د. الشفيع خضر سعيد

لن يختلف اثنان في أن الوضع الكارثي في السودان يزداد تفاقما ومأساوية كل يوم، ويقترب رويدا رويدا ليضحى مهددا حقيقيا يضع وجود البلاد وشعبها على المحك، خاصة في ظل حقيقة أن الطرفين المتحاربين لا يمتلكان الإرادة الذاتية للانصياع لنداءات وقف إطلاق النار ووقف تدمير البلاد، وفي ظل عجز القوى المدنية، حتى الآن، في التوافق حول رؤية موحدة لكيفية وقف الحرب ومنع تجددها وكيفية إدارة عملية سياسية تنتقل بالبلاد من دائرة الحرب إلى مربع السلام.

ومن الواضح، أن المعاجات الدولية والإقليمية عاجزة حتى الآن، وعلى امتداد الفترة منذ ارتكاب جريمة الحرب في الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023م، في التصدي لهذه الكارثة وشل الأيادي التي تسفك دماء السودانيين وتدمر بلدهم، مادامت هذه المعالجات لاتزال تغيب عنها، وعن الفاعلين الدوليين والإقليميين، الاستراتيجية الموحدة والضرورية لإعادة توجيهها بصورة خلاقة تجعل منها فعلا ملموسا ومؤثرا. وكنا في مقالنا السابق قد انتقدنا ظاهرة التنافس وعدم التنسيق بين الفاعلين الدوليين والإقليمين مما أسقط عن أجندتهم واجب صياغة هذه الاستراتيجية الموحدة وأصاب جهودهم لوقف الحرب في مقتل. وقلنا إن وضع هذه الاستراتيجية الموحدة يتطلب إنشاء منصة تنسيق دولية موحدة لجهود وقف الحرب وبسط السلام في السودان، مع توزيع واضح ومنطقي للمهام بين الأطراف الدولية والإقليمية المعنية. وفي هذا الصدد، يمكن للمبعوث الشخصي للأمم المتحدة أن يلعب دور المنسق الرئيسي في هذه المنصة بين جهود الاتحاد الأفريقي، ومنظمة الإيغاد، ومنبر جدة، وجامعة الدول العربية، ومبادرة دول الجوار، والإتحاد الأوروبي. وأشرنا إلى أن تمكين هذه المنصة الموحدة للقيام بدورها على النحو المطلوب، وحتى تنجح أي خطة تجترحها، فإنها تحتاج إلى دعم واسع وقوي من القواعدة الشعبية السودانية، كما تحتاج إلى تحديد الأولويات الصحيحة التي تهم الشعب. وشددنا على أن المدخل الصحيح، في اعتقادنا، لمعالجة الوضع الكارثي المتفاقم في السودان، وكأولوية قصوى اليوم، هو التصدي لملف الأزمة الإنسانية وضمان حماية المدنيين، مع التشديد على أن هذا الملف لا يقبل التسييس ولا المساومة، وينبغي ألا تكون المساعدات الإنسانية رهينة لدى الأطراف المتحاربة تستخدمها ككروت ضغط وسلاح في معركتها.
ولكن، يظل السؤال الرئيسي هو كيفية تحويل هذا الملف إلى فعل ملموس على أرض الواقع في ظل تعثر منبر جدة وتعنت الطرفين وخروقاتهما الدائمة لأي هدنة إنسانية وافقا ووقعا عليها؟ وكان هذا السؤال موضوع نقاش في حلقة نقاش مصغرة شارك فيها عدد من المهمومين بحال السودان، وطُرحت حياله بعض الأفكار والمقترحات، رأيت من المفيد تعميمها ومشاركتها القراء في مقال اليوم، وأوجزها في النقاط التالية:

