رقة الخطاب الديمقراطي حقيقة ومجاز، وداعاً أندريه أوربانتشيك
تاريخ النشر: 22nd, June 2024 GMT
رقة الخطاب الديمقراطي حقيقة ومجاز، وداعاً أندريه أوربانتشيك
د. أمجد إبراهيم سلمان
تخلق المهاجر في الإنسان حنيناً دافقاً للعودة إلى وطن مثالي متخيل و منزّه عن العيوب، لذا فإن الأخبار التي تصل إلى المرء عبر البريد من بلده في سنوات الغربة تعتبر نافذة مطلّة على أخبار الأهل والبلد خاصة في الماضي حيث لم تكن هناك وسائل تواصل اجتماعي مثل التي نتمتع بخيرها هذه الأيام، تلك كانت حالتنا ونحن مغتربون مع والدنا في ليبيا الذي ارتحل إليها منذ الستينيات وعاصرتها معه طفلاً ومراهقاً خلال السبعينيات وإلى منتصف الثمانينيات طالباً في المراحل الابتدائية والمتوسطة وجزء من المرحلة الثانوية والتي اختتمتها في مدرسة المؤتمر الثانوية في أمدرمان، كونت تلك الفترة لدي شخصياً شغفاً بالقراءة والكتابة خاصة بالبريد حيث جمعت طوابعاً من بلدان عديدة وراسلت الأهل في السودان مراراً وكانت الردود شحيحة للغاية باستثناء خالنا الراحل عبد الرحمن عبّاس (رحوم) عليه شآبيب الرحمة والذي كانت لي معه مودة خاصة رغم فرق السن الكبير بيننا حيث كان يبرّني برسائل خاصة في ليبيا بين الفينة والأخرى، كانت تشعرني بتميّز من نوع ما، ولا زلت احتفظ ببعض رسائله المكتوبة بخط يده.
في أكتوبر من العام 1988 ارتحلت إلى دولة بولندا طالباً للعلم، وفي نهايات دراستي الطبية وبالتحديد في ديسمبر من العام 1995، كانت دولة بولندا حينها قد أكملت انتخاباتها الرئاسية الثانية في 19 نوفمبر 1995، وفاز حينها مرشح اليسار الإجتماعي الرئيس ألكساندر كفاشنيفسكي متغلباً على الرئيس العمّالي ليش فاليسا (بالبولندية ليخ فاونسا)، وقد كان فاليسا رئيس أول حكومة ينتخب ديمقراطيا بعد سقوط النظام الشيوعي في بلدان شرق أوروبا، وهو القائد التاريخي لنقابة العمّال البولندية “تضامن” (سوليدارنوشت) التي كانت رأس الرمح في الإطاحة بالنظام الشيوعي القاهر وهي تجمع مهني أقرب إلى تجمع المهنيين السودانيين الذي قام بدور مشابه في إسقاط نظام البشير، بعيد تلك الانتخابات كانت هناك حوارات عميقة حول نضوج التجربة الديمقراطية في تلك البلاد بحيث أن سكانها قنطوا من شعبوية اليمين و أصابهم الخجل من أن يمثّل بلادهم الديماجوجي ليش فاليسا مع أنه كان بطل التخلص من النظام الشيوعي، وهي البلاد التي قدمت العديد من العلماء والأدباء للإنسانية مثل عالم الفلك نيكولاي كوبرنيكوس الذي اكتشف دوران الأرض حول الشمس وليس العكس ومدام ماري سكوادوفسكا كيري حاملة جائزة نوبل للفيزياء الفرنسية الجنسية البولندية الأصل والموسيقار العالمي شوبان وغيرهم كثيرون، وبسبب أخطاء فاليسا الكارثية في الحكم وفي مساجلات الانتخابات المتلفزة، صوّت نفس البولنديون الذين حملوه إلى سدة الحكم لصالح غريمه كفاشنيفسكي، وحدث له ما حدث لرئيس تيمور الشرقية خوزيه راموس هورتا حيث أنتخب رئيساً في العام 2007 وحرمه شعبه نفسه من فترة رئاسية أخرى بالتصويت لغريمه في العام 2012.
