العتبات ودلالاتها في مجموعة «الطريق إلى بيت أمي»
تاريخ النشر: 24th, June 2024 GMT
قد يظن القارئ أنّ عنوانا مثل (الطريق إلى بيت أمي) يحيل على كتابٍ في السيرة أو في أدبيات المكان، ولكن الشاعر محمد الحضرمي استغلّ فكرة الحنين إلى الماضي وتوظيفها في مجموعته الشعرية الصادرة عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء عام 2023م بداية من العنوان السابق وانتهاء بمضامين النصوص الشعرية الواردة في المجموعة.
كما أنّ الشاعر خصّص الأمومة بإضافة ياء المتكلم ولم يتركه عاما بحسب الاستخدام الشعري، كل ذلك يشير فيه إلى اتساع دائرة الحنين والشوق إلى الماضي من المتكلم. إنّ العتبات النصية في المجموعة تعبيرٌ عن مكامن الذات، وانفجار لواعجها الداخلية باستخدامات اللغة المتوهجة التي تشير إلى الطفولة والإنسان متقاطعة مع الماضي. إنّ الحضرمي مسكون بالماضي كما يبدو في كتاباته الأخرى التي تتقاطع مع الإنسان والمكان والحياة البعيدة؛ يظهر التمسك بالماضي في عتبات النص قبل الولوج إلى عالم النص الشعري، ويمكن أن نلمح ذلك في الصفحة السابعة من المجموعة؛ إذ تحيل العتبة/ البيت الشعري الاستهلالي أول المجموعة على المكان الأول (قرية مَعْمَد) والشاعر محمد بن مدّاد الناعبي حين يقول: «سقى مغاني الحيّ حتى تروى**بمعمدٍ إذ معمدٌ لي مثوى».
يُقدّم البيت السابق للقارئ انطباعا عن مدى الحنين إلى المكان/ معمد «قرية في ولاية منح»، ومنح ولاية يسكنها الشاعر، إذ يعود الاستشهاد إلى المكان مسترجعا قرية معمد في أول المجموعة التي تتشكّل مبدئيا من عتباتها وفق ذاكرة المكان، كما يعود بنا إلى الشاعر الناعبي (ق10هـ) الذي أبدى هو الآخر شوقه وحنينه إلى المكان بكل ما يحتويه البيت الشعري من معاني الشوق والحنين.
وفي عتبة الإهداء في الصفحة التاسعة نقف على عبارة للشاعر قائلا: «إلى مهاد الطفولة في بيوت الطين، وقد أضحت أطلالا كخيالات الأشباح، وكلّما داعبها المطر، أهدته منها قطعة.. وإلى ذكرى الأمكنة في الأيام الخالية». أليس ذلك إحالة على الحنين موضوعا، واسترجاعا للماضي وذاكرته؟ إنّ الشاعر في العتبات الأولى للمجموعة منفطرُ الوجدان متألم نتيجة البعد الذي يعيشه عن مرحلة الطفولة وذاكرة المكان الأول، لذا يُقدّم مجموعته موظفا عملية الاستعادة بين الزمنين وكأنهما يعيشان صراعا داخليا في ذات الشاعر.
تتصدر العتبات النصية نصوص المجموعة حتى لكأنها تشكّل مدخلا لفهم النص أو بوابة أولى للعروج إلى النص الشعري، ويظهر معها الترابط في بناء المضمون الشعري، نجد حضور أبيات سليمان بن سليمان النبهاني «من شعراء ق10هـ» مُفتَتَحا للدخول إلى نص (منح) لا سيما عند ذكر النبهاني لعبارة «البارق المَنَحيّ» في بيت شعري له، كما تحضر أيضا عبارةٌ من كتاب (تحفة الأعيان) لنور الدين السالمي مُفتَتَحا للدخول إلى نص (مالك بن فهم) وذلك للحديث عنه إثر معركته الشهيرة مع الفرس يوم سلوت. وتحضر عبارةٌ من كتاب (نهضة الأعيان) لمحمد بن عبدالله السالمي مُفتَتَحا للدخول إلى نص (كُمّة الساحر) للحديث عن حكاية قديمة يقول فيها: «يقال: إنه توجد في بعض كهوف جبل الكور «كُمّة» من «الجوخ الأحمر»، إذا وضعها الرجل الضخم على رأسه، تبلغ منكبيه، فإذا أراد إخراجها من موضعها، ذهب بصره، حتى يردّها في محلها». «ص54» كما نجد مقطعا من كتاب (في ظلال الأسلاف) مُفتَتَحا لنص حصاة بن صلت.
يلاحظ القارئ من خلال العتبات (الافتتاحيات) التي تسبق النصوص السابقة أن هناك ربطا بين النص الشعري والتاريخي، ومعه يحاول الشاعر تأكيد النص الشعري بالحدث التاريخي، كما يحاول التعبير عن التاريخ ورواياته بالرؤيا الشعرية. هذا على سبيل العتبات المتمثلة في الافتتاحيات، إلا أنّ القارئ سيجد أن المجموعة تتكئ على العتبات من زاويتين، الأولى: من العناوين ودلالاتها في المجموعة؛ إذ تُقدّم العتبات (العناوين) صورة واضحة متمثلة في ألفاظ الحنين والشوق إلى الماضي بكل تعبيراته، نجد مثل هذه العتبات في نصوص: (أغنية أولى، ومدرستي الأولى، ووجه أبي، والطريق إلى بيت أمي، وذكرى أحمد، والصفحة الأخيرة) وكلها تحمل دلالات النزوع إلى الماضي، فألفاظ مثل «أولى» و«أخيرة» و«أبي» و«أمي» تحمل دلالات التعلق بالحياة الماضية وارتباطها باستمرار الذاكرة.