النقطة الأولى: بالنظر إلى فشل ترتيبات المساعدة الإنسانية وحماية المحتاجين في السودان منذ اندلاع الحرب، نقترح أن تجتمع الجهات الدولية والإقليمية الفاعلة للاتفاق على أساليب جديدة، خارج الصندوق، أكثر فعالية في تلبية احتياجات الناس. ويمكن الاستفادة من تجارب طرائق المساعدة الإنسانية السابقة مثل عملية شريان الحياة، ومقترحات 2016-2017 لمساعدة ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، مع أهمية إعادة النظر في المناهج المعمول بها حتى الآن، وإبتداع طرق جديدة للتسليم عبر الحدود، والتفتيش المشترك للمساعدات من قبل أطراف النزاع والداعمين الدوليين، ودعم أنشطة غرف الطوارئ، واستخدام التحويلات النقدية الإلكترونية، وغير ذلك من الطرائق.

إن النجاح في التعامل مع ملف المساعدات الإنسانية، إضافة إلى أنه سيقلل من حدة الكارثة المأساوية، فإنه يمكن أن يشكل مدخلا عمليا لوحدة القوى المدنية والسياسية المناهضة للحرب

النقطة الثانية: تعقد قيادات رفيعة المستوى وذات خبرة من المجتمع الدولي والإقليمي جلسات تفاوض مع قيادات عليا متنفذة في القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، كل على حدة والاتفاق بشكل ثنائي مع كل طرف بشأن خلق الممرات الآمنة وتوصيل المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين، وذلك على أساس الاعتراف بحق كل طرف في السيطرة واشتراط موافقته على ممرات توصيل المساعدات. النقاط الجوهرية في هذا الاقتراح هي المشاركة على أعلى مستوى؛ لا يوجد شرط لاتفاق مشترك بين الطرفين المتحاربين؛ كفالة حق السيطرة؛ والدروس المستفادة من التجارب السابقة في توصيل المعونات الإنسانية.

النقطة الثالثة: إشراك وفود رفيعة المستوى من كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، كل على حدة وبشكل منفصل في جلسات لتبادل الأفكار حول الدروس المستفادة من ترتيبات وقف إطلاق النار السابقة في السودان، مثل اتفاق وقف إطلاق النار في جبال النوبة، واتفاق نجامينا لوقف إطلاق النار الإنساني؛ وإتفاق أبيي وما إلى ذلك. وقد أبدى الخبراء الدوليون، من سويسرا والنرويج والمملكة المتحدة، الذين شاركوا في اتفاقيات تنفيذ تلك الترتيبات السابقة لوقف إطلاق النار استعدادهم للمشاركة في هذه الجلسات. وهذا من شأنه أن يمهد الطريق لمزيد من مفاوضات وقف إطلاق النار المثمرة عندما تكون الأطراف مستعدة للدخول في مفاوضات.

النقطة الرابعة: استخدام الإطار القانوني الدولي (مسؤولية الحماية) لتفعيل آليات حماية السكان المدنيين وحماية الممرات لضمان وصول المساعدات الإنسانية للمجموعات المدنية، وكذلك اتخاذ كل الإجراءات الوقائية لمنع حدوث إبادة جماعية وأي إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك العنف الجنسي ضد النساء.
النقطة الخامسة: الدراسة الجدية لاحتمال فرض وقف إطلاق النار الفني والحفاظ عليه، وذلك وفق الآليات المعمول بها إقليميا ودوليا وفي إطار القانون الدولي.
النقطة السادسة: تقديم كل الدعم الممكن للقوى المدنية السودانية لمضاعفة جهودها لتقليل الاستقطاب العرقي والاجتماعي والسياسي.
النقطة السابعة: المساعدة في خلق أجواء ملائمة لانخراط القوى المدنية السودانية في عملية سياسية شاملة ذات طبيعة تأسيسية للدولة السودانية، على أن تكون من تصميم وإدارة وقيادة القوى المدنية السودانية، بعيدا عن أي تدخلات خارجية.
النقطة الثامنة والأخيرة: إن النجاح في التعامل مع ملف المساعدات الإنسانية، إضافة إلى أنه سيقلل من حدة الكارثة المأساوية، فإنه يمكن أن يشكل مدخلا عمليا لوحدة القوى المدنية والسياسية المناهضة للحرب، ومدخلا ملائما لانطلاق العملية السياسية.

