حديث البطيخ والبصل.. والدولة المعيلة!
تاريخ النشر: 24th, June 2024 GMT
لم يحدث أن سمم الملك فاروق، أو والده الملك فؤاد، أبدان المصريين بالحديث عن "الأكل والشرب"، فالذين سمموا الأبدان بهذا الحديث هم الذين جاءوا من بعدهما، وورثوا حكمهما، فأداروا الدولة على قواعد "الأم المعيلة"، التي لا تستطيع ضربا في الأرض أو جلبا للرزق!
وإذ كان الحق في تسميم الأبدان بمثل هذا الحديث شأن يخص الحاكم، كما كان الحال من جانب عبد الناصر ومبارك، فإن الأمر الآن لم يعد قاصرا على ولي الأمر، إنما صار خطابا معتمدا لمن يريد التقرب منه بالنوافل، على النحو الذي طالعناه في الأسبوع الماضي، وإن كان صار سمة المرحلة.
حديث البصل لم يخترعه موقع "فيتو"، وقد صب المعلقون جام غضبهم عليه، فقد شاركته في ذلك مواقع عدة، لأنه ليس تصريحا اختصت به غرفة القاهرة الموقع، ولكنه بيان صدر عنها، فانظر إلى التفاهة وقد تمثلت بشرا من لحم ودم، فيصدر بيان عن استهلاك البصل، ضمن حملة إثبات أن المصريين يرفلون في رغد، إلى درجة استهلاك هذه الكميات الكبيرة على الفتة!
لا نعرف لمن يتوجه القوم بهذا الخطاب البائس وهذه المقارنات العقيمة، وما تعتمده شعوب في المنطقة من مقبلات يستلزم وجودها على مائدة الطعام مع كل وجبة، صنف واحد منها يكفي وجبة لكثيرين، دون أن يقارنوا حالهم بحال أحد في العالم!
المستشرقون:
وعندما تقرأ بيانا كهذا سيستقر في وجدانك أنك أمام خواجات لا يلمون بتفاصيل الحياة في مصر، فأي "فتة" هذه التي تستهلك كل هذه الكمية من البصل، وهو ليس ضمن مكوناتها الرئيسية، بشكل يفضح هؤلاء المستشرقين الذين يتقربون للحكم بالنوافل، فيقف الجميع على أنهم يخترعون أشياء من صنع خيالهم!
لا نعرف في الصعيد "الفتة" بوضعها الشائع، فهي عندنا مجرد وضع كسرات الخبز على حساء اللحم والسلام (نحن نزدري الدجاج)، أما "فتة" القاهرة والإسكندرية والوجه البحري، فمكوناتها الرئيسية هي الأرز والخبز، بجانب اللحوم بالطبع، ثم يأتي الثوم والخل. أمام البصل فيستخدم في "سلق اللحوم"، بصلة أو أكثر، وعندما يقحم استهلاكه بهذه الكميات الكبيرة، فإنه بجانب التأكيد على أن المصريين يعيشون في ترف، فإننا أمام أزمة قادمة بسبب تصديره من أجل العملة الصعبة، ربما ليرتفع سعره إلى ما كان عليه في العام الماضي، رغم المساحات الكبيرة المزروعة هذا العام!!
وقد انبعث أشقاها بحديث ليس الأول من نوعه، عن أن عادة شراء البطيخة كاملة لا يعرفها إلا أهل مصر، لتأكيد نفس المعنى عن هذا الترف، وهو خطاب تكرر قبل ذلك عشرات المرات، كلما اشتكى المصريون من قسوة الحياة!
ولا نعرف لمن يتوجه القوم بهذا الخطاب البائس وهذه المقارنات العقيمة، وما تعتمده شعوب في المنطقة من مقبلات يستلزم وجودها على مائدة الطعام مع كل وجبة، صنف واحد منها يكفي وجبة لكثيرين، دون أن يقارنوا حالهم بحال أحد في العالم!
وقد تكون أزمة هذا الخطاب في أن أصحابه نسوا نسق أهلهم في العيش، ونسوا نشأتهم الأولى، وهؤلاء ومعهم السادة الحكام هم مثلنا من أسر بسيطة، فلا يوجد أحد منا أو منهم من سلالة لملوم باشا، أو حيدر باشا، أو كان جده إقطاعيا ينظر للمجتمع من عليائه، وإن كان لم يُنقل عن إقطاعي مثل هذا الحديث الدنيء!