في قصيدة (الطريق إلى بيت أمي) تظهر العودة إلى الماضي، ليمثّل هذا النص أنموذجا واضحا على العودة إلى ذاكرة الماضي، والاشتغال على استعادته لحظة الماضي، لذا وإن ألبس الشاعر على القارئ بالتركيز على لفظة «الطريق إلى» في العتبة/ العنوان فإنه ركّز في النص على ماهية البيت وارتباطه بالذاكرة القديمة والناس الذين كانوا يقطنون البيت، فلم تكن لفظتا «الطريق إلى» إلا إيهاما للقارئ بما هو أهم من الوصول إلى بيت الأم، فقطعه الشاعر عن القارئ وأقام الوصف المكاني مقامه وذلك لأهميته في النص. كذلك وإن ألبس الشاعر على القارئ في العتبة بلفظة «بيت أمي» فإنه أشار إليه في النص واصفا إياه بالقديم، وهنا أعني في النص، تظهر دلالات ما أخفته العتبة. إنّ الطريق حدث غير مهم في النص لذا اقتطعه الشاعر زمنيا من فعل الحدث، ولفظ القديم به ارتباطٌ زمني بالماضي والبعيد واشتغال الذاكرة فركّز عليها داخل النص رابطا بينها وبين دلالات الماضي. يقول:
عادت أمي
إلى بيتها القديم،
وتوقفت عند عتبة الباب،
وكأنها تذكّرت شيئا ما،
خلعت نعليها كما كانت تفعلُ،
وحملقت في خشبه المتهالك،
وجدرانه المتصدّعة.
يبدو البيت من الداخل موحشا..
-أين من كانوا هنا؟
توقفت أمي
عند باب بيتها القديم،
فمسحت جدرانه
وكأنها تعتذر
عن هجرانٍ طويلٍ،
سرق سنواتٍ
من عمرها المبارك،
ليعود الماضي بزهوه
إلى خيالها الكليل.
كما قدّمت العتبات (العناوين) صورة عن الحنين إلى المكان القديم، واستعراض الأحداث الغابرة وهو اشتغال قصده الشاعر بحكم زاوية الرؤية التي ينظر من خلالها إلى الماضي والتراث والتاريخ، نجد ذلك في نصوص مثل: (وحيدان في سفح موحش، والأعالي الغامضة، ومنح، ومعبد المضمار، وأبراج وادي العين، وكُمّة الساحر، ومالك بن فهم، وحصاة بن صلت). في قصيدة (وحيدان في سفح موحش) يعود بنا إلى التاريخ، إلى قبرين ضَمّا رفات إنسانين من الماضي البعيد، يُسلم الشاعر الحوار إليهما مستعرضَين الزمن الطويل الذي قضياه في قبريهما. إنها مسافة زمنية حاول الشاعر التنقيب عنها وإخراجها إلى القارئ، لذا اعتمدت عتبة النص على ألفاظ الوحدة والوحشة والغربة وهي تعبير عن طول المكث وهجر الناس للمكان معتمدا على أساطير التراث كالسحرة في محاولة لإيجاد ارتباط بين حكايات التراث القديمة وبين الماضي وحضاراته، يقول:
هذه مروج الجبل المسحورة،
تأفل في قبابها الأقمار،
وفي الليل،
سنقتفي أثر السحرة،
حين يدبون بضباعهم
إلى المفازات.
كما تتكئ العتبات في زاويتها الأخرى في المجموعة على اشتغالات الهوامش؛ إذ جاءت الهوامش مفسّرة لتأويلات اللغة في النص كونها لغة تأخذ من المحكية دلالة لمعانيها، وتأخذ من تقاطعات التاريخ تعبيرا لها. فنجد الشاعر يفسّر من خلالها ما غمض على القارئ من المفردات الأثرية والتراثية والمكانية القديمة، نجد اتساع ذلك في المجموعة بأكملها وفي غير نص، إنّ الهامس أصبح نصا موازيا للمتن، يعود الشاعر من خلاله إلى التعريف بالتاريخ والماضي، ولعل نص (منح) من أكثر النصوص التي اعتمدت على الهوامش في اشتغالها إذ بلغت الهوامش في النص 11 هامشا.
إننا أمام مجموعة شعرية تتكئ على العتبات في بناء نصوصها ومعها يعود الشاعر إلى التاريخ وأحداث الماضي، والتي معها نجد أن النصوص الشعرية بدأت تفقد حسّها الشعري وبريقها الفني باتجاهها جهة الأحداث التاريخية والتعبير عن التراث والماضي، فقد وقع الشاعر في شرك الكتابة التاريخية والميل إلى نبش التاريخ واستعادة الماضي فخرجت اللغة الشعرية في غير موضع عن تعبيراتها الفنية وحركتها الشعرية.
إلا أن الشاعر كان ملتزما بربط التاريخ بالكتابة واستعادتها في نصوص مجموعته وهو ما يُظهر لنا شغف الحضرمي بتتبع تاريخ المكان العماني.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی المجموعة الحنین إلى إلى الماضی إلى المکان بیت الأم فی النص
إقرأ أيضاً:
في ذكرى الشاعر خليل فرح
في ذكرى الشاعر خليل فرح
تاج السر عثمان بابو
في 30/ 6/ 1932م توقف قلب كبير عن الخفقان، توفى خليل فرح الذي كان نزيلا بمستشفى النهر بالخرطوم، بعد أن ادركته علة الرئة (السل)، تلك العلة التي قال عنها الخليل: (علتى وهى علتى قصة الناس في البلد).
