مما هو متفق عليه؛ أن لا مشروع في الحياة دون أن يخضع لمنهج ما، يكون خريطة طريق لذات المشروع؛ سعيا للنجاح والتميز، وتعظيم المكاسب، وفي المقابل: تتأصل القناعة؛ بأن أي مشروع لا يكون خاضعا لمنهج ما، مآله ونتيجته الحتمية الفشل الذريع، وظل الفهم العام عند العامة والخاصة يتموضع عند هذه القناعة، حيث أصبحت حتمية القبول، وعدم الأخذ والرد فيها، ولكن تبقى الإشكالية هنا في مكونات هذا المنهج أو ذاك؛ فمجموعة الإجراءات الإدارية، والتنظيمات الإجرائية، والقوانين المحدَّثَة، والتعليمات الآنية، والقيم الاجتماعية المتعلقة به، وتضاف إليها مجموعة من الإجراءات الفنية للمشروع ذاته، هي التي لها دور كبير في نجاح المشروع في خاتمة النهايات أو الإنجازات، فكل هذه التفاصيل؛ بقدر ما هي فنية؛ ويستلزم تطبيقها وفق ما تكون عليه، وما تقتضيه العملية المنهجية، إلا أن في أحيان كثيرة ما تتداخل الاجتهادات الشخصية فتقوض الأداء، وتختم المشروع بالفشل، وهذه ليست إشكالية فنية، ولكنها إشكالية إدارية بامتياز، وبالتالي فأي مشروع معرَّض لأن يقع تحت هذه الإشكالية الإدارية لأنها تتداخل مع مصالح ذاتية لمجموعة المنفذين لبرنامج المشروع، وهذا التداخل ليس يسيرا القضاء عليه، لوجود مجموعة من الممارسات؛ كالتحايل على القانون، واستغلال ثغراته، وفي مقدمتها تضارب المصالح، ويظل هذا تحديا مستمرا، حتى لو أن هذا المنهج خاضع لصرامة غير تقليدية، ولذلك نسمع في أنظمة الحكم المتسلطة «الديكتاتورية» مجموعة الممارسات الصارمة في كثير مشاريع الدولة، ومع ذلك نسمع ونقرأ عن اكتشاف بؤر للفساد قائمة فيها فتمخر صرامتها، وتقوض إنجازاتها، وكأن هناك إعلانا عن عجز ضرب مواطن الفساد، وإنهاء وجوده بصورة مطلقة، ويحدث هذا في كل التجارب البشرية؛ بلا استثناء.
وما يمكن أن ينفذ من خلال هذه القناعة التي يسلّم بحتميتها الكثيرون، هو أهمية الصرامة المتبعة في المنهج، مع أن بعض وجهات النظر تشير إلى أن الصرامة في هذه الحالة قد تكون معيقة لنجاحات المنهج المتوقعة، وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يجعل العامة والخاصة ينادون بها -أي الصرامة- لتعزيز المنهج؟ أم أن الأمر غير واضح، وأن التقييم متجاوز في تقديره؟ أم أن المسألة تعتمد كثيرا على موضوعية المنهج؛ بمعنى: أن الصرامة إن تستلزمها موضوعات معينة وفق منهجها؛ فإن موضوعات أخرى لا يحبذ فيها مبدأ الصرامة في المنهج؟ -كما هو حال منهج تربية الأبناء، فهناك كثيرون لا يرون صوابا في تطبيق الصرامة في مناهج التربية؛ وأشير هنا إلى منهج تقويم السلوك، وتوصيل المعلومة، مع الأخذ في الاعتبار أن الناس يتفاوتون في تقدير الصرامة المنشودة ونسبية توظيفها على أرض الواقع، وذلك خضوعا لأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها: تجربة الحياة، والعمر المنجز، عرف المجتمع، وعوامل: ثقافية؛ اقتصادية؛ اجتماعية، جندرية، وهذا كله مقبول، وكله ممكن، وكله متاح، وبالتالي فتعدد المناهج بتعدد الموضوعات هي التي تنبئ عن كثير من الإشكاليات عند التطبيق، فما هو ممكن تطبيقه في مناهج التربية السلوكية؛ غيره في تطبيق مناهج التربية التعليمية؛ غيره في مناهج التربية الدينية؛ غيره في المناهج الإدارية المختلفة؛ غيره في مناهج الإعداد العسكري؛ غيره في مناهج الضبطية القضائية؛ غيره في مناهج العلاقات العامة بين الأفراد؛ غيره في مناهج العلاقات القائمة على المصالح الاقتصادية، أو المصالح السياسية، وقِس على ذلك أمثلة كثيرة، فكل واحد من هذه الموضوعات منهجها الخاص، وحاجتها إلى أسلوبها الخاص أيضا عند تطبيق المنهج، على أن تظل هناك قناعة؛ وهي أن أي سلوك ممارس عبر منهج معين، لا بد أن تتخلله صرامة، مهما كان نسبة تأثيرها على مجريات السلوك الموظف في المنهج.
