها، وقام المسؤولون الأمريكيون بزيارات مكوكية “لإسرائيل” وأصدقائها في المنطقة، وتحركت البوارج الأمريكية وفُتحت قنوات السلاح والمال لكيان كان الحديث أنه يمتلك أقوى جيش وأحدث الأسلحة في الشرق الأوسط، ومن المفترض أنه لا يحتاج كل هذا الدعم في معركة غير متكافئة أصلاً بين جيش مجهز ومموّل ومدرب وبين بضعة مقاومين في الأنفاق لا حول لهم ولا قوة، فهل كان هذا التداعي وهذا الرهاب الذي عبّر عنه الغرب بشكل آني وملح دليلاً على استشعار خطر وجودي عليه أو على الكيان الذي مرد في دعمه واحتضانه وتبرير كل ما يقوم به من جرائم الإبادة، أم كان الشعور بالذعر منطلقاً من الخوف على المركزية الغربية ومكانتها في جغرافيا وتاريخ الأمم؟
إذا ما استعدنا في الذاكرة ما سبق طوفان الأقصى من تحالفات وتنظيمات ومؤتمرات لدول الشرق والجنوب من منظمة “البريكس” إلى “شنغهاي” إلى مجموعة الـ 77 وكل السرديات التي رافقت هذه التحركات من ضرورة التوصل إلى عالم متعدد الأقطاب، إلى الطموح لتبادل البضائع بالعملات المحلية وكسر احتكار الدولار للتجارة العالمية، إلى التقدم التقني الذي أحرزته الصين في العشرية الأخيرة وتمتين أواصر العلاقات بين الصين وروسيا وإيران وغيرها من المؤشرات، ندرك لماذا سارعت الولايات المتحدة إلى بناء تحالفات جديدة والعمل على حماية تحالفاتها القديمة، حتى وإن تطلب ذلك تقديم بعض التنازلات غير المسبوقة في تاريخ هذه العلاقات.
محمّلةً بكل هذه الحقيبة السياسية التاريخية الثقيلة واحتمالات ارتداداتها عشتُ مأساة حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزّة وفلسطين وكلّ ما تلا 7 أكتوبر على مستويين اثنين: المستوى الأول: الإنساني والأخلاقي، فقد كانت الأشهر التسعة الماضية في غاية الصعوبة ونحن نراقب بعجز لا متناهٍ إبادة الآلاف من أطفال وأمهات وأطباء وإعلاميين ومنقذين ومتطوعين لا ذنب لهم في هذه الحياة سوى أنهم فلسطينيون وُجدوا على أرض وطنهم فلسطين في هذا التاريخ، وأن آلة وحشية غربية صهيونية مستبدة مدعومة من الغرب الاستعماري برمّته قررت الفتك بهم لأنها اعتبرت وجودهم على هذه الأرض تهديداً لوجودها. والمستوى الثاني هو المستوى السياسي، حيث شعرتُ أن الغرب الإمبريالي وعلى رأسه الولايات المتحدة يدافع عن تزعمه للعالم وهيمنته عليه، وأنه اعتبر هيبته وسلطته الدولية على المحك، وأن الرسالة التي ابتغى إيصالها إلى الدنيا هي التحذير من الوقوف في وجهه لأي سبب كان، وأن من كان معه فهو حكماً في موقع الآمن والمنتصر ومن تجرّأ على مخالفته العقيدة والرؤى فمصيره الإبادة والدمار.
ومن هذا المنظور الوحشي برأيي تمّ التعامل مع تحركات الطلبة والأساتذة والإداريين في الجامعات الأمريكية والبريطانية والألمانية لنصرة فلسطين، إذ لم يكن من المسموح لأحد، ولا حتى لمواطني “الديمقراطيات” إظهار أي تحدٍّ لهذا الأنموذج المقدس وما يزعمون أنه “الديمقراطية وحقوق الإنسان”،أو حتى التشكيك بأنه الأفضل والأسمى للبشر جميعاً حيثما كانوا وبأي وقت وُجدوا على هذه البسيطة.
