جدول الوعي الجاري، كُرات الذكريات المتدحرجة، قوة المعتقدات التي تُرينا ذواتنا، الكوابيس التي ترسم أحكاما ودودة أو صارمة تجاه أنفسنا، والجسد الخارجي برعونته وصفائه، كل ذلك لا يعدو أن يكون أكثر من ارتداد لذلك الداخل بالغ العمق والحساسية فينا.
هكذا نتابع في الجزء الثاني من فيلم الأنيميشن «inside out»، صورتين هائجتين تعتملُ إحداهما في النفس البشرية وتموجات العقل الباطني حيث تدب حياة الأمزجة الشخصية وتلعب أدوارها، وتعتملُ الصورة الأخرى في الجسد الذي نراه ونلمسه ونشاهد ردات فعله الظاهرية ونصدر ضده أحكامنا.
في الحقيقة لا أدري كيف تمكن صُناع هذا الفيلم للمرة الثانية من جعلنا مشدوهين بقوة المخيلة التي تؤثثُ عقل البطلة «رايلي»، الفتاة التي تبلغ الثالثة عشرة من عمرها، لنغدو في مواجهة حية مع كل ما قد يدور ذهنها من هواجس وأفكار.
إذ بقدر ما يظن الآباء أنّهم يقدمون الحماية اللازمة لأبنائهم، يخفقون في عزلهم التام عن خوض مشاعرهم وأحاسيسهم الفردية، فثمة ما ينمو في أعقد نقطة من أدمغتهم، حيث لا يمكننا أن نُمرر أيدينا الناهية ولا ألسنتنا النافية.
«البلوغ» هذه المرّة هو جرس الإنذار الذي أفزع مشاعر «رايلي» المعتادة: «الفرح، الحزن، الخوف، الغضب»، وكأنّ هذه المشاعر لم تعد كافية لتدير العقل والجسد الجديدان، ليبدأ طوفان من الاضطراب والفوضى، إذ تقتحمُ مشاعر جديدة مركز قيادة العواطف في عقلها: «القلق، الملل، الإحراج، الحسد»، وذلك بغرض مساعدتها للعثور على ذاتها المشتتة، لإثارة إعجاب الآخرين، «العائلة والأصدقاء»، ولبناء خبرات مغايرة في الوعي أيضا.
التغير الذي يصيب الجسد يُطلق شرارة الفوضى لتسع مشاعر لأن تعبث بعقل «رايلي» بطريقة مُرعبة تجسد الواقع الذي يعبره المراهقون، إلى أن يستلم «القلق» زمام المهمة، فيطرد الآخرين، ظنا منه أنّه الوحيد القادر على حمايتها، دون أن يعي أنّه يهدم المخيلة الصافية، ويحوّل جملة: «أنا شخص صالح» إلى «لستُ جيدا بما يكفي»، حيث تبدأ مشقة محاولة إثبات الذات بين الأقران الجدد.
في الجزء الأول كانت الفكرة الفاتنة تدور حول أنّ محاولتنا لتجاوز شعور «الحزن» لا يعني بالضرورة أنّ تمضي الحياة على نحو أفضل. لقد مُنح «الحزن» أهمية كبيرة لقدرته على إعادة الأشياء إلى أماكنها، بعد أن حاول البعض استبعاده والتقليل من شأنه. هكذا تتبدى المشاعر في الفيلم كـتباينات ضرورية في لوحة التكوين النفسي.
تأسرنا حركة الداخل وانعكاسها على الخارج. نرقبُ عن كثب كيف يكبر الأبناء وكيف تحل المشاعر بتعاقب مُذهل، إلا أنّ الفيلم يدعونا خفية إلى أن نقوي في أبنائنا ما يعتقدونه عن أنفسهم لأنّ ذلك هو ما يستيقظ فيهم وقت الشدة والألم. فبقدر ما نشأ هذا الكون الذي نعيش فيه من تحولات مُعقدة على مدى ملايين السنين، انقذف في تكويننا الأشد تواريا شيئا من ذلك التعاقب المُتنامي أيضا.
وكما يُعلم الفيلم المراهقين ضرورة أن يتعاطفوا مع أنفسهم، يدعو الآباء إلى ضرورة أن ينظروا بتعقل لسيلان المشاعر التي تعبر أبناءهم في مرحلة بالغة الهشاشة من حياتهم الشعورية، إذ إنّ لهذه المشاعر وظائف أساسية، وليس بالضرورة أن نقصي أحدها وإنّما أن نعي دورها في الوقت الملائم.بقدر الإبهار البصري، وقوة اللحظة التي تحتضن فيها كل المشاعر دون استثناء المعتقد الأصلي لـ«رايلي» عن نفسها، تأكيدا على أنّ المشاعر مهما تطرفت فهي مُصممة في أصلها لحماية الإنسان وإبعاده عن الأذى، إلا أنّ النهاية جاءت مُتعجلة بعض الشيء قبل أن تنضج الرؤى والتجارب على مهل.
لكن ذلك لا ينفي قدرة الفيلم على تقديم محاكاة فعلية لما يدور في تلافيف أمخاخنا الصغيرة، في الشروخات والتصدعات التي تدفع كرات الذكريات لأن تتدفق كنهر جارف، وكيف أنّ غلبة شعور على آخر يمكن أن يُغير بوصلة حياة أحدنا إلى الأبد، فلا يعود ما كان عليه. يظهر ذلك جليا عندما تذهب المشاعر إلى الجزء الخلفي من الدماغ لتُخلص «رايلي» من الذكريات السيئة قبل أن تبدأ في الترسخ عميقا. فتلك المقاربة المُشبعة بثراء المعنى حول التأكيدات الأولى التي ينبغي أن تنغرس في طفولتنا ومراهقتنا، تكشفُ لنا نحن الراشدين أيضا كم الأفكار التي لوثت ينابيع طفولتنا ومراهقتنا دون أن نعي أنّها تشوه حياتنا المقبلة!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
صحف عالمية تغادر منصة إكس.. ما الذي حدث؟
القرارات الأخيرة التي اتخذتها وسائل إعلام كبرى مثل "الغارديان" و"لا فانغوارديا"، وأخرى متخصصة مثل "سيكس تك غايد"، بمغادرة منصة إكس، سلطت الضوء على معضلة جديدة تواجه الإعلام العالمي: هل عليهم البقاء على منصة شعبية أصبحت مصدرًا رئيسيًا للأخبار الكاذبة وخطاب الكراهية للحفاظ على أهميتهم؟ أم يغادرونها حفاظًا على مسؤولياتهم الأخلاقية؟
كانت منصة إكس (المعروفة سابقًا باسم تويتر) هي المكان المفضل لأي نقاش عالمي، لكنها شهدت تحولًا كبيرًا في سمعتها تحت قيادة الملياردير الجنوب أفريقي إيلون ماسك، الذي يصف نفسه بأنه "مدافع مطلق عن حرية التعبير".
هذا التدهور الأخلاقي لمنصة إكس تفاقم بشكل كبير مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024، إذ أعلن ماسك عن دعمه الواضح لدونالد ترامب وحركة "اجعل أميركا عظيمة مجددًا"، مما حول المنصة إلى منبر لنشر الكراهية، العنصرية، وكراهية الأجانب.
مع بروز حسابات النازيين الجدد والقوميين البيض، وظهور السلوكيات العنصرية، وعمليات الكشف التعسفي عن البيانات الشخصية (doxxing)، وغيرها من الإساءة اليومية على المنصة، قرر العديد من وسائل الإعلام – بالإضافة إلى ملايين المستخدمين – مغادرة إكس بشكل نهائي. بالنسبة لهم، فإن مغادرة إكس كانت تعبيرًا واضحًا عن موقف أخلاقي ضد العنصرية والكراهية، وضد إساءة استخدام منصة كانت تُعتبر في السابق الساحة العامة العالمية.
إعلانولكن، هل يمثل انتقال وسائل الإعلام إلى بدائل، مثل: "بلوسكاي" حلًا حقيقيًا؟ أم أن ذلك يخلق مشكلات جديدة، مثل الفقاعات الأيديولوجية، والخسائر المالية، وتراجع التأثير؟
بالنسبة للكثيرين، فإن البقاء على إكس يُعتبر بمثابة موافقة ضمنية على الاتجاه الذي اتخذته المنصة تحت قيادة ماسك. بالنسبة لبعض وسائل الإعلام، خاصة تلك التي تتفاخر بهويتها التقدمية وقيمها الصحفية، فإن الانتماء إلى منصة مرتبطة بالجدل وبدعم ترامب أمر غير مقبول.
ولكن لا تزال منصة إكس تمتلك جمهورًا عالميًا واسعًا لا يمكن لأي منصة اجتماعية أخرى أن تضاهيه. قدرتها على الوصول إلى جمهور عالمي وتعزيز الرسائل لا يمكن تجاهلها. المغادرة الكاملة قد تعني قطع الصلة مع جمهور ضخم ما زال يعتمد على المنصة للحصول على الأخبار، مما قد يترك فراغًا يمكن أن تملأه مصادر أقل مصداقية أو حتى ماكينات الأخبار الكاذبة.
بالنسبة لأولئك الذين قرروا مغادرة إكس، ظهرت منصة "بلوسكاي" كخيار جذاب. هذه المنصة اللامركزية تقدم بيئة تكون فيها الأخبار الزائفة وخطاب الكراهية أقل انتشارًا. هيكلها يَعِد بحوارات أكثر صحة وتوافقًا مع القيم. النقطة ليست أن "بلوسكاي" خالية تمامًا من الأخبار الزائفة أو خطاب الكراهية، ولكن طريقة عملها تقلل من انتشار هذا المحتوى بدلًا من الترويج له. بالإضافة إلى ذلك، توفر أدوات إضافية للمستخدمين للتحكم بشكل أفضل في المعلومات والمحتوى الذي يستهلكونه.
لكن "بلوسكاي" ليست خالية من العيوب. قاعدة مستخدميها أصغر بكثير، ونطاقها الجغرافي أكثر اعتدالًا مقارنة بـ "إكس". كما أن تصميمها، بحسب النقاد، قد يُخاطر بخلق فقاعات أيديولوجية: إذا أصبحت "بلوسكاي" ملاذًا للمستخدمين الليبراليين والصحفيين بشكل أساسي، فقد تؤدي إلى تكرار نفس الديناميكيات المعزولة التي يقول النقاد إنها تؤثر على المنصات البديلة الأخرى.
إعلانولكن، ينهار هذا النقد عندما نفكر في البديل الذي تقدمه إكس لـ"فقاعات" بلوسكاي المزعومة: منصة مفتوحة لجميع الأيديولوجيات، لكنها مدفوعة بالكراهية.
كما كتب الصحفي والأستاذ مارسيلو سواريز، "إكس ليست ساحة عامة، إنها مركز تسوق. لا توجد مناقشات حقيقية في مركز تسوق".
بخلاف إكس، التي تعتمد على إشعال الصراعات لزيادة التفاعل، تتيح بلوسكاي للمستخدمين السيطرة على تجربتهم، واختيار ما يظهر على صفحاتهم الخاصة دون تدخل خوارزمي. إذا اختار أحدهم العيش في "فقاعة"، فهذا قرار شخصي، وليس نتيجة لفرض هيكلي.
وفي المقابل، فإن بديل إكس للفقاعات يستبدل الاتصال بالعدائية، مما يحول المنصة إلى ساحة معارك بدلًا من مساحة للحوار.
هناك حجج أخرى ضد الانتقال الجماعي من إكس إلى "بلوسكاي". كما لاحظت الصحفية صوفيا سميث غالر على LinkedIn، فإن بلوسكاي منصة صُممت لتلبية احتياجات الصحفيين أكثر من جماهيرهم.
تذكرنا هذه الديناميكية بالعصر الذي كان فيه الصحفيون يهيمنون على منظومة تويتر، حيث كانوا يتفاعلون أساسًا مع بعضهم البعض. هذه الديناميكية، على الرغم من أنها مريحة للصحفيين، قد لا تترجم إلى تفاعل ذي مغزى مع الجمهور في عالم يتجه أكثر نحو المنصات المعتمدة على الفيديو مثل تيك توك، يوتيوب، وإنستغرام.
فتح حساب على بلوسكاي قد يكون إيجابيًا للصحفيين الذين يمكنهم التفاعل مع زملاء ذوي فكر مشابه دون مواجهة المضايقات من النازيين الجدد أو منظري المؤامرة. ولكن، هل توفر بديلًا حقيقيًا لـ "إكس" بالنسبة للمنظمات الإعلامية التي تحتاج إلى مشاركة محتواها مع جمهور أوسع وأكثر تنوعًا؟
ترك منصة إكس له أيضًا تداعيات عملية ومالية على وسائل الإعلام. لا تزال منصة ماسك تُعد مصدرًا رئيسيًا للإيرادات الإعلانية. قاعدة إكس الجماهيرية الواسعة تجعلها منصة حيوية لجذب الزوار إلى المواقع الإخبارية وجذب المعلنين.
إعلانالتخلي عنها قد يؤدي إلى انخفاض التفاعل مع الجمهور، مما يؤثر على الإيرادات. أما "بلوسكاي"، و"ثريدز"، والمنصات البديلة الأخرى، فلا تزال في مراحلها المبكرة. قاعدتها الجماهيرية الصغرى، وإمكاناتها الإعلانية المحدودة، تجعلها أقل جاذبية للمؤسسات التي تعتمد على الانتشار الواسع لدعم عملياتها.
لحسن الحظ، فإن تصرفات ماسك على إكس، وعلى الساحة السياسية العالمية، تدفع الكثيرين بعيدًا عن المنصة. العديد من هؤلاء يجدون ملاذًا على بلوسكاي، مما يعني أن هذه المنصة قد تصبح يومًا ما مفيدة ومربحة مثل إكس بالنسبة لوسائل الإعلام. إذا اكتمل الخروج من إكس، وغادر كل من يعترض على تمرير الأخبار الزائفة والدعاية والكراهية كأخبار، فلن يكون لدى وسائل الإعلام الجادة أي سبب للبقاء هناك.
الخروج من إكس يعكس أكثر من مجرد تغيير في إستراتيجية وسائل الإعلام على وسائل التواصل الاجتماعي. إنه انعكاس للتحديات الأوسع التي تواجه الصحافة في العصر الرقمي.
وبينما تقدم منصات مثل "بلوسكاي" بصيص أمل، إلا أنها ليست الحل لجميع المشكلات التي تواجهها الصحافة اليوم. يتطلب الطريق إلى الأمام توازنًا دقيقًا: احتضان الابتكار دون التضحية بالقيم الأساسية للصحافة، والانضمام إلى شبكات اجتماعية أقل سمية، دون التخلي عن الجمهور.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية