مما هو متفق عليه؛ أن لا مشروع في الحياة دون أن يخضع لمنهج ما، يكون خريطة طريق لذات المشروع؛ سعيا للنجاح والتميز، وتعظيم المكاسب، وفي المقابل: تتأصل القناعة؛ بأن أي مشروع لا يكون خاضعا لمنهج ما، مآله ونتيجته الحتمية الفشل الذريع، وظل الفهم العام عند العامة والخاصة يتموضع عند هذه القناعة، حيث أصبحت حتمية القبول، وعدم الأخذ والرد فيها، ولكن تبقى الإشكالية هنا في مكونات هذا المنهج أو ذاك؛ فمجموعة الإجراءات الإدارية، والتنظيمات الإجرائية، والقوانين المحدَّثَة، والتعليمات الآنية، والقيم الاجتماعية المتعلقة به، وتضاف إليها مجموعة من الإجراءات الفنية للمشروع ذاته، هي التي لها دور كبير في نجاح المشروع في خاتمة النهايات أو الإنجازات، فكل هذه التفاصيل؛ بقدر ما هي فنية؛ ويستلزم تطبيقها وفق ما تكون عليه، وما تقتضيه العملية المنهجية، إلا أن في أحيان كثيرة ما تتداخل الاجتهادات الشخصية فتقوض الأداء، وتختم المشروع بالفشل، وهذه ليست إشكالية فنية، ولكنها إشكالية إدارية بامتياز، وبالتالي فأي مشروع معرَّض لأن يقع تحت هذه الإشكالية الإدارية لأنها تتداخل مع مصالح ذاتية لمجموعة المنفذين لبرنامج المشروع، وهذا التداخل ليس يسيرا القضاء عليه، لوجود مجموعة من الممارسات؛ كالتحايل على القانون، واستغلال ثغراته، وفي مقدمتها تضارب المصالح، ويظل هذا تحديا مستمرا، حتى لو أن هذا المنهج خاضع لصرامة غير تقليدية، ولذلك نسمع في أنظمة الحكم المتسلطة «الديكتاتورية» مجموعة الممارسات الصارمة في كثير مشاريع الدولة، ومع ذلك نسمع ونقرأ عن اكتشاف بؤر للفساد قائمة فيها فتمخر صرامتها، وتقوض إنجازاتها، وكأن هناك إعلانا عن عجز ضرب مواطن الفساد، وإنهاء وجوده بصورة مطلقة، ويحدث هذا في كل التجارب البشرية؛ بلا استثناء.
وما يمكن أن ينفذ من خلال هذه القناعة التي يسلّم بحتميتها الكثيرون، هو أهمية الصرامة المتبعة في المنهج، مع أن بعض وجهات النظر تشير إلى أن الصرامة في هذه الحالة قد تكون معيقة لنجاحات المنهج المتوقعة، وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يجعل العامة والخاصة ينادون بها -أي الصرامة- لتعزيز المنهج؟ أم أن الأمر غير واضح، وأن التقييم متجاوز في تقديره؟ أم أن المسألة تعتمد كثيرا على موضوعية المنهج؛ بمعنى: أن الصرامة إن تستلزمها موضوعات معينة وفق منهجها؛ فإن موضوعات أخرى لا يحبذ فيها مبدأ الصرامة في المنهج؟ -كما هو حال منهج تربية الأبناء، فهناك كثيرون لا يرون صوابا في تطبيق الصرامة في مناهج التربية؛ وأشير هنا إلى منهج تقويم السلوك، وتوصيل المعلومة، مع الأخذ في الاعتبار أن الناس يتفاوتون في تقدير الصرامة المنشودة ونسبية توظيفها على أرض الواقع، وذلك خضوعا لأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها: تجربة الحياة، والعمر المنجز، عرف المجتمع، وعوامل: ثقافية؛ اقتصادية؛ اجتماعية، جندرية، وهذا كله مقبول، وكله ممكن، وكله متاح، وبالتالي فتعدد المناهج بتعدد الموضوعات هي التي تنبئ عن كثير من الإشكاليات عند التطبيق، فما هو ممكن تطبيقه في مناهج التربية السلوكية؛ غيره في تطبيق مناهج التربية التعليمية؛ غيره في مناهج التربية الدينية؛ غيره في المناهج الإدارية المختلفة؛ غيره في مناهج الإعداد العسكري؛ غيره في مناهج الضبطية القضائية؛ غيره في مناهج العلاقات العامة بين الأفراد؛ غيره في مناهج العلاقات القائمة على المصالح الاقتصادية، أو المصالح السياسية، وقِس على ذلك أمثلة كثيرة، فكل واحد من هذه الموضوعات منهجها الخاص، وحاجتها إلى أسلوبها الخاص أيضا عند تطبيق المنهج، على أن تظل هناك قناعة؛ وهي أن أي سلوك ممارس عبر منهج معين، لا بد أن تتخلله صرامة، مهما كان نسبة تأثيرها على مجريات السلوك الموظف في المنهج.
في ظل هذه التشابكات كلها مجتمعة أو متفرقة؛ تسعى المناقشة هنا إلى الوقوف على أهمية أن تكون هناك صرامة في المنهج، مع انتهاج الوسطية؛ لأن النتائج، وكما ينشر عن تأثيرات الصرامة في المنهج، لا تعكس ارتياحا كبيرا، بقدر ما تشير إلى أن هناك إخفاقات لنتائج المنهج، وأن السبب في ذلك هو مستويات الصرامة التي تصاحب المناهج المطبقة على أي مشروع، مع التأكيد أن مفهوم المشروع هنا؛ مفهوم شامل، متنوع، يتقصى كل أوراق شجرة الحياة، ولا يقتصر وجوده، وحضوره على مشاريع دون أخرى، وعلى مواضيع دون أخرى، وعلى بيئة دون أخرى، ومن ضمن ما تم تداوله في تسعينيات القرن العشرين المنصرم، أن إحدى الأسر أخضعت أحد أبنائها لمنهج تكنولوجي صارم، وغريب في الوقت نفسه؛ وماهيته النوم والاستيقاظ في ساعات محددة، الأكل في ساعات محددة، المذاكرة في ساعات محددة، الاسترخاء في ساعات محددة، ويحدث هذا؛ وفق ما نشر في تلك الفترة؛ بصورة يومية، ودون التنازل عن شيء من هذا البرنامج الصارم لأي ظرف، ولست أدري إن كان هذا الفرد «التكنولوجي» (ذكرا أو أنثى) كيف له أن يخرج من هذه الضائقة التكنولوجية بعد أن تحرر من ربقة أسرته التي أسقطته؛ وهو لا يزال صغيرا؛ في هذا المستنقع؛ كيف يكون حاله عندما ينغمس بين زوايا المجتمع وتجاذباته، وإشكالياته، بعد أن نال حريته النسبية بعد سن معينة من حياته؟!
في مناقشة الدراسات العلمية؛ أتصور؛ أنه يعتمد كثيرا على صرامة المنهج البحثي، وذلك لخدمة الأطراف الأربعة: (الباحث/ المادة العلمية/ المؤسسة التعليمية/ المجتمع) لأن نتائج الأطراف الثلاثة الأولى؛ هي التي تشفع لدى الجمهور العام «الطرف الرابع/ المجتمع» نجاعة، وأهمية الدراسة/ البحث الذي اختاره الطالب ليكون مجالا للمناقشة، ومن ثم أهمية تطبيقه على الواقع فيما بعد، كما سوف تعكس صرامة المنهج على قوة المؤسسة التعليمية التي تخرج منها الباحث، ولا تترك مجالا للشك، والقيل والقال، وإذا كانت المؤسسة التعليمية خاصة، فإن في ذلك تسويقا؛ يكاد؛ يكون مجانيا لها والأهمية التي تحتجزها بين مختلف المؤسسات التعليمية الأخرى، ويماثلها في ذلك أيضا مؤسسات القطاع الخاص «الإدارية» التي تحرص لأن يكون موظفوها على قدر كبير من المهنية، والحيوية، والتعاون والتكامل، فمحصلة ذلك كله هو زيادة قيمتها الاسمية في السوق المالية، ولدى المستهلك «الزبون» وبالتالي نيل الكثير من المكاسب المادية والمعنوية، فمؤسسات القطاع الخاص قائمة على مبدأ الربح والخسارة، بخلاف مؤسسات القطاع العام؛ الشائع عنها على أن «الحكومة أم الجميع» وهي مقولة حق يراد بها باطل، فهذه الأمومة ليس معناها التفريط في الواجب الملقى على الموظف، أي ما كان موقعه الوظيفي، ولا يفترض أن يقبل؛ بأي حال من الأحوال؛ أي تهاون في شأن القيام الكامل بواجبات الوظيفة العامة نزولا للمقولة السابقة، مع أن القوانين (المنهج) الموضوعة لتنظيم العلاقة بين الموظف والمؤسسة التي يعمل فيها قوانين، وأنظمة صارمة ومحددة، فالقانون لا يحابي موظف على مؤسسة؛ ولا مؤسسة على موظف، ولا درجة وظيفية على أخرى، فكما أن الموظف البسيط عليه واجبات وفق القانون، فكذلك الموظف الأعلى مسؤولية؛ عليه واجبات وفق ذات القانون، ولكن الإشكالية؛ كما جاء أعلاه؛ هو في استغلال الثغرات التي لا يخلو منها أي قانون وضعي، وما يعقبه من تهاون في اتخاذ الإجراءات الصارمة بعد ذلك من مبدأ التعاطف، وإعطاء الفرص المتتالية «لعل» هذا الموظف أو ذاك، يصلح من حاله، وبالتالي فمجموعة الاستثناءات التي تحدث هي التي تؤثر على صرامة المنهج، وتخضعه للاعتبارات الشخصية، وهي اعتبارات نقوض من صرامة المنهج.
ويمكن القول ختاما؛ إن صرامة المنهج في حال تطبيقها؛ تعلي من القيمة المعنوية لكل القيم السامية: الأمانة؛ الصدق؛ المسؤولية الذاتية؛ المحافظة على المصلحة العامة، ولا تضير أصحاب كل من تمثل بهذه الصفات، بل تعزز قناعاتهم بسلامة المنهج الذي هم عليه، وفي المقابل؛ تربك الذين على النقيض، فلا تترك لهم فرص التلاعب بمصالح الناس، أو عكس صورة سيئة للمؤسسات التي ينتمون إليها، سواء مؤسسات إدارية أو مؤسسات أسرية، أو مؤسسة المجتمع الإنساني الكبير؛ الذي يشكلون جزءا من نسيجه وبينونته، ولو بنسبة تعكس قناعة «الناس لا يجتمعون على ضلالة».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مناهج التربیة فی المنهج صرامة فی هی التی
إقرأ أيضاً:
رسائل عزت غزاوي التي وصلت
جميلة هي الرسائل الورقية بين الناس، مبهجة وكلها حب وثقة، وتؤجج الحس بالحياة داخل المرسل و المرسل له، لم يعد هناك رسائل ورقية صارت كلها الكترونية عبر شيء جامد بعقل كبير وبلا قلب اسمه الايميل، هذا ليس موضوعنا طبعا، لكن ذكره كان ضروريا لابراز حميمية رسالة الورق تلك الأيام العصيبة في حياة الفلسطينيين، أواخر الثمانينيات، وهذه الأواخر لا تعني سوى بداية الانتفاضة الأولى، 1987- 1993 حيث الدم المسفوح والغضب الشعبي الفلسطيني العارم، والبطولات، لا أتحدث عن رسائل بين العشاق، ولا بين أشخاص عاديين يرسلون رسائلهم عبر صناديق البريد العادي في بلادهم إلى أحبائهم المغتربين، أتحدث عن كاتب فلسطيني يجلس القرفصاء داخل زنزانته، الضيقة جدا، أمام الزنزانة سجان حاقد وظيفته في الحياة، الاستمتاع بتعطيل الحياة العادية لهذا المناضل.
هذا الكاتب المناضل ليس سوى الروائي الشهير عزت غزاوي، 1948-2003 والذي سيصبح فيما بعد رئيسا لاتحاد الكتاب الفلسطينيين، ليس لدى عزت في زنزانته سوى قلم وورق شفاف أبيض، تم تهريبه له بطريقة ما، لا يفعل عزت في الزنزانة سوى التذكر والكتابة، تذكر ادباء فلسطين والعالم و أصحابه وزملائه في عالم الكتابة وابنائه وزوجته واحدا واحدا، وراح يكتب بحذر وصمت رسائل سماها فيها بعد (رسائل لم تصل بعد،) كانت الانتفاضة الفلسطينية في ذروتها، انتفاضة شعب قاوم بالحجارة والقضبان الحديدية وبجسده، السجون امتلأت بالمناضلين، والشهداء يسقطون بالعشرات يوميا، والاحتلال جن جنونه، فيبطش بالأطفال كما عادته والشيوخ والنساء، من ضمن هؤلاء كان الكاتب عزت غزاوي الذي وجهت له تهمة المشاركة في القيادة الوطنية الموحدة لهذه الانتفاضة الشعبية. غرق عزت في كتابة الرسائل، لم يكن هناك شيء يفعله سوى ذلك، كتب عشرات الرسائل الى العشرات من الاهل والشعراء والأصدقاء، وكانت الرسائل تتكوم لديه وتلف على شكل كبسولات، تغلق بإحكام بانتظار رفيق يوشك على التحرر لانتهاء مدة سجنه، يبتلعها الرفيق، ثم يخرجها في المرحاض في بيته حين يعود اليه، بهذه الطريقة السريالية تصل رسائل المناضلين الفلسطينيين.
لا يستطيع أي كاتب تسعيني من كتاب فلسطين خصوصا كتاب السرد أن ينكر أن كتاب عزت غزاوي (رسائل لم تصل بعد) والذي نشر أوائل التسعينيات عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لم يعصف به وبذاكرته ولم يصنع داخله أثرا لبنيته و دوائره الجمالية. على صعيد كاتب هذه السطور، أستطيع أن أحدد شكل تأثير لغة وأجواء هذا الكتاب الساحر على لغتي وأجواء اصداراتي الأولى أول التسعينيات ( موعد بذي مع العاصفة)، الشعرية الواضحة في كتابي الأول كان لشعرية كتاب الرسائل دور كبير فيها، ومنذ قراءتي لكتاب عزت وأنا مولع بالجنس الادبي( إذا صح أن نسميه كذلك )النص- الرسالة، والذي سأتعلق به وأصدر كتبا كثيرة تعتمد بنيته، وفي نقاشاتنا يعترف أصدقائي الكتاب التسعينيين، بأن لغة عزت المتفردة في نصوصه الروائية والقصصية اللاحقة قد ظلت تطاردنا وتفعل فينا فعلها الجمالي.
استحضر عزت غزاوي عشرات الشخصيات الإبداعية مثل لوركا ومحمود درويش وطاغور، حاورهم واستحضر عوالمهم وقصصهم، وسياقات حياتهم، ولعل أنضج وأكثر الرسائل تأثيرا كانت رسالته الى (كلود) الفرنسي أحد موظفي الصليب الأحمر:
أنا كلود من الصليب الأحمر.
أهلا بك.
لم أكن أتوقع مثل تلك الزيارة.
كيف أنت؟
لا أدري.
هذه هي المرة الثالثة التي أحاول فيها أن أراك، لكنهم لم يسمحوا لي.
أين نحن؟
لا تعرف أين أنت؟ نحن في ( بتاح تكفا).
كلود عزيزي: ربما تكون بقية الأحاديث أثناء زيارتك الأولى عادية جداً رغم أنها استمرت ساعتين. لا أذكر الكثير مما تحدثنا به خلال الوقت لكنني أذكر جيداً أنك قلت لي: سأبقى معك أطول فترة ممكنة. أنظر إلى السماء وحاول أن تأخذ أنفاساً عميقة. هل كنت بالفعل تدرك مدى حاجتي لذلك! لا تنس أنني كنت أحسدك على طبيعة إحساسك وأنت معي. أنت داخل السجن في زيارة قصيرة تقوم بخدمة إنسانية أحترمها كثيراً، لكن الأهم من ذلك شعورك الحقيقي بأنك ستخرج خلال لحظات وتنسى عفونة الزنازين).
تبدو رسائل غزاوي شديدة الطزاجة ( مضى على إصدارها أكثر من عشرين عاما وما زال الكثيرون يحبون استعادتها حنينا لزمن فلسطيني جميل يتوازى فيه الألم مع الشرف،) تمسكا بالطبيعة الإنسانية الني يحاول السجان نزعها من الفلسطينيين، وتأكيدا لنفسه وللعالم بأن الكتابة يمكن أن تكون ردا مناسبا على همجية السجان، تفضحه وتوثق بربريته، والاهم من ذلك أنها ترسل إشارة مهمة الى أن الفلسطينيين قادرون على أن الابداع الثقافي والحضاري الإنساني حتى لو كانت السكين تواصل حز العنق.
عزت غزاوي في سطور.
ولد لعائلة هاجرت من بلدة قاقون في فلسطين المحتلة عام 1948. درس المرحلة الإعدادية في القرية والثانوية في مدرسة عتيل الثانوية. درس الأدب الإنجليزي في الجامعة الأردنية. عمل مدرسًا في مدارس طولكرم. نال درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة ساوث داكوثا الأمريكية. عمل محاضرًا في جامعة بيرزيت حتى رحيله. أعتقل لمدة سنتين بسبب عضويته في القيادة الوطنية الموحدة إبان الانتفاضة الأولى. انتخب أمينًا عامًا للتجمع الوطني لأسر شهداء فلسطين حتى رحيله. أحد مؤسسي اتحاد الكتاب الفلسطينين، في رصيده العشرات من الروايات والقصص القصيرة والمقالات النقدية، وكان عضوًا في هيئات إدارية وثقافية إلى أن أنتخب رئيسًا للإتحاد حتى وفاته. عين وكيل لوزارة الثقافة والإعلام فبل رحيله بثلاثة أشهر. قام بترجمة كتب عالمية إلى اللغة العربية. توفي في أبريل 2003.