والواقع، عندما نتحدث عن الاغنية السودانية الحديثة وروادها يقفز الى الذهن خليل فرح، انه كان مبدعا ومجددا حقيقيا في الأغنية السودانية، وقد صدرت في سيرة الخليل عدة كتب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
– نقوش على قبر الخليل، للاديب المثقف والدبلوماسي عبد الهادي صديق، رحمه الله.
– ديوان الخليل، الذى قدم له وحققه طيب الذكر الراحل علي المك.
– كما قدمت الاستاذة حاجة كاشف دراسة عن الخليل.
– وفى مؤلف المرحوم حسن نجيلة: ملامح من المجتمع السوداني، جوانب مختلفة من شعر الخليل ودوره في الحركة الوطنية وفي جمعية اللواء الأبيض وذكريات نابضة بالحياة عن صالون (فوز).*
الخليل من ذلك الجيل من المتعلمين والمثقفين السودانيين الذين تخرجوا في كلية غردون وغيرها، والذين حملوا أعباء النهضة السودانية الحديثة صارعوا من أجل إرسائها في مختلف المجالات، ووضعوا حجر الأساس الذي لازلنا نبنى عليه في تلك المجالات، سواء اكان ذلك في ميادين الاقتصاد أم الاجتماع أم السياسة، ام الموسيقى أم المسرح.. الخ.
والواقع أننا لا يمكن فهم تطور السودان الحديث دون المعرفة العميقة والباطنية لجذور وجينات ذلك التطور والظروف التى حكمت وشكلت قسمات نشأته الاولى.
من هذه الزاوية، نتناول الدور الذي لعبه الخليل في نهضة وتطور السودان الحديث، وتتناول قضايا التقدم الاجتماعي التى كان يثيرها، كما نتناول الربط المبدع لأشعار الخليل بالوطنية والطبيعة السودانية وتخطيه حدود المكان والزمان. فلازالت قصيدة (عزة في هواك) ترن في الآذان كرمز للوطنية السودانية، وسوف تظل خالدة في حاضر ومستقبل السودان، كما كانت في الماضي. يقول الخليل فيها:
عزة في هواك نحن الجبال وللبخوض صفاك نحن النبال
عزة ما سليت وطن الجمال ولا ابتغيت بديل غير الكمال
وقلبي لسواك ما شفتو مال خذيني باليمين وانا راقد شمال
عزة ما نسيت جنة بلال وملعب الشباب تحت الظلال
وهي من القصائد الرائعة التي يربط فيها الخليل الوطن الكبير (السودان) بالوطن الصغير (امدرمان) ومنطقة مولد الخليل.
يتناول البحث القضايا التالية:1- الخليل وعصره
2- الخليل والتجديد
3- النهضه في اشعار الخليل
4- الخليل والوطنية السودانية
5- الخليل والمرأة
6- الخليل والطبيعة
7- خاتمه.
أولا: الخليل وعصره:ولد خليل فرح في قرية دبروسه بمنطقة حلفا سنة 1894م (1) ، أى أن الخليل ولد في السنوات الأخيرة لدولة المهدية التي استقل فيها السودان لمدة ثلاثة عشر عاما وتم سقوطها في عام 1898م ، فالخليل تفتح على الاحتلال الإنجليزي – المصرى للسودان، وهزيمة دولة المهدية ، وربما يكون اختزن في ذاكرته فظائع احتلال السودان واستباحة الخرطوم خلال الأيام الأولى للغزو ، ومؤكد ان – صح ذلك – أن هذا الواقع يكون قد ترك اثره بهذا القدر أو ذاك في الخليل ، كما تفتح الخليل ايضا في طفولته الباكرة على النيل وجمال الطبيعه والنخيل والسواقي والاشجار والطيور المتنوعة .. وكل ما تحمله حياة الريف في منطقة السكوت أو المنطقة الشمالية من جمال وبساطة وبهجة ، اضافه لأغانى النوبة ورقصهم وتراثهم الشعبي وأمثالهم وحكمهم، كما نلاحظ بعضا من ذلك في اشعاره ، فعلى سبيل المثال هناك مثل نوبي يقول: زوج البنت دينار فوق جبهة الحماة. والدينار عند النوبة حلية من الذهب الخالص مستديرة الشكل تربطها المرأة في شعر الناصية وترسلها الى الامام ، فتستقر فوق الجبهة ، وهي حلية من الحلى الزاهيه تعتز بها كل امرأة. وهو مثل يضرب للدلالة على مكانة زوج البنت وعلو قدره في نظر حماته.وفي قصيدة ( جنائن الشاطئ) يستلهم الخليل هذا التراث عندما يقول:
القوام اللادن والحشا المبروم
والصدير الطامح زى خليج الروم
حلى جات متبوعة الصافية كالدينار
في القوام مربوعة شوفا عالية منار
وكان والد الخليل : فرح بدرى يعمل بالتجارة ، وكان كثير الاسفار في المنطقة من حلفا ودنقلا وكثيرا ما كان يصحبه خليل في تلك الأسفار، وبطبيعة الحال ، ان هذه الأسفار كان لها الأثر في شخصية وتفكير الخليل فجعلته يتعرف على مناطق مختلفة من السودان في بداية حياته، الشيء الذى جعله واسع الأفق والخيال كما ساعدته على حب وعشق الطبيعه والتى عبر عنها كثيرا في أشعاره ، توفى والده سنة 1915 ، كما توفيت والدته سنة 1927 م.