أندريه أوربانتشيكفي أمسية ديسمبرية من العام 1995 كنت أتابع برنامجاً تلفزيونياً حول نتائج انتخابات بولندا وكان الضيوف يمثلون عدة أطياف من الأحزاب السياسية، في تلك الليلة لفت نظري سياسي وبرلماني بولندي اسمه أندريه اوربانتشيك (بالبولندية ينطق اسم أندريه، آندجي)، حيث كان يحاور ممثلاً لحزب يميني اسمه (الجبهة المسيحية القومية)، وكنّا كطلاب سودانيين نسخر من اسم ذلك الحزب وممارساته في التجارة بالدين حيث كنا نطلق عليه اسم كيزان بولندا (كان اسم حزب الاخوان في السودان في ذلك الزمن الجبهة الإسلامية القومية)، وبعد أن أرغى وأزبد ممثل اليمين الشعبوي رد عليه النائب البرلماني أوربانتشيك رداً مرتبا ومتماسكاً مفنداً دعاويه الضعيفة.
ولشدة إعجابي برده قمت في اليوم التالي بكتابة رسالة مطولة له عبرت فيها عن تقديري لطريقة ممارسة حزبه السياسة باحترافية بعيداً عن الغوغائية والهتاف الأجوف، وتمنيت له و لبلاده بولندا ولرئيسها المنتخب حديثاً كل التوفيق والتقدم، وعنونت الرسالة له مستخدماً اسمه وصفته البرلمانية وعنوان البرلمان البولندي في العاصمة وارسو. من نافلة القول إن حزب الجبهة المسيحية القومية البولندي تم حلّه رسمياً في العام 2010.
بعد عدة أيام وأنا أدخل السكن الطلابي متجهاً إلى المصعد استوقفني موظف الاستقبال ليخبرني بوجود رسالة مهمة في صندوق بريدي، أخذت منه الرسالة على عجل وقرأت العنوان فوجدت أنها رسالة رسمية من البرلماني البولندي أوربانتشيك بتاريخ 28 ديسمبر 1995 (صورة الظرف ومرفقة)، لأول وهلة لم أصدق أن الرجل الذي لا تجمعني به سابق معرفة ومع مسؤولياته البرلمانية المتعددة يمكن أن يكلّف نفسه عناء أن يكتب لي بخط يده رسالة بهذه الصيغة الودودة واللغة الرفيعة فإلى ترجمة الرسالة، (صورة الرسالة مرفقة لمن يتقنون اللغة البولندية).
مقال أمجدسيدي المحترم جدًا
أشكرك جزيل الشكر على رسالتك وعلى كلماتك اللطيفة، رأي سيادتكم عن أسلوب ممارسة الحوار من قبل الجماعة السياسية التي أنتمي إليها يعتبر في تقديري رأياً قيّماً للغاية، يبدو لي وبما أنك تنتمي فكرياً لتيار الديمقراطية الاجتماعية، ولأنك وكمتابع للشأن البولندي دون أن يؤثر عليك المحمول التاريخي النفسي لخلافاتنا الموروثة فإنني أعتقد أن تقييمك السياسي سيكون موضوعياً لحد بعيد.
أتمنى لسيادتكم التوفيق في الدراسة والتوفيق في مستقبلكم المهني في موطنكم الأم. إنه لمن دواعي سروري أنه في تلك البلاد البعيدة سيكون لرئيسنا وحزبه السياسي في شخصكم متعاطفا حقيقياً ومتابعاً حصيفاً.
لك تحياتي
أندريه أوربانتشيك
مقال د. أمجدظللت أتابع بعد سفري من بولندا أتابع أخبارها وتطور تجربتها الديمقراطية الوليدة، خلال السنوات التي تلت، وقد رسّخت دولة بولندا الممارسة الديمقراطية فيها عبر عدة انتخابات برلمانية، حكمت فيها تيارات سياسية مختلفة من حكومات اليسار الديمقراطي بقيادة رئيس الوزراء جوزيف أوليكسي في منتصف التسعينات إلى حكم الليبراليين البولنديين بقيادة السياسي المحنك دونالد توسك و الذي وصل إلى درجة ترأس مجلس الاتحاد الأوروبي لمدة 5 سنوات 2014- 2019، وعاد مرة أخرى لرئاسة حكومة بلاده في 13 ديسمبر 2023 بعد أن أبحرت في بحار الشعبوية الخطرة بقيادة الإخوة كاتشينسكي. وذلك للعودة بها إلى جادة الصواب والمعقولية الديمقراطية. ولتسليط بعض الضوء على أهمية الديمقراطية في رفعة شأن البلاد و العباد، فإن حجم إقتصاد بولندا انتقل من 65 مليار دولار في العام 1989 إلى 1.8 تريليون دولار في العام 2023، ما يجعلها قريبة جداً من حجم الاقتصاد السعودي الذي يبلغ 2.3 تريليون دولار، وقد نما الاقتصاد البولندي بنسبة 826% خلال الفترة ما بين 1989 و2018 مما رفع البلاد لأن تصل إلى الاقتصاد رقم 21 في العالم اليوم، وهذا يوضح أهمية الاستقرار السياسي والاجتماعي في تحقيق التنمية، وأهمية بناء دولة المؤسسات وترسيخ التداول السلمي للسلطة.