في ظل هذه التشابكات كلها مجتمعة أو متفرقة؛ تسعى المناقشة هنا إلى الوقوف على أهمية أن تكون هناك صرامة في المنهج، مع انتهاج الوسطية؛ لأن النتائج، وكما ينشر عن تأثيرات الصرامة في المنهج، لا تعكس ارتياحا كبيرا، بقدر ما تشير إلى أن هناك إخفاقات لنتائج المنهج، وأن السبب في ذلك هو مستويات الصرامة التي تصاحب المناهج المطبقة على أي مشروع، مع التأكيد أن مفهوم المشروع هنا؛ مفهوم شامل، متنوع، يتقصى كل أوراق شجرة الحياة، ولا يقتصر وجوده، وحضوره على مشاريع دون أخرى، وعلى مواضيع دون أخرى، وعلى بيئة دون أخرى، ومن ضمن ما تم تداوله في تسعينيات القرن العشرين المنصرم، أن إحدى الأسر أخضعت أحد أبنائها لمنهج تكنولوجي صارم، وغريب في الوقت نفسه؛ وماهيته النوم والاستيقاظ في ساعات محددة، الأكل في ساعات محددة، المذاكرة في ساعات محددة، الاسترخاء في ساعات محددة، ويحدث هذا؛ وفق ما نشر في تلك الفترة؛ بصورة يومية، ودون التنازل عن شيء من هذا البرنامج الصارم لأي ظرف، ولست أدري إن كان هذا الفرد «التكنولوجي» (ذكرا أو أنثى) كيف له أن يخرج من هذه الضائقة التكنولوجية بعد أن تحرر من ربقة أسرته التي أسقطته؛ وهو لا يزال صغيرا؛ في هذا المستنقع؛ كيف يكون حاله عندما ينغمس بين زوايا المجتمع وتجاذباته، وإشكالياته، بعد أن نال حريته النسبية بعد سن معينة من حياته؟!
