لو غاب التلفزيون الرسمي السوداني فجأة عن الأثير ولم يعد موجوداً لما خسر السودانيون شيئاً قط، وربما استفادوا من توفير المال المهدر والطاقات الخائبة المودعة في مخازنه دون مواهب ودون مهارات ودون ابداع ودون مردود إيجابي.

أسهم هذا الجهاز الضخم سيء السمعة، والمثقل بالعاملين الفائضين عن الحاجة وأنصاف الموهوبين، في تشويه وعي السودانيين بذاتهم وخلق صورة نمطية خاطئة لهم عن أنفسهم، وهذه الصورة متحركة بشكل تلقائي مع الأصل الذي تبدو عليه شريحة محدودة من مواطني السودان تعيش في الخرطوم ولا تمثل أياً من مراكز الكتل السكانية في البلاد.

بعبارة أخرى فإن التلفزيون الرسمي (المسمى قومياً) لا يعيد تقديم صورة السودانيين في شمال السودان بملابسهم المحتشمة رجالاً ونساء، ولا يقدم صورة سكان ولاية الجزيرة مثلاً أو ولاية نهر النيل (إلا في برامج الغناء الشعبي) ولا يمثل أقاليم سنار والنيل الأزرق والنيل الأبيض، وكردفان، ودارفور والشرق.

غني عن القول إنه لا زي الرجال المشار إليه ولا زي النساء المذكور يأتي ضمن نسق محدد ومعلوم من الشروط الفنية، أو تلك التي تعبر عن الهوية/ الهويات القومية.

آخر الاجتهادات كان في عهد المدير الأسبق الراحل الطيب مصطفى الذي ألزم العاملين الذين يظهرون على الشاشة -وهذا ما يبدو لنا كمشاهدين- بالجلباب والعمامة (المنقولتان من صعيد مصر) للرجال، وبالثوب (المنقول من غرب افريقيا) والمسمى -بوضع اليد- بالثوب السوداني، والحجاب الذي يغطي الشعر.

تراجع الالتزام بهذا الزي كلما زادت الفترة ابتعاداً عن عهد المهندس الطيب مصطفى حتى إذا سقطت حكومة الإنقاذ، طار الحجاب عن الشعر (الحقيقي أو المستعار) ولبس الرجال الباروكة (والكلمة التي تعني الشعر المستعار مستعارة هي الأخرى من الفرنسية) وصار التلفزيون يستضيف سيدات في زي رجال ورجال في أزياء نساء، وذكور ببواريك و(مسائر) وحدوات حصان وإسماعيل التاج وحجوج كوكا! حتى جاء زمن صار التلفزيون- والذي حصل على اسمه أصلاً من خليط مزاوجة كلمتي الصورة والبث باللغة الإنجليزية، وعلى اسمه غير المتداول باللغة العربية من المشاهدة (المرئي/ الإذاعة المرئية) – صار يستضيف فيه أناساً بلا صور ولا وجوه معلنة في مشهد (انصرافي) لا يعبر إلا عن أزمة لم يعد العلاج معها ممكناً إلا بالهدم وطرح الأنقاض بعيداً في مكب النفايات.
***
هل تمثل هذه الأزياء ولابسيها قوميات أهل السودان؟ هل تمثل تلك الملابس المجموعة على عجل وبلا ترتيب النوبيين أو الجعليين أو الشايقية أو الحلاويين أو الكلاكلات أو الجموعية أو الكبابيش أو الجوامعة أو دار حامد أو الهبانية أو الشكرية أو الهدندوة أو البني عامر أو الأنقسنا أو الفونج أو الفور أو البرتي أو الزغاوة أو النوبة أو البرتي أو البزعة؟

تلفزيون من هذا بالضبط؟
مدير التلفزيون نفسه ضحية للتأطير (Framing) الذي صنعه التلفزيون بكثرة الطرق والاستعادة والتكرار، وفي غياب كتابة نظرية تضع الأسس الهادية للرسالة الإعلامية المنوط بالجهاز العظيم تقديمها.

تاريخ التوظيف في التلفزيون مرتبط بشريحة محددة من أبناء أحياء محددة في أم درمان والعاصمة، وفي غياب النظرية منح هؤلاء طابعهم الشخصي للصورة التلفزيونية المتعارف عليها للرجل والمرأة. هكذا صنع المذيعون (الخنافس) في السبعينيات الصورة النمطية للشاب السوداني، وصنعت المذيعات والمغنيات بفساتينهن القصيرة وشعرهن المستعار صورة الشابة المتحضرة، بينما تم تأطير صورة المواطن في شخص يرتدي الجلابية والعمامة أو الطاقية ويتحدث بلهجة أهل نهر النيل (على أساس أن هذه هي اللهجة السودانية) وتم اغلاق الباب أمام الجميع.