نقلا عن القدس العربي

الوسومد. الشفيع خضر سعيد

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: المساعدات الإنسانیة وقف إطلاق النار القوى المدنیة فی السودان

إقرأ أيضاً:

الهوية السودانية بين الغابة والصحراء (2/2)

ali.hag.mohamed@gmail.com

بعد دخول الإسلام إلى مصر فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تحالفت و إتحدت مملكة المقرة (السودانية) المسيحية مع البيزنطيين ضد المسلمين فى عداء سافر و شكلت خطرآ داهمآ و مهددأ مباشرآ للولاية الوليدة. و حينها طلب الخليفة من عمرو بن العاص وإلى مصر القضاء على تلك المملكة و وقف خطرها الماثل قبل أن يستفحل .
فى بداية عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه تولى عبد الله بن أبى السرح ولاية مصر و جعل من أولوياته التوجه جنوبا لقلع شوكة الدولة النوبية و حاصر عاصمتها دنقلا حتى إستسلمت. و وقع مع ملكها قليدروس إتفاقية ( البقط ) الشهيرة و التى ضمنت أمنآ و أمانآ للمملكة عام 28 هجرية -652 ميلادية. و أسست لهدنة بين الطرفين، وكوفيت مصر شر هجمات مملكة النوبة و الدولة البيزنطية و سمحت للعرب التوغل جنوبا إلى أعماق السودان حاملين معهم تباشير الدين الجديد و قيمه السمحة في المساواة و العدالة و التكافل و الإخاء. و دخل الناس فيه أفرادا و جماعات و في خلال فترة وجيزة غطى مناطق واسعة من أرض السودان المتعارف عليه الآن.
و تعتبر إتفاقية (البقط ) من أطول المعاهدات فى التاريخ حيث إستمرت حوالى 700 عاما.

بعد ظهور الإسلام في جزيرة العرب فتحت مسالك و طرق هجرة أخرى نحو السودان، من الشرق عبر البحر الأحمر و من الغرب من بلاد شنقيط و المغرب العربي عمومآ و من الغرب الإفريقي أيضا، حيث إعتنقت ممالك إفريقية في مالى و النيجر و نيجيريا الإسلام، و أصبح السودان المعبر الوحيد لتلك الممالك و الواصل إلى الأراضي المقدسة. و كانت الرحلة إلى بيت الله الحرام تستغرق في ذاك الزمان أكثر من عام.
وكان عدد من الحجيج يطيب لهم المقام في أرض السودان الواسعة المعطاءة فيستقرون فيها و يتزوجون من القبائل المحلية، شأنهم في ذلك شأن العرب القادمين من الجزيرة العربية و المغرب العربي.
و هكذا تشكلت خارطة إجتماعية و ثقافية تحمل طياتها موروثات و عادات وتقاليد و قيم محلية و دخيلة، تعانقت و تمازجت و تصاحبت فى مسيرة من الإلفة و التوافق و الإنسجام عبر مئات السنين.
داخل هذا النسيج الإجتماعي البديع ظلت بعض القبائل تحمل جينات الدم العربي الخالص و أخرى الزنجي و لكن الغالب هو هجين بين هذه و تلك. و لا أحد يستطيع ان يجزم بالدليل القاطع النسب الأكيدة عدآ، و كل ما يكتب أو يقال عن ذلك يبقى حتى هذه اللحظة مجرد تخمينات و توقعات يطبعها الغرض و تدفعها العاطفة و يدمغها الخيال أحيانا و لا تستند على أرضية علمية أو دراسات إحصائية من لدن جهة متخصصة.