نال الخليل جزءا من تعليمه في خلوة الشيخ أحمد هاشم بجزيرة صاى ، ثم الكتاب في دنقلا ، كما درس في امدرمان حيث كان يقيم واهل ابيه ، ودخل كلية غردون وتخرج فيها مهندسا ميكانيكيا، وعمل بعد تخرجه في مصلحة البوستة والتلغراف ، نتوقف هنا قليلا لنلاحظ ، أن الخليل تلقى تعليما مدنيا حديثا أو مدنيا فرضته احتياجات الادارة البريطانية بعد قيام مشاريعها الصناعية والزراعية والخدمية ، واحتياجها لنوع من التعليم الحديث يلبى الاحتياجات ، وبدراسة الخليل للهندسه تفتح أفقه وخياله وبدأ يتعامل مع المنجزات الحديثة للثورة الصناعية الاولى من أدوات انتاج ومبادئ العلوم والرياضيات والهندسه .. الخ، كل ذلك أسهم في تنمية وعى الخليل الاجتماعي والذى صقله فيما بعد باطلاعه الواسع في الأدب والشعر القديم والتاريخ الاسلامي والسوداني ، اى ان الخليل تخطى برنامج كلية غردون الدراسي الذي كان يقتصر على تدريب الطالب على مهنه محددة معزولة عن الثقافة العامة ، وهذه نقطه مهمه تشكل المفتاح لفهم سر التجديد في الاغنية السودانية وفي الشعر السوداني عامة ، ذلك لأن الخليل نفسه هو نتاج القوى الحديثة من موظفين وعمال ومهندسين الذين برزوا بعد قيام مؤسسات الادارة الاستعمارية في بداية القرن الماضي ، وهذه القوى هى التى قادت دفة التجديد في مختلف المجالات الأدبية والفنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية فيما بعد.
ومن الملامح الانسانية للخليل زواجه من السيدة سلامة اغا ابراهيم أرملة شقيقه بدرى وذلك في جزيرة (صاى) عام 1923 م ، وكان له من الولد فرح وعائشه.
وكان للخليل نظرة عميقة للاستعمار باعتباره سبب الشقاء والتخلف للسودانيين ، وهذه النظرة نلمحها في قصيدة ( صائد الانام) ، وهى قصيدة نظمها بمناسبة زيارة ( أمير بريطاني) للسودان جاء فيها:
يا صائد الانام سافر يا أمير وانزل اراضينا
جوب ساحاته واستعرض ميادينا
ما تهمك مدارسنا ونوادينا
اهلك اهملوا تأسيسه عامدينا
ساد الجهل وسادت عوادينا
وعم الفقر مداينا وبوادينا
ما اتسولنا أو مدت ايادينا
غير الخالق المن فيضه يدينا
ياصائد الأنام المولى عاطينا
طبيعة غنية في بواطينا
ما اخصب جزائرنا وشواطينا
وخيرات الجزيرة الدافقة طينا
ويختتم الشاعر بقوله:
بس الشفته من أحوالنا بيألم
احكى عنه لاهلك وعد سالم
والخليل هنا يعبر عن مفهوم عميق للاستعمار كظاهرة اقتصادية اجتماعية ، باعتباره سبب الجهل والتخلف رغم ادعائه بأنه جاء لنشر التعليم والمدنية ، ويتضح ذلك من اهماله للتعليم والشح في بناء المدارس والأندية التى ترمز للوعى والتقدم الاجتماعي والثقافي ، ورغم خيرات البلاد وخصوبة أرض الجزيرة ، الا أن عائدها يذهب لجيوب المستعمرين بينما السودانيون يعانون من الفقر في المدن والبوادى ، والخليل هنا كان عميقا عندما يلاحظ الفقر في القطاع الحديث ( المدن) ، وفى القطاع التقليدي ( البوادى) ، ويشير الى عزة السودانيين الذين يرفضون التسول رغم الفقر الذي عمّ في فترة سيادة الاستعمار الذي اهتم بالمحصول النقدي ( القطن) واهمل زراعة قوت الناس مثل: الذرة والدخن والخضروات .. الخ، أى أن الاستعمار لم يكن يهمه غذاء السودانيين ورفاهيتهم بقدر ما كان يهمه غذاء السودانيين ورفاهيتهم بقدر ما كان يهمه انتاج المحصول النقدي( القطن) اللازم لمصانعه في لانكشير.
اعتقد أن الخليل هنا عبر بالحدس والفطرة تعبيرا عميقا عن فهم ظاهرة الاستعمار والأسباب الأساسية للتخلف التى نشأت من استنزاف خيرات البلاد، وتصدير الفائض الاقتصادي للخارج وابقاء السودانيين في حالة من الجهل والفقر.
وبعد استقرار دولة الحكم الثنائي شرعت في إرساء البنيات الاساسية للدولة السودانية الحديثة ، فقامت السكك الحديدية والنقل النهرى وتم انشاء ميناء بورتسودان ، وتم إرساء التعليم الحديث وقامت كلية غردون وتم بناء المستشفيات الحديثة وقامت مصلحة البوستة والتلغراف وقام مشروع الجزيرة وخزان سنار ، ونشأت دور الطباعة والنشر والصحافة .. الخ.
وشهدت الفترة (1900– 1919م) تخرج متعلمين في كلية غردون، كما شهدت تطورات عالمية وداخلية كان لها الأثر في تطور وظهور شكل جديد للوطنية السودانية بعد هزيمة دولة المهدية واتباعها وهزيمة الانتفاضات القبلية والدينية التى استمرت حتى 1916م. حيث تم القضاء على تمرد السلطان على دينار في دارفور. وشهدت تلك الفترة الحرب العالمية الأولى وما تمخض عنها من تطورات في الحركة الوطنية لشعوب المستعمرات.والاتجاه العام للمطالبة بحق تقرير المصير ، كما شهدت نشوء ومولد الصحافة السودانية التى بدأت اجنبية الملكية سودانية القراء ، حتى قامت أول جريدة (الحضارة) سودانية في الملكية والقراء (2 ).
كما اشترك الجنود السودانيون في الحرب العالمية الاولى وعادوا للبلاد بوعى جديد ، كما شهدت تلك الفترة نهوض الحركة الوطنية المصرية التى توجت بثورة 1919 م والتى كانت تطالب بسيادة واستقلال مصر ، كما شهدت شعوب المستعمرات الاخرى في الشرق ثورات مثل ثورة الهند ، كما قامت الثورة الروسية عام 1917م.
ولم يكن السودانيين ولاسيما المتعلمين منهم بمعزل عن تلك الأحداث والتطورات فتم انشاء نادى الخريجين ، وقامت جمعية الاتحاد السوداني و جمعية اللواء الأبيض فيما بعد والتى كانت تطالب بوحدة وادى النيل تحت التاج المصرى وجمعية اللواء الابيض من اوائل التنظيمات التى قامت على اسس سياسية حديثة في السودان وشكلت تطورا ارقى في ميدان التنظيم في السودان. كان خليل فرح عضوا في جمعية الاتحاد السوداني التي تكونت عام 1921 م في منزل محى الدين جمال ابوسيف ومن اعضائها المؤسسين توفيق احمد البكرى وبشير عبد الرحمن وكلهم كانوا من طلاب كلية غردون ، وكان هدف هذه الجمعية وحدة وادى النيل ثم صار من اعضائها : مدثر البوشي ، الامين على مدنى ، عبيد حاج الامين ، بابكر القبانى ، توفيق صالح جبريل وغيرهم.
ومارست الجمعية آساليب العمل السري ، وكانت اجتماعاتها تتم سرا ، وتوزع المنشورات التى توضح اهداف وافكار الجمعية ، وعندما قامت جمعية اللواء الأبيض انضم اليها خليل فرح وكان الخليل يعبر في قصائده واشعاره عن أهداف وشعارات وحدة وادى النيل التى قامت ثورة 1924 م على أساسها ونلمس ذلك على سبيل المثال في قصيدة ( الشرف الباذخ) والتى يقول فيها:
نحن ونحن الشرف الباذخ دابى الكر شباب النيل
قوم قوم كفاك يا نايم شوف شوف حداك يا لايم
مجدك ولىّ وشرفك ضلّ وامتى تزيد زيادة النيل
إلى أن يقول:
ده ود عمى وده ضريب دمى وانت شنك طفيلي دخيل
يانزلانا امرقوا الذمة كيف ينطاق هوان الأمة
شالو حقوقنا وزردوا حلوقنا ديل دايرين دمانا تسيل
من تبينا قمنا ربينا ما تفاسلنا لو في قليل
مافيش تانى مصرى سودانى نحن الكل ولاد النيل
واضح من القصيدة انها تعبر عن جماعة ( نحن) أى جماعة وحدة وادى النيل ، ويرد فيها ذكر (النيل ) أكثر من مرة ويختتم بقوله ( مافيش تانى مصرى سوداني نحن الكل (ولاد النيل)، ويرد فيها تعابير مصرية مثل ( امتى تزيد زيادة النيل )، كما يشير الخليل الى الكبت الذي يعاني منه الشعب السوداني في ظل الاستعمار الانجليزى عندما يقول:
يا نزلانا امرقوا الذمة كيف ينطاق هوان الأمة
شالو حقوقنا وزردوا حلوقنا ديل دايرين دماءنا تسيل
ويقول للمصرى والانجليزى:
ده ود عمي وده ضريب دمي وانت شنك طفيلى دخيل.
اى أن القصيدة تعبر تعبيرا كاملا عن أهداف اللواء الابيض (وحدة وادى النيل).
كان الخليل عميقا في ثقافته ومعرفته بالتاريخ والشعر العربي والتراث السوداني وينعكس ذلك في شعره وقصائده ، كما استطاع أن يطوع تلك المعرفة على الواقع السوداني ، وتحت مفاهيم جديدة ولغة جديدة وجمع في شعره بين العامية والفصحى.
وفي قصيدة ( طير الوادى) إشارة للتراث والآثار السودانية والامجاد الماضية يقول فيها:
كنانة آمون مشغوله قايدة وشايدة
من والدته بى تلك القصور الشايدة
وفي قصيدة (تعال الى) يقول:
طربت وهزني الشوق المشيم وعاود مهجتى داء قديم
الى أن يقول:
فسل سوبا وسنار عنا وواد النخل لبنك الرسوم
فالخليل هنا يصل لمرحلة متقدمة في الوعى بالذات والحضارة السودانية.