إن البطيخ عند المصريين ليس "حلوا" يقدم في الحياة المترفة، ولكنه لدى طبقات كبيرة "غموس" و"حلو"، ووجبة مكتملة مع قطعة جبن، والسلام ختام، فهل نسي المستشرقون ذلك؟!
البعض ينافق السلطة بهذا الخطاب، وهو في نفاقه لا يعنيه أن يهتم بحبكة خطابه، لأنه موجه لشخص واحد، لا يتوقف عن إذلال المصريين بحديث الأكل، وتحميلهم مسؤولية زيادة الأسعار، دون أن تكون الدولة مسؤولة عن أي شيء، وقد وجد من يؤوب معه، بالدعوة إلى مقاطعة المواد الغذائية، وانتقلت الأزمة من أن تكون فشل نظام في إدارة شؤون البلاد إلى اشتباك أفراد الشعب مع أنفسهم!
وإذ لم أطلع على ثقافة العالم أجمع، وفي حدود ما رأيت فإنه بالفعل يباع بالقطعة، وليس بالوحدة، فإن ثقافة الطعام لا تستورد ولا تُستحدث من العدم، فثقافة شراء البطيخة كاملة إنما ترجع لظروف أسواقنا، وأماكن البيع ليست مجهزة بأجهزة التبريد التي تحفظ الجزء غير المباع، وشادر البطيخ في الشارع!
بيد أن البعض ينافق السلطة بهذا الخطاب، وهو في نفاقه لا يعنيه أن يهتم بحبكة خطابه، لأنه موجه لشخص واحد، لا يتوقف عن إذلال المصريين بحديث الأكل، وتحميلهم مسؤولية زيادة الأسعار، دون أن تكون الدولة مسؤولة عن أي شيء، وقد وجد من يؤوب معه، بالدعوة إلى مقاطعة المواد الغذائية، وانتقلت الأزمة من أن تكون فشل نظام في إدارة شؤون البلاد إلى اشتباك أفراد الشعب مع أنفسهم!
دعوات المقاطعة:
وقد طرح ذات مرة سؤالا أجاب عليه بنفسه، فما هو الحل مع ارتفاع سعر هذه السلعة أو تلك؟ وأجاب بأنه بمقاطعتها سيهبط سعرها حالا، وهو حل بدائي وغير واقعي، فماذا وقد ارتفعت عموم السلع بما في ذلك السلع المدعومة من جانب السلطة مثل رغيف الخبز والوقود؟!
لقد بدأت دعوة لمقاطعة الأسماك في الإسكندرية سرعان ما انتشرت في عدد من المحافظات، والتحم بها حسنو النوايا وروجوا لها، فلما وجدوا انتصارا مرحليا لم يكن لديهم الاستعداد لأن يسمعوا لنصيحة ناصح، وإذا أبدى التجار الرغبة للبيع الرخيص، فلم يكن معنى هذا انتصار الحملة المباركة، ولكن لأن التاجر اشترى الأسماك، ويبيع بقاعدة "خسارة قريبة ولا مكسب بعيد"، والقادم هو أن الصياد سيتوقف عن الصيد، والتاجر سيتوقف عن الشراء، إلى أن تتضح معالم الأزمة، وهي أكبر من التاجر والصياد.
حملة لتحويل مسار الغضب ليكون بين المحكومين بعد نهاية الخطاب الرئاسي والحل الجبار؛ السلعة التي يرتفع سعرها لا تشتروها، وهو خطاب ليس صالحا للتداول الآن وقد ارتفعت أسعار كل السلع، والاستجابة للدعوة تعني أن يتوقف الناس عن الأكل تماما، وهنا يأتي إدخال الغش والتدليس بهذا الخطاب المفكك عن أن المصريين وحدهم دون سائر البشر الذين يشترون بطيخة كاملة، وأنهم استهلكوا 300 ألف طن بصل على فتة العيد
والسؤال الرئيس عن هيمنة هيئات الفساد على بحيرة ناصر مثلا، أكبر منتج للبلطي، والصياد هو ضحية مثل المستهلك، بجانب أن ارتفاع الأسعار حدث عندما طل علينا القائد مقاتل على خط البلطي، والقائد مقاتل على خط البوري، والقائد زميله على خط الجمبري، فأين إنتاج هذه المزارع ولماذا لا يسد به احتياجات الناس بأسعار في متناولهم؟!