كانت معظم هذا القبائل القديمة و المتخلقة من التصاهر الجديد تعيش جميعها حياة بدائية في تجمعات سكنية شبه منعزلة عن بعضها البعض لوعورة الطرق و إنعدام سبل الإتصال و المواصلات ،
و كانت غارقة في أمية تكاد تكون عامة إلا من قلة تلقوا تعليم دينى بسيط فى خلاوى القرآن الكريم المنتشرة في بعض المناطق.

كان هذا هو واقع الحال حتى قدوم الإستعمار البريطاني في عام 1899 و الذى لم يقدم إضافة ذات بال، غير تعليم بسيط فى المرحلة الابتدائية و المتوسطة لأبناء المركز للمساعدة في أداء مهام محددة في السلك الوظيفى المدني فى تجاهل متعمد لأبناء الريف و الأطراف.
بعد إستقلال السودان فى عام 1956 لم تستغل الأحزاب الوطنية هذا الثراء و التنوع الثقافي كما يجب لكي تجعل منه قوة محركة لمستقبل البلاد و تقوده إلى آفاق سامية في الخلق و الإبداع و التنمية البشرية وتطوير الذات و إبتكار نمط جديد في العملية الإقتصادية و الإنمائية، كما فعلت كثير من الأمم ذات الظروف المشابهة في الشكل و المضمون و البيئة.
كانت جميعها فاقدة لأى مشروع نهضوي يقدم النموذج و الحل لقضايا البلاد الشائكة و معضلات ما بعد تحقيق الإستقلال و التى بدأت تلوح في الأفق و كان نذيرها تمرد جنود إحدى قواعد جنوب السودان العسكرية في عام 1955.
سارت على نفس نهج المستعمر فى التركيز على التعليم و الخدمات فى الحضر على حساب الريف و أغفلت تنمية الأطراف و خلقت تمايزآ بينآ لا تخطئه العين بين المركز و الأطراف .
و أصبح جنوب السودان على وجه الخصوص يعيش في عصر القرون الوسطى و مواطنيه في الدرجة الثانية من جهة إدارة شؤون البلاد و تقاسم السلطة و الثروة.
و علت صيحات التحذير و الإنذار من هنا وهناك لشر قادم لا محالة و كانت آذان الحكام صماء
لا تسمع و عقولهم مشوشة و غارقة في الصراعات السياسية الضيقة .
الأمر الذي خلق الأرضية الموضوعية و المسببة لمواطني جنوب السودان في المطالبة بأخذ حقوقهم السياسية المشروعة فى المشاركة المتساوية في وطن هم جزء أصيل منه.
و تبعهم في مرحلة لاحقة مواطني دارفور و جنوب كردفان و النيل الأزرق.

كل الأنظمة التي مرت على حكم السودان بعد الإستقلال كانت تتعامل مع قضية السلطة و الثروة بسطحية و إستخفاف تهاون مذهل، و بلا وعى عميق لبعض المسالك الخطرة، كمحاولة نظام الفريق عبود فرض العروبة والإسلام فى جنوب السودان بالقوة، وكنقض المشير جعفر نميرى لإتفاقية الحكم الذاتى لجنوب السودان عام 1983.
و لكن الأسوأ على الإطلاق كان نظام الإنقاذ بقيادة الترابى _البشير و الذى جاء بمشروع تدميري لكل السودان قضى على كل الموروث الشعبي و الإجتماعى الخير و هتك النسيج الاجتماعي بأفعال و سلوك غريبين و أقوال و مقولات لا تتسق و المزاج العام السودانى و أنشأ وزارة لهذا الغرض و جعل على رأسها الرجل الثانى فى النظام الظلامي وهو على عثمان محمد طه.
عبر هذا المشروع الخرب و المخرب و المسمى ب ( المشروع الحضاري ) شنت حرب دينية جهادية على جنوب السودان أدت فى النهاية إلى فصله تماما عن الوطن الأم .
و بثت روح الكراهية و الحقد و الفتن بين قبائل السودان المختلفة و خاصة ذات الأصول الزنجية و العربية و طفت على السطح النعرات العنصرية بصورة غير مسبوقة. و أصبحت القبلية والجهوية هى العنوان و مرادفة لإسم السوداني .
و تراجع البعض إلى القبيلة ليحتمي بها و حتى على سبيل رفع الشأن و منهم من نسب أصله إلى العباس بن عبد المطلب و منهم من نسبه إلى جعفر بن أبى طالب و منهم من أدعى الشرف و توجه بنسبه إلى الرسول صل الله عليه وسلم.
و بعضهم أوصل نسبه إلى قبائل لم نسمع بها إلا فى الجاهلية. و فى المقابل أدعت أصوات أخرى أن بلالآ مؤذن الرسول صل الله عليه وسلم كان سودانيآ و أن عنتر بن شداد أيضا كان سودانيآ من خلال وصفه لأمه شعرآ بأنها كانت ذات سيقان نحيفة و أرداف ضامرة و هو وصف يجرى على السودانية و لايشبه الحبشية.
وأن هجرة الصحابة كانت لأرض السودان نتيجة لوصف الصحابة للأرض التى هاجروا إليها لما لها من إنبساط وسعة و أن جعفر بن أبى طالب سبح النهر و شارك النجاشي في الحرب و كل هذا يقرب الوصف إلى أرض السودان الحالية و يبعده عن أثيوبيا الحالية لما لها من هضاب عالية و مجرى نهر يصعب عبوره بالسباحة و يقال أن المنطقة الغالبة هي مملكة سوبا جنوب الخرطوم.
علما بأن السودان و الحبشة كانتا في ذاك الزمان أرضآ واحدة.
وفى هذا الجو المشبع بروح الجهوية و المشحون بروح القبلية نجد من يدعي أن فرعون موسى كان سودانيآ و أن سيدنا موسى إلتقى الرجل الصالح ( الخضر ) عند ملتقى النيلين فى الخرطوم.
و كتبت بعض الصحف السودانية أن بنيامين نتنياهو هو سوداني و مولود في نوري شمال السودان و يتحدث العربية لغة قبيلة الشايقية المميزة.

عرج مشروع جبهة الترابى - البشير إلى مدارات أخرى فى دارفور و خرج من عباءته القيادي داوو بولاد و تمرد فى بداية التسعينات مطالبآ بحقوق دار فور فى الثروة و السلطة و تبعه القيادى الآخر في الجبهة الإسلامية دكتور خليل إبراهيم على نفس النهج و الطريق و الذى نظر له فيما سمى ب ( الكتاب الأسود ) عام 1999 و الذى أثار ضجة لا زالت تتفاعل حتى الآن ،لأنه طرح المسكوت عنه بأسلوب غلب عليه الغطاء العنصرى . و يقال ان الترابى كان يقف خلف ذاك الكتاب. و من رحم نظام الإنقاذ خرجت حركة العدل والمساواة و التى أصبحت جزءآ من المعادلة السياسية الحالية.

الإحساس بالظلم و الغبن و القهر و الإستبداد و التهميش جعل النخبة المتعلمة تطرق باب السياسة و الشأن العام فى محاولة لرد الظلم و المظالم و أخذ حقوقهم عنوة و إقتدارآ.

و ثم كان البحث عن تعريف يجد مخرجآ و توصيفآ للحالة السودانية و يبث روحا جديدة للهوية السودانية، فكانت مساهمات بعض الكتاب و المفكرين السودانيين مميزة كأبى القاسم حاج حمد و حيدر إبراهيم ثم الزعيم الراحل جون قرنق و الذين توصلوا إلى تعريف الحالة ب (السودانوية). أى المواطنة السودانية.
و قد ضمنت بطريقة غير مباشرة فى مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية عام 1995 و الذى ضم كل الأحزاب السياسية آنذاك بما فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق و التى كانت بصماتها واضحة في المقررات.
و أضحى مصطلح المواطنة السودانية أمرآ متفقآ عليه الآن، من مكونات العمل السياسي على مختلف مشاربها.

