ثورة العشرين والطروحات الطائفية الجديدة
تاريخ النشر: 24th, June 2024 GMT
تردد مجددا صخب النقاش حول ثورة العشرين العراقية، بعد مرور أكثر من قرن على الحدث. هذه المرة لبس النقاش لبوسا طائفيا بشكل صريح، حتى إن أساتذة يحملون شهادة الدكتوراه، طرحوا ما مفاده (تغيير جغرافيا ثورة العشرين، ونقل أحداثها من الفرات الأوسط إلى الفرات الأعلى لأسباب طائفية). بمعنى أن الثورة حدثت في مدن الفرات الأوسط والأدنى ذات الاغلبية الشيعية، وهي التي حققت النصر وعلامته الأبرز معركة الرارنجية في 25 تموز/يوليو 1920، المعروفة في المدونات البريطانية باسم معركة رتل مانشستر، التي وصفها قائد القوات البريطانية في العراق الجنرال هالدين بـ(الكارثة) وتم لاحقا تحويل كل ذلك في الطروحات الحكومية الرسمية، إلى القول إن بؤرة الثورة كانت مدن الفلوجة وغيرها من المدن المحيطة ببغداد، من المدن السنية لاسباب طائفية.
ثم ينسحب الحوار إلى تهميش، بل تسخيف دور زعامات قبلية سنية، وأبرزها قبيلة الشيخ ضاري المحمود، شيخ قبيلة زوبع، الذي قتل هو وأبناؤه الكولونيل لجمن في خان النقطة بين بغداد والفلوجة، قرب مضارب زوبع، ويطرح أمر مقتل لجمن ، في الاطروحة الجديدة، وكأنه حادث عرضي لأسباب الانتقام للشرف ورد الإهانة ولا علاقة له بالثورة.
قبل الخوض في الموضوع يجب أن نشير إلى نقطة مهمة، وهي طبيعة ودور علاقة سلطة الاحتلال التي تحولت إلى سلطة الانتداب البريطاني بشيوخ القبائل في العراق، وطريقة التعامل معهم وكسب ثقتهم، بالترغيب مرة وبالترهيب مرات، للوصول إلى النتيجة المبتغاة وهي سيطرة شيوخ القبائل على قبائلهم، وبالتالي ضمان الاستقرار وعدم التمرد، وإمكانية إدارة البلد باقل عدد من القوات العسكرية. وقد نجح البريطانيون في سياستهم هذه مع بعض الشيوخ، لكنهم فشلوا مع آخرين في مناطق مختلفة من العراق. إذ فشلت سياسة الضباط السياسيين البريطانيين المتعجرفين في منطقة الفرات الأوسط، التي اشتعلت فيها في حزيران/يونيو 1920 شرارة التمرد الذي قاده شيوخ قبائل الديوانية والمناطق المحيطة بها، وباركتهم مرجعية آية الله محمد تقي الشيرازي في كربلاء. ثم بعد حوالي شهر ونصف الشهر، أي في منتصف شهر آب/أغسطس، التحقت بالانتفاضة قبائل أعالي الفرات المحيطة ببغداد، في المحمودية والإسكندرية والفلوجة، إذ التحقت بالثورة قبائل زوبع والجنابيين وغيرهم، وهم من قبائل السنة الذين انخرطوا في التمرد، بينما منع الشيخ فهد الهذال شيخ عنزة، وعلي السليمان شيخ الدليم انتشار الثورة في الرمادي وما فوقها من مدن حوض الفرات الأعلى نتيجة العلاقات الطيبة والوطيدة بين هذين الشيخين والبريطانيين. وهكذا كان الحال في مدن حوض دجلة، التي بقيت مستقرة نسبيا، وكانت الملاحة النهرية تعمل تجاريا في نهر دجلة بشكل منتظم، وكانت الشركة المسيطرة على الملاحة النهرية هي شركة بيت لنج البريطانية، ما يعني أن الوضع الاقتصادي في مدن حوض دجلة كان مستقرا، كما أن الشيوخ القبليين لقبائل بني لام وألبو محمد، وزبيد، المسيطرين على مدن حوض دجلة، كانوا على علاقة طيبة بسلطة الانتداب البريطاني.
كذلك كان حال البصرة، المدينة الأهم حينها، والمنافسة للعاصمة بغداد. لأن البصرة حينذاك كانت ميناء شمال الخليج الأكثر ثراءً. وهناك وثيقة تأريخية مهمة هي مذكرة وقعها وجهاء وشيوخ البصرة قدمت إلى السير برسي كوكس المندوب السامي البريطاني بعد انتفاضة 1920. وقد أبدت النخبة الارستقراطية البصرية تخوفها من الاتحاد بين البصرة الثرية، مع بقية مدن العراق الفقيرة. كما أشارت المذكرة إلى الفروق الحضارية بين مدن العراق المتخلفة، والبصرة بصفتها ميناء منفتحا على العالم، ويضم بين سكانه جالية كبيرة من الأجانب. كما ذكّر البصريون السير برسي كوكس بأن مدينتهم لم تشترك في أعمال (الشغب والتمرد) حسب وصف المذكرة لثورة العشرين، وإنهم كانوا مطيعين للإدارة البريطانية وتعليماتها، وبالتالي فإن من حقهم أن يحظوا بمعاملة مختلفة من البريطانيين تميزهم عن بقية مدن العراق.
وهنا أحب أن أشير إلى ما كتبه مؤرخون (شيعة) حول توصيف ما حصل في الثورة قبل تطييف النقاش الحالي، إذ كتب المؤرخ عبد الرزاق الحسني في وقت مبكر جدا عام 1935 في كتابه "تاريخ الثورة العراقية" ما يلي: "يشير الجنرال هالدين في كتابه عن الاضطرابات في العراق عام 1920، إلى أنه اصدر أوامره إلى أمير اللواء سندرسن بإنشاء الحصون حول بغداد لوقايتها من الخطر، لأن الثورة شملت معظم انحاء لواء ديالي، ولأن الثوار خيموا على مقربة من المسيب وقطعوا خطوط المواصلات بين بغداد والحلة، وشرعوا يهاجمون المحمودية، كما أن بعض عشائر اليوسفية المجاورة للعاصمة نادى للثورة. بينما كانت قبيلة زوبع تقوم بهذه الأعمال في الدليم. وفي 3 أيلول/سبتمبر 1920 أصدر الجنرال هالدين أوامره السريعة المتقنة بلزوم إعادة خط المواصلات بين بغداد والفلوجة، بعد أن تعرضت الأولى لخطر الثوار، ووضع قوة مختلطة كبيرة لهذا الغرض، فشرعت هذه القوة بالقيام بواجباتها منذ اليوم المذكور، وتمكنت من الوصول إلى خان النقطة بعد جهد جهيد، فنسفت قلعة الشيخ ضاري، وقطعت المياه عن مزارعه حتى ماتت عطشا. وتمكن الثوار من إنزال إحدى الطائرات في 18 سبتمبر فحطموها وأسروا من كان فيها، ثم اعادوا هؤلاء الأسرى إلى القيادة بناء على توسط وشفاعة الشيخ فهد الهذال. وفي 24 سبتمبر 1920 وصل القطار إلى الفلوجة، وكان مدرعاً وانشأت القوة عدداً كبيراً من الحصون والمعاقل على طول الخط لحفظ المواصلات، كما أنها أنشأت حصناً حصينا مقابل قناة الصقلاوية بجوار الفلوجة خشية أن يكسر الثوار السدة المخصوصة، ويغمروا الأراضي بالمياه فتتعطل بذلك الحركات العسكرية". كذلك يشير الفريق مزهر آل فرعون، وهو أحد القياديين المشاركين في الثورة ومن شهودها العيان، وقد أرخ للثورة في كتابه "الحقائق الناصعة في الثورة العراقية" الذي يقول فيه: "إن قيادة الثورة في الفرات أرسلت السيد جدوع أبو زبد إلى الفلوجة وعشائر لواء الدليم، ومنها إلى المحمودية وعشائرها وأطرافها للدعوة إلى الثورة. فقد تحرك السيد جدوع في العشرة الأخيرة من شهر يوليو 1900 ميمما وجهه شطر لواء الدليم، حاملا معه صورة الفتوى التي أصدرها سماحة الإمام آية الله الشيخ محمد تقي الشيرازي، نوّر الله ضريحه الشريف، وصورة ثانية من كتاب الميرزا المعنون إلى كل عراقي عربي، وكتاباً من العلامة السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني". ثم يضيف آل فرعون "وواصل السيد جدوع سعيه حتى وصل إلى الجنابيين واجتمع برؤسائهم واطلعهم على مهمته، وأراهم المكاتيب التي كانت معه والتي جلبها لهذه المهمة وتذاكر معهم وطال الجدال بينه وبينهم. فمنهم من وافق ومنهم من لم يوافق، وحيث إن رئيس الجنابيين خضير الحاج عاصي، كان له اتصال مع الثوار قبل هذا، فإنه أجاب السيد جدوع بقوله، إننا مع الثوار، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، وها إننا قائمون الآن بكل عمل في ما يخص ذلك بكل شوق ورغبة. ثم تحمس بكلمات عربية بحتة ورافق السيد جدوع وتوجها إلى بقية عشائر ذلك اللواء كعشائر بني تميم وزوبع ودليم وغيرها من العشائر ، وتجولا في أنحاء اللواء من جميع اطرافه وصارا كل ما يمران بعشيرة يقابلان رئيسها والمبرزين فيها، فلا يغادرانها إلا ونيران الحماس القومي تلتهب في القلوب، ومن تلك العشائر عشيرة زوبع، وعندما وصلها السيد جدوع واجتمع برئيسها الشيخ ضاري وفاوضه، وكان الشيخ ضاري مسبوقاً بقضية الثورة بواسطة الكتب التي وردت إليه من الثوار قبل ذلك اليوم، وأهمها كتاب عبد الواحد الحاج سكر يعلمونه فيها بأعمالهم ومطالباتهم ومفاوضاتهم مع الحكومة الإنكليزية وأسباب قيامهم بالثورة وما وصلت إليه. ويطلبون من المرحوم ضاري المحمود المساعدة الفعلية بقيامه ضد السلطة المحتلة، وأطلعه على الكتب التي كانت معه، وعندما أطلع عليها ضاري أجاب، إني عربي ووطني وعراقي، وها إني أعاهد الله وأنت عليّ من الشاهدين بأن أبذل كل ما لدي من نفس ونفيس فى سبيل مصلحة بلادي ضد الطامعين، ولينعم العلماء وإخواني الزعماء عيناً، وها إنني باسم الله سأعمل وستسمعون أعمالي وترونها تلك الأعمال التي سوف يرضاها الله وترضونها انتم إن شاء الله .فشكره السيد جدوع باسم علماء الدين والثوار وشجعه على المضي بعمله".
في النهاية أقول لطالما راودتني الشكوك والريبة، كلما اصطدمت بما تثيره صراعات الديكة بين الحين والآخر، وهي تحاول جرّ الأحداث التاريخية إلى مسارات طائفية، إلى أفعال الجيوش الإلكترونية التي تحاول نثر الطائفية في كل حدث عراقي.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العراقية طائفية العراق بريطانيا طائفية مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
سودانيون يحيون ذكرى ثورة 19 ديسمبر بـ«احتجاجات إسفيرية» .. أنصار البشير يتحدونهم بالنزول إلى الشوارع
تحولت مواقع التواصل الاجتماعي السودانية إلى «ساحة نزال لفظي عنيف» بين المجموعة الشبابية والمدنية التي قادت «ثورة 2018» التي أطاحت نظام الرئيس عمر البشير، وأنصار ذلك النظام والرافضين لوقف الحرب الحالية من الإسلاميين، وذلك في الذكرى السادسة لثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) التي أنهت حكم البشير بعد 30 عاماً في السلطة.
وضجت الوسائط الإسفيرية بالمطالبين بوقف الحرب، التي اندلعت في منتصف أبريل (نيسان) 2023 بين الجيش و«قوات الدعم السريع»، مطالبين بالانتقال المدني.
وفي المقابل، كانت مجموعة أخرى من أنصار النظام السابق من الإسلاميين وأعضاء حزب «المؤتمر الوطني» الذي كان يرأسه البشير، تنشر تهديدات باستمرار الحرب حتى القضاء على أعدائهم، وتسخر منهم وتقلل من شأنهم.
وعدّ دعاة السلام يوم 19 ديسمبر فرصة لإعلاء الصوت المناوئ لاستمرار الحرب، ومناسبة لإحياء شعارات ثورتهم تحت شعارها القديم «حرية وسلام وعدالة»، مطالبين بالحكم المدني والانتقال السلمي الديمقراطي، فسارعوا إلى تزيين المنصات الإسفيرية بصور ومقاطع فيديو تعود للأيام والأسابيع الأولى من اشتعال الثورة، سموها «تظاهرات إسفيرية».
ويعد المحتجون الإسفيريون إشعال الحرب بين الجيش و«الدعم السريع»، محاولة للقضاء على «ثورة ديسمبر»، ويرون في الاحتفاء بها تعزيزاً لمطلب وقف الحرب والعودة إلى خيار الديمقراطية وعودة العسكريين إلى ثكناتهم.
الذكرى السادسة للثورة
ودعا الناشط محمد خليفة، وناشطون وسياسيون آخرون، تحت اسم «الديسمبريون» إلى مظاهرات إسفيرية بمناسبة الذكرى السادسة للثورة، وأعاد خليفة نشر مقطع فيديو لإحراق دار حزب «المؤتمر الوطني» في مدينة عطبرة أيام الثورة الأولى، بقوله على منصة «فيسبوك»: «هذا أكثر مشهد يوجع الكيزان (الإسلاميين) وعناصر الأمن وكارهي ثورة ديسمبر المجيدة، إنه مشهد حريق دار المؤتمر الوطني في عطبرة عند بدايات الثورة».
وبدوره، عدّ تحالف «الحرية والتغيير» الحرب الحالية محاولة من أنصار «النظام المباد» للانقضاض على ثورة ديسمبر وإعادة إنتاج الشمولية والدكتاتورية، وتمكين عناصره واختطاف الدولة والعودة للسلطة، وفرض إشراكهم في كل عملية سياسية مستقبلية. وقال حزب «المؤتمر السوداني»، في بيان، إن النظام البائد أوقد نيران الحرب للانقضاض على الثورة وتجريفها، وأضاف: «ثورة ديسمبر المجيدة باقية ما بقيت مطالبها النبيلة، وأن آلة الخبث والدمار تسعى لإعادة الحركة الإسلامية للسلطة من جديد». وقالت أيضاً «الحركة الشعبية لتحرير السودان – التيار الثوري»: «إن الحرب في الأصل مكيدة لتدمير ثورة ديسمبر، وإن الثورة عائدة وإرادة الشعب سوف تهزم الحرب وتأتي بالسلام»، فيما قال عضو مجلس السيادة السابق، محمد الفكي سليمان، في تغريدة على منصة «فيسبوك»: «اضبط بوصلتك على خطاب ديسمبر، فستعرف إلى أي وجهة تتجه».
وروجت المنصات بشكل واسع شعارات الثورة مثل «حرية سلام وعدالة... والثورة خيار الشعب»... و«العسكر للثكنات والجنجويد ينحل»، والمقصود بالعسكر هو الجيش، و«الجنجويد» هي قوات «الدعم السريع». كما تزينت المنصات الاجتماعية بصور الشهداء الذين قتلوا في الثورة، والمطالبات بالثأر من قاتليهم، وتم تصميم الرقم 19 لمجسم ثلاثي الأبعاد للتذكير بأهمية اليوم ومحوريته.
أنصار النظام السابق
في المقابل، ضجت منصات الإسلاميين وأنصار النظام السابق، بالتقليل والسخرية من ثورة ديسمبر وتجاهل الاحتفاء بها. واستنكر الإعلامي الإسلامي إبراهيم الصديق في «فيسبوك»، الاحتفال بثورة ديسمبر وعدّه محاولة لطمس هوية الوطن، أتى بها تحالف «الحرية والتغيير»، قائلاً إنها تجاهلت الحدث التاريخي، وسمت يوم 19 ديسمبر «يوم ثورة ديسمبر»، بينما هو في الأساس يوم إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان في عام 1955. وأضاف: «في 2020 أصدر رئيس مجلس السيادة بيان احتفال بعيد الاستقلال، بينما أصدر عبد الله حمدوك (رئيس وزراء الثورة) بيان احتفال بثورة ديسمبر».
وهدد نشطاء إسلاميون منظمي المظاهرات الإسفيرية، ودعوهم للتظاهر على الأرض إذا كانوا يجرؤون على ذلك، فيما خلت معظم صفحات مؤيدي الحرب من الإشارة لثورة ديسمبر.
وكانت ثورة ديسمبر 2018 قد انطلقت من بلدة مايرنو في ولاية سنار، ومن مدينة الدمازين في ولاية النيل الأزرق في 6 ديسمبر من ذلك العام، لكن إحراق دار «حزب المؤتمر الوطني» في مدينة عطبرة، عُدّ شرارة الثورة التي أشعلتها بقوة، ثم انتقلت الاحتجاجات بعدها إلى العاصمة الخرطوم ومدن البلاد الأخرى، وتواصلت الاحتجاجات بشكل يومي واكتسبت زخماً طوال 4 أشهر، واجهتها السلطات بعنف مفرط وقتلت المئات وجرحت الآلاف حتى سقط النظام في 11 أبريل (نيسان) 2019 تحت ضغط ملايين المحتجين الذين انتشروا في جميع أنحاء البلاد، فيما اعتصم مئات الآلاف أمام مقر القيادة العامة للجيش لمدة خمسة أيام، ما اضطر اللجنة الأمنية العسكرية إلى إطاحة الرئيس عمر البشير لإنهاء الاحتقان.
كمبالا: الشرق الأوسط: أحمد يونس