إن القضية أعمق من أن يتم حلها بالمقاطعة، وأن الصياد والتاجر هما الحلقة الأضعف في الموضوع، وعموما فقد استمرت الأسعار على حالها بعد حملة "دعها تعفن"، وهي حملة لتحويل مسار الغضب ليكون بين المحكومين بعد نهاية الخطاب الرئاسي والحل الجبار؛ السلعة التي يرتفع سعرها لا تشتروها، وهو خطاب ليس صالحا للتداول الآن وقد ارتفعت أسعار كل السلع، والاستجابة للدعوة تعني أن يتوقف الناس عن الأكل تماما، وهنا يأتي إدخال الغش والتدليس بهذا الخطاب المفكك عن أن المصريين وحدهم دون سائر البشر الذين يشترون بطيخة كاملة، وأنهم استهلكوا 300 ألف طن بصل على فتة العيد، لتتبادل السلطة المهمة مع أذنابها!
خطاب عبد الناصر:
وحتى لا نظلم السلطة الحالية، فهذا خطاب بدأ أيام عبد الناصر المنحاز للفقراء، واشترك مع مبارك في حديث قدح الشاي، الذي يمكن تقديم المصريين للتضحيات والاكتفاء بمرة في اليوم، وقال مبارك ابن الأسرة البسيطة كعبد الناصر إنه ليس لازما أن "يحبس" الإنسان بقدح من الشاي عقب كل وجبة، وقد تنكرا لأصلهما وفصلهما، فالشاي هو فاكهة الأسر البسيطة، وقد تذكر مبارك اصطلاح "يحبس"، وتنكر لثقافة أهله وناسه!
إنهم يسممون الأبدان بخطاب الأكل، الأمر الذي لم يكن خطابا معتمدا من قبل حكم أبناء الأصول البسيطة والأسر المتواضعة!
من أين جاء هؤلاء الناس؟!
x.com/selimazouz1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المصريين البصل البطيخة مصر غلاء الفقر الغذاء البصل مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة أن المصریین هذا الخطاب یتوقف عن أن تکون دون أن
إقرأ أيضاً:
البرازيل.. قوانين قديمة تحظر تناول البطيخ وبيعه
البرازيل – تميزت مدينة ريو كلارو التي تقع على بعد 150 كيلومترا من ساو باولو بسمات مثيرة لتشريعاتها التي تم تبنيها قبل 130 عاما.
وذلك في إطار حملة مكافحة الحمى الصفراء حيث تم حظر تناول وبيع البطيخ. لكن السلطات المحلية نسيت إلغاء هذا القانون الذي لا يزال ساري المفعول رسميا إلى حد الآن.
يذكر أن البرازيل تعد اليوم واحدة من أكبر البلدان المنتجة والمصدرة للبطيخ في العالم، وتحظى هذه الفاكهة الحلوة بشعبية كبيرة بين السكان المحليين. ومدينة ريو كلارو ليست استثناء في هذا الأمر، لكن لا أحد تقريبا من سكان المدينة يعلم أن طعامهم المفضل محظور بموجب القانون.
ويعود تاريخ القانون إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما تم تسجيل تفشي حالات كثيرة من الحمى الصفراء في عدة مدن بولاية ساو باولو. وكان البطيخ في ذلك الوقت يعتبر أحد مصادر انتشار هذا الفيروس.
وقالت مديرة الأرشيف المحلي مونيكا فراندي فيريرا في مقابلة مع بوابة G1 الإخبارية المحلية:” إن عدة مدن في ولاية ساو باولو تأثرت آنذاك بالحمى الصفراء. وفي محاولة لفهم سبب وفاة الناس زار المدينة العديد من خبراء الصحة، وربما حددوا استهلاك البطيخ كسبب للوفاة”.
وأثبت علماء الأوبئة فيما بعد أن البعوض هو السبب الحقيقي في انتشار الحمى الصفراء. ومع ذلك، فقد نسيوا ببساطة رفع الحظر المفروض على تناول البطيخ. وإن المحكمة الفيدرالية العليا في البرازيل التي تفسر مثل هذه القوانين غير الملغاة رسميا التي عفا عليها الزمن قد قضت بالفعل منذ بعض الوقت بأن التشريعات التي لم تعد ذات معنى بالنسبة للمجتمع لا يجوز الالتزام بها لأنه لا يوجد أسباب موجبة لاستمرار العمل بها.
المصدر: روسيسكايا غازيتا