إن المواقف السلبية و الردة و التراجع و الإنقلاب على الإنتماء القومي العربي المتعارف عليه طوال الحقب السالفة و الذي طفى على السطح فى السنوات الأخيرة لدى بعض السودانيين و خاصة المثقفين منهم و أصبح صوتآ مسموعآ لا يمكن تجاهله ، هو نتاج لعوامل عديدة، بعضها داخلى، كسيطرة النخب المحسوبة على العنصر العربي على مجاميع السلطة و الثروة فى البلاد ويضاف إليها الحروب التي شنتها الدولة المركزية على أساس ديني و عنصري و قبلي و ما خلفته من قتل و تهجير و تشريد و معاناة إنسانية.
و هذه كلها أمور يمكن أن تعالج في ظل سلطة شعبية ديمقراطية ذات مشروع و رؤية يشترك فيها كل مكونات المجتمع المدنية والسياسية و بصفة خاصة مواطني المناطق المتضررة من الحروب و التهميش.
و كما توجد عوامل أخرى تتعلق بالعرب أنفسهم تتلخص في حالة حالة التمزق و الخلافات العربية العربية و الفجور فى الخصومة و تقديم مئات المليارات من الدولارات لأعداء الأمة من أجل كسب الود و دعم عروشهم المهتزة بينما دول عديدة في الأمة فى فقر مدقع و لا تحظى بإلتفاتة منهم . و بعضهم تآمروا على ثورات الربيع العربي و قضوا عليها و حولوا دولها إلى ساحات حرب تصفى فيها و عليها المشاريع الدولية و لا يزال التآمر يسير على قدم و ساق.
مما جعل أمة العرب خارج المعادلة الدولية و يضاف إلى ذلك الهرولة العلنية و الخفية نحو العدو الصهيوني مما خلق حالة من الإحباط و الهوان و الإنكسار للنفس العربية الأبية.
وثم يأتي الدور السلبي و الضعيف للجامعة العربية ، المتمثل في عجزها في التفاعل المطلوب مع قضايا الأمة و لا يرى لها فعلا، غير صوت مبحوح يعبر عن الإدانة و الإستنكار و الشجب و القلق لا أكثر.
توجد مطالبة من بعض الناشطين السودانيين بانسحاب السودان من الجامعة العربية.
و حالة العرب و جامعتهم هى حالة عرضية طارئة و مرتبطة بالواقع المزري و قاصر على هذه المرحلة و التى فيها الشعوب غائبة و مغيبة و طبيعة الأشياء تقول ان الشعوب ستنهض طال الزمن أو قصر و ستعود إلى جوهرها و ملامحها و تملك زمام نفسها، هذا هو الدرس المستفادمن تجربة الشعوب في الأزمان السالفة و المعاصرة.

أما نظرة العرب النمطية للسودان و السودانيين و التفاعل السلبي مع قضاياه السياسية و الإنمائية ليست ذات قيمة، و( ما حك جلدك مثل ظفرك). و السودان قادر على أن يقف على قدميه كما ورد آنفآ، مستغلآ موقعه الجغرافي و ثقله السكاني و موارده الاقتصادية الهائلة و المتنوعة و مصادر المياه الجوفية و الجارية.

الحالة السودانية لا تختلف كثيرآ عما يجري فى فى معظم الدول العربية الأخرى، كمصر و العراق و الجزائر والمغرب و تونس و لبنان وسوريا و موريتانيا، فشعوب هذه الدول خليط و هجين من قبائل عربية و غير عربية من روم و فراعنة و أقباط و يونان و فينيقيين و أتراك و زنوج و شركس و أمازيغ.
و بمثل ما فعل الإستعمار البريطاني في السودان، قام رديفه الفرنسي بنفس الدور فى طمس الهوية الإسلامية و العربية فى المشرق والمغرب العربيين، و التخلص من اللغة العربية و الدعوة لتفتيت الأمة و إخراجها عن دورها في الدفع الإيجابي الكوني والتى وجدت صدى لها في بعض النفوس الطامحة في علاقة وهمية مع الغرب كمحاولة الشاعر سعيدعقل في كتابة اللبنانية بالحروف اللاتينية.
و بذل المستشرقون جهودا جبارة في ( فرسنة )
الجزائر والمغرب و تونس و تطورت و برزت بوضوح فيما بات يعرف ب ( مسألتي البربر و الأكراد ).