عجز التلفزيون عن تقديم الصورة الحقيقية للسودانيين وعجز المسئولون عنه عن رسم صورة منتقاة ومقصودة لذاتها للشخصية السودانية أي فشل في ال (Presentation) وقام بتقديم صورة مصطنعة (Representation) على عجل من المتعاونين (البوابة السرية للتعيين) والقادمين بالواسطة من أقارب السابقين.

بالمقابل صنع هذا النمط غير المدروس من التصنيع الاجتماعي للحقيقة (Social Construction of Reality) صورة مضادة بلهاء تبينت في الديكور الأخرق في البرامج الثقافية والتراثية والتي تعتمد على الإفراط في تقديم الأدوات التقليدية، التي يتم حشدها في الاستديوهات في ساعات البث المقدمة تبرعاً وخصماً على ساعات أبناء أم درمان وبعض أحياء العاصمة. هذا التشويه يصنع تصوراً مضاداً في الذهن بأن الحقيقة السودانية غير الممثلة للعاملين في التلفزيون تعادل القبح والتخلف.

خمسون عاماً من غياب الرؤية والنظرية صنعت جمهوراً مغيباً يظن أن هذه الصورة التي يقدمها التلفزيون تمثله وبالتالي فإن أي محاولة لإعادة التفكير أو المراجعة تعتبر مساساً بالثوابت.
هذا الجمهور المغيب يريد الحفاظ على الصورة الثابتة التي ظل يصنعها التلفزيون بالتكرار والكسل وغياب الرؤية والفكرة، وهي ذات الصورة التي طردته -هو نفسه- من أمام الشاشة الفضية ليتسمر -حين تتوفر الكهرباء- أمام القنوات العربية فيلتقط الشباب القشور من طريقة تصفيف الشعر والحديث في الهواتف والرقص، فيما تلتقط الفتيات النطق المختلف لحروف الجيم وطريقة تبادل التحايا والماكياج الملون غير الملائم للبشرة السودانية والطقس المحلي (الذي هو خليط الشمس والغبار والصعوط الذي يصنعه الإنسان).

هكذا استحق التلفزيون السوداني بجدارة لقب صندوق الحمقى (Idiot Box) الذي منحه الغربيون لتلفزيوناتهم الراقية وذات الهدف والرسالة.
*مقطع مختصر من مقالة مطولة *

محمد عثمان إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

داسوا العلم السعودي.. ناشطون يطالبون الرياض بالتحرك ضد جنود الاحتلال

ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بصورة تظهر جنودا من جيش الاحتلال الإسرائيلي وهم يدوسون على العلم السعودي الذي يحمل عبارة "الشهادة" في الإسلام، ما أثار استنكار ناشطين، ترافق مع مطالبات للسعودية بالتدخل، وفقا لتقرير نشره موقع "ميدل إيست آي".

وذكر التقرير الذي ترجمته "عربي21"، أن أن الصورة "انتشرت بسرعة على منصات التواصل الاجتماعي، وتظهر مجموعة من الجنود الإسرائيليين وهم يحملون العلم الإسرائيلي ويدوسون في الوقت نفسه على العلم السعودي الذي يحمل عبارات الشهادة في الإسلام، ما  اعتبره مستخدمو التواصل الاجتماعي إهانة للمسلمين".

مجموعة من الجنود الاسرائيليين في لواء المظليين تدوس العلم السعودي وشهادة التوحيد ، اثناء الاجتياح البري لمدينة خانيونس .

هذا ما نشره جندي على حسابه على انستغرام .

تلك هي القذارة والحقارة الاسرائيلية .. pic.twitter.com/nZ7qaWBeFN — Tamer | تامر (@tamerqdh) June 24, 2024
ولفت إلى أن الصورة نشرت على منصة "إكس" (تويتر سابقا) بداية الأسبوع الحالي. ونشرها مستخدم اسمه تامر، عثر عليها في حسابات "إنستغرام"، تعود إلى جنديين إسرائيليين.

ولم يتمكن موقع "ميدل إيست آي" التحقق من الصورة أو التأكد من وقت التقاطها، لكن الجنود الإسرائيليين وضعوا صورا  مثيرة للجدل التقطوها في غزة، على منصات التواصل الاجتماعي. واحتوت المنشورات على صور لانتهاك المعتقلين الفلسطينيين والتي يقول الخبراء القانونيون إنها جريمة حرب.