في مناقشة الدراسات العلمية؛ أتصور؛ أنه يعتمد كثيرا على صرامة المنهج البحثي، وذلك لخدمة الأطراف الأربعة: (الباحث/ المادة العلمية/ المؤسسة التعليمية/ المجتمع) لأن نتائج الأطراف الثلاثة الأولى؛ هي التي تشفع لدى الجمهور العام «الطرف الرابع/ المجتمع» نجاعة، وأهمية الدراسة/ البحث الذي اختاره الطالب ليكون مجالا للمناقشة، ومن ثم أهمية تطبيقه على الواقع فيما بعد، كما سوف تعكس صرامة المنهج على قوة المؤسسة التعليمية التي تخرج منها الباحث، ولا تترك مجالا للشك، والقيل والقال، وإذا كانت المؤسسة التعليمية خاصة، فإن في ذلك تسويقا؛ يكاد؛ يكون مجانيا لها والأهمية التي تحتجزها بين مختلف المؤسسات التعليمية الأخرى، ويماثلها في ذلك أيضا مؤسسات القطاع الخاص «الإدارية» التي تحرص لأن يكون موظفوها على قدر كبير من المهنية، والحيوية، والتعاون والتكامل، فمحصلة ذلك كله هو زيادة قيمتها الاسمية في السوق المالية، ولدى المستهلك «الزبون» وبالتالي نيل الكثير من المكاسب المادية والمعنوية، فمؤسسات القطاع الخاص قائمة على مبدأ الربح والخسارة، بخلاف مؤسسات القطاع العام؛ الشائع عنها على أن «الحكومة أم الجميع» وهي مقولة حق يراد بها باطل، فهذه الأمومة ليس معناها التفريط في الواجب الملقى على الموظف، أي ما كان موقعه الوظيفي، ولا يفترض أن يقبل؛ بأي حال من الأحوال؛ أي تهاون في شأن القيام الكامل بواجبات الوظيفة العامة نزولا للمقولة السابقة، مع أن القوانين (المنهج) الموضوعة لتنظيم العلاقة بين الموظف والمؤسسة التي يعمل فيها قوانين، وأنظمة صارمة ومحددة، فالقانون لا يحابي موظف على مؤسسة؛ ولا مؤسسة على موظف، ولا درجة وظيفية على أخرى، فكما أن الموظف البسيط عليه واجبات وفق القانون، فكذلك الموظف الأعلى مسؤولية؛ عليه واجبات وفق ذات القانون، ولكن الإشكالية؛ كما جاء أعلاه؛ هو في استغلال الثغرات التي لا يخلو منها أي قانون وضعي، وما يعقبه من تهاون في اتخاذ الإجراءات الصارمة بعد ذلك من مبدأ التعاطف، وإعطاء الفرص المتتالية «لعل» هذا الموظف أو ذاك، يصلح من حاله، وبالتالي فمجموعة الاستثناءات التي تحدث هي التي تؤثر على صرامة المنهج، وتخضعه للاعتبارات الشخصية، وهي اعتبارات نقوض من صرامة المنهج.
ويمكن القول ختاما؛ إن صرامة المنهج في حال تطبيقها؛ تعلي من القيمة المعنوية لكل القيم السامية: الأمانة؛ الصدق؛ المسؤولية الذاتية؛ المحافظة على المصلحة العامة، ولا تضير أصحاب كل من تمثل بهذه الصفات، بل تعزز قناعاتهم بسلامة المنهج الذي هم عليه، وفي المقابل؛ تربك الذين على النقيض، فلا تترك لهم فرص التلاعب بمصالح الناس، أو عكس صورة سيئة للمؤسسات التي ينتمون إليها، سواء مؤسسات إدارية أو مؤسسات أسرية، أو مؤسسة المجتمع الإنساني الكبير؛ الذي يشكلون جزءا من نسيجه وبينونته، ولو بنسبة تعكس قناعة «الناس لا يجتمعون على ضلالة».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مناهج التربیة فی المنهج صرامة فی هی التی
إقرأ أيضاً:
كيف نزع ترامب القناع عن عملية التغليف التي يقوم بها الغرب في غزة؟
عندما تقرِّر الأنظمة "الديمقراطية الحرّة" المكلّلة بالشعارات القيمية المجيدة أن تدعم سياسات جائرة أو وحشية تُمارَس بحقّ آخرين في مكان ما؛ فإنها تتخيّر تغليف مسلكها الشائن هذا قيميًا وأخلاقيًا إنْ عجزت عن توريته عن أنظار شعوبها والعالم.
هذا ما جرى على وجه التعيين مع حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي استهدفت الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أعلنت عواصم غربية مع بدء الحرب دعمها الاستباقي الصريح لحملة الاحتلال الإسرائيلي على القطاع؛ رغم نوايا قادة الاحتلال المعلنة لممارسة إبادة جماعية وتهجير قسري واقتراف جرائم حرب.