في حمأة هذه الإشكاليات المحيّرة إنسانياً ووطنياً ومستقبلياً التي عايشتُها بعمق وصدق وصلني كتاب الدكتور ناصر الرباط: “تقي الدين المقريزي: وجدان التاريخ المصري” فشكّل لي ومن صفحاته الأولى فسحة أمل للمراجعة والتفكّر والتبصّر بما يجري وأسبابه العميقة وبصائر الأمل بصناعة مستقبل مختلف إذا ما توافرت الإرادة والعزيمة لفعل ذلك.
أول ما لفتني في هذا الكتاب ومن الصفحات الأولى للمقدمة أنه خُطّ بقلم باحث عربي متجذّر في أرضه وتاريخه ومتمكن من أهم وآخر المناهج وأساليب البحث والاستقراء التي توصّل لها الباحثون في الغرب. وكم شكّل هذا علامة فارقة في ذهني ووجداني عن كل ما عهدته من تلامذة المستشرقين الذين مهما دأبوا لفرز الغث من السمين بقي الاستشراق سمة لا شعورية من سمات منتجاتهم، بل بقي أحياناً التماهي مع الاستشراق ومضاهاة منتجاته علامة بارزة في المنتجات الفكرية العربية.
لقد أحيا د. ناصر المؤرخ العربي تقي الدين المقريزي من منطلق فكري ووجداني مستخدماً أرقى وأدق أساليب البحث الغربية ولكن بلغة عربية جزلة تردد في سردياتها جمالية بلاغة القرآن الكريم، وتعيد إحياء التاريخ السياسي والاجتماعي والفكري الذي نهل منه المقريزي أو عاصره أو استند إليه أو أعاد إحياءه، بحيث شعرتُ أنه نفخ الحياة في المقريزي بعد قرون من وفاته من خلال مقاربته الموسوعية البحثية الشاملة والمعمّقة، وإشغال ذهنه المتّقد ونفسه الصافية وحكمه بالقسطاس المستقيم على كل نص واقتباس ورأي أو فكرة.
لقد بعث د. ناصر المؤرخ المقريزي حياً بيننا وأشركه بما نشعر به حول ملابسات وتعقيدات وصعوبات زمننا الراهن فأصبح كلاهما- د. ناصر والمقريزي- ملهمين لتفكيري بعصرنا المعقد وأحداثه الشرسة ومحاولة التبصّر لاستخلاص المخارج المحتملة وسط حملات تضليلية مركّبة لا تعرف للحقيقة سبيلاً ولا للإنصاف دليلاً أو مرشداً.
وخالط امتناني لهذه الاستزادة المعرفية القيّمة شعور بالأسى لندرة أمثال هذا الكتاب الذي يعرّف الأجيال بجوهر محطات تاريخية مفصلية نستلهم منها الجرأة على مقاومة الارتكابات المسيئة بحق البلاد والعباد، ونعمل على أن نكون- كما كان المقريزي ود. ناصر- منارات على طريق الحق مهما جارت الأزمان.
أليس من اللافت أن تصبح هذه السيرة الشاملة والعميقة والموسوعية والمنصفة لمؤرخ جليل عمل على تخليد الوطن الذي عشق، وقاوم الخطأ والظلم بأسلوبه الحكيم وصبره ورقّته ومثابرته رغم حلكة الأيام، أن تصبح عوناً لي ولأمثالي لمواجهة ومعايشة أوقات صعبة بعد ستة قرون من وفاة صاحبها؟ أوليس هذا هو الإبداع بذاته في البحث والتأليف المتوازن الراقي الذي جمع بين عمق وشمولية المضمون وبين أدق مناهج وطرائق البحث الوجداني المعمّق؟
ولكنّ هذه التجربة أيضاً أثارت أسئلةً مقلقةً لديّ: هل تتمثل مشكلتنا نحن العرب في تغلغل المركزية الغربية بين ثنايا تاريخنا بما فيه ذاك النهضوي منه، وتشبّع تلامذة الاستشراق بفكر أساتذتهم، بحيث لم نعد قادرين على صياغة تاريخنا الفكري بشكل مستقل تماماً كما فعل د. ناصر الرباط في هذا الكتاب؟ وهل المركزية السياسية والعسكرية الغربية التي تغذي حرب الإبادة ضد العرب على مرأى ومسمع من العالم برمّته تشكل وجهاً فقط من أوجه المركزية الغربية التي شكلت وعينا ووجداننا من خلال الكتّاب العرب الذين تقمّصوا الاستشراق وانبهروا به، فأصبح مكوناً لا شعورياً من مكونات فكرهم أعادوا إنتاجه بطرائق مختلفة في الأدب الذي سميناه تنويرياً ونهضوياً؟ هل مازلنا نحن في القرن الواحد والعشرين ندفع أثمان عصر الاستبداد الذي أحرق كتب ابن رشد وابن سينا وابن خلدون، بحيث أخذ الغرب السبق في دراسة مؤلفاتهم أحياناً دون إتقان لغتهم العربية وعادوا إلينا بمنتجات ذات نظرة دونية لتاريخنا وديننا ومعتقداتنا، والتي مازال البعض يحتضنها ويتصرف على أساسها ويتحكم بمصائر البلدان من منظور موتور مرتجف لا يمتلك الجذور الضاربة في الأعماق التي تؤهله لاكتشاف سبيل الرشد للبلاد والعباد؟
لقد كنت أتساءل عن موقع العرب في التاريخ الحديث، أما الآن فأتساءل عن ماهية التاريخ والفكر العربيين الذين ندرّسهما للأجيال وما إذا كنا بحاجة لإعادة النظر بهما بعيداً عن الاستشراق وإعادة تأهيل الفكر والهوية العربيين على الأسس التي وضعها الأقدمون قبل أن يتناولها المستشرقون ويردّون بضاعتنا إلينا محمّلة بنظرتهم المنقوصة والدونية لنا.
المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء
إقرأ أيضاً:
وول ستريت جورنال: احتضان واشنطن لبوتين يهدد بتقسيم الغرب
قالت صحيفة وول ستريت جورنال إن احتضان الرئيس الأميركي دونالد ترامب المفاجئ والحماسي لروسيا و"زعيمها المستبد" فلاديمير بوتين مدفوع جزئيا برغبة إستراتيجية في إحداث شرخ بين موسكو وبكين، اللتين تسعيان منذ مدة طويلة لإنهاء هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي.
وقد أطلق خبراء السياسة الخارجية على هذه المحاولة -حسب تقرير ياروسلاف تروفيموف للصحيفة- اسم "عكس نيكسون" عندما تحرك الرئيس ريتشارد نيكسون في أوائل سبعينيات القرن العشرين لعكس السياسة الأميركية بالتقرب من الصين الشيوعية لتعميق الانقسام بين رئيسها آناك ماو تسي تونغ والاتحاد السوفياتي، مما أعاد ضبط الجغرافيا السياسية للحرب الباردة ومهد للتنمية الاقتصادية في الصين.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2غارديان: إقالة ترامب لرئيس الأركان تهميش لطيار مقاتل أسودlist 2 of 2أكسيوس: 5 خطوات لزيلينسكي أثارت غضب ترامبend of listغير أن الفصل بين روسيا والصين الآن، بعد أن أعلنت الدولتان عام 2022 أن بينهما صداقة "لا حدود لها"، سيكون صعبا، وسيؤدي تحول واشنطن لدعم روسيا والابتعاد عن أوكرانيا -كما يقول الكاتب- إلى نفور حلفائها في أوروبا الذين يشكلون مجتمعين أكبر شريك تجاري وأكبر مستثمر أجنبي للولايات المتحدة، كما قد يؤدي إلى إثارة مخاوف الشركاء في آسيا كذلك.
ورغم كل هذا، ردد ترامب الدعاية الروسية، ووجه سيلا من الشتائم إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ووصفه بالدكتاتور، وألقى باللوم على كييف في بدء الحرب.
إعلانوقد تسبب هذا "الانفجار"، الذي أعقب خطاب جيه دي فانس نائب الرئيس الأميركي اللاذع أمام الزعماء الأوروبيين في ميونخ، في أكبر صدع في العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها عبر الأطلسي منذ عدة عقود.
عكس نيكسونوذكرت الصحيفة أن نيكسون عندما عكس هو ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر مسار السياسة الأميركية المتعلقة بالصين، كانا يستغلان الصدام القائم بين موسكو وبكين، اللتين اتهمت كل منهما الأخرى علنا بالانحراف عن التعاليم الشيوعية.