وفي تعليق على الصورة المهينة للعلم الإسرائيلي كتب تامر، "مجموعة من الجنود المظليين الإسرائيليين يدوسون على العلم السعودي والشهادة  خلال الغزو البري لخان يونس". وقال تامر "هذا ما نشره جندي على حسابه في انستغرام،  هذه قذارة إسرائيلية واحتقار"، وفقا للتقرير.

وانتشرت الصورة سريعا وبمئات المشاركين الذين أشاروا إلى أن العلم السعودي يحمل كلمة الشهادة، وقال مستخدم إن "العبارات مكتوبة على العلم السعودي وتحدت إسرائيل الإرهابية شرف الأمة الإسلامية".

و"انتقد البعض غياب الإرادة بين السعوديين تجاه القضية الفلسطينية، واستخدموا الصورة كدليل على ضرورة عدم تطبيع السعودية علاقاتها مع إسرائيل، حسب التقرير.

ولم تنضم السعودية للدول العربية التي وقعت وبرعاية أمريكية اتفاقيات تطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي في الفترة ما بين 2020 و2021، وضمت المغرب والبحرين والسودان والإمارات العربية المتحدة.

وزادت التكهنات حول قرب توقيع اتفاق تطبيع، ففي بداية كانون الثاني /يناير أخبر مسؤول سعودي بارز "بي بي سي" أن بلاده مهتمة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل بعد نهاية الحرب في غزة. وفي شباط/فبراير قالت الرياض إن التطبيع لن يحدث بدون وقف إطلاق النار وتقدم باتجاه الدولة الفلسطينية. لكن وكالة بلومبيرغ نشرت في أيار/مايو تصريحات لمسؤولين أمريكيين  أشاروا فيها إلى أن الصفقة لا تزال على الطاولة وأن السلطات السعودية  شنت حملة قمع ضد المواطنين الذين عبروا عن أراء ناقدة للحرب في غزة  على منصات التواصل الاجتماعي، حسب تقرير وقع "ميدل إيست آي".


وحاول الموقع الحصول على تعليق من السفارة السعودية في لندن بدون رد. وتساءل أحد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي "لماذا صمتت السعودية على هذا" مضيفا أن "إسرائيل الإرهابية تحدت الشرف. والدوس على كلمات العلم فعل غير مسؤول". 

وقال مشارك آخر "هذه هي إسرائيل الذي يحاول محمد بن سلمان التطبيع معها ليلا ونهارا، لا كرامة".

وذكر التقرير أن عددا من المستخدمين ممن لديهم "إيموجي" على شكل العلم السعودي "اقترحوا أن الصورة قد تكوم لعلم حماس أو تم تحريرها عبر الذكاء الاصطناعي بهدف خلق ردة فعل سلبية ضد السعودية".

ورد تامر على المشككين بنشر "سكرين شوت" (صورة التقاط شاشة) للمقطع المصور الذي نقل منه الصورة، قائلا "أنا لست الشخص الذي يبني تغريداته على الأكاذيب، الغش وخداع الناس".

وظهرت عدة صور مماثلة على منصة "إكس" ومنصات التواصل الأخرى، إلا أن أصحاب الحسابات الأصلية منعوا الدخول لصفحات إنستغرام، حسب التقرير.

خسئت لكل شخص يشكّك في تامر ومصادره .
لست انا من يبني تغريداته على الاكاذيب والاحتيال وخداع الناس .

اشارك معكم حساب الجندي الارهابي القذر والحقير . https://t.co/YT1WezeqYn pic.twitter.com/f90HJcjz6n — Tamer | تامر (@tamerqdh) June 24, 2024

مقالات مشابهة

  • إضافة المواليد الجدد على بطاقة التموين.. طريقة التسجيل والفئات المستحقة
  • ميلوني تدين العنصرية في أوساط رابطة شبيبة حزبها الحاكم.. هتافات دوتشي وتحايا للفاشية بالصوت والصورة
  • إيناس عز الدين في إطلالة ساحرة ومبهرة عبر الانستجرام (صورة)
  • قمر صناعي يرسل صورة تكشف عن الأسرار الداخلية للسحب
  • داسوا العلم السعودي.. ناشطون يطالبون الرياض بالتحرك ضد جنود الاحتلال
  • السودان: إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه
  • الصورة الشعريّة الحديثة
  • ايلون ماسك ينشر صورة «قاتمة» محتملة لمستقبل العقل البشري
  • رانيا فريد شوقي تكشف عن موعد العرض الثاني لـ مسرحية «مش روميو وجوليت» (صورة)
  • أحدث صورة للأميرة للاّ خديجة ابنة ملك المغرب.. ما حقيقتها؟