السؤال الملح :
هل الجنوح إلى مخارج وطنية و قطرية ضيقة
يمكن أن يقود إلى الإنفصال عن الإنتماء القومي العربي ؟
الإجابة كلا ثم كلا.
فالإنتماء القومي ليس بالعرق ولا باللون، و إنما هو إنتماء ثقافي في المقامين الأول و الأخير.
وهو حركة تملك الروح و الجسد تتنفس برئة و تحس بأعصاب و تنبض بالنشاط و الحيوية حينآ و تخبو أحيانآ، نتيجة لعوامل داخلها و أخرى محيطة بها، و فى كل الحالات حاملة لعناصرها و مكوناتها المادية و المعنوية و العلمية و الثقافية و الأدبية و الدينية و الإنسانية و الإجتماعية، تلقى بها بذور خير و نماء أينما حطت رحالها ظهر على البسيطة .
و كم من العلماء والدعاة و الأدباء و الشعراء و المفكرين من أصول غير عربية كانوا نتاج هذا الزرع المبارك، و أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر سيبويه، إبن سينا، إبن جنى، إبن الرشد، الفارابي، الزمخشري، أبا بكر الرازي ، الحسن إبن الهيثم، الإمام البخاري، الإمام مسلم، الغزالي، الخوارزمي، إبن بطولة، الجاحظ، الكندي، أبا العلا المعرى، جابر بن حيان، إبن المقفع، إبن الرومي ، صلاح الدين الأيوبي، طارق بن زياد و أمير الشعراء أحمد شوقي.

و أختم بأن الهوية السودانية و بخصوصيتها التى لا جدال حولها ولا خلاف عليها، هى ذات جذور ثقافية وفكرية عربية تقودها بالضرورة إلى الإنتماء القومي العربي و لا يمكن أن تنفصل عنه، و هذا هو قدرها المشرف و المشرق لأمة صاحبة رسالة عالمية واعدة.
وكل أسباب الفرقة و التوجس سطحية و فوقية لكن في العمق يوجد ما يجمع بيننا كأمة واحدةو هو الثابت و الدائم.

و سيذهب الزبد جفاءا و يبقى ما ينفع الناس.

د.على إبراهيم

   

مقالات مشابهة

  • رأي.. أنور قرقاش يكتب: السودان بين التضليل وتفاقم المأساة الإنسانية
  • بدران: لا مقترحات جديدة لوقف إطلاق النار في غزة
  • بدران: لا مقترحات جديدة لوقف إطلاق النار
  • قبل 24 ساعة من النظر في القضية بواسطة العدل الدولية.. الخارجية السودانية تلوح بأخطر مستندات في مواجهة الإمارات
  • الشرطة السودانية تصدر موجهات بشأن البحث عن السيارات المنهوبة في الحرب وتحركات تبعث الأمل
  • مسؤول في حماس: لا مقترحات جديدة لوقف إطلاق النار
  • الهوية السودانية بين الغابة والصحراء (2/2)
  • صيغة وسط بين “حماس” وإسرائيل لوقف دوامة الدم.. مبادرة مصرية جديدة لإحياء الهدنة.. وترامب يقرر مصير غزة
  • إطلاق المنصة الرقمية الخاصة بالطلبة الدوليين الراغبين الدراسة بالجزائر
  • عاجل| قادة مصر والأردن وفرنسا يطالبون بوقف الحرب بغزة وضمان تنفيذ وقف إطلاق النار