وقد ساعد التعاون اللاحق بين واشنطن وبكين بالفعل في تآكل النفوذ العالمي للاتحاد السوفياتي، ولكن ما يحدث الآن هو عكس "عكس نيكسون"، كما قال المسؤول الكبير السابق في وزارة الخارجية الأميركية إيفان فايغنباوم الذي يعمل الآن في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
وأوضح فايغنباوم أن ترامب "يحاول كسر الوفاق بين قوتين لديهما تقارب أيديولوجي ومصالح إستراتيجية مشتركة، ولكن فعله بدلا من ذلك هو تقسيم الغرب، كما أتاح لروسيا أن تتحالف مع الولايات المتحدة ومع الصين في الوقت نفسه".
وكانت العقوبات الغربية بما سببته من ألم لروسيا، قد قربت موسكو من الصين، كما عززت الحرب في أوكرانيا تحالفات موسكو مع إيران وكوريا الشمالية، اللتين تزودانها بالذخيرة والطائرات المسيرة والصواريخ والجنود في حالة كوريا الشمالية.
ويرى المسؤولون الأميركيون في ظهور هذا المحور الجديد من الأنظمة الاستبدادية تهديدا إستراتيجيا من الصعب على الجيش الأميركي التعامل معه في وقت واحد، ويقولون إن رغبة ترامب الملحة في إنهاء الحرب في أوكرانيا مدفوعة بالحاجة إلى إضعاف، إن لم يكن تفكيك، تلك الجبهة المشتركة من الخصوم.
على نهج ترامبوفي هذا السياق، تشير مذكرة أعدتها مؤسسة بحثية تابعة للحكومة الروسية قبل المحادثات إلى أن موسكو قد تقترح إنهاء التعاون مع الصين في القضايا التكنولوجية والعسكرية الحساسة كجزء من صفقة لإنهاء الحرب في أوكرانيا بشروط مواتية لروسيا.
إعلانوقالت المذكرة إن موسكو تعرض أيضا الحد من مشاركة الصين في مشاريع البنية التحتية، كما قد تتعهد بالحد من استئناف صادرات الغاز إلى أوروبا لتقويض القدرة التنافسية الأوروبية والسماح بمبيعات الغاز الأميركي المسال، فضلا عن عروض لمنح الشركات الأميركية حقوقا في الرواسب المعدنية في أوكرانيا.
وأشارت الصحيفة إلى أن هذه الشروط مصممة على نهج ترامب في العلاقات الدولية، ولكن المتشككين في جدوى التواصل مع روسيا يزعمون أن موسكو لا تستطيع فعل الكثير لمساعدة الولايات المتحدة على احتواء الصين.
وحذرت ألينا بولياكوفا الرئيسة التنفيذية لمركز تحليل السياسات الأوروبية في واشنطن، من أن تخلي واشنطن عن أوكرانيا سوف يضفي الشرعية على "عدوان روسيا على أوكرانيا ويفتح الباب لبكين في العدوان المحتمل ضد تايوان".
وقال قائد القيادة الهندية الباسيفيكية الأميركية صمويل بابارو إن "الاعتقاد بأننا قادرون على دق إسفين بينهما خيالٌ"، لأن علاقة روسيا بالصين إستراتيجية ودائمة، في حين أن أي تقارب مع واشنطن مؤقت بطبيعته ما دام بوتين يعلم أن ترامب لن يكون في البيت الأبيض بعد أربع سنوات، وأن احتمال تحول الإدارة الأميركية التالية بشكل مفاجئ في الاتجاه المعاكس أمر وارد.
وخلصت الصحيفة إلى أن الصين التي تراقب تحول ترامب نحو روسيا ببعض القلق، تستفيد من ذلك مكاسب إستراتيجية مثل دعم نظام بوتين وفصل بقية أوروبا عن الولايات المتحدة، حتى إن وزير الخارجية الصيني وانغ يي تحدث عن الحاجة إلى الحفاظ على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ووصف أوكرانيا التي انتقد ترامب رئيسها بشدة بأنها "صديقة وشريكة".