وفي قصيدة ( لاتقوم الشعوب الا على ماضي)، يقول:
رب ماض من الهوى بعثته ذكريات الهويل بالتغريد
لاتقوم الشعوب الا على ماض بقيت بذكره في النشيد
وبنفسى هى الحياة حياة اسلكت أهلها سبيل الخلود
ويدعو الخليل الى العلم والمعرفة حين يقول:
فكونوا كا الكواكب ذا زمان لغير اولى النهى ليل بهيم
وشدوا بعضكم بعضا وسيروا بغير العلم مسلككم وخيم
ثانيا: الخليل والتجديد:كانت الأغنية السودانية قبل الخليل تتسم بالاسفاف والركاكة ، وهى نتاج المجتمع التقليدي الضيق الذي كان يعيش فيه السودانيون قبل الارتباط بتيارات الثقافة العالمية ، ودخول التعليم الحديث ، وبالطبع عندما جاء الخليل بتعليمه المدنى الحديث وثقافته واطلاعه الواسع ، اسهم في الارتقاء بالاغنية السودانية ونحت تعابير ومفاهيم جديدة تتسم بالرصانة على المستوى العامي والفصيح. ويرى المبارك إبراهيم ، أن تاريخ وتهذيب الأغانى السودانية في مبتدأه لايعترف الا بوجود الزعماء المجددين الثلاثه: ابراهيم العبادى ، صالح عبد السيد( ابوصلاح)، وخليل فرح (5).
هذا وقد اتسم شعره بصفة عامة بحب الطبيعة والوطن ويقول القصيدة تصدر عنه بلحنها مثلما هو بشفق عليها ان تقع في ايدى العابثين ، فكانت الحانه فريدة والعمل الغنائي يخرجه خليل فرح كاملا كلمات وغناء ، والذي اسماه المبارك ابراهيم تهذيبا ، ولكن على المك يطلق عليه في الواقع ثورة (6).
وخليل فرح رغم أنه نوبي ، ورغم سيطرة ثقافة الوسط العربية ومحاولة تهميشها لثقافات الأطراف غير العربية ، الا أن الخليل برهن على أنه متمكن من اللغة العربية العامية والفصحى ، واستطاع أن يحدث ثورة حقيقية في الأغنية السودانية ، وفي تنمية لغة اهل امدرمان التى هى حصيلة تفاعل قبائل السودان المختلفة التى تم حشدها في المدينة عند بداية تأسيها بعد انتصار الثورة المهدية.
واسهام النوبة في الثقافة العربية الاسلامية واضح ، فكما يقول د. عبد الله الطيب : الجاحظ العظيم نوبي ، وذو النون المصري القطب الصوفي المشهور كان نوبيا ، مما يوضح أن النوبة كما ابناء الفرس والروم ساهموا في تشييد صرح الثقافة العربية الإسلامية. وبالتالي لا نستغرب ابداع خليل فرح النوبي وتمكنه من اللغة العربية وإسهامه في تطوير وتجديد فن الغناء السوداني.
ثالثا: النهضة في اشعار الخليل:في قصائد الخليل نلمس دعوات واضحة الى ابناء الوطن لكى ينهضوا و يواكبوا التطور ويتحرروا من الركود والجمود، في قصيدة (الشرف الباذخ) يقول:
قوم قوم كفاك يا نايم شوف شوف حداك يا لايم
مجدك ولى وشرفك ضل وامتى تزيد زيادة النيل
فهى دعوة صريحه للنهضة والتطور والازدهار حتى يعم الرخاء والتقدم في البلاد.
وفى قصيدة (فلق الصباح) يقول:
عزه قومى كفاك نومك وكفانا دلال يومك
انت يالكبرتوك البنات فاتوك
في القطار الطار
فهى دعوة صريحة للوطن لينهض ويلحق بالاوطان الأخرى التى سبقته في مضمار النهضة والتقدم.
وفي قصيدة (عزة في هواك) يقول:
عزة شفت كيف نهضوا العيال جددوا القديم تركوا الخيال
وفي قصيدة (وطني) يقول:
لبسوا الجديد على القديم وهكذا
صارت تصان وديعة الأحفاد
رابعا: خليل والوطن:أحب الخليل الوطن وعشقه عشقا شديدا وعبر عن هذا الحب في أشكال مختلفة منها الشكل المباشر والشكل الرمزى (الحبيبه، عزة، المرأة ،… الخ).
وفي قصيدة (ماهو عارف) يصل للقمة في حب الوطن يقول في القصيدة:
ماهو عارف قدمه المفارق يا محط آمالي السلام
في سموم الصيف لاح بارق لم يزل يرتاد المشارق
كان مع الأحباب نجمه شارق ماله والأفلاك في الظلام
الى أن يقول:
من فتيح للخور للمغالق من علايل ابروف للمزالق
قدله يا مولاى حافى حالق بالطريق الشاقه الترام
ما يئسنا الخير عوده سايق الى يعود ان اتى دونه عايق
الى يوم اللقاء وانت رايق السلام يا وطني السلام
وفي قصيدة (أذكر بقعة ام درمان) يعبر عن حب عميق لوطنه الصغير ( ام درمان) وعن فهم عميق لتاريخ وجذور المدينه وتركيبتها، يقول في القصيدة:
اذكر بقعة ام درمان وانشر في ربوعها آمان
ذكر ياشبابي زمان
يواصل الخليل ويقول:
دارنا ودار ابونا زمان وفيها رفاة جدودنا كمان
ما بننساك خلقه ضمان جنه وحور حماك ضمان
بطرى الاسسوك زمان كانوا نحاف جسوم1 ما سمان
كانوا يحلحلوا الغرمان يساهروا يتفقدوا الصرمان
في السودان فتيح معروف ولسه ابو عنجه خوره سروف
وود نوباوى زول معروف باقى وديك مشارع ابروف
كانوا جبال تقال ومكان نزلوا اتربعوا الأركان
نلاحظ هنا أن الخليل يستخدم (بقعة أم درمان)، وكلمة بقعة من الكلمات التي يستخدمها الامام المهدي عليه السلام ، مما يشير الى ربطه وتلميحه الى ام درمان العاصمة الوطنية أو عاصمة أول دولة مستقلة.
