لجريدة عمان:
2025-02-07@05:01:20 GMT

تهافتُ الوعي مَهْلَكة

تاريخ النشر: 23rd, June 2024 GMT

لا شك أن للإنسان طاقات شتى يمكن سردها وتفصيل منطلقاتها وآثارها وإمكاناتها، لكن لا أعظم من ثنائية العقل والكلام، وإن كان الحديث عن العقل لا يقبل الأنماط المختلفة فإن للنطق أنماطا شتى تحملها الكلمة منطوقة أو مكتوبة أو حتى إشارة للتعبير عن مدلولات متعارف عليها، وكما يمكن لنا تخيل طاقة هذه الثنائية أوان توافق الشريكين (العقل والكلام) للخير والسلام وإعمار الكون بما فيه من مخلوقات عديدة ومكونات مختلفة، يمكن كذلك تخيل كمية الدمار أوان اختلافهما، أو أوان توجيههما لغير ذلك، فما المراد بالدمار المتخيل حال تصادم الشريكين أو حال استغلال أحدهما للآخر؟

لعلّ التنمر ظاهرة لها نصيب من سلبيات فشل التوافق بين كل من العقل والكلام حين يعبّر إنسان ما أو مجموعة من الناس عن لحظة انفعال قد يكون منطلقها الغيرة أو الحسد أو حتى مجرد تهالك في الوعي الفكري والأخلاقي حيث لا يحسن المرء حينها توظيف مهارات العقل في الربط المنطقي والتحليل الفكري للنتيجة فيتعجل في نطق أو كتابة أو تعبير عن انفعال ما قد يؤدي إلى كثير مما لا يمكن تصوره من آلام نفسية، وانفعالات عصبية، أو حتى تلبس للشعور بالتمييز أو الطبقية أو العنصرية، فضلا عما قد يتسع من آثار أخرى ناتجة عن تأخر الكلام عن منطق العقل، وتأخر التلقي عن مسار الوعي لينتهي الأمر بمشكلات أكبر متضمنة تحريضا أو تفريقا أو شحنا انفعاليا يصل في بعض آثاره إلى العنف أو الجريمة.

ورغم أن التنمر في الأصل مصطلح حديث يعبّر به تربويا عن «أشكال العنف الذي يمارسه طفل أو مجموعة من الأطفال ضد طفل آخر، أو إزعاجه بطريقة متعمدة ومتكررة، وقد يأخذ التنمر أشكالًا متعددة كنشر الإشاعات، أو التهديد، أو مهاجمة الطفل المُتنمَّر عليه بدنيًّا أو لفظيًّا، أو عزل طفلٍ ما بقصد الإيذاء أو حركات وأفعال أخرى تحدث بشكل غير ملحوظ» وفقا لتعريف منظمة اليونيسف، فإنه تجاوز الأطفال ليشمل الأقليات والفئات الخاصة وغيرهم من الأفراد أو حتى الجماعات التي من الممكن أن تقع ضحية لاستهداف اجتماعي ممنهج بغية إسقاط الحضور الاجتماعي، والعزلة المؤقتة أو الدائمة الناتجة عن فعل التنمر، وقد سمعنا وقرأنا كثيرا عن حالات انكفاء وتقهقر؛ فردية أو جماعية جراء التنمر المُستهدِف هدم الشخصية، ذلك الانكفاء قد يتمثل في عزلة وصمت، وقد يتجاوز ذلك إلى ردود فعل أقوى يمكن أن تصل إلى الانتحار (كما حدث مؤخرا مع مراهقة فلسطينية في الخامسة عشرة من عمرها مصابة بالبهاق تعرَّضت للتنمر طويلا مما دفعها إلى إنهاء حياتها) ويمكن أن تتمثل في أعمال عنف موجهة ضد الأفراد والجماعات أو حتى المؤسسات إن وافق ذلك التنمر والاستهداف من جهة هشاشة في الثقة وضعفا في الوعي لدى الجهة الأخرى.

