مراجعة التجنيس في البحرين.. مكافحة فساد أم تراجع عن المزاعم القديمة؟
تاريخ النشر: 23rd, June 2024 GMT
عادت “قضية التجنيس” في البحرين إلى الواجهة مجددًا بعد إعلان وزارة الداخلية، هذا الأسبوع، تشكيل لجنة لمراجعة الحاصلين على الجنسية منذ عام 2010، بسبب “وجود أشخاص حصلوا على الجنسية بالمخالفة للقانون أو عبر تقديم معلومات وبيانات غير صحيحة أو مستندات مزورة”.
لا تصدر السلطات البحرينية بيانات تفصيلية حول أعداد الأشخاص الذين مُنحوا الجنسية منذ عام 2010 أو قبله.
وجاء في البيان الصادر عن وكالة أنباء البحرين، الثلاثاء، أن وزير الداخلية شكل لجنة لمراجعة جميع حالات اكتساب الجنسية البحرينية اعتبارًا من عام 2010، للتحقق من صحة البيانات والمستندات التي تم على أساسها نيل الجنسية واتخاذ ما يلزم بهذا الشأن.
وأشار البيان إلى أن تشكيل اللجنة جاء بناءً على نتائج التحريات والمراجعات التي أجرتها شؤون الجنسية والجوازات والإقامة، والتي أظهرت وجود أشخاص حصلوا على الجنسية البحرينية بالمخالفة للقانون أو عبر تقديم معلومات وبيانات غير صحيحة أو مستندات مزورة.
لاقى بيان وزير الداخلية البحريني ترحيبًا كبيرًا من جميع مكونات المجتمع. وعبر عضو مجلس النواب، خالد بوعنق، في منشور على منصة “إكس” عن ارتياحه قائلاً: “خطوة موفقة ولاقت ارتياحًا شعبيًا كبيرًا”. وأضاف أن “الموضوع أصبح له تداعيات خطيرة حاضرة ومستقبلية… ونتمنى أن تبادر جميع الدول الخليجية بمثل هذه الخطوة المباركة”.
في المقابل، أصدرت جمعية الوفاق الإسلامية الشيعية المعارضة بيانا قالت فيه إن “غالبية المجنسين خلال العقدين الماضيين مُنحوا الجنسية بمخالفة القانون ولدوافع تغيير التركيبة السكانية والطائفية”، مجددة مزاعم سابقة طرحتها خلال وجودها داخل قبة البرلمان.
ولطالما كانت “قضية التجنيس” من القضايا المثيرة للجدل في البحرين، حيث توجه انتقادات مستمرة من المعارضين إلى الحكومة، كما ينظر إليها البعض باعتبارها “سياسات تستهدف الأغلبية الشيعية في البلاد من خلال تجنيس المزيد من المسلمين السنة لضبط التوازن الطائفي”، وهو الأمر الذي تنفيه السلطات.
البرلماني السابق عن كتلة الوفاق، علي الأسود، يقول إن “جميعة الوفاق لطالما حذرت السلطات في أكثر من مناسبة من أخطار التجنيس وتأثيره على المستويين الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، حيث طرحت مشروعا لقانون التجنيس قبل سنوات ولم توافق عليه السلطات”.
وفي اتصال هاتفي مع “الحرة” من لندن، يضيف الأسود: “في مجتمع صغير نسبيا مثل البحرين، قامت السلطات بتجنيس نحو 120 ألفا، وهذا الرقم كبير للغاية، حيث تبع ذلك ارتفاعات قياسية في أعداد المواليد السنوية لتصل إلى 25 ألفا من متوسط كان لا يتجاوز 15 ألفا سنويا”.
وفي عام 2010، كان “حديث الملك حمد بن عيسى آل خليفة، يتمحور حول أن عملية التجنيس في البلاد ستكون في أضيق الحدود”، وفق الأسود، والذي يقول إن “أحداث 2011، دفعت السلطات إلى زيادة وتيرة التجنيس، حيث أصبح المجنسون يشكلون نسبة 15 بالمئة من إجمالي المواطنين”.
وشهدت البحرين في فبراير عام 2011 احتجاجات شعبية مستوحاة من “ثورات الربيع العربي” التي عرفتها بعض دول الشرق الأوسط آنذاك، إذ طالب بحرينيون شيعة بالتغيير السياسي الذي وصل أحيانا إلى مطالبات بإسقاط النظام الملكي السني، بحسب رويترز.
ويزعم الأسود خلال حديثه بوجود “ممارسات غير قانونية قام بها المجنسون تحت ما يسمى (لم الشمل) خلال السنوات القليلة الماضية، والتي تضمنت تزوير أوراق نسب لأبناء عمومتهم باعتبارهم أبناءهم، وذلك في سبيل منحهم الجنسية البحرينية”، على حد تعبيره.
ويقول إن “السلطات بدأت تنتبه لهذا الإجراء غير القانوني من خلال تحليل الحمض النووي (DNA) لأقارب المجنسين، خصوصا أقارب الآسيويين العاملين في السلك العسكري”.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، تحدثت وسائل إعلام بحرينية عن قضايا تُنظر أمام المحاكم “تتعلق بتزوير مستندات لمنح الجنسية لأبناء وهميين”، من بينها ما تقول صحيفة “الأيام” البحرينية في تقرير نشر مارس الماضي، إن “محكمة الاستئناف العليا قضت بحبس متهم بحريني وزوجته العربية 3 سنوات، بعد إدانتهما بمحاولة كسب ابنهما الوهمي الجنسية البحرينية، وقيام الزوجة بتزوير شهادة الميلاد في دولة عربية ومن ثم إصدار بطاقة شخصية وشهادة ميلاد من مملكة البحرين، خلافا للحقيقة”.
من جانبه، يُكرر الكاتب البحريني، جعفر سلمان، ما جاء في البيان الحكومي، بأن “اكتشاف حالات لبعض الأشخاص الذين حصلوا على الجنسية البحرينية من خلال تقديم معلومات غير صحيحة، يُعد السبب الرئيسي الذي يقف وراء ذلك”.
ويقول سلمان لموقع “الحرة” إن “هذه الخطوة لا تأتي في إطار دوافع سياسية. وحسب رأيي جاءت في إطار ما تنتهجه حكومة البحرين من أسلوب إدارة حديث، حيث لا يوجد قرار أبدي وغير قابل للتغيير”.
ويضيف: “كل القرارات بعد فترة من الزمن يُعاد النظر فيها، لدراسة مدى جدواها وما إذا كانت ناجحة أم لا. هذا هو أسلوب الإدارة الحديث”.
ويؤكد سلمان أنه “لا يوجد إحصاءات رسمية معُلنة لأعداد الحاصلين على الجنسية البحرينية منذ ذلك التاريخ. وتعمل السلطات على التحقق من خلال بحث كافة الحالات في سبيل الكشف عن عمليات التزوير أو قيام البعض بإجراءات تخالف القانون”.
ينص قانون “الجنسية البحرينية لسنة 1963 وتعديلاته” على أنه يمكن لملك البلاد منح أي أجنبي الجنسية إذا طلبها وتوفرت فيه الشروط وهي: أن يكون تكون إقامته في البلاد بطريقة مشروعة لمدة 25 سنة متتالية على الأقل أو 15 سنة متتالية على الأقل إن كان عربيا، وأن يكون حسن الأخلاق، وأن يعرف اللغة العربية معرفة كافية، وأن يكون لديه عقار مسجل باسمه.
كما ينص القانون البحريني على أنه يمكن بأمر الملك منح الجنسية، ويمكن بالأمر ذاته منحها إلى أي شخص عربي يطلبها إذا أدى للبحرين “خدمات جليلة”.
ويعتبر البرلماني البحريني السابق أن “توقيت الخطوة يأتي على خلفية الآثار الاجتماعية والاقتصادية السلبية التي تسببت فيها عمليات التجنيس خلال السنوات القليلة الماضية، حيث إن الانتقادات لم تتوقف على المعارضة الشيعية، بل أيضا على السنة الموالين للنظام والذين تأثروا بالتجنيس”.
ويقول إن “التجنيس لم يؤثر على البحرين وحدها، بل على مختلف البلدان الخليجية، فالأمر لا يتوقف فقط على تغيير التركيبة السكانية، بل جاءت الآثار على الاقتصاد المتردي، الذي يعاني من ديون مرتفعة للغاية مع انخفاض الإيرادات”.
ويضيف الأسود أن “البحرين تعتمد بشكل أساسي على مساعدات الدول الخليجية الأخرى، وتعرضت لانتقادات واضحة من السعودية فيما يتعلق بالتجنيس”.
وفي مطلع عام 2018، زار وزير الداخلية السعودية، الأمير عبدالعزيز بن نايف، البحرين لمناقشة “منافسة عدد ممن يحملون جوازات بحرينية لأصحاب الأعمال بالسعودية”. وآنذاك، أمر وزير الداخلية البحريني، الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، بـ “سرعة التحري حول هذا الأمر بالتعاون مع وزارة الداخلية السعودية للوقوف على حقيقة الوضع واتخاذ ما يلزم لتصحيح ذلك”.
وجاء ذلك بعد حملة شعبية سعودية على موقع تويتر (إكس حاليا) طالبوا فيها السلطات البحرينية بإيقاف تجنيس رجال أعمال يمنيين مقيمين بالرياض، مما يمنحهم فرصة لمنافسة السعوديين والاستفادة من مزايا مجلس التعاون التي تساوي بين مواطني دولها الست في المعاملة.
ولم تتوقف تداعيات التجنيس على الاقتصاد في البحرين، بحسب عضو جميعة الوفاق، والذي يشير إلى أن بلاده “شهدت خلال السنوات القليلة الماضية ارتفاعا في بعض الجرائم مثل الاغتصاب، وهو الأمر الذي لم يكن متعارفا عليه لدى المجتمع البحريني”، على حد قوله.
في المقابل، يعتبر سلمان أن “هناك عدة احتمالات وراء التوقيت، من بينها تزايد القلق من اكتشاف الحالات غير القانونية أو ارتباطها بما يجري في دولة الكويت، باعتبار أن السياسات الخليجية دائما ما تكون موحدة، حيث إن ما يجري في البحرين يؤثر على عُمان وما يجري في عُمان يؤثر على السعودية”.
ويضيف خلال حديثه: “ما يجري في الكويت من إعادة النظر في الجنسيات ربما يكون هذا لهذا تأثيرا وانعكاسا على القرار الذي اتخذته السلطات في البحرين”.
ومنذ مارس الماضي، شرعت السلطات الكويتية في حملة سحب جنسيات وذلك لأسباب مختلفة، يأتي في مقدمتها “التزوير”. فيما تفيد وسائل إعلام كويتية بأن وزارة الداخلية تلقت مئات البلاغات التي تتعلق بتزوير الجنسية منذ ذلك التاريخ.
التركيبة الديمغرافية
بحسب البيانات الحكومية فإن 99.8 بالمئة من المواطنين البحرينيين هم مسلمون، والنسبة المتبقية (0.2 بالمئة) تمثل الأقليات الدينية الأخرى، بما في ذلك المسيحيين واليهود والهندوس والبهائيين.
وتشير تقارير إعلامية غربية ووكالات أنباء مثل فرانس برس ورويترز، إلى أن المسلمين الشيعة يشكلون النسبة الأكبر من إجمالي السكان بما يفوق 60 بالمئة، وهو الأمر الذي دفع الحكومة إلى إطلاق عمليات تجنيس واسعة لمسلمين سنة خلال السنوات القليلة الماضية “من بينهم مواطنون من سوريا واليمن والأردن ومصر والسودان”، بحسب الأسود.
وتنفي الحكومة البحرينية في أكثر من مناسبة أنها سعت إلى تغيير التركيبة السكانية من أجل ضبط التوازن الطائفي.
ويؤكد هذا سلمان قائلا إن “الحديث عن أن الهدف من التجنيس تغيير التركيبة السكانية وديمغرافية البحرين غير صحيح، وهذه السردية تنتهجها المعارضة دون أي سند”.
ويضيف: “إذا كان التجنيس يؤثر على الديمغرافية بالبحرين، فماذا عن التجنيس الذي جرى في التسعينيات واستهدف المهاجرين من إيران، حيث قامت الحكومة بتجنيس عشرات الآلاف تقريبا من أبناء وأحفاد المهاجرين الإيرانيين، وهم كلهم شيعة بالطبع”.
ويتابع سلمان: “بالتالي إذا كان هدف الحكومة تغيير الديمغرافية وتغليب مذهب على آخر لما كانت أقدمت على مثل هذه الخطوة في التسعينيات مع هذا العدد الكبير من الشيعة”.
في المقابل، يقول الأسود إن “الإيرانيين الذين حصلوا على الجنسية البحرينية لم يكونوا من الشيعة كما يعتقد البعض، بل من السنة الذي يعرفون بـ(الهُولة)”.
ومع ذلك، فإن هذه العملية كانت قانونية لم تؤثر على التركيبة السكانية في البلاد، بحسب الأسود، والذي يعتبر أن “هناك مبالغة أيضا في الحديث عن تجنيس الشيعة بالبحرين”، ويتهم السلطات وفق حديثه “برفض منح أوراق ثبوتية لمواطنين بزعم أنهم من الشيعة”.
أين تتجه الأمور؟
ويرفض محللون الحديث عن تقديرات بشأن ما ستؤول إليه الأمور “من عمليات سحب الجنسية المتوقعة للمخالفين للقانون” خلال الفترة المقبلة، لكنهم يعتبرون أنها ستطال “كثيرين”، بحسب الأسود، والذي يقول إنه “رغم قانونية منح الجنسية، فإن وزير الداخلية منذ أعوام يقوم باستثناءات كبيرة لمنح الأجانب الجنسية”.
ويطالب عضو جمعية الوفاق المعارضة التي حلتها الحكومة من “السلطات بوضع قانون جديد فيما يتعلق بمنح الجنسية للأجانب، مع الحد من ذلك بشكل كبير في المستقبل من الاستثناءات التي لم تعد مقبولة في المجتمع البحريني”.
وفيما يتعلق بسحب الجنسية، ينص “قانون الجنسية البحرينية” على أنه بأمر الملك يمكن سحب الجنسية في حالتين فقط؛ إذا حصل عليها بطريق الغش أو بناء على أقوال كاذبة أو إخفاء معلومات جوهرية، وإذا أدين في البحرين خلال 10 سنوات من تجنسه بجريمة تمس شرفه أو أمانته، وتسحب الجنسية البحرينية في هذه الحالة من الشخص المدان وحده.
بدوره، يرى سلمان أن “قانون الجنسية ربما لم يؤثر على التركيبة السكانية بشكل واضح، بقدر ما أضاف أعداد كبيرة من السكان إلى بلد صغير”.
ويضيف: “البحرين بلد مساحته صغيرة وإمكاناتها صغيرة ووجود عدد كبير من المجنسين، يؤثر على الخدمات التي تقدمها الدولة”.
ويقول: “من الجيد إجراء مراجعات لمثل هذه قرارات. فلا أحد يعرف الأعداد التي تجنست منذ 2010، ولا الأعداد التي يمكن أن تخسر الجنسية حاليا، لهذا سننتظر ما ستؤول إليه التحقيقات”.
الحرة
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: خلال السنوات القلیلة الماضیة على الجنسیة البحرینیة حصلوا على الجنسیة وزیر الداخلیة منح الجنسیة فی البحرین ما یجری فی فی البلاد یؤثر على یقول إن من خلال إلى أن عام 2010
إقرأ أيضاً:
الفكر المركّب لإدغار موران .. ما الذي يمكن أن يضيفه في حقل التعليم؟
ربما ينطبق المثل القائل «لا نبيّ في قومه» على أعمال إدغار موران التي خصّصها لموضوع التعليم. لقد انكبّ عالم الاجتماع الفرنسي على البحث والكتابة في هذا المجال كثيرًا، غير أن إسهاماته كما يبدو لم تحظَ بالاعتراف داخل فرنسا. لا يجد رجل التعقيد والفكر المركّب في هذا الجزء من الأرض الوطن مثيلًا للتجاوب والتكريم اللذان يحظى بهما على مستوى العالم، وخصوصًا في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال، والتي قد نسجت معه علاقةً قوية منذ ستينيات القرن الماضي.
في عام 1999، أطلقت منظمة اليونسكو «كرسي إدغار موران المتنقّل حول التعقيد والفكر المركّب»، كما أنها سهرت على نشر كتابه الموسوم «المعارف السبع الضرورية من أجل تعليم المستقبل» على نطاقٍ واسع، وهي دراسة كان موران قد أنجزها بطلبٍ من المدير السابق لليونسكو فيديريكو مايور ساراغوسا (Federico Mayor Zaragoza).
لقد وقف موران منذ أكثر من عشرين عامًا مضت على العديد من القضايا التي تهمّ منظومة التعليم (البيئة، الخطأ، المعارف، عدم اليقين، الرسالة التدريسية...)، ممّا دفع به إلى اقتراح مجموعة من الأفكار للنقاش من أجل مدرسةٍ يُنظر إليها باعتبارها مكانًا للإصلاح الفكري. لا تُطرح هذه المقاربة التي يقترحها موران كعلاج أو كوصفة سحرية من شأنها إنقاذ المدرسة، وإنما كتحدٍّ من أجل إعادة التفكير فيها من خلال منظورٍ معاصر ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين.
يبدو هذا التحدّي الذي يدعونا موران إلى رفعه من خلال الفكر المركّب جليًّا إلى درجة أننا قد نتساءل لوهلة كيف أمكننا أن نستمر اليوم في تجاهله في سياقٍ تواجه فيه المدرسة العديد من الرّهانات. فسواء تعلّق الأمر بتحسين مستوى التلاميذ أو بالحاجة إلى الاختلاط الاجتماعي داخل المدارس، أو بإيصال فكرة العلمانية إلى الأجيال الجديدة، أو بالتفكير في توظيف المدرّسين، أو بإعادة تصميم المناهج الدراسية، يبدو أن كل شيء يشير إلى ضرورة إصلاح المدرسة.
وكما يوضح تقرير منظمة اليونسكو الذي نشر تحت عنوان: «إعادة التفكير في مستقبلنا معًا»، فإن الأزمة التي يواجهها التعليم على مستوى العالم ترجع بالأساس إلى المحتويات التعليمية التي لم تعد بتاتًا ملائمة للسّياق الذي نعيش فيه، وإلى أساليب التدريس والمناهج التربوية التي لا تأخذ بعين الاعتبار واقع الشباب، ولا تستجيب لاحتياجات الفئات الأكثر حرمانًا في المجتمعات وانتظاراتهم.
براديغم التعليم المركّب
من خلال إعادة وضعها للإنسان في قلب مجتمعٍ يشترك المصير نفسه، فإن الرؤية الأنثروبولوجية لإدغار موران حول التعليم تندرج في إطار مسعًى مجتمعي يجعل كل واحدٍ منا مواطنًا عالميا يعيش في عالمٍ يتعيّن علينا جميعًا أن نشترك في الحفاظ عليه كما في بنائه. وبالنّظر إلى الإشكاليات التي تواجهها المدرسة اليوم، فإن القيام بإصلاحاتٍ إجرائية لم يعد أمرًا كافيا. إن طريقة التفكير التي تأخذ بعين الاعتبار عالميةَ التحدّيات المعاصرة الكبرى تعدّ ضرورةً من أجل ضمان نقل المعارف إلى الأجيال الجديدة.
لقد كرّس موران نفسه لهذا الفكر التربوي من خلال تأليف ثلاثيةٍ تتشكّل من الأعمال التالية: «العقل المُحكم: إعادة التفكير في الإصلاح وإصلاح الفكر» (1999)، «ربط المعارف» (1999)، «المعارف السّبع الضرورية لتعليم المستقبل» (2000). واستُكملت الثلاثية بكتابٍ آخر صدر بعد حوالي خمسة عشر عامًا بعنوان «التدريب على الحياة: بيانٌ من أجل تعليمٍ آخر» (2014)، وقد اعتمد المخرج أبراهام سيغال (Abraham Ségal) على هذا الأخير في إنجاز فيلم وثائقي تناول تنزيل أفكار موران داخل خمس مؤسسات عامة.
لا ريب أن قضية الإصلاح التربوي ليست جديدة، فقد سبق وإن حاول المتخصصون في مجال التربية، مثل ماريا مونتيسوري (Maria Montessori) وتلاميذها، خلال أوائل القرن العشرين إحداث ثورةٍ في المدرسة في عصرهم. لكن المقاربة الحوارية التي يدعونا إليها موران من خلال الفكر المركّب يسمح لنا بالتفكير في المسألة من خلال النظر إلى جوانبها المتعددة، مثل الجانب المتعلق بانفتاح التخصّصات على بعضها البعض في المناهج الدراسية.
عبور التخصّصات في خدمة فهم الإنسانية
لا بد من توظيف التخصّصات المختلفة معًا وليس بشكل منفصل، من أجل التوصل إلى فهمٍ متقارب للوضع البشري. وعلى هذا الأساس يدعو موران إلى إصلاحٍ فكري يعلن عن كونه إصلاحًا تاريخيا وحيويا لأنه سيسمح لنا في نفس الوقت بالفصل من أجل المعرفة ثم بإعادة ربط ما كان منفصلًا.
وهكذا، فمن خلال إثارة «المفاهيم التي فُتّتت بفعل التجزئة التخصّصية: الإنسان والطبيعة والكون والواقع، على نحوٍ جديد»، فإننا سنحقق ما يعدّه موران شرطًا ضروريا للتعليم، ألا وهو «تنمية «القدرة على وضع المعارف في سياقها وعولمتها». وهذا وحده من شأنه أن يشجّع على بروز تفكيرٍ يجعل من الممكن وضع أي حدثٍ في سياقه، وملاحظة كيف لذلك أن يلقي الضوء عليه بشكل مختلف.
وبشكل ملموس، فإن مهمة المدرّس هي إضفاء المعنى على التعلّمات من خلال الدفع بتلاميذه إلى إنجاز أعمالٍ تنطلق من احتياجاتهم العميقة وتستجيب إلى انتظاراتهم، كما أوصى بذلك في زمنه عالم التربية البلجيكي أوفيد دوكرولي (Ovide Decroly) في بيداغوجية الاهتمام.
يدعو موران إلى تعليمٍ يسمح بدراسة «الخصائص الدماغية والذهنية والثقافية للمعارف الإنسانية، فضلًا عن سيروراتها وطرائق الوصول إليها، والقابليّات النفسية كما الثقافية التي تجعل هذه المعارف عرضةً للخطأ أو الوهم».
إن رؤية موران المركّبة للإنسان باعتباره كائنًا بيولوجيًا وثقافيًا في الوقت نفسه قد قادته إلى تصور علمٍ يصفه بكونه علمًا أنثروبولوجيا اجتماعيا أُعيد تجميع عناصره بشكلٍ يسمح بتصور الإنسانية في وحدتها الأنثروبولوجية وفي تنوّعاتها الفردية كما الثقافية.
إرساء الديمقراطية في المدارس
يدعو إدغار موران أيضًا إلى إرساء نوعٍ من الديمقراطية في المدارس بحيث تُتاح الفرصة أمام التلاميذ بالمشاركة الفعلية في المناقشات والحياة المدرسية اليومية. والهدف من ذلك هو إعادة المدرسة إلى مكانتها باعتبارها فضاءً لتكوين مواطني المستقبل. إننا هنا في صميم تعليمٍ يشيع قيم الإنسانية التي يعدّها موران مبدأً أساسيا يجب أن «يتجذّر في الذّات ويترسّخ في أعماقها، لأن بفضله ندرك أن كل آخرٍ هو إنسان»، مانحًا إيّانا بذلك «الترياق الحقيقي الوحيد القادر على مواجهة إغراءات البربرية، سواء الفردية أو الجماعية» التي يمكن أن تعترض سبيل كل إنسان في حياته.
وبعبارة أخرى، فوفقًا لموران، لا ينبغي أن يقتصر دور التعليم على تعليمنا كيفية العيش، وإنما العيش في تضامنٍ مع بعضنا البعض، وفي تضامنٍ على نطاق عالمي. ومن ثم، فينبغي إعادة النظر في النظام التنافسي الذي تواصل المدرسة تعزيزه في المجتمع، وتحفيز روح التعاون بين التلاميذ بدلًا من ذلك من أجل تأهيلهم لتعلم العمل المشترك، في عالمٍ نتشاركه جميعًا وعلى أساس علاقةٍ ملؤُها الثقة التي تشمل أيضًا المعلِّمين.
ولكي تتحقّق هذه الغاية، فإن موران يرى أن التعليم يجب أن يضطلع برسالة حقيقية لا يمكن اختزالها في وظيفة بسيطة أو في تخصص. إذ يتعلق الأمر بمهمة خلاصٍ عام تفترض الإيمان بالثقافة وبإمكانات الروح الإنسانية. لأن التعليم ينطوي ضمنًا على مبدأ القابلية للتعلّم، والذي يستند إلى فرضية أساسية مفادها أن كل إنسان يملك القدرة على التقدم والتحسن مهما بلغت هشاشته ومكامن ضعفه.
إن هذا الإصلاح التعليمي، والذي يدعو إلى تعميم الإصلاح على كل مسالك التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي على حدّ سواء، يمكن أن يتيح إمكانية إحداث تغييرٍ في البراديغم (يمكن تعريف البراديغم بشكل مبسّط على أنه نموذج إرشادي يمكن أن نستعين به من أجل فهم العالم ونقيس عليه الأشياء - المترجم). وفيما يتعلّق بالمدرسة بشكلٍ خاص، يجب أن يأخذ تطور منظومتنا التعليمية في الاعتبار العقل البشري، والذي يخبرنا موران أن لديه استعدادًا قبليا للتعامل مع التعقيد بشكل طبيعي. وذلك من أجل إعداد الناشئة لمواجهة مخاطر الخطأ والوهم التي نتعرّض لها على نحوٍ متزايد، وخاصّة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، ولكي يتعلموا أيضًا كيفية الإبحار في محيطٍ من عدم اليقين.
ومن ثم فإن مفهوم التعليم المركّب يجعل من الممكن امتلاك رؤيةٍ تأخذ الإنسان بعين الاعتبار، سواء تعلق الأمر برفاهيته وازدهاره كما بمكامن ضعفه وأخطائه. سوف تسمح هذه الرؤية، من خلال وضع الإنسان في صميم المنظومة التعليمية، بمحاولة أن نعلم التلاميذ أن يحيوا وأن يعيشوا بشكل مشترك. إن هذه القضايا، التي أصبح الآن من الضروري استيعابها منذ سن مبكرة، تتطلّب إعادة التفكير في تكوين المدرّسين، الذين ينبغي أن تُسند إليهم، وفقًا لكلمات فيليب ميريو (Philippe Meirieu):
«مهمة إرشاد المتعلّمين من دون حبسهم، ونقل المعارف إليهم من دون إغلاق عقولهم، وجعل كل فردٍ منهم ينخرط في عملية بحثٍ مستمرة لا يمكن لأي عقيدة ظلامية أن توقفها إطلاقًا. إن نجاح مدرستنا يمرّ عبر ذلك، كما أن إمكانية أن يمنح أطفالنا مستقبلًا لقادم أيامهم رهينٌ بذلك».
فابيين سيرينا كارسكي أستاذة محاضرة في علوم التربية بالمعهد الكاثوليكي في باريس
ماريا فرناندا غونزاليس بينيتي أستاذة محاضرة بالمعهد الكاثوليكي في باريس
ترجمة - حافظ إدوخراز