وفي القصيدة نلاحظ الوصف للأحياء الذين اسسوها وبطولاتهم وشهامتهم (جبال تقال ومكان). أى أن الخليل هنا يشير الى امجاد المدينة وتاريخها والوطنية السودانية من خلال هذه القصيدة، وكذلك في رائعته (يا نيلنا يا نيل: الحياة) التى يقول فيها:
يا نيلنا يا نيل الحياة حياك حياك الحيا
الى أن يقول:
بالله يا وطن الصبا بالعافية يا روح الصبا
بفداك من قلبي الصبا بي مالى بي دم الصبا
يواصل ويقول:
يا نيلنا يا سحر الحلال يا ابشامه في صدرك هلال
قول للسلف خلفا حلال نتلاقى في جنة بلال
خلاصة القول: إن الخليل احب الوطن حبا جما، حبا ملك كل كيانه وسرى في دمه، ومن هنا نفهم سر خلود شعر الخليل على مر العصور والازمان ، وسيظل الناس دائما يرددون (عازه في هواك)، و(ما هو عارف قدمه المفارق)، و(فلق الصباح)،.. الخ.
خامسا: الخليل والطبيعة:كانت الطبيعة والبيئة السودانية مصدرا هاما لاشعار واغانى الخليل ، فنجد أن الخليل حسد ما كان يدعوا اليه حمزة الملك طمبل ، وهو نظم شعر سوداني اصيل يعكس بصدق واقع وبيئة السودان بدلا من النقل الاعمى لبيئات اخرى وحشرها حشرا في اشعارنا ، اى شعر كل من يقرأه يعرف أنه شعر سوداني صميم. ومن الامثله لذلك قصيدة ( مقرن النيلين) التى يقول فيها:
صبحنا نوارك هباب والروضة تتنفس حباب
حس السواقى مع الضباب مناحه بالهوى طارقه باب
وقصيدة (اياما مضت) تعكس ذكرى عميقة للطبيعة يقول فيها:
اياما مضت ساعة تدخل الغابه
في ضل الأراك ترى البهم تشابى
لى وقت العصير تتفاوت الجلابة
تغشى الحلة سامعين لى نبيح كلابه
ومن الاشجار التى ترد في شعر الخليل (النخل)، (النبق أو السدر)، ( والأراك)، (السلم)،… الخ من الأشجار التى تعبر عن البيئة السودانية.
ويصل حب الطبيعة الى نهايته العظمى في شعر الخليل في قصيدة (في الضواحى) التى يقول فيها:
في الضواحى وطرف المداين يله ننظر شفق الصباح
قوموا خلوا الضيق في الجناين شوفوا عز الصيد في العساين
الى أن يقول:
بالطبيعة الواديك ساكن ما فى مثلك قط في الاماكن
ياجمال النأى في ثراكن ياحلاة البرعى اراكن
في قفاهن ثور قرنه ساكن لاغش لاشافن مساكن
في الحزام والشبح والبراح
ويختتم بقوله:
مال نسيم الليل بي برودك نامت الازهارفي خدودك
غرد العصفور فوق عودك النفوس ما تعدت حدودك
ما عرفنا عدوك من ودودك بس انا المقسوم لى صدودك
ياحياتى واملى اللى راح
سادسا: الخليل والمرأة:اهتم الخليل بتعليم المرأة باعتبار ذلك أساس النهضة والعمران ، وكان انحياز الخليل واضحا في الصراع الذي دار في العشرينيات من القرن الماضي بين أنصار وأعداء تعليم المراة ، كان الخليل مع تعليم المرأة ووقف بجرأة مع مجرى التطور والتقدم الاجتماعي، ويتضح ذلك في قصيدته بعنوان (في تعليم المرأة) والتى يقول فيها:
ارشدونا يا ولاة الامر في أمرنا ذل جهول خامل
وانصفونا من حياة نصفها حائر والنصف جسم جاهل
تعب في الغيط والبيت متى يصلح الحال ويأوى العاقل
علموها انها مدرسة لحياة ما اليها طائل
وللخليل قصيدة اخرى في تعليم المرأة بعنوان (المدرسة) يقول فيها:
يلا نمشى المدرسة سادة غير اساور غير رسا
يلا سيبى الغطرسه قومى افرزى كتب المدرسه
الساعة سته دقت يام رسا نايمه والمنبه حارسا
الى أن يقول:
دراسة ماك جاهلة مخنسه قادله لى كتابه مؤنسه
حاشا ما تربيتي مدنسة لسه لسه عزك ما اتنسى
أى: أن الخليل يرى أن التعليم هو أساس التقدم والنهضة ولابد لنصف المجتمع أن يأخذ نصيبه منه. وكان الخليل يدعو لتحرر المرأة من الجمود والنظره الباليه للمرأة ولتحرر العلائق الاجتماعية في عفة وجمال وفي اطار تقاليد المجتمع.وفي قصيدة (صح النوم) يقول:
اختك يازينة العوالم طلعت فوق من غير سلالم
انت كمان عندك معالم بكره نقوم وطريقنا سالم
ليك الدار والناس محارم مجدك حى واهلك حضارم
انت العز وانت المكارم شرفك لى في الهيجا صارم
وفي قصيدة (تم دور وادور) يقول:
النحر معمر والسباته حارة والمجال مضمر
الشعر مخمر يرشح كله ند عردب المجمر
