لا شك أن الثقافة الوطنية لأي دولة هي جزء حيوي من هوية هذه الدولة، ولم تتعارض هذه الثقافة في أي وقت من الأوقات مع شريعة ما، أنزلها الله على رسله، لا سيما الإسلام الذي كان أكثر انفتاحا على العالم، ولما لا، وهو الدين الخاتم والمعني بهداية البشرية جمعاء، فأكد، سبحانه على ذلك في قوله: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"؛ قال المفسرون عن العُرف في الآية، هو كل قول أو فعل حسن لا يخالف الله ورسوله، ما يعني أن حماية وتعزيز تراث الدول لا يعارضه الإسلام طالما لا يخالف ثوابت الدين وشريعته.
هذه المقدمة لا بد منها، في إطار حديثنا هذا عن إصدار طاجيكستان حزمة من القوانين تحت مسمّى "حماية الثقافة الوطنية"، بهدف الحفاظ على التراث الثقافي والطابع الوطني للدولة، ومواجهة التحديات الثقافية الناجمة عن العولمة وتأثير الثقافات الأجنبية. ونحن هنا لا نختلف، ولا نتدخل في شأن دولة تريد أن تحافظ على هويتها الثقافية، ولا سيما في ظل حالة مسخ الهوية التي يحاول دعاة العولة فرضها على العالم، لكن خلافنا في تعريف هذه الهوية التي يريد إمام علي رحمان، الرئيس الحالي لطاجيكستان، الحفاظ عليه.
دخل الإسلام طاجكستان في القرن الثامن الميلادي مع الفتوحات الإسلامية، في زمن الدولة الأموية، وظلت طاجيكستان على دينها وهويتها الإسلامية، وتأثرت بشكل كبير بالثقافة الإسلامية، مما أدى إلى تطور الأدب والفنون والعلوم الإسلامية، ما شكل الثقافة والهوية لطاجيكستان، حتى أصبحت بخارى وسمرقند، اللتان كانتا جزءا من طاجيكستان، مراكز رئيسة للعلم والفكر الإسلامي. وازدهرت العلوم والفنون في عهد الدولة السامانية في القرنين التاسع والعاشر، التي تُعتبر من أعظم فترات الازدهار الثقافي للطاجيك.
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أصبحت طاجيكستان جزءا من الإمبراطورية الروسية، وبعد الثورة البلشفية عام 1917، أصبحت جزءا من الاتحاد السوفييتي، وفي عام 1929 سميت الجمهورية الاشتراكية السوفيتية الطاجيكية، ضمن الاتحاد السوفييتي، وفي هذه الفترة شهدت التغييرات جذرية في البنية الاجتماعية والاقتصادية، إذ شهدت حالة من العلمنة القسرية فدُمِّرت كثير من المساجد والمؤسسات الدينية. وبعد وصول الرئيس الحالي علي رحمان، تعامل مع الدين الإسلامي والمتدينين بشكل معقد ومزدوج، فمن جهة، سعى لتعزيز الهوية الثقافية والدينية الطاجيكية، ظاهريا، بطرق محددة؛ ومن جهة أخرى، فرض قيود صارمة على الأنشطة الدينية بدعوى محاربة التطرف.
في عام 2021 خرج علينا الرئيس ماكرون بما يسمى قانون تعزيز المبادئ الجمهورية، وهدف ماكرون منه، على حد زعمه، إلى محاربة التطرف، من خلال مراقبة الجمعيات الدينية، وحظر التعليم المنزلي، وتشديد الرقابة على تمويل المؤسسات الدينية، ما فُسر، بحق، على أنه يستهدف الجاليات المسلمة، وهو ما ذهبت إلى الجماعات والمنظمات الحقوقية، مؤكدة أن هذه القوانين تعزز الإسلاموفوبيا وتزيد من التمييز ضد الجاليات المسلمة، ولن تحقق التعايش والاندماج المنشود من ماكرون، إذ كانت تداعيات القانون عكسية من خلال مطاردة المسلمات المحجبات ومنعهن من دخول المدارس والمؤسسات الحكومية، في حالة تميزية مقيتة تنسف المواطن والحرية التي دعت إليها الثورة الفرنسية وصدرتها للعالم.
أزمة أمتنا في الحقيقة، ومنذ ما يقارب المئة عام، هي الهوية، فبين الغرب الرأسمالي الغرب الشيوعي، كانت الهوية الإسلامية مستهدفة دوما سواء أيام الاستعمار، من خلال الاستعمار الثقافي بنشر اللغة والثقافة الغربية على حساب الهوية الثقافية والدينية، أو فرض القوانين التي تهدف إلى تنظيم حياة المسلمين على الطريقة الغربية وتهميش القوانين الإسلامية، ومن ثم حظر الممارسات الدينية، لمسخ الهوية
ألبس علي رحمان قانون "حماية الثقافة الوطنية" على المودة الفرنسية، فشاهدنا مقاطع مصورة لرجال يطاردون المحجبات في شوارع طاجيكستان المسلمة لفرض غرامات أو إجبار النساء على خلع الغطاء عن رؤوسهن، في مشهد تكرر قبل ما يقارب المئة عام في تركيا في عهد عصمت إينونو، ومن قبله، وأنور خوجة في ألبانيا، والحقبة السوفييتية مع الدول الإسلامية المنضوية تحتها قبل سقوطها، وتونس في عهد بورقيبة، وفي إيران الشاه، والصين حتى الآن.
إن هذا التفكير الرجعي في زمن الانفتاح على الثقافات أصبح مثارا للسخرية، مع تنامي الوعي بالحقوق الشخصية والثقافية، وهو ما يجد مبرره في الانتقادات الشديدة التي واجهها القانون من العديد من المنظمات الحقوقية الدولية، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، وكذا المنظمات الثقافية الدولية، حتى إنَّ بعض الدول الغربية والعربية دخلت على الخط، وأعربت عن قلقها من القانون وتداعياته، ولا شك فإن المؤسسات الدينية الإسلامية كانت في طليعة المعترضين على القانون وأهدافه.
أزمة أمتنا في الحقيقة، ومنذ ما يقارب المئة عام، هي الهوية، فبين الغرب الرأسمالي الغرب الشيوعي، كانت الهوية الإسلامية مستهدفة دوما سواء أيام الاستعمار، من خلال الاستعمار الثقافي بنشر اللغة والثقافة الغربية على حساب الهوية الثقافية والدينية، أو فرض القوانين التي تهدف إلى تنظيم حياة المسلمين على الطريقة الغربية وتهميش القوانين الإسلامية، ومن ثم حظر الممارسات الدينية، لمسخ الهوية، وتجريم بعض ثوابت الدين، لضمان عدم مناهضة الاستعمار، وتشويه صورة المتدينين والعاملين في الدعوة، وسار على نهجهم وكلاؤهم فدجنوا الدين، وسفهوا أهله، لتفقد الأمة في النهاية هويته، ويبحث علي رحمان عن هوية بلاده في الوثنية أو الشيوعية، أو أي شيء سوى الإسلام.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه طاجيكستان الهوية فرنسا الاسلام العلمانية طاجيكستان الهوية مقالات سياسة سياسة صحافة مقالات سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من خلال
إقرأ أيضاً:
هل اقترب العلماء من حل لغز سراديب الموتى الباريسية؟
"توقفوا! هذه إمبراطورية الموت"، هذه الكلمات من قصيدة "الإنيادة" للشاعر الروماني فيرجيل محفورة بأحرف كبيرة عند مدخل سراديب الموتى المعروفة باسم "كاتاكومب" في باريس، وهذه العبارة تمثل تحذيرا لآلاف الزوار الذين لا يُسمح لهم بتجاوز كيلومترين فقط داخل السراديب.