وإن شئنا مواجهة هذه الظاهرة -الناتجة عن تأخر استيعاب الوعي رسائل العقل أو تعطيلها لتغليب قوة التعبير السلبية الجارحة- فلا مناص من العودة لأسبابها ومبرراتها التي يأتي في صدارتها الفراغ. إن حالة الفراغ هي بيئة مناسبة لإرسال واستقبال التنمر إذ تمنح المتنمر فسحة الاستهداف وتصيّد الأخطاء والضحايا، كما تلقي على الضحايا سطحية الوعي وضعف الثقة وهشاشة رد الفعل، ومن المؤسف أن تدعم التقنية الحديثة متضمنة وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي ظاهرة التنمر الممنهج ليصير بالإمكان تعميق أثر التنمر عبر سرعة النشر وعموميته، إضافة إلى إمكانيات الذكاء الاصطناعي الحالية في تزييف الحقائق وتلبس الحالات لنجد صوتا حقيقيا هو غير حقيقي في الواقع، ومشهدا مدججا بأدلة بصرية متضمنة شخصيات أو وقائع هي غير حقيقية في الواقع، وقد يقول قائل هنا: إن التقنية قادرة على تبين الحقيقة بعد التقصي والبحث، وهو قول حق لولا أنه لم يضع اعتبارا لسرعة إحداث الأثر بعد وقوع الأمر، ولم يضع اعتبارا أو أهمية لما لا يمكن إعادته سيرته الأولى، أو جبره كأن لم يكن كالألم وترسبات الغصة والخذلان والانكسار والانطفاء حتى ولو ثبت الزيف بعد أمد، كما لا يمكن إعادة ميت للحياة سواء كان هذا الميت جسدا أو روحا أو طاقات معرفية فكرية اجتماعية.

ختاما: لا بد من تعزيز الوعي بكثير من قوة المعرفة، لا بد من تفهم وتقبل المختلف مع إدراك قوة التكامل المبني على ذلك الاختلاف، ثم شغل العقل بما ينبغي الانشغال به من أولويات متعلقة بالإنسان والتنمية بعيدا عن تشتيت الرأي العام وشغل العامة بتوافه عتيقة يعرف الكل مغبّتها، وسخائف مستهلكة لفظها التاريخ كما لفظها الواقع المعاصر، لا بد من إدراك وإدانة أي توجه لتصنيع معارك وهمية «طواحين الهواء» استنزافا لطاقة الأفراد والمجتمعات في نزاعات تافهة وتصادمات يومية لصرفهم (قصدا أو جهلا) عن أولويات وطنية، مجتمعية إنسانية جديرة بالتحليل والنقاش والتدبر.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أو حتى

إقرأ أيضاً:

مفتي الجمهورية يوضح حكم الشريعة في تعطيل العقل عن الفكر والتأمُّل

استضاف صالون الحداد الثقافي عددًا من المفكرين، وعلى رأسهم ضيف الشرف الدكتور نظير محمد عيَّاد مفتي الجمهورية ورئيسُ الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، وألقى كلمةً عن الفتاوى وتحصين الأفكار.

وفي كلمته عن الفتاوى وتحصين الأفكار تناول المفتي عددًا من المحاور كان من أبرزها، الحديث عن قيمة العقل في الإسلام، وأبرز من خلال هذا المحور حديث الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه التفكير فريضة إسلامية، تميُّز الخطاب القرآني في تعامله مع العقل؛ مقارنةً بغيره من النصوص الدينية الكبرى، وذكره في سياقات تُعلِي من قدره وقيمته، وتُوجب العمل به، دون أن تكون الإشارة إليه عابرةً أو مُقتضبة، ثم استشهد بعدد من الآيات التي توضح إبرازَ المنهج الإسلامي في تشريعاته الارتباطَ الجوهريَّ بين العقل والتكليف.

كما تحدث عن وظائف العقل في الشريعة الإسلامية مبينًا أن الإسلام قد حدَّد للعقلِ مساراتٍ جوهريةً تُعززُ مناعتَه ضدَّ الانحراف، بدءًا من التفكُّر في الكون، مرورًا بفقه النصوص، ووصولًا إلى تحرير النفس من التبعيات غير العقلانية، وتَبرزُ هنا أهميةُ الفتوى الواعية في ترسيخ هذه الوظائف، عبر منهجيةٍ تجمع بين النص الشرعي وواقع العصر، لتحصين العقل من إفراط التشديد أو تفريط التساهل، وتوجيهه نحو فهمٍ رشيدٍ يحقق مقاصدَ الشريعة.