قام محمد بشر هز فوق تيجانن سل سيفه كشر
قول معاى واتفشر نحن سياج عروضن ونحن يوم المحشر
ومن قصائده الرائعه (ميل وعرض) التى يقول فيها:
ميل وعرض كتر امراضي بي هواكم والهوان راضى
جن ليلى وهاجت اعراضى سح دمعى وطاشت اغراضى
الى أن يقول:
بالى جسمي ومن زمان قاضى هاهو حبك بين انقاضى
هدى روعك اوع لاتقاضى ما بشارعك مابكوس قاضى
المضلل رشدى ياهادى والمكتر في القضاء سهادى
ومن روائعه ايضا: قصيدة (بين ها القصور) التى يقول فيها:
اللحظ مثير والكفيل وثير
والبسيم مفلج كالدر النثير
البنان خضيب والقوام رطيب
والوريد الباهى محق الوضيب
غير شك تسود العيون السود
مافى شئ مبدع خالى من حسود
خاتمــــــــة:من العرض السابق نصل الى أن الخليل كان مجددا حقيقيا لفن الغناء السوداني ، والخليل نتاج النهضة الحديثة والتعليم المدنى الحديث ، وكان ذو ثقافة عميقة وعلى المام بالتاريخ الاسلامي والسوداني وبالتراث السوداني ، ويظهر ذلك في شعره ، كما استطاع الخليل أن ينحت قوالب جديدة تناسب البيئة السودانية ، فجمع الخليل بعمق وبمهارة بين العامية والفصحى مما يدل على تمكنه من ناصية اللغة والشعر ، واستطاع الخليل أن يعطى القوالب الفنية القديمة التى كانت تتلخص في غناء الدوباى والطنبور والمديح . استطاع أن يكسبها مضامين جديدة ، أو كما يقولون : استطاع أن يصب نبيذا جديا في قنانى قديمه ، فبعث فيها الحياة وبكلمات اخرى ، كان الخليل عميقا بنى الجديد على افضل ما القديم .
استطاع الخليل إنتاج شعر وفن غناء سوداني اصيل عبر عن الفترة التاريخية بكل شحناتها وآلامها وعبر عن الواقع والبيئة السودانية في أشجارها وطيورها وانهارها وازهارها وجبالها ومعالمها التاريخية وتراثها الزاخر بالحياة ، كل ذلك في نسيج فريد، كما استطاع الخليل أن ينحت كلمات وتعابير جديدة، كانت ترمز للوطن بهذا القدر أو ذاك مثل (عزة)، و(جنة بلال)،…. الخ.
كان الخليل مناضلا من اجل الاستقلال ، وكان عضوا في جمعية اللواء الأبيض ومن رموزها الثقافية البارزة والمعبرين فنيا عن شعاراتها ، فالخليل لم يكن شاعرا رومانسيا بعيدا عن قضايا وهموم الوطن ، بل كان يعمل من اجل تغيير الواقع الى الافضل.
كما كان الخليل يعبر عن التيار العام للتطور الاجتماعي ، فنجد في قصائده الدعوة الى تعليم المرأة وتحرير البلاد من الجهل والفقر ، وكان وعيه مبكرا ، بأن سبب تخلف وفقر البلاد هو الاستعمار الانجليزى ، اى أن الخليل كان شاعرا واعيا بذاته وبتاريخه وبوطنه.
وكان الخليل من الاوائل الذين ادخلوا العود والآلات الموسيقية الحديثة في الاغنية السودانية.
كما كان الخليل يصارع ضد نوعين من الاضطهاد : اضطهاد الاستعماريين للسودانيين ككل ، واضطهاد القبائل العربية لثقافات القبائل الطرفية ، اى كان مناضلا ضد العنصرية ، واستطاع الخليل أن يبرهن أن ابناء النوبة رغم ( رطانتهم)، – والتى في الواقع لغة – يمكن أن يبدعوا في استيعاب اللغة العربية والشعر العربي.
الهوامش والمصادر:*الاشارة هنا الى مبروكة ( فوز) التى كانت تؤمن اجتماعات جمعية اللواء الأبيض وتشاركهم القضية والغناء مضحية بسمعتها ومكانتها في المجتمع في تلك الفترة الباكرة من تطور المجتمع السوداني من عشرينيات القرن الماضي.
1 – انظر ديوان خليل فرح، تحقيق وتقديم على المك (دار جامعة الخرطوم للنشر 1977م).
2 – راجع محمد متولي بدر: حكم وأمثال النوبة (معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية – شعبة الفلكلور 1978 ).
3 – للمزيد من التفاصيل راجع حسن نجيلة؛ (ملامح من المجتمع السوداني)– الجزء الأول، ومحجوب محمد صالح (الصحافة السودانية في نصف قرن)– الجزء الاول.
4 – على المك ديوان الخليل، مرجع سابق.
5 – المرجع السابق، ص 14 .
6 – المرجع السابق.
الوسومأم درمان السودان اللواء الأبيض تاج السر عثمان بابو جامعة الخرطوم خليل فرح ديوان الخليل عازة في هواك علي المك محجوب محمد صالح