لكن هذا لم يوقف الباحثين الذين يقضون منذ عام 2022 أيامًا متواصلة في هذا العالم السفلي المظلم والبارد على عمق أكثر من 20 مترًا تحت الأرض، وفي متاهة من جدران الجثث وبقايا الهياكل العظمية تمتد على مسافة 300 كيلومتر داخل شبكة طويلة من أنفاق المحاجر تملؤها رائحة الموت، وممرات ضيقة يصعب التجول فيها، وصالات مظلمة تتزين أحيانًا برسوم جدارية.
وفي أول دراسة علمية لسراديب الموتى يقودها عالم الأنثروبولوجيا والآثار في جامعة باريس ساكلي، فيليب شارلييه، يسعى فريق متعدد التخصصات من علماء الأنثروبولوجيا والأحياء والأطباء وعلماء الآثار إلى كشف الغموض والألغاز التي تدور حول ملايين الجثث التي تحويها هذه السراديب، ومعرفة عدد المدفونين فيها، وكيف ولماذا ماتوا، وكيفية وصول جثثهم إلى أسفل شوارع باريس.
ويقول شارلييه، في تصريحات للجزيرة نت، إن مشروعهم البحثي يهدف إلى الكشف عما يمكن أن تخفيه البقايا البشرية عن أسرار صحة دفن أكثر من 6 ملايين باريسي داخل هذه الأنفاق، والأمراض والعدوى التي عانوا والتي ربما أدت إلى وفاتهم على مدار القرون الماضية.
فريق متعدد التخصصات من علماء الأنثروبولوجيا والأحياء والأطباء وعلماء الآثار يسعى إلى كشف الغموض والألغاز التي تدور حول ملايين الجثث التي تحويها هذه السراديب (بيكساباي) بقايا مؤرقة من الماضيبالعودة إلى الوراء قرنين ونصف القرن إلى زمن لويس السادس عشر، عندما واجهت باريس سلسلة من الأحداث المزعجة، نجد أن سراديب الموتى الباريسية نشأت نتيجة لحدثين رئيسيين في القرن الثامن عشر؛ الأول يتعلق بانهيار المحاجر تحت الأرض التي كانت تُستخرج منها الأحجار المستخدمة في بناء المدينة منذ مدة طويلة.
أدى هذا الانهيار إلى إنشاء شبكة خطيرة من الفراغات تحت شوارع باريس، وخاصة على الضفة اليسرى للمدينة. واستجابة لذلك، أنشأ الملك لويس السادس عشر هيئة التفتيش العام للمقابر في عام 1777 لرسم خريطة للبنية التحتية تحت الأرض وتعزيز المناطق غير المستقرة.
كان الحادث الثاني الذي أدى إلى إنشاء سراديب الموتى أزمة صحية عامة مروعة؛ ففي عام 1780 أصبحت "مقبرة الأبرياء" العملاقة في منطقة هاليس مكتظة للغاية لدرجة أن الجثث المتحللة تناثرت إلى الأقبية القريبة، وهو مشهد مرعب لسكان باريس.
ومع مخاوف انتشار الأمراض، قررت السلطات استخراج الجثث من مقابر باريس المكتظة. وفي عام 1785، وعلى مدى 15 شهرًا، وبصحبة طقوس دينية، كانت عربات ضخمة تجرها الثيران تنقل الرفات ليلا إلى أعمدة المحاجر المهجورة على مشارف المدينة، وتم إسقاطها في أعمدة المحاجر المهجورة وتركها مكدسة فوق بعضها.
لم يكن الأمر كذلك حتى أوائل القرن التاسع عشر عندما أراد المفتش العام للمحاجر هيريكارد دي ثوري إظهار الاحترام العميق لأولئك الذين ماتوا، فتولى مهمة تنظيم ترتيب العظام في جدران زخرفية باستخدام عظام طويلة مثل عظام الفخذ والجماجم لإنشاء عرض أكثر تنظيمًا من الناحية البصرية. ومع ذلك، خلف هذه الواجهات المصممة بعناية، كانت العظام المتبقية ملقاة في كومة فوضوية.
وفي هذا السياق، يشير شارلييه إلى وجود مقابر عظام أخرى في العالم، لكن تلك التي تقع أسفل باريس وضواحيها تمثل أكبر مقبرة جماعية مكتشفة حتى الآن، ومتحفًا مفتوحًا للعظام البشرية، مضيفًا أن هذا يجعلها المكان الأفضل لإجراء دراسة أنثروبولوجية وباثولوجية، خاصة مع عدم وجود أي دراسة علمية جادة لسراديب باريس.
الفرصة أتيحت لفريق شارلييه لدراسة الموقع منذ عام 2022 (فيليب شارلييه) ألف عام من المرضلا يهتم فريق شارلييه بالترتيب الفني للعظام فحسب، بل يهدف بحثهم، الذي بدأ بعد انهيار جزء من جدار العظام قبل 3 سنوات، إلى الكشف عن سبب انتهاء المتوفى إلى حيث انتهى به المطاف، وكيف عاش هؤلاء الأفراد وكيف ماتوا، للوقوف على تاريخ الصحة العامة في باريس وضواحيها.
يأتي ذلك في سياق دراسة تاريخ طويل جدا من المرض، حيث إن الجثث الموجودة في سراديب الموتى تعود إلى مراحل مختلفة، ويبلغ عمر بعض أقدم البقايا أكثر من ألف عام، من العصر الميروفنجي.
ومن خلال دراسة البقايا الهيكلية، يأمل الفريق فهم كيفية تطور الأمراض على مر القرون، وكيفية إجراء الممارسات الطبية التي خضع لها الباريسيون، مثل عمليات ثقب الجمجمة والبتر والتشريح والتحنيط.
أحد الأساليب الرئيسة المستخدمة هو علم الأمراض القديمة أو "الباليوباثولوجيا"، إذ يفحص الفريق عينات العظام بحثًا عن آثار لحالات مثل الكساح والزهري والجذام، التي تترك علامات يمكن التعرف بها على بقايا الهياكل العظمية.
ويمكن أن تؤدي الأبحاث والنتائج إلى رؤى لا تُصدق وعلاجات للأمراض التي نعاني منها في العالم الحديث اليوم. فعلى سبيل المثال، يمكن التحقق مما إذا كان مرض الزهري الذي أودى بحياة شخص ما في القرن السادس عشر هو المرض نفسه الذي نعرفه اليوم، أو إذا كان العامل المسبب للمرض قد تطور بشكل ملحوظ.
الباحثون يقومون باستخراج الحمض النووي من الأسنان لتحديد العوامل المعدية للأمراض (بيكسابي) فهم الحمض النووييقوم الباحثون باستخراج الحمض النووي من الأسنان لتحديد العوامل المعدية للأمراض وإذا كانت قد تطورت على مدار القرون الماضية، مثل الطاعون الذي تسبب في قتل كثير من الناس بسرعة كبيرة دون ترك آثار واضحة.
كذلك يقوم فريق شارلييه بالتحقيق في حالات التسمم الناتجة عن التعرض لكميات كبيرة من المعادن الثقيلة مثل الزئبق والزرنيخ والرصاص الإِثْمِد أو الأنتيمون.
ويُتوقع أن يمكِّن التأريخ باستخدام الكربون المشع من معرفة عمر العظام، كما سيمكّن العد البسيط من إحصاء أكثر دقة لعدد الأفراد المدفونين في سراديب الموتى التي يتوقع شارلييه أن يتجاوز عددها 6 ملايين.
ومن المتوقع أن يقدم بحث الفريق، الذي دخل عامه الثالث الآن، أول نتائجه الأولية بحلول نهاية عام 2024، وقد يستغرق الأمر عقودًا لإكماله.