وفي المحور الثالث أبرز المفتي، حكم الشريعة في تعطيل العقل عن الفكر والتأمُّل في الشرع أو العالم مبينًا أن الحواس تعدُّ أدواتٍ رئيسيةً للإدراك، وقد أودعها الله في الإنسان لحكمةٍ عظيمة، وهي مساعدته على فهم العالم من حوله، واستيعاب الحقائق التي توصله إلى الإيمان واليقين.

 ومن هنا، فإن تعطيل أي حاسة من الحواس -كالسمع أو البصر- يُعدُّ إفسادًا للحكمة التي خلقها الله من أجلها؛ لأن ذلك يؤدي إلى نقصٍ في الإدراك وتشويهٍ للوعي.

واشار إلى أنه إذا كان تعطيل الحواس البدنية أمرًا مرفوضًا عقلًا وشرعًا، فإن تعطيل العقل -وهو أرقى أدوات الفهم والإدراك- يكون أشد خطورةً وأعظم ضررًا. فالعقل هو الميزان الذي وهبه الله للإنسان ليفكر به، ويميِّز بين الحق والباطل، ويستدل به على وجود الخالق وقدرته. ومن يُعطل عقله أو يُعرض عن التفكير السليم، فقد أخلَّ بأمانة الله فيه، وضيَّعَ أعظمَ وسيلة للعلم والهداية.

ثم انتقل في المحور الرابع إلى ذكر نماذج تاريخية، توضِّح كيفية ومدى تأثير الفتوى على العقل والفكر.

وبيَّن في المحور الخامس تأثير الفتوى في الفكر والعقل الفردي والجماعي وذلك من خلال (فقه) الخوارج كنموذج على ذلك، موضحًا أن الفتوى الدينية تعد جسرًا بين النص الشرعي والواقع الإنساني، لكنها قد تتحول أحيانًا إلى سلاح ذي حدَّيْن: تُرشد إن استندت إلى العقل والعدل، أو تُضلَّ إن خضعت للعاطفة والظن. وقصة الخوارج مع عبيدة بن هلال تقدم نموذجًا حيًّا لتداخُل الفتوى بالعقل الجمعي، وكيف يمكن لرد فعل عاطفي أن يُحدث تحولًا جذريًّا في الفكر والسلوك دون مساءلةٍ عقلانية.

ثم انتقل أخيرًا إلى بيان كيف يمكن للفتوى الدينية أن تُحصِّن الأفكار من الإفراط والتفريط، من التسيُّب والتشدُّد؟ لافتًا إلى أن ذلك يتحقق بعدة أمور من أهمها: التأسيس على مقاصد الشريعة وتجنُّب النظرة التجزيئية، وتوظيف القواعد الفقهية الكلية كضابط منهجي، واعتماد مبدأ سدِّ الذرائع وفتحها، وتفعيل الاجتهاد الجماعي المؤسسي، واشتراط الورع والأهلية في المفتي، ومراعاة العرف واختلاف الزمان والمكان. 

مقالات مشابهة

  • العقل زينة!!
  • غدًا.. "محاكمة شات جي بي تي" في مكتبة مصر الجديدة
  • الأخصائية الاجتماعة منار السياري: التنمر من أبرز مشكلات يعاني منها الأطفال في العصر الحديث
  • مفتي الجمهورية ضيف شرف صالون الحداد الثقافي "حول دور الفتوى في تحصين الأفكار"
  • مفتي الجمهورية ضيف شرف صالون الحداد الثقافي
  • مفتي الجمهورية يوضح حكم الشريعة في تعطيل العقل عن الفكر والتأمُّل
  • نصائح سريعة لمنع تكون البقع على الأسنان
  • محاولة قراءة موازية لما بعد العقل الواعي (١)
  • الزواج ومسؤولية التربية: بين الوعي والإعداد النفسي
  • أهمية ممارسة تمارين الاسترخاء والتأمل لصحة العقل والجسم