بالعودة إلى النائب آندريه أوربانتشيك والذي علمت بمحض الصدفة قبل بضعة سنوات أنه فارق الحياة غرقاً أثناء عطلته الصيفية في إحدى الجزر اليونانية يوم 7 أغسطس من العام 2001، وأوربانتشيك المولود يوم في مدينة لوبلينيتس في الجنوب البولندي درس الاقتصاد في جامعة كراكوف وهي من أعرق الجامعات الأوروبية متخرجا في العام 1972 وعمل صحفياً لعدة سنوات، وكان عضواً في حزب العمال البولندي الموحد (الحزب الشيوعي الحاكم آنذاك) منذ تخرجه من الجامعة، الحزب الذي تحول بعد حلّه إلى تحالف اليسار الديمقراطي بعد سقوط النظام الشيوعي، وتم انتخاب أوربانتشيك نائباً برلمانيا عن ذلك الحزب عن مدينة كراكوف في جنوب البلاد منذ العام 1993 وحتى رحيله المبكر في العام 2001، في خطابات نعيّه نقرأ أنه كان مفكراً سياسياً متميزاً ومنفتحاً على متغيرات العصر، وكان من المتوقع له مستقبلاً سياسياً وفكرياً مشرقاً لكن يد المنون كانت أسبق فأنهت حياته غرقاً بعيداً عن بلاده التي أحب.
عندما نتأمل مسيرة العديد من دول العالم حولنا في طموحها المشروع نحو التقدم والاستقرار، نجد أن الحكم المدني والحرية والديمقراطية والنزاهة هي مفتاح النمو، وأن الحكم الديمقراطي المدني ليس ترفاً نخبوياً بل هو ضرورة أساسية لوضع أي بلاد في المسار الصحيح في تلمّس ملامح المستقبل، ورغم أن بلادنا ترزح حالياً تحت ألم جنجويد دمويين متفلتين وجنرالات محدودي الأفق والتفكير السياسي، جنرالات يحركهم كالأراجوزات أغنياء حروب بلا عمق فكري من قيادات الإخوان المسلمين المهووسين بالعودة إلى السلطة عبر تأجيج الحروب، إلا أن بلادنا ستخرج من وهدتها هذه قويّة ومفعمة بالحيوية مهما طال الزمن، لأن بذور الحرية والديمقراطية التي غرستها ثلاثة ثورات مجيدة تمد جذورها عميقاً في تربة بلادنا الخصبة فإنها ستثمر أشجاراً ستستوي على عودها قريباً، وإنني أرى حكماً رشيداً قادماً رغم قتامة المشهد وحالة اليأس التي تنتابنا جميعاً، فالشعوب لا تموت، يذهب معذبوها وطغاتها إلى أضابير التاريخ مثل موسوليني في إيطاليا و هتلر في المانيا وفرانكو في أسبانيا، وتشارلس تايلور في ليبيريا وغيرهم كُثُر.. بينما تعود شعوبهم أقوى وبلادهم أنضر، تساهم بصدق مع رصفائها في الدولة الديمقراطية في رفعة الحضارة الإنسانية.
الجمعة 21 يونيو 2024
amjadnl@yahoo.com
whatsapp 0031642427913
الوسومأندريه أوربانتشيك الجبهة الإسلامية القومية الجبهة المسيحية القومية السودان النظام الشيوعي بولندا تجمع المهنيين السودانيين د. أمجد إبراهيم سلمان سوليدارنوشتالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: السودان النظام الشيوعي بولندا تجمع المهنيين السودانيين النظام الشیوعی الدیمقراطیة فی فی العام من العام فی تلک
إقرأ أيضاً:
خلاف بولندا- أوكرانيا يستعر: نكء جراح مذبحة فولين
يزداد منسوب التوتر بين بولندا وأوكرانيا بشكل ملحوظ منذ مدّة، لكنّ هذا التوتر بدا واضحا قبل أسابيع، يوم أدلى وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي بأكثر من تصريحٍ صاخبٍ، أعلن من خلالها عن وقف وارسو الدفاع عن كييف، موجها انتقادات لاذعة للسلطات الأوكرانية بسبب ما اعتبره تقاعسا غير مبررٍ في إقرار قانون التعبئة، وذلك بعد ارتفاع أعداد الرجال الأوكرانيين الهاربين من الخدمة العسكرية واللاجئين إلى العاصمة البولندية وارسو.
لم يكتفِ سيكورسكي بهذا الحدّ من النقد، بل عاد إلى نكء جراح الماضي، وهدّد كييف باتخاذ إجراءات قاسية بسبب "مذبحة فولين"، التي تُعد من أشدّ القضايا حساسية بين بولندا وأوكرانيا، داعيا إلى بقاء تلك الحادثة الأليمة في ذاكرة البولنديين.
ومنذ الحرب العالمية الثانية، تتهم بولندا جيش التمرد الأوكراني بتنفيذ تلك المذبحة في "بولندا المحتلة"، بدعم من السكان الأوكرانيين المحليين، ضد الأقلية في فولين وغاليسيا الشرقية، وذلك بين الأعوام 1943 و1945.
وقد أسفرت تلك المذبحة في حينه، عن مقتل نحو 100 ألف بولنديّ بينهم أطفال ونساء، بينما الهدف من خلفها كان محاولة أوكرانيا منع بولندا من تأكيد سيادتها على المناطق ذات الأغلبية الأوكرانية، التي كانت جزءا من الدولة البولندية قبل الحرب العالمية الثانية.
ولم يندمل ذاك الجرح مذّاك، إذ وصف معهد الذكرى الوطنية البولندي في العام 2008 تلك المجزرة، بأنّها "إبادة الجماعية"، كما أصدر البرلمان البولندي في العام 2016 أيضا، قرارا يقضي بالاعتراف بتلك المجازر على أنّها "إبادة جماعية". لكن بقي هذا التصنيف موضع جدل بين الأوكرانيين والبولنديين، ثم ردّت كييف على هذا القرار في العام 2017، وأوقفت أعمال البحث عن جثث الضحايا الذين قضوا في تلك المجزرة.
أمّا اليوم، فعادت بولندا لشنّ هجوم دبلوماسيّ من خلال تلك الحملة الإعلامية المناهضة، التي تجلّت بالتصريحات التي أطلقها الوزير البولندي سيكورسكي، خصوصا خلال مقابلة أجراها مؤخرا مع صحيفة "لوموند" الفرنسية.
وتزامنا مع تلك التصريحات، كان قراصنة بولنديون يقومون باختراق معهد الذكرى الوطنية في أوكرانيا، الذي أدى إلى نشر عدد من الشعارات المعادية لأوكرانيا على موقع المعهد الإلكتروني، كما نشر القراصنة مقاطعَ فيديو تتهم الأوكرانيين بالمشاركة في نشاطات إلى جانب شخصيات ودعاة روس من أجل وصمهم بالخيانة.
الترجيحات تشير إلى أنّ الحملة البولندية المستجدّة ليست بريئة على الإطلاق. إذ يبدو أنّ وارسو تستشعر قرب انهيار النظام في أوكرانيا، خصوصا مع احتمال وقف الحرب بعد وصول المرشح الأمريكي دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي في واشنطن
بداية، بدت تلك الحملة مستهجنة وغير مفهومة في توقيتها، لكنّ الترجيحات تشير إلى أنّ الحملة البولندية المستجدّة ليست بريئة على الإطلاق. إذ يبدو أنّ وارسو تستشعر قرب انهيار النظام في أوكرانيا، خصوصا مع احتمال وقف الحرب بعد وصول المرشح الأمريكي دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي في واشنطن.
ترامب سبق وأن تعهّد صراحة خلال حملته الانتخابية، بوقف الحرب في أوكرانيا من خلال وقف الدعم المالي والعسكري لكييف من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين.
ولعلّ هذا السبب كان خلف الحملة البولندية المستجدة ضد كييف، إذ لا يُستبعد أن تكون تلك الحملة حجّة وارسو من أجل رفض مساعدة زيلينسكي عسكريا وماليا، وذلك من خلال إعادة توجيه الأموال المخصصة للقوات الأوكرانية إلى أماكن أخرى، خصوصا أنّ الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته فلاديمير زيلينسكي، قد سبق واتهم بولندا بتقديم "وعود كاذبة" بما يخص منحه السلاح، وخصوصا طائرات "ميغ-29".
أمّا القيادة الأوكرانية، فيبدو أنّها اليوم في عالم آخر، إذ تشعر بالامتنان لمساعدة الغرب لها وتتهمه بالتقاعس والتقصير، وذلك في محاولة بائسة لدفع المسؤولية عن نفسها، خصوصا بعد نتائج الصراع المخيّبة للآمال، معتقدة بصدق أنّ دول القارة الأوروبية مُجبرة على مساعدتها وليست مخيّرة، باعتبار أن أوروبا هي المورّد الرئيسي لتغذية حربها ضد روسيا.