لم تتورّع بعض تلك العواصم عن تقديم إسناد سياسي ودبلوماسي وعسكري واقتصادي ودعائي جادت به بسخاء على قيادة الاحتلال الفاشية في حربها تلك، المبثوثة مباشرة إلى العالم أجمع.
تبيّن في الشقّ الدعائي تحديدًا أنّ الخطابات الرسمية الغربية إيّاها اغترفت من مراوغات صريحة وإيحائية تصم الضحية الفلسطيني باللؤم وتحمله مسؤولية ما يُصبّ عليه من ألوان العذاب، وتصور المحتلّ المعتدي في رداء الحِملان وتستدر بكائية مديدة عليه تسوِّغ له ضمنًا الإتيان بموبقات العصر دون مساءلة أو تأنيب، وتوفير ذرائع نمطية لجرائم الحرب التي يقترفها جيشه، وإن تراجعت وتيرة ذلك نسبيًا مع تدفقات الإحصائيات الصادمة والمشاهد المروِّعة من الميدان الغزِّي.
إعلانليس خافيًا أنّ المنصّات السياسية الرسمية في عواصم النفوذ الغربي تداولت مقولات نمطية محبوكة، موظّفة أساسًا لشرعنة الإبادة الجماعية ومن شأنها تسويغ كلّ الأساليب الوحشية التي تشتمل عليها؛ قصفًا وقتلًا وتدميرًا وترويعًا وتشريدًا وتجويعًا وإفقارًا.
تبدو هذه المقولات، كما يتبيّن عند تمحيصها، مؤهّلة لتبرير سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب في أي مكان على ظهر الكوكب، لكنّ التقاليد الرسمية الغربية في هذا الشأن حافظت على ديباجات إنسانوية وأخلاقوية ظلّت تأتي بها لتغليف سياساتها ومواقفها الراعية للوحشية أو الداعمة لها.
من حِيَل التغليف الإنساني إظهار الانشغال المتواصل بالأوضاع الإنسانية في قطاع غزة مع الامتناع عن تحميل الاحتلال الإسرائيلي أيّ مسؤولية صريحة عن سياسة القتل الجماعي والحصار الخانق التي يتّبعها.
علاوة على إبداء حرص شكلي على "ضمان دخول المساعدات الإنسانية" وتمكين المؤسسات الإغاثية الدولية من العمل، وربّما افتعال مشاهد مصوّرة مع شحنات إنسانية يُفترض أنها تستعدّ لدخول القطاع المُحاصر، كما فعل وزير الخارجية الأميركي حينها أنتوني بلينكن أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو مثل الحال التي ظهر فيها مسؤولون غربيون لدى إعلانهم في مارس/ آذار 2024 من قبرص عن مشروعهم الواعد المتمثِّل بالممرّ البحري إلى غزة، الذي تبيّن لاحقًا أنه كان فقاعة دعائية لا أكثر.
كان حديث العواصم الداعمة للإبادة عن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة وإبداء الحرص على إدخال المساعدات تغليفًا مثاليًا لسياساتهم الداعمة في جوهرها لفظائع الإبادة والحصار الوحشي، فقد ابتغت من هذه الحيلة التنصّل من صورة الضلوع في جرائم حرب مشهودة، وإظهار رفعة أخلاقية مزيّفة يطلبها سياسيون وسياسيات حرصوا على الظهور الأنيق على منصّات الحديث في هيئة إنسانية مُرهَفة الحسّ تلائم السردية القيمية التي تعتمدها أممهم بصفة مجرّدة عن الواقع أحيانًا.
إعلانجرى ذلك خلال موسم الإبادة المديد في عواصم واقعة على جانبَي الأطلسي، عندما كان جو بايدن هو رئيس الولايات المتحدة. ثمّ خرج بايدن في نهاية ولايته من البيت الأبيض ولعنات المتظاهرين تطارده بصفة "جو الإبادة" التي ظلّ في مقدِّمة رعاتها ولم يَقُم بكبْحها رغم مراوغات إدارته اللفظية.
ثمّ برز دونالد ترامب في المشهد من جديد ليطيح بتقاليد المواقف والخطابات المعتمدة حتى مع حلفاء الولايات المتحدة المقرَّبين.
تقوم إطلالات ترامب على منطق آخر تمامًا، فالرئيس الآتي من خارج الجوقة السياسية التقليدية يطيب له الحديث المباشر المسدّد نحو وجهته دون مراوغات لفظية، ويتصرّف كحامل هراوة غليظة يهدِّد بها الخصوم والحلفاء، وينجح في إثارة ذهول العالم ودهشته خلال إطلالاته الإعلامية اليومية.
قد لا يبدو لبعضهم أنّ ترامب يكترث بانتقاء مفرداته، رغم أنّه يحرص كلّ الحرص على الظهور في هيئة خشنة شكلًا ومضمونًا لأجل ترهيب الأصدقاء قبل الأعداء وكي "يجعل أميركا عظيمة مجدّدًا"!.
مع إدارة دونالد ترامب، تراجع الالتزام بالأعراف الدبلوماسية والاتفاقات الدولية، إذ فضّلت الإدارة الأميركية آنذاك اعتماد خطاب مباشر وصدامي، واتباع نهج يتجاوز التقاليد السياسية المتّبعة حتى مع الحلفاء المقرّبين. وقد تجلّى هذا التحوّل في التعامل مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كان حتى وقت قريب يحظى بدعم واسع في واشنطن والعواصم الغربية، قبل أن تنقلب المعادلة، ويظهر خروجه من البيت الأبيض في مشهد حمل دلالات رمزية على تغيّر السياسة الأميركية تجاه شركائها.
اختار ترامب خطاب القوة الصريحة، مع إظهار التفوّق الأميركي بوصفه أداة ضغط على الخصوم والحلفاء على حد سواء، ما عكس توجّهًا جديدًا في السياسة الخارجية يقوم على فرض الإملاءات بدل التفاهمات، وإعادة تعريف العلاقات الدولية من منظور أحادي الجانب.
إعلانإنّها قيادة جديدة للولايات المتحدة، قائدة القاطرة الغربية، تحرص كلّ الحرص على إظهار السطوة ولا تُلقي بالًا للقوّة الناعمة ومسعى "كسب العقول والقلوب" الذي استثمرت فيه واشنطن أموالًا طائلة وجهودًا مضنية وكرّست له مشروعات وبرامج ومبادرات وخبرات وحملات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
انتفت الحاجة مع النهج الأميركي الجديد إلى ذلك التغليف الإنساني النمطي للسياسات الجائرة والوحشية، حتى إنّ متحدِّثي المنصّات الرسمية الجُدُد في واشنطن العاصمة ما عادوا يتكلّفون مثل سابقيهم إقحام قيَم نبيلة ومبادئ سامية في مرافعات دعم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزة. وبرز من الصياغات الجديدة المعتمدة، مثلًا، ذلك التهديد العلني المُتكرِّر بـ"فتح أبواب الجحيم".
على عكس الحذر البالغ الذي أبدته إدارة بايدن في أن تظهر في هيئة داعمة علنًا لنوايا تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة خلال حملة التطهير العرقي التي مارسها الاحتلال في سياق حرب الإبادة؛ فإنّ ترامب عَقَد ألسنة العالم دهشة وعجبًا وهو يروِّج لذلك التطهير العرقي ويزيد عليه من رشفة الأحلام الاستعمارية البائدة؛ بأن يصير قطاع غزة ملكية أميركية مكرّسة لمشروعات عقارية وسياحية أخّاذة ستجعل منه ريفيرا مجرّدة من الشعب الفلسطيني، و"كَمْ يبدو ذلك رائعًا" كما كان يقول!.
لم تتغيّر السياسة الأميركية تقريبًا في فحواها المجرّد رغم بعض الفوارق الملحوظة التي يمكن رصدها، فما تغيّر أساسًا هو التغليف الذي نزعته إدارة ترامب لأنّها تفضِّل إظهار سياساتها ومواقفها ونواياها في هيئة خشنة.
ما حاجة القيادة الأميركية الجديدة بأن تتذرّع بقيم ومبادئ ومواثيق وهي التي تتباهى بإسقاط القانون الدولي حرفيًا والإجهاز على تقاليد العلاقات بين الأمم وتتبنّى نهجًا توسعيًا غريباً مع الحلفاء المقرّبين في الجغرافيا بإعلان الرغبة في ضمّ بلادهم إلى الولايات المتحدة طوعًا أو كرهًا أو الاستحواذ على ثرواتهم الدفينة ومعادنهم النادرة؟!
إعلانأسقطت إدارة ترامب في زمن قياسي التزام واشنطن بمعاهدات ومواثيق دولية وإقليمية، وأعلنت حربًا على هيئات ووكالات تابعة لها، وخنقت هيئة المعونة الأميركية "يو إس إيد" التي تُعدّ من أذرع نفوذها وحضورها في العالم، ودأبت على الإيحاء بأنّها قد تلجأ إلى خيارات تصعيدية لم يتخيّلها أصدقاء أميركا قبل أعدائها.
قد يكون العالم مدينًا لترامب بأنّه تحديدًا من أقدم على إنهاء الحفل الخيري المزعوم ونزَع الغلاف الإنسانوي والأخلاقوي الزاهي عن سياسات جائرة ووحشية وغير إنسانية؛ يتجلّى مثالها الأوضح للعيان في حملة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وسياسات التجويع والتعطيش الفظيعة التي تستهدف الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ذلك أنّ حبكة ترامب في فرض الإملاءات تقتضي الظهور في هيئة مستعدّة للضغط السياسي على مَن لا يرضخون له، بصرف النظر عن نيّته الحقيقية المُضمَرة، على نحو يقتضي التخلِّي عن كلّ أشكال اللباقة والتذاكي التي التزمها القادة والمتحدثون الرسميون في الولايات المتحدة ودول غربية دعمت الاحتلال والإبادة وجرائم الحرب.
أقضّت أميركا الجديدة مضاجع حلفائها وشركائها الغربيين وأربكت خطاباتهم، ولا يبدو أنّ معظم العواصم الأوروبية والغربية مستعدّة للتخلِّي عن الهيئة القيمية التي حرصت عليها في تسويق سياساتها وترويج مواقفها.
يحاول عدد من العواصم الأوروبية إظهار التمايُز عن مسلك أميركا الجديد المُحرِج لسياسات دعم الاحتلال والاستيطان والإبادة والتجويع والتهجير والتوسّع، ما اقتضى إطلاق تصريحات وبلاغات متعدِّدة تبدو حتى حينه أكثر جرأة في نقد سياسات الاحتلال في القتل الجماعي للمدنيين وتشديد الحصار الخانق على قطاع غزة، واستهداف المخيمات في الضفة الغربية وفي توسّع الاحتلال في الجنوب السوري؛ حتى من جانب لندن وبرلين اللتيْن برزتا في صدارة داعمي الإبادة وتبريرها خلال عهد بايدن.
إعلانلعلّ أحد الاختبارات التي تواجه عواصم القرار الغربي الأخرى هو مدى الجدِّية في مواقفها تلك، المتمايزة عن واشنطن، وهل يتعلّق الأمر بالحرص المعهود على التغليف الذي نزعه ترامب؛ أم أنّ ثمة فحوى جديدة حقًّا قابلة لأن تُحدث فارقًا في السياسات ذات الصلة على المسرح الدولي؟
من المؤكّد على أي حال أنّ غزة التي تكتوي بفظائع الإبادة الوحشية وتتهدّدها نوايا قيادة الاحتلال الفاشية ستكون اختبارًا مرئيًا لتمحيص السياسات ومدى التزامها بالديباجات الأخلاقية والإنسانية التي تتكلّل بها، وأنّ السياسات الجائرة والعدوانية والوحشية صارت مؤهّلة لأن تظهر للعيان في هيئتها الصريحة كما لم يحدث مِن قبْل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline