ظهر الخلاف بين المؤسّسة العسكرية والحكومة الإسرائيلية، حول مستقبل الحرب على قطاع غزة. يعتقد الجيش أنّ العمليات العسكرية قد استنفدت أغراضها، وأنه لا يمكن له أن يحقق أكثر مما حققه، وأي استمرار للعمليات لن يجلب نتائج جديدة بل سيزيد من الخسائر دون فائدة. هذا التصوّر لا يجد قبولًا لدى الحكومة، بل لا أحد فيها يريد مجرّد التفكير فيه، ولا سيما مع حكومة يمينية متشدّدة "ملانة" كما تُسمى في إسرائيل.

في ظلّ تعنّت الحكومة، حاول الجيش خلال الأسبوعين الأخيرين تجنيد الرأي العام الإسرائيلي بشكل مباشر وغير مباشر للضغط على الحكومة، ويمكن رصد مجموعة من الخطوات التي اتخذها لنقل تصوره للمجتمع بشكل تدريجي.

على سبيل المثال، صرّح الجيش بأنه لا يمكن تحرير المحتجزين الإسرائيليين من خلال العمليات العسكرية، رغم نجاح بعض العمليات هنا وهناك، خصوصًا بعد أن استخدم نتنياهو عملية النصيرات لأغراض سياسية لزيادة شعبيته، وتعطيل اتفاق التبادل. كما حاول الجيش تنفيذ هدنة تكتيكية في رفح خلال عيد الأضحى، ولكن الحكومة عارضتها بشدة؛ بهدف إيصال رسالة بأن استمرار العمليات العسكرية ليس ضروريًا، وأن التوقف المؤقت ممكن.

كما صرح الجيش بأنه لا يستطيع فتح مواجهة شاملة مع حزب الله دون إنهاء العمليات في رفح وقطاع غزة بشكل عام، وتحدّى الحكومة بالتصريح بأن القضاء على حركة حماس غير ممكن، وأنها جزء من الشعب الفلسطيني، مما أثار غضبها تجاهه بشكل غير مسبوق، لما في ذلك من معارضة لتوجهاتها باستمرار الحرب حتى القضاء على حركة حماس.

وجاء تصعيد الجيش في تحديه للحكومة في عدة سياقات سياسية، وهي:

أولًا، نجاح نتنياهو في تهميش موضوع التوصل لاتفاق لوقف الحرب وتبادل الأسرى، مدعومًا بموقف أميركي اتهم حماس بإفشال المقترح الأميركي، الأمر الذي استغله نتنياهو جيدًا. ثانيًا، خروج حزب "معسكر الدولة" برئاسة بيني غانتس من الحكومة، مما أضعف الصوت المؤيد للجيش في مجلس الحرب، فبقي الجيش وحيدًا باستثناء دعم وزير الدفاع يوآف غالانت. ثالثًا، تفكيك مجلس الحرب واستبداله بمجلس استشاري يحمل توجهات نتنياهو، وقد ينضم إليه بن غفير الذي يعادي الجيش أيضًا. رابعًا، تبني الحكومة مشروعَي قانونين يتعارضان مع موقف الجيش ومقترحاته، وهما قانون الاحتياط، وقانون تجنيد المتدينين المتزمّتين (الحريديم).

وفيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، فإن وزارة الدفاع (بالتنسيق مع الجيش)، هي المخوّلة بتقديم مشاريع القوانين التي تتعلق بالمؤسسة العسكرية. وقد قدمت وزارة الدفاع بالفعل مقترح قانون الاحتياط في فبراير/شباط؛ بهدف تحسين منظومة الاحتياط في الجيش، ولكن الجيش كان يطالب بتوسيع تجنيد "الحريديم"؛ لخلق توازن بين قانون الاحتياط، وقانون تجنيد الحريديم. ولكن الحكومة تجاهلت هذا المطلب، وحاولت تحقيق توازن من نوع آخر عبر تخفيض سنّ الإعفاء من الخدمة في الاحتياط إلى 41 عامًا، وتبنّي قانون سابق لا يُساهم في توسيع تجنيد الحريديم.

ويبقى موطن الخلاف الأساسي، هو موقف الجيش الراغب في إنهاء العمليات العسكرية بعد أن استنفدت أغراضها. ويرى الجيش أنّ على الحكومة طرح تصور سياسي يُكمل المسار العسكري نحو تحقيق أهداف الحرب، بينما ترى الحكومة أن استمرار العمليات العسكرية هو الهدف بحد ذاته.

وقد بدأ الجيش يدرك أن التصور السياسي الوحيد الذي تملكه الحكومة هو إبقاؤه في قطاع غزة؛ للتمهيد لحكم عسكري إسرائيلي قد يُسهل عودة المشروع الاستيطاني في القطاع. وبهذا تكون أهداف الحرب من وجهة نظر الجيش قد تحوّلت من تحقيق مصالح الأمن القومي الإسرائيلي، إلى تحقيق أهداف أيديولوجية لليمين.

وإذا كانت الضغوط الدوليّة والاحتجاجات الجماهيرية، وضغط الجبهة الشمالية، لم تستطع مجتمعة أن تثني الحكومة عن مسارها، فقد رأى الجيش أنه لم يبقَ أمامه إلا خيار واحد وهو التوجه للرأي العام لبثّ قناعاته بشكل مباشر وغير مباشر، لا سيما أن الاستطلاعات تكشف أنه قد استعاد ثقة الجمهور بعد إخفاقه في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد حلّ في المركز الأول في استطلاع مقياس الديمقراطية لعام 2024م الذي نشره المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، محققًا ثقة 85% من الجمهور، فيما حلّت رئاسة الحكومة في المركز الثاني بفارق كبير وهو 52٪.

هنالك نقطة لا يمكن إغفالها عند تحليل العلاقة بين المؤسسة العسكرية والحكومة الحالية، وتتعلق بتحويل الجيش إلى "مقاول" لتنفيذ سياسات الحكومة. المعضلة أن القانون الأساسي للجيش لعام 1976م، يُحدد دوره في تنفيذ سياسات الحكومة، وبالتالي فإن الحكومة الحالية لا تخالف القانون. ولكن الجيش لم يكن قبل ذلك مجرد مقاول ينفّذ الأوامر وَفق ما حدده ذلك القانون، بل كان شريكًا في تحديد سياسات الحكومة في شؤون الحرب، وكان مؤثرًا على قراراتها. وقد فقدَ هذا الدور في ظلّ هذه الحكومة، بل وصل تآكل مكانته إلى الذّروة.

والمفارقة أنّ الجيش بقي مؤثرًا عندما كانت حكومات إسرائيل مليئة بجنرالات سابقين، بينما مكانته ونفوذه آخذان في التآكل في ظلّ حكومة ليس فيها إلا جنرال واحد، وأعضاؤها المؤثرون لم يخدموا في الجيش: (بن غفير وسموتريتش وقادة الأحزاب الدينية الحريدية). وهذا يفسّر غضب قادته من رفض مشاريع قوانين التجنيد، حيث يتولّى من لا يؤدون الخدمة العسكرية بسبب معتقداتهم الدينية، اتخاذَ القرارات الخاصّة بقوّة الجيش، وموارده البشرية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات العملیات العسکریة

إقرأ أيضاً:

قرار فوري بتجنيد 3 آلاف من يهود الحريديم في الجيش الإسرائيلي

أمر النائب العام الإسرائيلي بتجنيد 3 آلاف من طلاب المدارس الدينية "الحريديم" على الفور ابتداء من الأول من تموز/ يوليو المقبل، وذلك أعقاب قرار المحكمة العليا يلزم الحكومة بتجنيد هؤلاء الرجال لصالح الخدمة العسكرية.

وفي رسالة وجهها إلى وزارات الدفاع والمالية والتعليم، أمر مكتب النائب العام الحكومة أيضًا بالامتناع عن تحويل الأموال المخصصة سابقًا للمدارس الدينية للطلاب الذين كانوا يدرسون بدلاً من الخدمة العسكرية، وفقًا لقرار المحكمة، وأبلغ الوزارات أنها لم تعد قادرة على تقديم مثل هذا الدعم بأي شكل من الأشكال، بحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل".

وكانت المحكمة العليا للاحتلال، أصدرت حكما بإلزام طلاب المدارس الدينية "الحريديم"، بالتجنيد في الجيش، وطلبت من الحكومة قطع الدعم المالي عن المدارس الدينية.

وصدر قرار المحكمة بالإجماع من قبل أعضائها التسعة.

وأوضحت المحكمة في قرارها، أنه تم التأكيد على الموقف الحالي للمؤسسة الأمنية، وهو أن هناك حاجة ملموسة وعاجلة، لإضافة أفراد إضافيين، في خضم حرب صعبة، وبات عبء عدم المساواة أكثر حدة من أي وقت مضى، ويتطلب تعزيز حل مستدام للقضية.


وأشارت إلى أنه "لا توجد مقارنة بين احتياجات الجيش في الأوقات العادية، واحتياجات الجيش في أوقات الحرب. ووفقا لما سبق، فإن الوضع الحالي للمنظومة الأمنية هو أنه في ظل تعدد المهام الأمنية والقتال العنيف في ساحات متنوعة، فإن هناك حاجة ملموسة وعاجلة لأفراد إضافيين".

وتابعت: "الحكومة نفسها والأجهزة الأمنية اتخذوا سلسلة من القرارات التي تعلمنا الحاجة المذكورة، ولا يمكن فصل قرار المسؤول عن التجنيد عما سبق، ويجب أن يعكس الواقع الأمني الذي نجد أنفسنا فيه هذه الأيام عبر تجنيدهم".

ويوجد حاليا نحو 63 ألف طالب من طلاب المدارس الدينية الحريدية، الذين بموجب الحكم ملزمون بأداء الخدمة العسكرية، على الرغم من أن جيش الاحتلال الإسرائيلي أبلغ المحكمة أنه يمكنه بشكل واقعي تجنيد 3 آلاف فقط في عام التجنيد 2024.

وانتقد حزب الليكود الإسرائيلي بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو توقيت صدور قرار المحكمة العليا.

كما انتقد حزب "شاس" بزعامة أرييه درعي، قرار المحكمة قائلا إن "أي قرار شائن من محكمة لن يقضي على مجتمع باحثي التوراة في أرض إسرائيل" على حد تعبيره.


ويمثل حزبا شاس و"يهدوت هتوراة" ركناً أساسيا في حكومة نتنياهو الائتلافية، وكان هذان الحزبان يعولّان على استمرار إعفاء الحريديم من أداء الخدمة العسكرية.

ورغم ذلك، لا يُنتظَر أن يُسفر هذا القرار من المحكمة العليا عن انهيار فوري لائتلاف نتنياهو.

لكن القرار سيزيد موقف نتنياهو صعوبة من ناحية عدم قدرته على الوفاء بتعهداته الخاصة بإعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، والتي تعد من أهم المطالب التاريخية لليهود المتشددين.

مقالات مشابهة

  • ميقاتي: نحن في حالة حرب والتهديدات الإسرائيلية نوع من الحرب النفسية
  • رئيس الحكومة اللبنانية: نحن في حالة حرب.. والتهديدات الإسرائيلية نوع من الحرب النفسية
  • “ما لا يستطيع الجيش قوله” معاريف: لسنا مستعدين للحرب في الشمال
  • إصابات وإنهاك.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يعاني نقصا كبيرا في الجنود
  • قرار فوري بتجنيد 3 آلاف من يهود الحريديم في الجيش الإسرائيلي
  • حلم شاب.. والحكومة الرشيدة (٣)
  • الحريديم يتظاهرون ضد التجنيد الإلزامي في الجيش الإسرائيلي
  • حركة فتح تكشف دلالة اللجوء لقرار تجنيد "الحريديم" في الجيش الإسرائيلي
  • قيادي بـ«فتح»: حكومة نتنياهو تتخبط بسبب ملف تجنيد الحريديم
  • تزامنا مع العدوان على غزة.. الحكم على جندي إسرائيلي لتعذيبه ضفدع